ج4 - ف140

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

140- (البُخل والغني الأحمق)

 

10 و 14 / 09 / 1945

 

يسوع على إحدى روابي الضفّة الغربيّة للبحيرة. تَظهَر للعَيان المدن والبلدات المتناثرة على الشواطئ في كِلتا الجهتين، إنّما بالضبط في أسـفل الرابية توجد مجدلة وطبريّا، الأولى بِحيِّها الراقي ذي الحدائق المتعدّدة، الذي يفصله بشكل جليّ عن بيوت الصيّادين والفلّاحين وعامّة الشعب الفقيرة سَيل قد جفّ الآن تماماً. والأُخرى التي ليست سِوى تَألُّق، وهي تَجهَل كلّ ما هو بُؤس وانحطاط، وتضحك لشمس وهي تُقابِل البحيرة جميلة وجديدة. وبين الاثنتين بساتين الخُضار، هي قليلة، إنّما معتنى بها جيّداً، وهي في السهل الضيّق، تليها أشجار الزيتون الصاعدة مُقتَحِمة الروابي. خلف يسوع، تَظهَر مِن على هذه القمّة صهوة جبل التطويبات، الذي يمرّ عند أسفله الطريق العامّ الواصل بين البحر الأبيض المتوسط وطبريّا. وقد يكون يسوع اختار هذه الناحية التي يمكن للكثير مِن الناس الوصول إليها مِن مدن كثيرة على البحيرة أو مِن داخل الجليل، بسبب قرب تلك الطريق الرئيسيّة المأهولة جدّاً، حيث يمكن للمرء، عند المساء، العودة إلى بيته بسهولة، أو إيجاد مَن يستضيفه في بلدات كثيرة. وكذلك الحرارة أَصبَحَت ألطف بفعل الارتفاع وأشجار الغابات العالية التي أَخَذَت مكان أشجار الزيتون في القمّة.

 

بالفعل يوجد أناس كثيرون عدا الرُّسُل والتلاميذ. أناس في حاجة إلى يسوع مِن أجل صحّتهم، أو مِن أجل النصائح، أناس أتوا بدافع الفضول، أناس أتوا بصحبة أصدقاء، أو أتوا أُسوة بالآخرين. في النتيجة هم جَمع… لم يعد الطقس يتأثّر بالقيظ، بل هو يميل إلى الخريفيّ ويدعو أكثر مِن أيّ وقت إلى المضيّ في البحث عن المعلّم.

 

لقد انتهى يسوع مِن شفاء المرضى والتحدّث إلى الناس، وحتماً حول موضوع الثروات غير العادلة، وعن ضرورة التخلّي عنها لكسب السماء، والضرورة المطلقة لهذا التخلّي ليكون المرء تلميذاً له. والآن هو يُجيب على أسئلة هذا أو ذاك مِن التلاميذ الأغنياء المضطربين قليلاً بسبب هذا الإصرار.

 

يوحنّا الكاتب يقول: «هل عليَّ إذن إتلاف كلّ ما أملك مُجرِّداً أولادي منه؟»

 

«لا. إنّ الله قد مَنَحَكَ الخيرات. فاجعلها في خدمة العدل، واستخدِمها بعدل واستقامة. يعني استخدمها في تلبية احتياجات عائلتكَ، هذا واجب، عامل خُدَّامكَ بإنسانيّة، هذه محبّة، واجعل الفقراء المساكين يُفيدون منها، ساعد في تلبية احتياجات التلاميذ المساكين. وهكذا لا تعود الثروات عائقاً في طريقكَ، بل عوناً لكَ.

 

