ج4 - ف104

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

104- (يسوع لفليبّس: "أنا الحبيب القادر". مَثَل الدّرهم الـمُستَعاد 'المفقود')

 

02 / 08 / 1945

 

يترنَّح الـمَركَب على طول شاطئ كفرناحوم، في مجدلا.

 

لأوّل مَرَّة تَظهَر وضعيّة مريم المجدليّة كَتَائِبَة: جالسة في قاع الـمَركَب، عند قدميّ يسوع، الذي يَجلس على أحد مقاعد الـمَركَب. وجه مريم المجدليّة مُختَلِف كثيراً عمّا كان عليه في الأمس. ولكنّه لَم يَبلُغ بَعد الوجه الـمُشعّ لمريم المجدليّة التي تَهرَع للقاء يسوع كلّما ذهب إلى بيت عنيا، بل إنّما هو الآن الوجه الذي تَخلَّصَ مِن الـمَخاوف والـمُضايقات، وعينها التي كانت في البدء منكسرة بعد وقاحتها السابقة، هي الآن جادّة ومفعمة أماناً، وفي جدّيتها المفعمة إجلالاً، تَلمَع مِن وقت لآخر شرارة فرح، عندما تَسمَع يسوع يتحدّث إلى رُسُله أو مع أُمّه ومرثا.

 

يتحدّثون عن طيبة بورفيرا البسيطة كثيراً، يتحدّثون عن استقبال سالومة ونساء عائلة برتلماوس وفليبّس الودود، ويقول فليبّس: «لو لَم يَكُن السبب أنّهنّ لَم يَزلن صبايا، وأنّ الأُمّ لا تريدهنّ على الطرقات، لكُنَّ تبعنكَ أيضاً، يا معلّم.»

 

«نفوسهنَّ تَتبَعني، وهذا أيضاً حُبّ مقدّس. أَنصِت إليَّ يا فليبّس. ابنتكَ البِكر على وشك الخطوبة، أليس كذلك؟»

 

«نعم يا معلّم، إنّه خطيب محترم، وسيكون زوجاً صالحاً. أليس كذلك يا برتلماوس؟»

 

«صحيح، أنا أَضمَنه، لأنّني أعرف عائلته. لم أستطع قبول أن أكون أنا مَن يقترح الموضوع، ولو لم أكن مرتبطاً بالمعلّم، لكنتُ فَعَلتُ ذلك مطمئنّاً وواثقاً مِن إنشاء عائلة مقدَّسة.»

 

«ولكنّ الصبيّة رَجَتني أن أقول لكَ ألّا تفعل شيئاً.»

 

«ألا يَروق لها الخطيب؟ إنّها مخطئة، ولكنّ عُمر الشباب يشوبه الجنون. آمل أن تَقتَنِع. فما مِن مبرّر لرفض قرين ممتاز، إلّا إذا... لا، غير معقول!» يقول فليبّس.

 

«إلّا إذا؟ أَكمِل يا فليبّس.» يقول يسوع ليشجّعه.

 

«إلّا إذا كانت تحبّ شخصاً آخر. إنّما هذا غير معقول. فهي لا تخرج مِن البيت أبداً، وحياتها في البيت تَقضِيها في عزلة. غير معقول!»

 

«يا فليبّس، هناك مُحِبّون يَلِجُون البيوت الموصَدة بالأكثر؛ وهُم يُجيدون التحدّث إلى اللواتي يحبّونهنّ رغم كلّ الحواجز وكلّ الرَّقابات؛ إنّهم يَهدمون كلّ عوائق الترمُّل أو الشباب الـمُراقَب جيّداً، أو... وأيضاً، مِن جهة أخرى، هُم الذين يَحصَلون على مَن يُريدون. وهناك مُحِبّون كذلك لا يمكن رفضهم، لأنّهم لا يُقاوَمون في إرادتهم لأنّهم جَذَّابون، حتّى إنّهم يتغلّبون على كلّ مقاومة، حتّى وإن كانت مِن الشيطان. وابنتكَ تُحبّ واحداً مِن هؤلاء، بل الأكثر سلطاناً منهم.»

 

«ولكن مَن؟ أهو واحد مِن حاشية هيرودس؟»

 

«هذا غير ممكن!»

 

«أهو واحد... واحد مِن بيت الوالي، أحد الأشراف الرومان؟ لَن أسمح بذلك مهما يكن. فَدَم إسرائيل النقيّ لَن يَمتَزِج بدم غير نقيّ. حريّ بي أن أقتل ابنتي. لا تبتسم يا معلّم! إنّي أتألّم!»

