ج8 - ف41
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثامن
41- (معجزات على الطريق مِن أريحا إلى بيت عنيا)
17 / 03 / 1947
إنّه سَحَر يكاد يُدَرَّج إشراقه بأوّل لون فجر ورديّ. الصمت البارد للريف يتلاشى باضطراد، إذ يتزيّن بتغاريد الطيور المستيقظة.
يسوع هو أوّل مَن يخرج مِن منزل نيقي، يُغلِق الباب بصمت ويتوجّه إلى البستان الأخضر حيث تصدح أنغام عصافير القرقف (أبو قلنسوة) الصافية، والشحارير تنفخ ألحانها في المزمار.
لكنّه لم يكن قد وصل إليه بعد عندما خرج منه أربعة أشخاص يتقدّمون صوبه. أربعة مِن أولئك الّذين كانوا بالأمس ضمن المجموعة غير المعروفة، والّذين لم يكشفوا عن وجوههم على الإطلاق. إنّهم يسجدون حتّى الأرض. وعند أمر يسوع وسؤاله لهم بعدما حيّاهم بتحيّة سلامه: «انهضوا! ما الّذي تريدونه منّي؟» ينهضون ويرمون إلى الخلف أرديتهم وأغطية رؤوسهم الكتّانيّة الّتي أبقوا فيها وجوههم محجوبةً مثل كثيرين مِن البدو.
أَتَعرَّف إلى الوجه الشاحب والنحيل للكاتب يوئيل أَبيّا، الّذي رأيتُه في رؤيا الصابئة1. الآخرون هم مجهولون بالنسبة لي إلى أن أعلنوا عن أسمائهم: «أنا يهوذا بَيترون، آخر الحسّيديّين الحقيقيّين، أصدقاء متّاتياس الأشموني.» «أنا إيليئيل وأخي إلقانة مِن بيت لحم يهوذا، أَخَوا يُوَنّا تلميذتكَ، وليس لنا لقب أعظم مِن هذا. الغائبان عندما كنتَ قوياً، الحاضران الآن وأنتَ مُضطَهَد.» «أنا يوئيل أَبيا، ذو العينين المغلقتين لوقت طويل، إنّما المفتوحتين الآن للنور.»
«لقد سبق أن صرفتُكم. ما الّذي تريدونه منّي؟»
«أن نقول لكَ أنّنا… إذا ما بقينا محتجبين فليس بسببكَ، إنّما…» يقول إيليئيل.
«هيّا! تكلّموا!»
«ولكن... تكلّم أنتَ يا يوئيل، لأنّكَ على اطّلاع أكثر مِن الجميع…»
«يا ربّ… إنّ ما أعلمه هو… مهول جدّاً. وأودُّ ألّا تعلم حتّى كُتَل تراب الأرض ولا تسمع ما سأقوله.»
«إنّ كُتَل تراب الأرض سوف ترتعد بحقّ، لا أنا. لأنّني أعلم ما أنتَ مزمع قوله. إنّما مع ذلك تكلّم.»
«إن كنتَ تعلم ذلك… فاسمح بألّا ترتعد شفتاي وهما تقولان هذا الأمر المهول. وليس لأنّني أظنُّ بأنّكَ تكذب بقولكَ أنّكَ تعلم، وأنّكَ تريدني أن أقول ذلك كي تعلمه، إنّما بالضبط لأنّ…»
«نعم. لأنّه أمر يصرخ صوب الربّ. لكنّني سأقوله كي أُقنِع الجميع بأنّني عارف قلب البشر. أنتَ، عضو السنهدرين وقد استَمَالكَ الحقّ، قد اكتشفتَ أمراً لم تُحسِن حَمله بذاتكَ، لأنّه عظيم جدّاً. وقد مضيتَ لتلاقيهم، وهم يهود حقيقيّون فيهم روح صالح فقط، لتطلب منهم النّصح. لقد أحسنتَ عملاً، حتّى ولو أنّ ما فعلتَه لن يجديَ نفعاً. إنّ آخر الحسّيديين لَعَلى استعداد لتكرار بادرة آبائه في سبيل خدمة الـمُحَرِّر الحقيقيّ. وهو ليس الوحيد. كذلك قريبه بَرزِلاّي2 قد كان ليفعل ذلك، وكُثُر معه. وأَخَوا يُوَنّا، محبّةً بي وبأختهما، إضافة إلى محبّتهما لوطنهما، لكانا ينضمّان