ثمّ يقول، موجهاً الحديث للجميع: «الحقّ أقول لكم، إنّ خطر فقدان السماء بسبب حُبّ الثروات ذاته يمكنه أن يكون كذلك مُحيقاً بتلميذ أكثر فَقراً إذا ما افتَقَرَ إلى العدل والاستقامة، وهو يتواطأ مع الغنيّ بعد أن أَصبَحَ كاهِني. فَمَن كان غنيّاً أو فاسداً، سيُحاوِل في كثير من الأحيان إفسادكم بهداياه، لجعلكم تَختَبِرون طريقة حياته وخطيئته. وسـوف يكون مِن بين تلاميذي مَن يَقَع في تجربة الهدايا. ينبغي ألّا يكون ذلك. فلتتعلّموا مِن المعمدان. في الحقيقة، رغم عدم كونه قاضياً ولا حاكِماً، فإنّه كان يتمتّع بكمال القاضي والحاكِم، كما تصفه تثنية الاشتراع: "لن تكون لكَ أفضليّات، لن تَقبَل الهدايا، لأنّها تعمي عيون الحكماء وتُفسِد كلام المستقيمين." فغالباً ما يدع الإنسان سيف العدالة يَفُلّ (يتَثَلَّمَ) بِذَهَب آثِم يُمرَّر على حَدّه. لا، ينبغي ألّا يكون هذا. اعرفوا أن تكونوا فقراء، اعرفوا أن تَذوقوا طعم الموت، إنّما لا تتّفقوا أبداً مع الخطيئة. ولا حتّى مع حجة جعل هذا الذهب في خدمة مصلحة الفقراء. إنّه ذَهَب مَلعون ولن يُحقّق لهم الخير. إنّه ذَهَب تسوية مخزية مع الضمير. أنتم تُشكِّلون التلاميذ الـمُعدّين لتكونوا معلّمين وأطباء ومُخلِّصين. فماذا ستكونون إذا ما سـايرتم الشرّ مِن أجل مَصلَحة؟ ستكونون معلِّمين لعلوم سيّئة، أطبّاء يقتلون مرضاهم، ولن تكونوا مُخلِّصين، بل إنّما أناس متعاوِنون على تدمير القلوب.»

 

يتقدّم رجل مِن الجمع ويقول: «أنا لستُ تلميذاً، ولكنّني معجب بكَ. أَجِب إذن على هذا السؤال: "هل يحقّ لأحد أن يُمسِك مال الآخر عليه؟»

 

«لا، أيّها الرجل. فتلك هي سرقة، تماماً كسرقة كيس النقود مِن أحد المارّة.»

 

«حتّى ولو كان مال العائلة؟»

 

«نعم. فليس مِن العدل أن يتملّك امرؤ مال الآخرين كلّهم.»

 

«إذن، يا معلّم، تعال إلى أبيلمان [آبَلَ] على طريق دمشق، ومُر أخي أن يوزِّع إرث أبي الذي مات دون ترك وصيّة بيني وبينه. لقد استأثر بكلّ شيء لنفسه، ولاحِظ أنّنا توأم مِن أوَّل وِلادة، بل الوِلادة الوحيدة. إذن فَلِي الحقوق ذاتها التي له.»

 

يَنظُر إليه يسوع ويقول: «إنّه لَوَضع مؤلم، وبالتأكيد أخوكَ لا يتصرّف بشكل جيّد. ولكن كلّ ما يمكنني فِعله، هو أن أصلّي مِن أجلكَ ومِن أجله أكثر ليهتدي، وأن آتي إلى بلدتكَ للتبشير فيها وهكذا أَمسُّ قلبه. والدرب ليس شاقّاً بالنسـبة إليَّ إذا ما اسـتطعتُ إرساء السلام بينكما.»

 

يَهُبّ الرجل هائِجاً: «وماذا تريدني أن أفعل بكلامكَ؟ في حال كهذه يجب القيام بشيء آخر غير الكلام!»

 

«ولكن ألم تقل لي أن أَطلُب مِن أخيكَ أن...»

 

«الطَّلَب ليس التبشير. فالأمر يُقرَن دائماً بتهديد. هَدِّده بأن تضربه بشخصه، إذا لم يعطني ما يخصّني. يمكنكَ فِعل ذلك. فكما تَهِب الصحة، يمكنكَ أن تَبلي بالمرض.»

 

«أيّها الرجل، لقد أتيتُ للهداية وليس للضرب. ولكن إن تؤمن بكلامي تَجِد السلام.»

 

«أيّ كلام؟»

 

«لقد قلتُ لكَ إنّني سـوف أصلّي مِن أجلكَ ومِن أجـل أخيكَ، لكي تتعزّى أنتَ ويهتدي هو.»

 

«حكايات وروايات، وأنا لستُ بسيطاً لدرجة أن أؤمن بذلك. تعال وأَلزِمه.»

 

يسوع الذي كان لطيفاً وصبوراً، يُصبِح صارماً ومَهيباً. ينتصب مِن جديد -وكان فيما سَبق قد انحنى على الرجل قصير القامة والبدين الذي يتأجّج غضباً- ويقول: «أيّها الرجل، مَن ذا الذي أقامني عليكم قاضياً أو قَسَّاماً؟ لا أحد. ولكن لكي أزيل خلافاً بين أخوين، كنتُ قد رضيتُ المجيء لأتمّم رسالتي في إحلال السـلام والفِداء، ولو أنّكَ آمنتَ بكلامي، لكنتَ وجدتَ أخاكَ، لدى عودتكَ إلى أبيلمان [آبَلَ] وقد اهتدى. إنّكَ لا تعرف أن تؤمن، ولن تكون لكَ المعجـزة التي طلبتَ. فإنّكَ لو كنتَ وضعتَ يدكَ على الكنـز أوّلاً، لكنتَ احتفظتَ به لنفسكَ حارِماً أخاكَ منه، لأنّكما في الحقيقة، إذا كنتما وُلِدتما توأمين، فإنّ ميولكما متوائمة، وأنتَ مِثل أخيكَ، لديكَ حُبّ وحيد: الذهب. فابق إذن مع إيمانكَ. وداعاً.»

