ج7 - ف224

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

224- (على طريق العودة إلى نوبة)

 

08 / 11 / 1946

 

إنّهم الآن على منحدرات بستان الزيتون، وأزواج الرُّسُل الثلاثة الّذين تُرِكوا في أريحا، في تيكوا وفي بيت عنيا، قد انضمّوا مجدّداً إلى المعلّم.

 

إنّما يهوذا الاسخريوطيّ لا يزال غائباً، والرُّسُل يتحدّثون همساً عن ذلك…

 

يسوع حزين بشكل لامتناهٍ…

 

الرُّسُل، الّذين يلاحظون ذلك، يقولون فيما بينهم: «ذلك حتماً بسبب لعازر. هو بحقّ إنسان منتهٍ… والأختان تؤلم رؤيتهما. إنّ المعلّم لا يمكنه حتّى التوقّف في ذاك المنزل، مع كلّ هذا القدر مِن الكراهية الّتي تلاحقه. كان ذلك ليعدو تعزيةً للمريض وللأختين، وكذلك للمعلّم.»

 

«أنا لا أستطيع أن أفهم لماذا لا يشفيه!» يهتف توما.

 

«حتّى إنّ ذلك كان عادلاً. صديق... يقدّم له الكثير مِن المساعدة... بارّ...» يتمتم برتلماوس.

 

«آه! فيما يتعلّق بالبرّ فهو بارّ بحقّ. أظنّ بأنّكَ قد اقتنعتَ بذلك في هذه الأيّام...» يقول الغيور لبرتلماوس.

 

«نعم، هذا صحيح. وصحيح أيضاً ما تلمّح إليه. فأنا لم أكن مقتنعاً كثيراً ببرّه… مع العلاقات تلك مع الوثنيّين، مع التربية الّتي تلقّوهامِن والدهم، الّذي كان، أقول، ميّالاً، ميّالاً جدّاً لأنماط حياة جديدة تختلف عن أنماط حياتنا...»

 

«الأُمّ كانت ملاكاً.» يقول بحسم سمعان الغيور.

 

«ربّما لذلك هم أبرار… بتغاضينا عن ماضي مريم. فهي الآن قد افتدت نفسها...» يقول فيلبّس.

 

«نعم. إنّما كلّ ذلك كان يجعلني حذراً. الآن أنا مقتنع بحقّ، وأندهش مِن أنّ المعلّم...»

 

«إنّ أخي يُحسِن تقدير قيمة الخليقة. لقد عانينا مِن ذلك نحن أيضاً لزمن طويل، إثر غيرة طبيعيّة، بشريّة، لرؤيتنا الغرباء مستجابين أكثر منّا نحن أفراد عائلته. لكنّنا الآن أدركنا أنّ الخطأ كان في تفكيرنا، والعدل في تفكيره. لقد كنّا ننظر إلى طريقة تصرّفه باعتبارها لا مبالاة، وكذلك باعتبارها انتقاصاً، سوء تقدير لقيمتنا. الآن قد أدركنا. هو يفضّل جذب الـمُشَوَّهين والناقصين إليه. هو… يُغرِي… بوسائله اللامتناهية، النفوس الأكثر انحطاطاً، الأكثر بُعدَاً، الأكثر عرضةً للخطر. أتذكرون مَثَل النعجة الضالّة؟ الحقيقة، إنّ مفتاح أسلوبه في التصرّف هو في ذاك الـمَثَل. فهو عندما يرى نعاجه الوفيّة تتبعه، أو تبقى حيثما أو مثلما يشاء هو، فإنّ روحه يرتاح. إنّما هو يستخدم راحته تلك ليسعى وراء النعاج الضالّة. هو يعلم أنّنا نحبّه، أنّ لعازر وأختيه يحبّونه، أنّ التلميذات يحببنه وكذلك الرعاة، وبالتالي فلا يضيّع وقته معنا، باختبارات محبّة خاصّة. إنّه لا يتوقّف عن حبّنا. نحن في قلبه على الدوام. نحن بذاتنا ندخله، ولا نريد الخروج منه. إنّما الآخرون… الخطأة، الضالّون!... عليه أن يسعى خلفهم، عليه أن يجذبهم بمحبّته ومعجزاته، بقدرته. ويفعل ذلك. لعازر، مريم ومرثا سوف يستمرّون في محبّته، حتّى مِن دون معجزة...» يقول يعقوب بن حلفى.