إليه. إنّما أنا لن أنتصر بالرماح ولا بالسيوف. أُدخلوا كلّيّاً في الحقّ. إنّ انتصاري سيكون سماويّاً. أنتَ، وها إنّ ذلك يجعلك أكثر شحوباً وهزالاً مِن المعتاد، تعلم مَن هو الّذي قَدَّمَ التُّهَم ضدّي، هذه التُّهَم التي وإن كانت كاذبة في روحها، فهي صحيحة في واقعيّة الكلام، لأنّني حقّاً قد انتهكتُ السبت عندما اضطررتُ للهروب، كَون ساعتي لم تحن بعد، وعندما انتزعتُ أبرياء مِن لصوص، وكان يمكنني القول بأنّ الضرورة تبرّر الفِعل، كما برّرت الضرورة لداود تناوله خبز التقدمة. الحقّ أنّني لجأتُ إلى السامرة، رغم أنّني، كون ساعتي قد حانت وعرض عليَّ السامريّون البقاء عندهم كما كاهن أعظم، قد رفضتُ الأمجاد والحماية كي أبقى وفيّاً للشريعة، حتّى لو أنّ ذلك يعني تسليم نفسي للأعداء. وهو صحيح أنّني أحبّ الخطأة والخاطئات إلى درجة انتزاعي إيّاهم مِن الخطيئة. وصحيح أنّني أُنبئ بخراب الهيكل، ولو أنّ أقوالي تلك ليست سوى تأكيد مِن قِبَل المسيا لأقوال أنبيائه. إنّ ذاك، الّذي يقدّم هذه وغيرها مِن الاتّهامات، ويجعل حتّى مِن المعجزات حجّة اتّهام، وقد استخدم كلّ أمور الأرض في سعيه لجرّي إلى الخطيئة، وللتمكّن مِن إضافة اتّهامات أخرى للأولى، ذاك هو أحد أصدقائي. إنّ الـمَلِك النبيّ الّذي أنحدر منه مِن جهة أُمّي قد قال ذلك أيضاً: "الّذي كان يأكل خبزي، رَفَعَ عليَّ عَقِبَهُ!3". إنّني أَعلَم ذلك. وإنّني لأموت مرّتين، لو أنّ بالإمكان، لا منعه من إتمام الجريمة -حيث من الآن فصاعداً... إنّ إرادته قد استسلمت للموت، والله لا يغتصب حرّيّة الإنسان- إنّما على الأقلّ… آه! على الأقلّ أن يطرحه انسحاق الهول المرتكب تائباً عند قدميّ الله… ومِن أجل هذا أنتَ، يا يهوذا البَيترونيّ، قد نَبَّهتَ مَنَاين البارحة بالتزام الصمت. فالحيّة كانت حاضرةً وكان يمكنها أن تتسبّب بالضرر للتلميذ، وللمعلّم في الوقت نفسه. لا. وحده المعلّم سوف يُضرَب. لا تخافوا. لن تَلحق بكم بسببي لا آلام ولا مصائب. إنّما، بسبب جريمة شعب بأسره سيلحق بكم كلّكم ما قاله الأنبياء. أيا وطني الشقيّ! الشقيّ! أيا أيّتها الأرض الشقيّة الّتي ستختبرين عقاب الله! أيّها السكّان، والأطفال الأشقياء الّذين أباركهم الآن وأودُّ أن أُخلّصهم، والّذين رغم أنّهم أبرياء، فسيعرفون لدى بلوغهم سنّ الرشد عَضَّة الشقاء الأعظم. أُنظروا إلى أرضكم المزدهرة هذه، الجميلة، الخضراء والمزهرة كسجّادة رائعة، الخصبة مثل عدن… إطبعوا جمالاتها في قلوبكم، ومِن ثمّ… عندما سأكون قد عدتُ مِن حيث أتيتُ… أُهربوا… أُهربوا طالما تستطيعون ذلك، قبل أن ينتشر هنا، مثل كاسر جهنّمي، بلاء الخراب ويهدم ويُدمّر ويحرق ويجعل كلّ شيء عقيماً، أكثر منه في عامورة، أكثر منه في صادوم… نعم. أكثر مِن هناك، حيث لم يحدث سوى موت سريع. فهنا… هل تذكر صابئة يا يوئيل؟ لقد تنبّأت للمرّة الأخيرة بمستقبل شعب الله الّذي لم يرد ابن الله4.»