 

يَمضي الرجل وهو يَلعَن، مُثيراً استنكار الجموع الذين أرادوا معاقبته. ولكنّ يسوع يتصدّى. يقول: «دعوه يذهب. لماذا تريدون تلطيخ أيديكم بضربكم غاشم؟ أنا أسامحه، لأنّ شيطان الذَّهَب الذي جَعَلَه منحرفاً يَستَحوِذ عليه. افعلوا ذلك أنتم أيضاً. ولِنُصلِّ بالأحرى مِن أجل هذا البائِس كي يعود إنساناً ذا نَفْس جميلة حُرّة.»

 

«حقّاً. فحتّى وَجهه قد أَصبَحَ رهيباً بفعل جشعه. هل رأيتَه؟» يتساءل التلاميذ، والذين كانوا قريبين مِن الرجل الجَّشِع فيما بينهم.

 

«حقّاً‍! حقّاً‍! لم يكن ليبدو كما كان قبلاً.»

 

«نعم. عندما صدَّ المعلّم كان على وشـك أن يَضربه وهو يلعنه، وقد أَصبَحَ وجهـه وجه شيطان.»

 

«وجه شيطان مجرِّب. كان يَبغي حَمل المعلّم على فِعل الشرّ...»

 

«اسمعوا»، يقول يسوع صحيح إنّ فساد النَّفْس ينعكس على الوجه. وقد كان الشيطان ظاهراً على سطح ذاك الذي يَسـتحوذ عليه. إنّما قليلون جدّاً هم أولئك الذين، مع كونهم شـياطين، بأفعالهم أو بمظهرهم، إلّا أنّهم لا يَفضَحون حقيقتهم. ولكنّ هؤلاء القلائل هُم كاملون في الشرّ ومُستَحوَذ عليهم تماماً.

 

وَجه المستقيم، على العكس، جَميل هو على الدوام حتّى ولو كان مُشوّهاً، بفعل جمال فائق الطبيعة يَنضَح مِن الداخل إلى الخارج. وليس أسلوب الكلام، بل إنّما الأفعال هي التي تُظهِره، فنلاحظ لدى الطَّاهر مِن كلّ رذيلة نَضارة الجسد بالذَّات. فالنَّفْس قاطنة في داخلنا وتَستَحوِذ علينا بالكامل. ونتانة النَّفْس الفاسدة تُفسِد حتّى الجسد، بينما عِطر النَّفْس الطَّاهِرة تُحافِظ عليه. النَّفْس النَّجِسة تدفع الجسد إلى خطايا فاحشة، وهذه تَجعَل الجسـد يَـذوي ويتشوّه. أمّا النَّفْس الطاهرة فتجعل الجسد يعيش حياة طاهرة، وهذا ما يحافظ على النَّضارة ويشيع العَظَمة.

 

اعملوا على أن يستقرّ فيكم شباب الروح، أو أن يستعيد حياته إذا كان قد فُقِد، واسهروا على أن تحافظوا على ذواتكم مِن كلّ جَشَع، إن يكن بالأحاسيس أو بالسُّلطة. فحياة الإنسان ليست رهناً بوفرة الخيرات التي يملك، لا في هذه الحياة ولا في الحياة الأخرى: تلك الأبديّة، بل إنّما بطريقة عيشها. ومع الحياة، سعادة هذه الأرض وسعادة السماء. ذلك أنّ الفاسق لا يكون سعيداً أبداً، سعادة حقيقيّة. بينما العفيف مغبوط دائماً بابتهاج سماويّ، حتّى ولو كان فقيراً ووحيداً. حتّى الموت لا يُثيره، لأنّه لا يحمل خطيئة ولا تبكيت ضمير يجعله يخشى اللقاء بالله، ولا يأسف على ما يتركه على الأرض. فهو يَعلَم أن كنـزه في السماء هو، وكَمَن يمضي لاستلام إرثه الذي يخصّه، الإرث المقدّس، يمضي مبتهجاً، مستعجلاً لقاء الموت الذي يَفتَح له أبواب الملكوت حيث هو كنـزه.