 

«هذا صحيح. مع ذلك… ما الّذي أراد قوله بتحيّته الأخيرة؟ لقد سمعتم: "إنّ محبّة الربّ لكم سوف تتجلّى بالتناسب مع محبّتكم. وتذكّروا أن للمحبّة جناحين كي تكون كاملة، جناحين كلّما كان حجمهما أكبر كانا أكثر كمالاً: الإيمان والرجاء"» يقول أندراوس.

 

«أجل! ما الّذي أراد قوله؟» يتساءل البعض.

 

يسود صمت. ثمّ توما، مع تنهيدة عظيمة، يختم محادثته الداخليّة: «...مع ذلك فليس دائماً صبره الجميل ينال الفِداء. أنا أيضاً قد تألّمتُ في بعض الأحيان بسبب التفضيل الّذي يُظهِره ليهوذا الاسخريوطيّ.»

 

«تفضيلاً؟ لا يبدو لي ذلك. هو يلومه كما أيّ واحد منّا...» يقول أندراوس.

 

«بعدل، نعم. إنّما ضع في اعتباركَ كم يستحقّ ذاك الرجل صرامةً أكثر...»

 

«هذا صحيح.»

 

«حسناً، أنا قد تألّمتُ مِن ذلك في بعض الأحيان. لكنّني الآن أدرك بأنّه حتماً يفعل ذلك لأنّه… الأكثر نقصاً مِن بيننا.»

 

«الأكثر بؤساً، يجب أن تقول يا توما! الأكثر بؤساً. أنتم تظنّون أنّ هذا الحزن (ويشير إلى يسوع الّذي يسير إلى الأمام وحيداً، مستغرقاً في ألمه) سببه مرض لعازر ودموع الأختين. أنا أقول لكم أنّه بسبب غياب يهوذا. هو كان يأمل بأن ينضمّ إليه في الطريق أثناء المضيّ إلى بيت عَبرة. أقلّه كان يأمل أن يجده في أريحا، في تيكوا أو بيت عنيا أثناء العودة. الآن هو ما عاد يأمل. إنّه على يقين مِن أنّ يهوذا يتصرّف بشكل سيّئ. لم أتوقّف عن مراقبته… وقد رأيتُ أنّ وجهه قد اتّخذ مظهر التخلّي المطلق عندما أنتَ، يا برتلماوس، قلتَ: "إنّ يهوذا لم يأتِ"» يقول تدّاوس.

 

«لكنّه يعلم الأمور قبل أن تكون، إنّني واثق مِن ذلك!» يهتف يوحنّا.

 

«الكثير منها. لا كلّها. أظنّ بأنّ أباه يُخفي عنه بعضها بدافع الرأفة.» يقول الغيور.

 

الأحد عشر ينقسمون إلى فريقين، منهم مَن يَقبَل رواية ومنهم الأخرى، وكلّ واحد يقدّم أسبابه لدعم رأيه.

 

يوحنّا يهتف: «آه! أنا لا أريد سماع لا الواحد ولا الآخر، ولا حتّى نفسي! إنّنا كلّنا أناس مساكين، ولا يمكننا أن نرى بشكل صحيح. سوف أذهب إلى يسوع وأسأله.»

 

«لا. قد يكون يفكّر بأمر آخر، ومع هذا السؤال يتذكّر يهوذا ويتألّم أكثر.» يقول أندراوس.

 

«ولكن لا. لن أقول له بالتأكيد أنّنا كنّا نتحدّث عن يهوذا. سأتحدّث إليه هكذا… دون تلميح.»

 

«اذهب، اذهب! إنّ ذلك سيفيد في إلهائه. ألا ترون كم هو حزين؟» يقول بطرس دافعاً يوحنّا.

 

«أنا ذاهب إليه. مَن يأتي معي؟»

 

«اذهب، اذهب وحدكَ. هو معكَ يتكلّم دونما تحفّظ. وبعد ذلك تقول لنا...»