 

«لأنّكَ مِثل حصان جَفول. تَرى ظِلالاً حيث لا يوجد إلّا النور. إنّما كن مطمئنّاً. أفليس الوالي خادماً؟ وأصدقاؤه الأشراف خُدّاماً؟ وقيصر، أليس خادماً؟»

 

«ولكنّك تمزح يا معلّم! أردتَ إخافتي. فَما مِن أحد أعظم مِن قيصر، وما مِن سيّد أعظم منه.»

 

«بلى، أنا، يا فليبّس.»

 

«أنتَ؟ أنتَ تريد أن تتزوّج ابنتي؟»

 

«لا، بل نَفْسها. فأنا الـمُحِبّ الذي يَلِج البيوت الموصَدة والقلوب المقفَلة بسبعة، وسبعة مفاتيح. أنا الذي يُجيد التحدّث رغم كلّ الحواجز والرَّقابات... أنا مَن يَهدم كلّ العوائق، ويأخذ مَن يريد أخذه: الأنقياء والخَطَأَة، العذراوات والأرامل، الذين لا تُقيِّدهم الرذيلة، والذين هُم عبيد لها. وأَهِب الجميع نفساً فريدة وجديدة، نَفْساً بُعِثَت وجُعِلَت سعيدة وخالدة الشباب. هي ذي خطوبتي. ولا يمكن لأيّ كان رفض إعطائي غنائمي البهيّة. لا الأب ولا الأُمّ ولا الأولاد ولا حتّى الشيطان. فإنّني، حالما أتحدّث إلى نَفْس صبيّة مثل ابنتكَ، أو خاطئ يَغوص في حَمأة الخطيئة، أو يُقيِّده الشيطان بسبعة قيود، أَلقَى هذه النَّفْس آتية إليَّ. ولا يمكن، بعد ذلك، لأيّ شيء أو أيّ أحد انتزاعها منّي. فلا ثروة ولا سلطة، ولا بهجة دنيويّة تُجاري الفرح الكامل الذي هو فرح الذين يَتَّحِدون بِفقري، بِتقشّفي، متجرِّدين عن كلّ خير بائس، لابِسين كلّ الخيرات السماويّة، فَرِحين بصفاء انتمائهم إلى الله؛ فقط إلى الله... فَهُم سادة الأرض والسماء الأولى، لأنّهم يُهيمِنون عليها، والثانية، لأنّهم يَغزُونها ويَستولون عليها.»

 

«ولكن لا وجود لهذا في شريعتنا على الإطلاق!» يهتف برتلماوس.

 

«انزَع عنكَ الإنسان العتيق يا نثنائيل. عندما رأيتُكَ لأوّل مرّة حَيَّيتُكَ مُسمّياً إيّاك الإسرائيليّ الذي لا غشّ فيه. ولكنّكَ الآن تنتمي إلى المسيح، وليس إلى إسرائيل. فَكُن للمسيح بِغَير غشّ ولا تحفُّظ. أليس هذا هو الـمَنطِق الجديد؟ إالّا فلن تستطيع فَهم الكثير مِن جَمالات الفِداء الذي أَتَيتُ أحمِله إلى الإنسانيّة قاطِبة.»

 

«يتدخّل فليبّس قائلاً: «وابنتي، أتقول إنّكَ دَعَوتَها؟ وماذا تَفعل الآن؟ فأنا لستُ أُنازِعكَ عليها، ولكنّني أودُّ معرفة ذلك، لا لِشيء إلّا لمساعدتها في ما يخصّ دعوتكَ...»

 

«إنّها تَعمَل على جلب الزنابق المكرَّسة، بحبّ بتولي، إلى حديقة المسيح. سيكون منها الكثير في الأجيال القادمة!... الكثير!... حدائق زهر مُعطَّرة بالبخور، لِتُوازِن مَزابل الرَّذائِل. نُفوس صلاة لِتُوازِن الكافِرين الـمُلحِدين. عَون لكلّ البلايا الإنسانيّة، وفرح لله.»

 

تَفتَح مريم المجدليّة شفتيها لتطرح سؤالاً، وتفعل ذلك والاحمرار يعلو وجهها أيضاً، إنّما بِأَيسر مِن الأيّام الماضية: «ونحن، الأنقاض التي تَرفَعها، إلام نَصير؟»

 

«إلى ما هُنَّ عليه، أخواتكنَّ العَذارى...»

 

«آه! غير ممكن! لقد خُضنا في الكثير مِن الوحل، و... و... وغير ممكن.»