 

اكنـزوا لكم هناك كنـزاً في الحال. ابدأوا بذلك منذ صباكم، أنتم أيّها الشـباب؛ واعملوا بدون كلل يا مَن أنتم أكبر سناً، يا مَن بسبب سنّكم، أنتم أقرب إلى الموت. ولكن بما أنّ الموت أَجَل مجهول، وقد يقع الصغير أحياناً قبل الكبير، فلا تُرجِئوا للغد العمـل الذي يَكنـز لكم كنـز فضيلة، وأعمالاً صالحة للحياة الأخرى، خوفاً مِن أن يفاجئكم الموت دون أن تَدَّخِروا لكم كنـزاً للسماء. كثيرون هم الذين يقولون: "آه! إنّني شابّ وقويّ! الساعة أستمتع على الأرض، وفيما بعد سوف أهتَدي". خطأ عظيم!

 

اسَمعوا هذا المثل: "أَخصَبَت أرض رجل غنيّ وأَنتَجَت غلالاً وفيرة. كانت بالحقيقة تفوق الوصف. فَشَرَعَ يتأمّل بفرح كلّ تلك الثروة التي تتكدّس في حقوله وعلى بيدره، والتي لم يكن لها مُتَّسـع في الأهراء، وكانت تُحفَظ في عنابر مؤقّتة، وحتّى في بعض غرف المنـزل، ويقول: "لقد عَمِلتُ كالعبد، ولكنّ الأرض لم تخيّب أملي. لقد عَمِلتُ لعشـرة مواسم والآن أريد أن أستريح زمناً مماثلاً. كيف العمل لأحفظ كلّ تلك المحاصيل؟ لا أنوي بيعها لأنّ ذلك يرغمني على العمل لأحظى بمحصول جديد العام القادم. هذا ما سوف أفعله: سوف أهدُم أهرائي وأبني أكبر منها لإيواء كلّ محاصيلي وأرزاقي. ثمّ أقول لنفسي: يا نفسي! لديكِ الآن أرزاق تكفيكِ لسنوات كثيرة. فاستريحي إذن وكُلي واشربي وتنعّمي." هذا الرجل مِثل كثيرين، كان يَخلط بين الجسد والروح، ويمزج المقدَّس بالمدنَّس، لأنّ النَّفْس لا تستمتع في المسرّات والبطالة، بل تَخمل، وهذا كذلك مِثل كثيرين، بعد أوّل محصـول جيّد في الحقول والأرزاق، يتوقّف لأنّه كان يبدو له أنّه فَعَلَ كلّ شيء.

 

لكن ألا تَعلمون أنّ مَن يَضع يده على المحراث عليه أن يثابر سنة، عشراً، مائة، ما دامت الحياة، ذلك أنّ التوقّف جريمة هو بحقّ الذات، بسبب رفض مَجد أعظَم، وهو تَقهقُر، لأنّ مَن يتوقّف، عادة، ليس فقط لا يعود يتقدّم. بل إنّما يتراجع إلى الوراء؟ كنـز السماء يجب أن ينمو سنة بعد سنة ليكون صالحاً، لأنّه، إذا كان على الرحمة الإلهيّة أن تكون عطوفة، حتّى مع الذين أمضوا سنوات قليلة في تشكيله، فإنّها لن تكون متواطئة مع الكسالى الذين، إذ كانت حياتهم طويلة، لم يَفعَلوا إلّا القليل. على الكنـز أن ينمو باستمرار. وإلّا فهو ليس بالكنـز الذي يطرح ثمّاراً، ولكنّه كنـز خامِل، وهذا يَحصل على حساب السلام الموعود في السماء. يقول الله للإنسان الأحمق: "أيّها الأحمق، يا مَن تَخلط بين الجسد وخيرات الأرض مع ما هو روح، ومن نعمة من الله تصنع شرّاً، اعلَم أنّ في هذه الليلة بالذات تُطلَب منكَ نفسكَ، وعندما ستمضي، سيبقى الجسد بلا حياة، وما هيّأتَه لِمَن سيؤول؟ هل ستحمله معكَ؟ لا. فسوف تَمثُل أمامي مُجرّداً من محاصيل الأرض وأعمال الروح، وستكون فقيراً في الحياة الأخرى. كان مِن الأفضل لكَ لو جَعلتَ مِن محاصيلكَ أفعال رحمة للقريب ولنفسكَ، إذ إنّكَ حينما تكون رحيماً مع الآخرين تكون رحيماً مع نفسكَ. وبدلاً مِن تغذية أفكار البطالة، أن تضع موضع التنفيذ نشاطات كان يمكن أن تجني منها فوائد لمصلحة جسدكَ، واستحقاقات عظيمة لنفسكَ، إلى أن يحين موعد اسـتدعائي لكَ." ومات الرجل في تلك الليلة وكانت دينونته صارمة.