الأربعة منذهلون. الخوف مِن المستقبل يُخرِسهم. أخيراً يتكلّم إيليئيل: «أتنصحنا؟…»
«نعم. إرحلوا. فهنا لن يعود شيء جدير باستبقاء أبناء شعب إبراهيم. ومِن ناحية أخرى، وبخاصّة أنتم، النبلاء، لن يتركوكم… فالأقوياء المقبوض عليهم كسجناء يُـجَمِّلون انتصار الظّافر. إنّ الهيكل الجديد والأزليّ سوف يملأ الأرض مِن ذاته، وكلّ مَن يسعى إليَّ سوف يحظى بي، لأنّني سأكون حيث يوجد قلب يحبّني. إرحَلوا. أَبعدِوا نساءكم، أولادكم، الـمُسنّين… إنّكم تقدّمون لي خلاصاً وعوناً. وأنا أنصحكم بأن تُخلّصوا أنفسكم وأساعدكم بهذه النصيحة… فلا تحتقروها.»
«إنّما بعد اليوم… بماذا يمكن أن تؤذينا روما أكثر بعد؟ هم أسيادنا. وإذا ما كانت قوانينها قاسية، فصحيح أيضاً أنّ روما قد أعادت بناء المنازل والمدن و…»
«الحقّ -اعلموا ذلك- الحقّ أنّ حجراً واحداً مِن أورشليم لن يبقى سليماً. إنّ النار، المنجنيقات، المقاليع والرماح، سوف تهدم، تلتهم، تُخرّب كلّ المنازل. والمدينة المقدّسة ستغدو كهفاً، وليست هي وحدها… كهفاً سيغدو وطننا هذا. مرتعاً للحمير الوحشيّة وأبناء آوى، كما يقول الأنبياء5. وليس لعام أو لعدّة أعوام، أو لعصور، إنّما على الدوام. التصحّر، الأرض المحروقة، الجَدْب… هذا هو مصير هذه الأراضي! ميدان فتن، موضع تعذيب، حلم إعادة بناء تُدمّره دوماً لعنة لا هوادة فيها، ومحاولات قيامة خامدة في مهدها. إنّه مصير الأرض الّتي رفضت المخلّص وأرادت ندىً هو نار على الآثمين.»
«ألن… إذن ألن يكون هناك بعد أبداً مملكة لإسرائيل؟ ألن نكون أبداً ما كنّا نحلم به؟» يَسأَل بصوت محموم اليهود النبلاء الثلاثة. الكاتب يوئيل يبكي…
«هل راقبتم يوماً شجرةً معمّرةً قد أتلف المرض لُبّها؟ إنّها لا تحيا إلّا بمشقّة على مرّ أعوام، بمشقّة شديدة بحيث لا تُزهِر ولا تُثمِر. فقط ما ندر مِن الأوراق على الأغصان الـمُنهَكَة تشير إلى أنّه ما يزال هناك القليل مِن النُّسْغ يصعد… ثمّ، في شهر نيسان [أبريل] ما، إذا بها تُزهِر بشكل عجائبيّ، وتكتسي بأوراق كثيرة، ويغتبط لذلك صاحبها الّذي اعتنى بها لأعوام كثيرة دون أن يجني منها ثماراً، إنّه يغتبط معتقداً أنّ الشجرة قد شفيت وستعود لتكون وافرةً بعد شُحّ كثير… آه! خِداع! فبعد تفجّر غزير للحياة، ها هو الموت المفاجئ. وتتساقط الزهور والأوراق والثمار الصغيرة الّتي كانت تبدو أنّها تتبرعم على الأغصان والّتي كانت تعد بقطاف غزير، وبهدير مفاجئ تسقط الشجرة المتعفّنة عند قاعدتها على الأرض. هكذا سيفعل إسرائيل. وبعد عصور مِن الإنبات دون ثمر والـمُتبعثِر، سوف يعاود التجمّع فوق الجذع العتيق وسيكتسب مظهر إعادة بناء. أخيراً إذ الشعب المشتّت عاود التجمّع. قد عاود التجمّع وغُفِر له. نعم. الله سينتظر هذه الساعة كي يُوقِف مَرّ العصور. ولن يكون هناك عصور بعد، بل ستكون الأبديّة حينذاك. طوبى لأولئك الّذين، وقد غُفِر لهم، سيُشكّلون الإزهار الخاطف لإسرائيل الأخير، وقد غدا، بعد عصور كثيرة، مُلْكاً للمسيح، والّذين سيموتون مُفتَدين، مع كلّ شعوب الأرض في الوقت ذاته، الـمُطَوَّبين مع أولئك الّذين، مِن بينهم، لن يعلموا فقط بوجودي، وإنّما يعتنقون شريعتي كشريعة خلاص وحياة. إنّني أسمع أصوات رُسُلي. ارحلوا قبل أن يصلوا.»
