ج2 - ف73

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

73- (يسوع غير مُرَحَّب به في الناصرة)

 

13 / 02 / 1944

 

أرى غرفة كبيرة مربّعة. أقول عنها هكذا مع إدراكي أنّها مَجْمع الناصرة (حسب قول الذي يُنبِئني داخليّاً)، إذ ليس فيها سوى جدران عارية مَطليّة بالأصفر. وفي أحد الجوانب مَقعَد مُرتَفِع. وكذلك هناك مَقرَأ مُرتَفِع، عليه لُفافات؛ مَقرَأ، خزانة، سَمّوه ما شئتم، فهو بالنتيجة نوع مِن الطاولات المائلة، يَنتَصِب على قائم، وعليه وُضِعَت لُفافات بشكل مرتّب.

 

هناك أناس يُصَلّون، ليس مثلنا، إنّما جميعهم يتّجهون الجهة ذاتها دون جمع اليدين، بل، تقريباً، مثل كاهِن عند المذبح.

 

مصابيح موضوعة فوق المقعد وفوق الـمَقرَأ.

 

لستُ أفهم القصد من هذه الرؤيا التي تدوم بعض الوقت دون تغيير. إلّا أنّ يسوع يأمرني بالكتابة وأنا أفعل.

 

أجدني مرّة أخرى في مَجْمع الناصرة.

 

الآن، الرابّي يَقرَأ، وأنا أَسمَع صوته الرتيب الأخَنّ. ولكنّني لا أفهم الكلام الذي يقوله بلغة أَجهَلُها. وسط الجمع يسوع مع أبناء عمّه الرُّسُل وآخرين هم بالتأكيد أقرباء له، ولكنّني لا أعرفهم.

 

بعد القراءة، يلتَفِت الرابّي صوب الجمع، كما في دعوة صامتة. يتقدّم يسوع، ويطلب إدارة اجتماع اليوم.

 

وبصوته الشجيّ، أَسمَع قراءة مِن سفر إشَعياء وَرَدَ ذكرها في الإنجيل المقدس: «روح الرب عليَّ...» وأَسَمع تعليقه عليها ناسباً لذاته: «حامِل البُشرى الحَسَنَة، شريعة الحبّ التي استَبدَلَت الصَّرامة القديمة بالرحمة، لينال السلام كلّ الذين جَعَلَت خطيئة آدم نفوسهم مريضة، وبالنتيجة الجَّسَد، لأنّ الخطيئة تَلِد الرذيلة، والرذيلة المرض، حتّى الجسديّ. وليتحرّر كلّ الذين يأسرهم روح الشرّ. أتيتُ لأقطَع هذه السلاسل، وأُعيد فتح طريق السماء، لأَمنَح النور للنُّفوس العمياء، والسَّمَع للنُّفوس الصمّاء. لقد حان وقت نعمة الرب. وهي فيما بينكم، وهي التي تُكلّمكم. لقد رَغب الأحبار رؤية هذا اليوم الذي أعلَنَ حلوله صوت مِن العلاء، والذي تنبّأ عن زمنه الأنبياء. وقد تنامى الآن إلى معلومهم بفعل فائق الطبيعة، فهم يَعلَمون أنّ فجر هذا اليوم قد بَزَغ، وأنّ دخولهم الجنّة أصبح وشيكاً. لذلك يتهلّل، بأرواحهم، القدّيسون الذين لا يعوزهم سوى بَرَكَتي ليُصبِحوا سُكّان السماء. تَرَون ذلك. أَقبِلوا إلى النور الذي بَزَغَ. تَجَرَّدوا عن رغائبكم، لتكون لكم سرعة الخاطر اللازمة لتتبعوا المسيح. فلتكن لديكم الإرادة الصالحة للإيمان، للتحسّن، وللرغبة بالسلام. وسوف يُعطى لكم السلام. إنّه بين يديّ، إلّا أنّني لا أمنحه إلّا لذوي الإرادة الحسنة لاقتنائه. ذلك أنّ إعطاءه لمن يريد الاستمرار في خدمة الشيطان إساءة إلى النعمة.