 

يوحنّا يمضي.

 

«يا معلّم!»

 

«يوحنّا! ماذا تريد؟» ويسوع، بابتسامة منيرة على وجهه، يُطوّق محبوبه بذراعه، مبقياً إيّاه قربه أثناء المسير.

 

«كنّا نتحدّث فيما بيننا وكنّا في حيرة بشأن أحد الأمور. هذا: إذا ما كنتَ تعرف كلّ المستقبل، أم هو مخفيّ عنكَ جزئيّاً. هناك مَن كانوا يقولون شيئاً، ومَن يقولون شيئاً آخر.»

 

«وأنتَ ما الّذي كنتَ تقوله؟»

 

«كنتُ أقول أنّه مِن الأفضل بكثير أن أسألكَ عن ذلك.»

 

«وهكذا أتيتَ. حسناً فعلتَ. فذلك على الأقلّ يتيح لنا، أنتَ وأنا، التنعّم بلحظة محبّة… مِن الآن فصاعداً سيكون نادراً جدّاً التمكّن مِن الحصول على بعض السلام!...»

 

«هذا صحيح! كم كانت جميلة الأوقات الأولى!...»

 

«نعم. بالنسبة لنا كبشر، كانت أجمل. إنّما بالنسبة للروح الّذي فينا فهذه أفضل. لأنّ كلمة الله الآن معروفة أكثر، ولأنّنا نتألّم أكثر. كلّما تألّمنا أكثر، كلّما افتدينا أكثر يا يوحنّا… كذلك… ونحن نتذكّر الأوقات الهانئة، علينا أن نحبّ أكثر تلك الّتي تُسبّب لنا ألماً، ومع الألم تمنحنا نفوساً. لكنّني أجيب على سؤالكَ. اسمع. إنّني لا أجهل، كوني الله. ولا أجهل، كوني إنساناً. أعرف مستقبل الأحداث، لأنّني مع الآب منذ ما قبل الزمن، وأرى أبعد مِن الزمن. وكوني إنساناً خالياً مِن النواقص والقيود المتّصلة بالخطيئة وبالأخطاء، فلديّ موهبة سبر غور القلوب. هذه الموهبة ليست حكراً على المسيح، بل يملكها بدرجات متفاوتة أولئك الّذين، إذ قد بلغوا القداسة، هم متّحدون بالله لدرجة يمكن معها القول بأنّهم لا يعملون بأنفسهم، بل مع الكمال الّذي فيهم. لذلك يمكنني أن أجيبكَ أنّني لا أجهل، كوني الله، مستقبل العصور، ولا أجهل، كوني إنساناً بارّاً، حال القلوب.»

 

يوحنّا يفكّر ويصمت.

 

يسوع يدعه لبعض الوقت، ثمّ يقول: «فعلى سبيل المثال، أرى فيكَ هذا الفكر: "فإذن معلّمي يعرف بالضبط حال يهوذا الاسخريوطيّ!"»

 

«آه! يا معلّم!»

 

«نعم أعرف حاله. أعرف حاله وأواصل أن أكون معلّمه، وأودّ أن تستمرّوا في كونكم إخوته.»

 

«أيّها المعلّم القدّيس!... أحقّاً تعرف دوماً كلّ شيء؟ إنّنا أحياناً نقول أنّ ذلك ليس صحيحاً، لأنّكَ تذهب إلى مواضع حيث تجد أعداء. فهل تعلم قبل أن تذهب إلى هناك أنّكَ ستجدهم، وتذهب كي تحاربهم بمحبّتكَ، لإخضاعهم للمحبّة، أو… إنّكَ لا تعلم ذلك وترى الأعداء فقط حين تجدهم أمامكَ وتقرأ قلوبهم؟ قد قلتَ لي مرّة -كنتَ حزيناً جدّاً أيضاً آنذاك، ودوماً لذات السبب- أنّكَ كنتَ كشخص لا يرى...»