 

«مريم، مريم! أبداً لا يَغفر يسوع بَين بَين. لقد قُلتُ إنّني غفرتُ لكِ. وهو كذلك فِعلاً. أنتِ وكلّ اللواتي أخطأن مثلكِ، وغَفَرَ لهنَّ حُبّي، واقتَرَن بهنّ، فإنّهنّ سوف يُعطِّرنَ، سوف يُصلِّينَ، سوف يُحبِبن، ويُشدِدن العزائم؛ مُتنبِّهات للشرّ، وقادرات على معالجته حيثمّا وُجد، النُّفوس التي هي شهيدة في نَظَر الله؛ فهي إذاً عزيزة على قلبه كالعَذارى.»

 

«شهيدات؟ بأي شيء، يا معلّم؟»

 

«بوقوفكنّ ضدّ أنفسكنّ وذكريات الماضي، وبالعطش إلى الحبّ والتَّكفير.»

 

«هل ينبغي لي أن أؤمن بذلك؟...» تَنظُر مريم إلى كلّ الذين في الـمَركَب، بحثاً عن تأكيد للأمل الذي اضطَرَم في داخلها.

 

«اسألي سمعان عن ذلك. كنتُ أتحدّث عنكِ، عنكم، أنتم الخَطَأَة بشكل عام، في إحدى الأمسيات الـمُنارة بالنجوم، في حديقتكِ. وبإمكان كلّ الإخوة القول لكِ إذا لم تُنشِد كَلِمَتي لكلّ الـمُفتَدين معجزات الرحمة والهداية والتوبة.»

 

«لقد حَدَّثَني عنها كذلك الصبيّ، بصوته الملائكيّ. وعُدتُ بعد دَرسه وقد انتَعَش روحي. لقد مَنَحَني أن أعرفكَ، أفضل حتّى مِن أختي، لدرجة أنّني أشعر اليوم بنفسي أكثر شَجاعة لمواجهة مجدلا، والآن، وقد قُلتَ لي ذلك، فإنّني أشعر أنّ قوّتي تنمو. لقد شَكَّكتُ العالم، ولكنّني أُقسِم لكَ، يا سيّدي، أنّ العالم، الآن وهو يَنظُر إليَّ، سيتوصّل إلى إدراك ماهيّة قدرتكَ وسلطانكَ.»

 

يَضَع يسوع يده بُرهة على رأسها، بينما مريم الكلّيّة القداسة تبتسم كعادتها: ابتسامة فردوسيّة.

 

ها هي مجدلا تمتدّ على ضفّة البحيرة، والشمس تُشرِق في مواجهة جبل أربيلا الذي يحميها مِن الرياح من جهة الخلف، والوادي الضيِّق، ذو المنحدرات القاسية والـمُقفِرة، يَصبّ منه في البحيرة سَيل صغير متّجه صوب الغرب بانحدارات شديدة، مُفعَمة جمالاً صارخاً وخلاّباً.

 

«يا معلّم»، يهتف يوحنّا مِن الـمَركَب الآخر، «هو ذا وادي خَلوتنا...» ويُشرِق وجهه كما لو أنّ شمساً تأجَّجت في داخله.

 

«وادينا، نعم. لقد تعرَّفتُ عليه جيّداً.»

 

«لا يمكن عَدم تذكُّر الأمّاكن التي تَعرَّفنا فيها على الله.» يجيب يوحنّا.

 

«إذن، فأنا سوف أتذكّر هذه البحيرة على الدوام، لأنّني هنا عرفتكَ. هل تعلمين يا مرثا أنّني رأيتُ المعلّم هنا، ذات صباح؟...»

 

«نعم، وكُنّا على وشك أن نُصبِح جميعنا في القاع، أنتم ونحن. ثِقي أيّتها المرأة أن جَذَّافيكِ لَم يكونوا على مستوى.» يقول بطرس وهو يُمثِّل حَرَكة التَّصادُم.

 

«لم نَكُن نساوي شيئاً، لا الجذَّافون ولا الذين كانوا معهم... إنّما يبقى أنّه كان اللّقاء الأوّل. وهذا بحدّ ذاته ذو قيمة عظيمة. وقد رأيتكَ بعد ذلك على الجبل، ثمّ في مجدلا، وبعدها في كفرناحوم... وعلى قَدر اللِّقاءات كان تحطيم السَّلاسل... ولكنّ كفرناحوم كانت المكان الأجمل. فهناك حَرَّرتَني...»

 

يَهبطون مِن الـمَركَب، وقد سَبَقَهم الآخرون. ويَدخُلون المدينة.