 

الحقّ أقول لكم، هكذا يكون الأمر لِمَن يُكدِّس لنفسه الثروات ولا يغتنى في عينيّ الله. والآن امضوا واجعلوا مِن التعليم الذي أُعطِيَ لكم كنـزاً. وليكن السلام معكم.»

 

يُبارِك يسوع ويَنسَحِب مع الرُّسُل والتلاميذ لتناول الطعام والاستراحة. ولكن بينما هُم يأكلون، يُتابِع حديثه لإكمال تعليمه السابق، وقد طَرَقَ موضوعاً عَرَضَه على الرُّسُل مرّات عديدة، وأظنّه مهما طَرَقَ فسيظلّ غير كاف نظراً لكون الإنسان فريسة المخاوف إن لم يكن مؤسّساً بشكل جيّد.

 

يقول: «ثِقوا بأنّه يجب الاهتمام فقط بِغِنى الفضيلة هذا. واسـهروا على ألّا يكـون اهتمامكم أبداً مُضطَرِباً وقَلِقاً. فالصلاح هو عدوّ الهُموم والمخاوف والمبادرات التي تتأثّر أكثر بالحسد والجَّشع وسوء الظُّنون البشريّة.

 

فليكن عملكم دَؤوباً، واثِقاً، وادِعاً، دون اندفاعات مُفاجِئة ولا توقُّفات مُفاجِئة. إذ هكذا تَفعَل أنواع مِن الخيول المتوحّشة، إنّما لا أحد يَستَخدِمها إلّا إذا كان مجنوناً، وذلك مِن أجل السلامة. فكونوا ودعاء في انتصاراتكم وودعاء في انهزاماتكم. حتّى الحزن الذي يسبّبه خطأ ارتُكب وهو يجعلكم تُعانون، لأنّكم بهذا الخطأ تَنفرون مِن الله، على هذا الحزن أن يكون وادعاً مُعزّى بالتواضع والثقة. الإنهاك، الحقد على الذات هو على الدوام دليل الكبرياء وكذلك الارتياب. مَن يكن متواضعاً يَعرف أنّه إنسان مسكين عُرضة لهموم الجسد الذي ينتصر أحياناً. مَن يكن متواضعاً يَكن واثقاً ليس بنفسه بقدر ما يثق بالله ويظل في سكون، حتّى في الانهزامات، قائلاً: اغفر لي أيّها الآب. أؤمن بأنّكَ ترحمني. لديَّ ثِقة ثابتة أنّكَ ستساعدني مستقبلاً أكثر مِن ذي قبل، رغم أنّني لا أرضيكَ إلّا قليلاً جدّاً ".

 

ولا تكونوا لا مبالين ولا بُخَلاء بخيرات الله. أعطوا ممّا عندكم مِن باب الحكمة والفضيلة. كونوا نشيطين وفاعلين في أمور الروح كما هُم الناس في أمور الجسد. وفيما يخصّ الجسد لا تقتدوا بالناس الذين مِن العالم، الذين لا يتوقّفون عن الاضطراب مِن أجل غَدِهم، خشية أن ينقص لديهم الفائِض، أن يَمرَضوا، أن يموتوا، أن يتمكّن أعداؤهم مِن الإساءة إليهم، وهكذا دواليك.

 

الله يَعلَم ما أنتم في حاجة إليه. لا تَخشوا على غدكم. تخلّصوا مِن مخاوفكم التي هي أثقَل مِن سَلاسل المحكومين بالأشغال الشاقّة. لا تَدَعوا أنفسكم تُعانون مِن أجل حياتكم، مِن أجل طعام أو شراب أو كِساء. فإنّ حياة الروح أهمّ مِن الجسد، والجسـد أهمّ مِن اللباس، إذ بالجسد وليس باللباس تَحيون، وبإماتة الجسد تُسـاعِدون الروح على الحصول على الحياة الأبديّة. الله يَعلَم حتّى متى تَبقى نفسكم في جسدكم، وإلى أن تحين تلك اللحظة، هو يَهِبكم ما هو ضروريّ لكم. إنّه يَهِبه للغربان والحيوانات النَّجِسة التي تأكل الجّيَف، والتي لها مبرّر وجودها تماماً لهذه الغاية، التي هي وظيفتها أن تُخلِّصنا من الأجسام المتفسّخة، أفلا يَهبه لكم؟ تلك لا مكان لديها لخزن ما تقتات به، ولا أهراء، ومع ذلك الله يرزقها قوتها. أمّا أنتم فإنّكم بَشَر ولستم غرباناً. وثمّ، حاليّاً، أنتم زهرة الناس لأنّكم تلاميذ المعلّم، المبشِّرون للعالم، خُدّام الله. وهل يمكنكم أن تُفكِّروا أنّ الله الذي يعتني بزنابق الوديان ويُنمّيها ويُلبِسها لِباساً أجمل مِن لِباس سليمان، دون تأدية عمل غير التعطير أثناء التسبيح، أو تظنّون أنّ بإمكانه أن ينساكم حتّى مِن جهة اللّباس؟