 

ويعلو الهمس في المَجْمع، ويلتَفِت يسوع صوب الحاضِرِين، يَقرأ على الوجوه وفي القلوب، ويُتابِع: «أُدرِك ما تُفَكِّرون به، لأنّني مِن الناصرة، وأنتم تَرُومون حَظوة متميّزة. إنّما ذلك بأنانيّة منكم، وليس بِقُدرَة إيمانكم. وأيضاً أقول لكم، في الحقيقة لا كرامة لنبيّ في وطنه. بلدان أخرى استقبَلَتني وستستقبلني بإيمان عظيم، حتّى البلدان التي يُشَكِّل اسمها لكم شَكّاً. هناك سوف أجد حَصاد التلاميذ، بينما لا أستطيع فِعل أيّ شيء على هذه الأرض لأنّها أُغلِقَت في وجهي، وناصَبَتني العداء. ولكنّني أُذكّركم بإيليا وأليشع، الأوّل وَجَدَ الإيمان لدى امرأة فينيقيّة، والآخر لدى سوريّ. وإكراماً لتلك وذاك تَمَكَّنَا مِن اجتراح المعجزة. الناس الذين كانوا يموتون مِن الجوع في إسرائيل لم يحصلوا على الخبز، والبُرص لم يَحصَلوا على التَّطهير، ذلك أنّ قلوبهم كانت تخلو مِن الإرادة الحَسَنَة، الدُّرَّة الخالصة التي اكتشفها النبيّ في مكان آخر. وهذا ما سوف يحصل معكم، أنتم أيضاً، يا مَن تُضمِرون لي العداء وتَكفرون بكلمة الله.»

 

اضطَرَب الجميع وتَوَعَّدوا باللَّعنات. وحَاوَلوا القبض على يسوع، ولكنّ أولاد عمّه الرُّسُل، يوضاس ويعقوب وسمعان دَافَعوا عنه، حينئذ قام أبناء الناصرة الغاضبون بطرد يسوع خارج البلدة. وتَبِعوه بالوعيد، ليس فقط الشفويّ، حتّى قمّة الرابية. حينئذ التَفَتَ يسوع وجَعَلَهم يتسمّرون، بفعل نظرته الساحرة، ليمرّ في وسطهم سالماً، ويَغيب صاعداً عبر دروب في الرابية.

 

أرى ضَيعة صغيرة، صغيرة جدّاً، عبارة عن بيوت قليلة. وهي أعلى مِن الناصرة، يُلاحَظ، مِن خِلال طريق مُنحَدِرة على مدى بضعة كيلومترات، أنها ضيعة صغيرة بائسة.

 

يتحدّث يسوع إلى مريم، وهو جالس على حافّة جدار صغير، قُرب كوخ. قد يكون البيت بيت أحد الأصدقاء، أو، على الأقلّ، بيت مُضيف، حسب مقتضيات الضيافة الشرقيّة. التَجَأ إليه يسوع بعد أن طُرِدَ مِن الناصرة، وهو ينتظر الرُّسُل الذين كانوا، بالتأكيد، مُشَتَّتين في الجِوار، بينما يسوع إلى جانب أُمّه.

 

لم يكن معه سوى أبناء عمّه، الرُّسُل الثلاثة، الذين اجتَمَعوا آنئذ في المطبخ يتحدّثون إلى امرأة عجوز، يناديها تدّاوس «أُمّي»، لذلك أُدرِك أنّ الأمر يتعلّق بمريم التي لحلفى. إنّها امرأة مُسِنّة بعض الشيء، وأَتَعَرّف إليها، إنّها هي التي كانت مع مريم الكلّيّة القداسة في عرس قانا. بالتأكيد، قد انسَحَبَت إلى هناك، ومعها أبناؤها، ليتركوا ليسوع وأُمّه الحريّة في حديثهما.

 

مريم حزينة، فلقد عَلِمَت بحادثة المَجْمع، وتألَّمَت لذلك. يسوع يواسيها. ومريم تتوسّل إلى ابنها، راجية إيّاه البقاء بعيداً عن الناصرة، حيث الجميع متشنّجون تجاهه، حتّى بقيّة الأقارب الذين يعتبرونه مجنوناً يحاول إثارة الشِّقاق والشِّجار.