 

الفُضول البسيط، أو... الفُضول غير البسيط مِن قِبَل سكان مجدلا، يُفتَرَض أن يكون عذاباً لمريم المجدليّة، ولكنّها تتحمّله ببطولة، وهي تَتبَع المعلّم الذي يتقدّم وسط الرُّسُل جميعهم، بينما النساء الثلاث في الخلف. الهَمهَمة قوية، ولا يَخلو الأمر مِن السخرية، كلّ الذين عاصَروا فترة نفوذ مريم في مجدلا، والذين كانوا يَحتَرِمونها خوفاً مِن القصاص، وهُم يَرونَها الآن ويتعرّفون عليها بعيداً عن أصدقائها مِن ذَوي النُّفوذ، مُتواضِعة وعَفيفة، يَسمَحون لأنفسهم كذلك باحتقارها ونَعتها نعوتاً مثيرة إلى حدّ ما.

 

مرثا، التي تتألّم لذلك أكثر منها، تَسأَلها: «هل تودّين العودة إلى المنـزل؟»

 

«لا، لا أَترُك المعلّم. وقبل أن يَتطهَّر المنـزل مِن كلّ آثار الماضي، فلن أدعوه إليه.»

 

«ولكنّكِ تتألّمين يا أختي.»

 

«أنا استحققتُ ذلك.» ويَظهَر عليها أنّها تتألّم. العَرَق الذي يَلمَع على وجهها، والاحمرار الـمُنتَشِر حتّى العُنق، ليسا بسبب الحرارة فقط.

 

يَجتَازون مجدلا كلّها قاصدين المناطق الفقيرة، حتّى يَبلغوا البيت الذي توقَّفوا عنده في المرّة السابقة. والمرأة، عندما ترفع رأسها عن طَبَق الغسيل لِتَنظُر إلى مَن يحيّيها، تأخذها الدَّهشة، فقد وَجَدَت نفسها في مواجهة يسوع وسيّدة مجدلا المشهورة التي لم تَعُد ترتدي الثياب الفاخرة ولا تتقلَّد الجواهر الكثيرة، بل هي تغطّي رأسها بوشاح مِن الكتّان الخفيف، وترتدي ثوباً بلون السماء ضيّقاً، وهو ليس لها بالتأكيد، رُغم محاوَلَة جَعله مناسباً لقامتها، ومتدثّرة معطفاً ثقيلاً، يُفتَرَض أنّها تعاني بسببه، في تلك الحرارة.

 

«هل تسمحين لي بالتوقّف في بيتكِ والتحدّث إلى الذين يتبعونني؟» أي إلى مجدلا كلّها، فالسكّان كلّهم قد تَبِعوا الجماعة الرَّسوليّة.

 

«أوَتسألني يا سيّدي؟ ولكنّ بيتي هو لكَ.» وتُسارِع في إحضار الكراسي والمقاعد للنساء والرُّسُل. وبينما هي تمرّ قرب مريم المجدليّة، تنحني مثل عَبدة.

 

«السلام لكِ يا أُختاه.» تُجيب تلك. والمفاجأة جَعَلَت المرأة تترك المقعد الذي كان بين يديها يَقَع. ولكنّها لَم تَقُل شيئاً. ومع ذلك فإنّ تَصرُّفها جَعَلَني أُفكِّر أنّ مريم كانت تُعامِل الناس بِتَعال. ولقد تعاظَمَت دهشة المرأة عندما سَمِعَتها تسألها: «كيف حال الأولاد، أين هم؟ وإذا ما كان الصيد جيّداً.»

 

«إنّهم بخير... وهُم إمّا في المدرسة أو عند أُمّي. فقط الصغير الأخير يَرقد في مَهده. الصيد جيّد. وسوف يَحمِل زوجي لكِ العُشر...»

 

«لا، لَم يَعُد مِن داع لذلك. احتفظي به لأولادكِ. هل تسمحين لي برؤية الصغير؟»

 

«تعالي.»…

 

يتدفّق الناس إلى الشارع.

 

يبدأ يسوع الحديث:

 