 

أنتم يا مَن لا تستطيعون إضافة سنّ واحدة على فمكم الأجرد مِن تلقاء ذواتكم، ولا إطالة الساق القصيرة قيد أنملة، ولا أن تُعيدوا إلى بَصر مُغشّى حِدّته. وإذا كنتم لا تستطيعون فِعل هذه الأمور، فهل يمكنكم التفكير بإمكانيّة إبعادكم البؤس والمرض عنكم، وإخراجكم الغذاء مِن التراب؟ لا يمكنكم ذلك. ولكن لا تكونوا قليلي الإيمان. ستنالون على الدوام ما هو ضروريّ لكم. لا تُسبّبوا لأنفسكم العقاب كالناس في العالم، الذين يتسبّبون لأنفسهم بالشرّ ليحصلوا على الملذّات. لديكم أبوكم الذي يعرف احتياجاتكم. عليكم فقط المحاولة، وليكن ملكوت الله وبرّه أوّل اهتمامكم، والباقي كلّه يُزاد لكم.

 

لا تخافوا، يا مَن أنتم مِن قطيعي الصغير. لقد راق لأبي أن يدعوكم إلى الملكوت لكي تمتلكوا هذا الملكوت. يمكنكم إذن أن تطمَحوا إليه وتُسـاعِدوا الآب بإرادتكم الصـالحة ونشاطكم المقدّس. بِيعوا أرزاقكم وتصدَّقوا بها إذا كنتم بمفردكم. وأعطوا ذويكم أسباب العيش التي تعوِّض ترككم البيت لتتبعوني، فَمِن العدل عدم حرمان الأولاد والزوجات القُوت. وإذا لم يكن بمقدوركم التضحية بثروات المال، فضحّوا بثروات العواطف. فإنّها هي كذلك عُملة يثمّنها الله لما هي عليه: ذَهَب أكثر نقاء مِن أيّ ذهب آخر، لآلئ أثمن مِن تلك التي انتُزِعت مِن البحر، وياقوت أكثر نُدرة مِن تلك التي أُخرِجَت مِن باطن الأرض. ذلك أنّ ترك العائلة مِن أجلي، محبّة كاملة أكثر مِن الذهب الخالص الخالي مِن ذرّة واحدة مِن الشوائب، لؤلؤة مصنوعة مِن الدموع، ياقوتة مصنوعة مِن الدم المتدفِّق مِن جرح القلب الممزَّق بفعل الابتعاد عن الأب والأمّ والزوجة والأولاد.

 

ولكن هذه الأموال لا تتلف، هذا الكنـز لا يَنقص أبداً. لا يدخل اللصوص إلى السماء. والدود لا يَنخَر ما وُضِع فيها. ولتكن السماء في قلبكم، وقلبكم في السماء إلى جانب كنـزكم. ذلك أنّ قلب الإنسان، صالحاً كان أو شرّيراً، هو حيث ما يبدو له أنّه كنـزه الثمين. إذ كما يكون القلب حيث يوجد الكنـز (في السماء)، كذلك يكون الكنـز حيث يوجد القلب (أي في داخلكم)، والكنـز ذاته يكون في القلب، ومع كنـز القدّيسين تكون في القلب سماء القدّيسين.