 

«لقد اختبرتُ أيضاً هذا الاستشهاد البشريّ: وجوب أن أتقدّم دون أن أرى، متّكلاً تماماً على العناية الإلهيّة. عليّ أن أعرف كلّ شيء عن الإنسان، ما عدا الخطيئة المرتكبة. وذلك ليس بفعل حاجز وضعه أبي للجسد، للعالم والشيطان، إنّما بمشيئتي كإنسان. إنّني مثلكم. إنّما أُحسِن أن أشاء أكثر منكم. كذلك تعتريني التجارب، لكنّني لا أُذعِن لها. وفي هذا، كما بالنسبة لكم، يكمن استحقاقي.»

 

«تجارب، أنتَ!... يكاد ذلك يبدو لي مستحيلاً...»

 

«لأنّكَ تعاني منها قليلاً. إنّكَ نقيّ وتفكّر بأنّني، كوني أنقى منكَ، ينبغي لي ألاّ أعرف التجربة. في الواقع إنّ التجربة الجسديّة هي بغاية الضعف أمام طهارتي، إلى درجة أنّها غير محسوسة على الإطلاق للأنا. إنّها كما لو أنّ بتلة تضرب كتلة صوّان بلا تشقّقات، لا تُخلّف أثراً. حتّى الشيطان بذاته قد سئم مِن قذفي بهذا السهم. إنّما، أيا يوحنّا، ألا تفكّر كم مِن تجارب أخرى تحيط بي؟»

 

«بكَ أنتَ؟ إنّكَ لستَ متعطّشاً لا لثروات، ولا لأمجاد… فما هي إذاً؟...»

 

«وألا تعتقد بأنّ لي حياة، عواطف، وواجبات كذلك، تجاه أُمّي، وأنّ هذه الأمور تدفعني إلى الابتعاد عن الخطر؟ هي، الحيّة، تدعو ذلك "خطراً". إنّما اسمه الحقيقيّ هو "تضحية". وألا تعتقد بأنّي أنا أيضاً لي مشاعر؟ إنّ الأنا الأخلاقيّة ليست غائبة فيَّ، وتعاني مِن الإساءات، الازدراء، الرياء. آه! يا يوحنّاي! ألا تتساءل أيّ اشمئزاز يسبّبه لي الكذب والكاذب؟ أتعلم كم مرّة يحملني الشيطان إلى ردّ الفعل حيال تلك الأمور، الّتي تسبّب لي الألم، لإخراجي مِن الحلم [الوداعة]، لجعلي قاسياً، متصلّباً؟ وأخيراً، ألا تفكّر كم مرّة ينفث نَفَس كبريائه الـمُحرِق ويقول: "مَـجِّد نفسكَ بهذا الأمر أو ذاك. إنّكَ عظيم. العالم يكنّ لكَ الإعجاب. العناصر خاضعة لكَ!". تجربة التلذّذ بأن تكون قدّيساً! التجربة الأكثر حذاقة! كم مِن الناس يفقدون القداسة المكتسبة بفعل هذا الكبرياء! كيف أفسد الشيطان آدم؟ بتجربة الحواسّ، الفِكر والروح. وألستُ أنا الإنسان الّذي يجب أن يعيد خلق الإنسان؟ منّي ستتأتّى الإنسانيّة الجديدة. وها هو ذا الشيطان يسعى إلى ذات السبل كي يدمّر، وللأبد، نسل أبناء الله. الآن اذهب إلى رفاقكَ وكَرّر عليهم كلامي. ولا تتساءل فيما إذا كنتُ أعلم أم لا ماذا يفعل يهوذا. فكّر بأنّني أحبّكَ. ألا يكفي هذا التفكير لإشغال قلب؟» يُقبّله ويصرفه.

 

وحيث أنّه قد عاد وحيداً مجدّداً، فإنّه يرفع عينيه نحو السماء، الّتي تُرى عبر أوراق أشجار الزيتون ويناجي: «أبتاه، اجعلني على الأقلّ، حتّى الساعة الأخيرة، أتمكّن مِن حجب الجريمة. أن أمنع أحبّائي مِن أن يتلطّخوا بالدم. أَشفِق عليهم يا أبتي! إنّهم بغاية الضعف كي يقاوموا الردّ على الإساءة! لا تكن الكراهية في قلوبهم ساعة المحبّة الكاملة!» ويمسح دموعاً وحده الله يراها...