 

إلّا أنّ يسوع يقوم بحركة، وهو يبتسم، يبدو أنّه يقول: «هنا أو في مكان آخر سِيّان. دَعكِ مِن هذا!» ولكنّ مريم تُصِرّ. حينئذ يُجيب: «يا أُمّي، إذا كان على ابن الإنسان أن يذهب فقط إلى حيث هو محبوب، لكان تَوَجَّبَ عليه الابتعاد عن هذه الأرض، والعودة إلى السماء. في كلّ مكان لي أعداء. ذلك أنّ الحقّ ممقوت، وأنا الحقّ. ولكنّني لم آتِ لأُلقي سلاماً سهلاً. لقد أتيتُ لأتمّم مشيئة الآب وأفتدي الإنسان. الحبّ، هو أنتِ، يا أُمّي. أنتِ حبّي الذي يعوّضني عن كلّ ما سواه. أنتِ وهذا القطيع الصغير الذي يتزايد كلّ يوم ببعض النّعاج التي انتَزَعتُها مِن فم ذئب الأهواء، لأقودها إلى حظيرة الآب. أمّا الباقي فهو الواجب. ولقد أتيتُ لأداء هذا الواجب. وينبغي لي أن أتمّمه إلى أن أَتحَطَّم على صخرة قلوبهم المتحجّرة، العَصيّة على الخير. وحتّى هذا لا يكون، إلّا حين أَسقُط وأَغمُر هذه القلوب بدمي، فأُليّنها بِدَمغها بعلامتي التي تُزيل سِمَة العدوّ. أُمّي، لأجل هذا نزلتُ مِن السماء. ولا يمكنني سوى الرغبة بالإتمام.»

 

« آه! بنيّ! يا بنيّ!» صوت مريم ممزَّق، ويسوع يلاطفها. أُلاحِظ أن معطف مريم على رأسها، إضافة إلى الوشاح. إنّها متوشّحة أكثر مِن أيّ وقت آخر، مثل كاهِنة.

 

« سوف أتغيّب بعض الوقت، إرضاء لكِ. وعندما أكون في الجِوار، سأنبئكِ.»

 

« أَرسِل يوحنّا. فعندما أراه يتهيّأ لي أنّني أراكَ، إلى حدّ ما. أُمّه كذلك مُفعَمَة إكراماً لي ولكَ. في الحقيقة، هي ترجو مكاناً متميّزاً لأبنائها. إنّها امرأة وأُمّ، يا يسوع. يجب أن نعذرها. سوف تُكَلِّمكَ أيضاً. ولكنّها كَرَّسَت ذاتها لكَ بأمانة. وعندما ستتحرّر مِن المؤثّرات البشريّة التي تتخمّر فيها، كما في أبنائها، وكما لدى الآخرين، لدى الجميع، يا بنيّ، سوف تكون عظيمة في إيمانها. مِن المؤلم أن ينتظر منكَ الجميع خيراً بشريّاً، خيراً، إن لم يكن بشريّاً، فهو أنانيّ. ولكنّ الخطيئة تسكنهم مع شهواتها. لم تأتِ بعد الساعة المباركة والـمُريعة جدّاً جدّاً، رغم أنّ حبّ الله والإنسان يجعلني أَرغَب بها، فهي سوف تمحو الخطيئة. آه! يا لتلك الساعة! كم يرتجف قلب أُمّكَ مِن هذه الساعة! ماذا سَيَفعَلون يا بنيّ؟ أيّها الابن الفادي الذي سَبَقَ وتنبّأ عنه الأنبياء كشهيد، وأيّ شهيد!»

 

« لا تُفكّري بهذا، يا أُمّي. فالله سوف يعينكِ في تلك الساعة. الله سوف يساعدنا، أنتِ وأنا. وبعد ذلك يكون السلام. أقولها لكِ مرّة أخرى. اذهبي الآن. أَوشَكَ الليل أن يهبط، والطريق طويلة. أبارككِ.»