 

كونوا دائماً على أهبة الاستعداد كَمَن هو على وشك السفر، أو كَمَن يَنتَظِر معلّمه. أنتم خُدّام الله المعلّم. يمكنه في كلّ ساعة أن يدعوكم إلى حيث هو، أو يأتي إليكم حيث أنتم. إذن كونوا دائماً مستعدّين للذهاب إليه أو استقباله بما يَليق، متمنطقين نِطاق السفر أو العمل وفي يدكم السراج مُتّقداً. كخارِجين من حفلة عرس مع أحدهم وقد سبقكم إلى السماء أو إلى تكريس ذاته لله على الأرض، يمكن لله أن يتذكّركم أنتم يا مَن تنتظرون، ويمكنه القول: "هيّا بنا إلى استفانوس أو إلى يوحنّا أو إلى يعقوب أو إلى بطرس". والله سريع في مجيئه، أو في قوله: "تعال". كونوا إذن مستعدّين لأن تفتحوا له البَاب عندما يَصِل، أو لأن تمضوا إذا ما ناداكم.

 

طوبى لأولئك الخدّام الذين إذا ما جاء المعلّم يَجِدهم ساهرين. في الحقيقة، إنّه، لكي يُكافِئ أمانتهم في السَّهَر فإنّه يَأتَزِر، وبعد أن يجعلهم يجلسون إلى الطاولة، يَشرَع في خدمتهم. وقد يأتي في الهَجعة الأولى مِن الليل، كما يمكنه ذلك في الثانية أو الثالثة. لا تَعلَمون. كونوا إذن دائماً متيقّظين. وطوبى لكم إذا كنتم ساهرين وأتى المعلّم ووجدكم هكذا! ولا تُخادِعوا ذواتكم قائلين: "لدينا متَّسع مِن الوقت، لن يأتي هذه الليلة"، فقد يُصيبكم أذى. لا تَدرون. لو كان أحد يَعلَم متى يأتي السارق، لما تَرَكَ بيته دون حراسة، فيتمكّن اللص مِن الباب والصندوق الحديديّ. كذلك أنتم كونوا مستعدّين، إذ في اللحظة التي تتهاونون فيها يأتي ابن الإنسان قائلاً: "إنّها الساعة".»

 

بطرس الذي نَسِيَ إكمال طعامه مِن أجل الاستماع إلى الربّ، إذ رأى يسوع يَصمت، يَسأَل: «ما تقوله، لنا هو أو للجميع؟»

 

«إنّه لكم وللجميع، ولكنّه لكم أنتم أكثر، إذ إنّكم بمثابة القَيِّمين المكلَّفين مِن قِبَل المعلّم على رأس الخُدّام، وأنتم مُجبَرون بشكل مضاعف على أن تكونوا مستعدّين كقيِّمين، وفي الوقت ذاته كمجرّد مؤمنين.

 

ماذا على القيِّم مِن قِبَل المعلّم على رأس الخدّام أن يكون كي يعطي كلّ أحد حصّتـه المحدّدة في الوقت المحدّد؟ عليه أن يكون متيقّظاً وأميناً. لكي يتمّم واجبه الذاتي، ولكي يَجعَل الذين هُم دونه يُتمِّمون واجبهم. وإلا فستتضرّر مِن ذلك مصالح المعلّم الذي يَدفَع أجر المكلَّف ليتصرّف باسمه ويسهر على مصالحه أثناء غيابه. طوبى للخـادم الذي يعود معلّمه فيجده يتصرّف بأمانة ومهارة واستقامة. الحقّ أقول لكم إنّه يُقيمـه على الأملاك الأخرى أيضاً، على كلّ أملاكه، مرتاحاً ومسروراً في قلبه مِن الأمان الذي يَمنَحه إيّاه هذا الخادم.

 

ولكن لو قال هذا الخادم: "آه! حسناً! المعلّم بعيد جدّاً وقد كَتَبَ لي يقول إنّه سيتأخر في العودة. إذن فبإمكاني فِعل ما يطيب لي وثمّ، حين أرى أنّ عودته أَصبَحَت وشيكة، أتدبّر الأمر". ويَشرَع بالأكل والشرب حتّى الثّمالة، ويُصدِر أوامر سـكّير. وحين يَرفُض الخُدّام الصالحون التابعون له الانصياع لأوامره كيلا يُسـيئوا إلى معلّمهم، يقوم بضـرب الخُدّام والخادمات حتّى الإعياء والسَّقَم. يَظن نفسه سعيداً ويقول: "أخيراً أتذوّق طعم ما معنى أن يكون المرء معلّماً يَخشاه الجميع". ولكن ما الذي سيحصل له؟ ما سيحصل هو أن المعلّم يَصِل في وقت لا يتوقّعه، مُفاجِئاً إيّاه وهو يضع المال في جيبه أو يُفسِد خادماً ضعيفاً. حينئذ أقول لكم، يُقيله المعلّم مِن وظيفته كقيِّم وحتّى كخادم، إذ لا يَسمَح بإبقاء عديمي الوفاء والخونة وسط الخُدّام النـزيهين. وسيكون عقابه على قَدر ما كان المعلّم قد أحبَّه وعَلَّمه.