«كان لامرأة عشرة دراهم في حقيبتها. ولكنّها، وبينما هي تتحرّك، سَقَطَت حقيبتها مِن صدرها، وفُتِحَت، وتدحرَجَت الدراهم على الأرض. فَجَعَلت تَلمّها، بمساعدة الجَّارات الحاضِرات، وتَعُدّها. وإذا بها تسعة فقط. أمّا العاشر فَلَم يَظهَر. وبما أنّ الليل كان يَهبط، والنور كان يخبو، أَشعَلَت المرأة السِّراج، وَوَضَعَته على الأرض، وتناوَلَت مِكنَسة، وأَخَذَت تَكنُس بانتباه، علَّ الدرهم قد تدحرَجَ بعيداً عن الموضع الذي سَقَط فيه. إلّا إنّها لَم تَجِد الدرهم. وذَهَبَت الصديقات بعد أن تَعِبن مِن البحث. حينئذ شَرَعَت بإزاحة الصندوق والخزانة وصندوق آخر أثقَل، وإزاحة الجِّرار والأباريق الموضوعة في كُوّة في الجِّدار. ولكنّها لَم تَجِد الدرهم. حينئذ جَثَت على أربع، وبَدَأَت تُفتّش في الكُنَاسة التي جُمِعَت قُرب الباب، لترى ما إذا كان الدرهم قد تدحرَجَ خارج البيت واختَلَطَ بقشور الخضار. وأخيراً وَجَدَت الدرهم، وقد اتَّسَخَ وغَمَرَته الكُنَاسة الـمُتراكِمة فوقه.

 

المرأة، وقد مَلَأَها الفرح، تناوَلَته وغَسَلَته وجَفَّفَته، حتّى أصبَحَ أكثر بهاء مِن ذي قَبل. وعَرَضَته على الجَّارات اللواتي نادتهنَّ مِن جديد، واللواتي كُنّ قد انسحبن بعد المحاولات الأولى للبحث، وهي تَصيح قائلة لهنّ: "ها هو، أترين؟ لقد نَصَحتنني بعدم التعب أكثر، ولكنّني أصرّيتُ حتّى وَجَدتُ الدرهم المفقود. افرحن معي إذن، أنا التي لَم أتألّم لفقدان جزء واحد مِن كنـزي". معلّمكم كذلك، ومعه رُسُله، فإنّه يَفعَل مِثل المرأة في الـمَثَل، يَعلَم أنّ حركة ما يُمكنها جَعل كنـز يَسقُط. فكلّ نَفْس هي كنـز. والشيطان الذي يَكره الله، يُسبِّب الحركات السيّئة كي يجعل النُّفوس المسكينة تَسقُط. وأثناء السقوط، هناك مَن يتوقّفون قريباً مِن الحقيبة، أي لا يبتعدون كثيراً عَن شريعة الله التي تَحفَظ النُّفوس تحت حماية الوصايا. وهناك مَن يَبتَعِدون أكثر عن الله والشريعة؛ وهناك أخيراً مَن يتدحرجون حتّى ضمن النفايات والأوساخ والوحل. وهناك، يَنتَهون إلى الموت والاحتراق في النيران الأبديّة، كالأقذار التي تُحرَق في أمكنة خاصّة.

 

المعلّم يَعرِف ذلك، وهو يبحث، بلا كلل، عن القِطَع المفقودة. يبحث عنها في كلّ مكان، بِحُبّ. إنّها كنوزه، وهو لا يتعب، ولا يَدَع شيئاً يُثير اشمئزازه، بل هو يُنقِّب، ويُنقِّب، يُحرِّك ويَكنُس حتّى يَجِد. وحينما يَجِد، يَغسِل النُّفْس التي لَقِيَها بغفرانه، ينادي أصدقاءه: الجنّة كلّها، وكلّ صالحي الأرض، ويقول: "افرحوا معي لأنّني وجدتُ مَن كان ضائعاً، وهو الآن أجمل مِن ذي قبل، لأنّ مغفرتي جَعَلَت منه كائناً جديداً".

 

الحقّ أقول لكم إنّ عيداً عظيماً يُحتَفل به في السماء، ويَفرَح ملائكة الله والصالحون في الأرض مِن أجل خاطئ واحد يتوب. الحقّ أقول لكم إنّ ما مِن شيء يُضاهي جمال دموع التوبة. الحقّ أقول لكم إنّ الشياطين وحدهم لا يَعرِفون ولا يتمكّنون مِن الفرح لهذه التوبة، التي هي انتصار لله. أقول لكم كذلك إنّ الطريقة التي يتقبّل فيها الإنسان توبة خاطئ تُشير إلى مقدار صَلاحه واتّحاده بالله.

 

السلام معكم.»

 

يُدرِك الناس معنى الأمثولة، ويَنظُرون إلى مريم المجدليّة التي جاءت تَجلس عند الباب وعلى ذراعيها الطفل الوليد، وقد يكون ذلك كي تتمالك نفسها، وتُسيطر على انفعالاتها. يَبتَعِد الناس على مهل، ولم يبقَ سوى ربّة البيت الصغير وأُمّها التي وَصَلَت مع الأولاد. فقط بنيامين الذي ما يزال في المدرسة غائب.