 

ذلك أنّ المرء، كلّما عَرف أكثر مشيئة المعلّم وفِكره، كلّما التَزَمَ أكثر بإنجازهما بدقة. وإذا لم يتصرّف كما قال له المعلّم وبالتفصيل، كما لم يَفعَل لأيّ آخر، تلقّى ضَرَبات كثيرة، بينما الذي هو، بحكم كونه خادِماً مِن الدرجة الثانية، يَعلَم القليل ويُخطئ وهو يظنّ أنّه يُصيب، فإنّ قصاصه يكون أخفّ. فَمَن أُعطي كثيراً طُلِب منه الكثير، وينبغي للذي أُقيم على الكثير أن يؤدّي الكثير، ذلك أنّ الذين أُقيمُهم ينبغي لهم تأدية الحسـاب حتّى عن النَّفْس التي لا يتجاوز عمرها ساعة واحدة.

 

إنّ اختيار المرء لي ليس استراحة مُنعِشة في غابة مُزهِرة. لقد أتيتُ أحمل النار إلى الأرض، وماذا يمكنني أن أرغَب في غير أن تتأجَّج؟ كذلك أنا أُنهِك نفسـي وأريدكم أن تُنهِـكوا أنفسكم حتّى الموت، وحتّى تصبح الأرض كلّها جَمرة نار سماويّة.

 

أمّا أنا فعليّ أن أَقبَل معموديّة أخرى. وأيّ كَرْب أعانيه حتّى تتمّ! ألا تتساءلون لماذا؟ لأنّني، بتلك المعموديّة، سأتمكّن مِن جعلكم حامِلي النار، ومحرِّضين تتحرّكون وسط وفي مواجهة كلّ طبقات المجتمع لتجعلوا منها شيئاً واحداً وحيداً: قطيع المسيح.

 

هل تظنّونني أتيتُ لِأُلقي سلاماً على الأرض؟ وبِحَسب وِجهة نَظَر الأرض؟ لا، بل على العكس، شِقاقاً ونِزاعاً. فمنذ الآن، وحتّى تصبح الأرض كلّها قطيعاً واحداً، مِن خَمسـة في البيت الواحد، سيقوم اثنان على ثلاثة، فيُخالِف الأب ابنه والابن أباه والأُمّ ابنتها والبنت أُمّها، وسيكون سبب إضافيّ لعدم التفاهم بين الكنّة وحماتها. ذلك أنّ لُغة جديدة ستكون على شِفاه كثيرة، وسيحصل ما يُشبه الذي حَصَلَ في بابل، لأنّ انتفاضة عميقة الجذور سوف تُزعزِع مملكة العواطف، البشريّة منها وفوق البشريّة. إنّما بعدئذ ستأتي الساعة التي تتوحّد فيها اللغة الجديدة التي يتكلّمها كلّ الذين سيكون الناصريّ قد خلَّصَهم، ويتطهَّر نَقيع الأحاسيس، بينما تَسقُط الشوائب إلى القاع، وتلمع على السطح مياه البحيرات السماويّة الصافية.

 

في الحقيقة، إنّ خدمتي ليست راحة بحسب المعنى الذي يُطلِقه الإنسان على هذه الكلمة. يجب توافر بطولة لا تعرف التعب. إنّما أقول لكم: سيكون يسوع في نهاية المطاف، دائماً وأبداً يسوع الذي سيأتَزِر ليخدمكم، ثمّ يجلس معكم إلى الوليمة الأبديّة ويُنسى كلّ تعب وألم.

 

والآن، بما أنّ أحداً لم يَطلبنا، فلنمض إلى البحيرة. سوف ننال قسطاً مِن الراحة في مجدلة. في حدائق مريم أخت لعازر يوجد متّسع للجميع، وقد وَضَعَت البيت تحت تصرّف الـمُسـافِر وأصدقائه. ولا حاجة لأن أقول لكم إنّ مريم المجدليّة ماتت مع خطيئتها، وإنّها، بتوبتها، قد وُلِدَت مِن جديد، مريم أخت لعازر، تلميذة يسوع الناصريّ. تَعلَمون ذلك، فالخبر قد انتَشَرَ كما ينتشر صوت الريح في غابة. إنّما أنا أقول لكم ما لا تَعرفون: إنّ أرزاق مريم أخت لعازر قد وُهِبَت كلّها لخُدّام الله وفقراء المسيح. هيّا بنا...»