«ليس بدافع جُبن، يا معلّم، نسعى للبقاء مجهولين، إنّما لخدمتكَ، كي نتمكّن مِن أن نخدمكَ. فإذا عَلِموا بأنّنا، وخصوصاً أنا، قد أتينا إليكَ، فسوف يتمّ إقصاؤنا عن المشاورات...» يقول يوئيل.
«أَتَفهّم ذلك. إنّما حاذروا مِن أنّ الحيّة ماكرة. أنتَ يا يوئيل على وجه الخصوص كن حذراً…»
«آه! يقتلونني! إنّني أُفضّل موتي على موتكَ! وعلى ألّا أرى الأيّام الّتي تتحدّث عنها! باركني يا ربّ كي تقوّيني…»
«أبارككم كلّكم باسم الله الواحد والثالوثيّ، وباسم الكلمة الّذي تجسّد خلاصاً للبشر ذوي الإرادة الصالحة.» يباركهم جماعةً بحركة واسعة، ومِن ثمّ يضع يده، على الرأس المنحنية لكلّ مِن الّذين عند قدميه.
بعد ذلك ينهضون، يعاودون تغطية وجوههم، ويتوارون بين أشجار البستان وسياجات التوت، الّتي تفصل بين أشجار الإجاص والتفّاح، وتلك عن الأشجار الأخرى، وفي الوقت المناسب تماماً، لأنّ الاثني عشر رسولاً يخرجون مِن المنزل جماعةً، باحثين عن المعلّم كي ينطلقوا.
وبطرس يقول: «أمام واجهة المنزل، الّتي مِن جهة المدينة، هناك حشد مِن الناس بالكاد استطعنا لجمه كي ندعكَ تصلّي. إنّهم يريدون أن يتبعوكَ. لا أحد ممّن صرفتَهم قد رحل. بل على العكس، كُثُر قد عادوا أدراجهم، وكُثُر قد وَفَدوا. لقد وبّخناهم…»
«لماذا؟ دعوهم يتبعونني! ليت الجميع كانوا هكذا! هيّا بنا!» ويسوع، بعد تسويته الرداء الّذي يقدّمه له يوحنّا، ينطلق على رأس جماعته، يصل إلى المنزل، يحاذيه، يسلك الطريق الّذي يمضي إلى بيت عنيا، ويرنّم مزموراً بصوتِ مرتفع.
الناس، حشد حقيقيّ، على رأسهم الرجال، ثمّ النسوة والأطفال، يتبعونه، مُرنّمين معه…
المدينة تبتعد بسور خضرتها. الطريق مرتادة مِن قِبَل مسافرين كُثُر. متسوّلون كُثر على جانبي الطريق يرفعون شكواهم كي يثيروا شفقة الحشد بحيث يجمعون صدقات مثمرة. مشلولون، ذوو عاهات، عميان… البؤس المعتاد التجمّع في كلّ زمن وفي كلّ بلد حيث عِيد ما يَحشد الجموع.
وإذا كان العميان لا يرون مَن يمرّ، فالآخرون يرون، ولعلمهم كم المعلّم طيّب تجاه المساكين، فإنّهم يُطلِقون صيحات أقوى مِن المعتاد لجذب انتباه يسوع. لكنّهم لا يطلبون معجزة، فقط صدقة، ويهوذا يعطيها.
امرأة ميسورة الحال تُوقِف حمارها الّذي كانت تمتطيه قرب شجرة ضخمة تظلّل مفترق طرق، وتنتظر يسوع. وحين يغدو قريباً، تنزلق عن مطيّتها وتركع، بصعوبة، لأنّها تحمل بين ذراعيها طفلةً خاملةً تماماً. ترفعها دون أن تقول كلمة. عيناها تصلّيان في وجهها المحزون. لكنّ يسوع محاط بسياج مِن الناس ولا يرى الأُمّ المسكينة الراكعة على جانب الطريق. رجل وامرأة، يبدو أنّهما يرافقان الأُمّ المحزونة، يحدّثانها: «لا شيء لنا.» يقول الرجل هازّاً رأسه. والمرأة: «يا سيّدتي، إنّه لم يركِ. ناديه بإيمان وهو سيستجيب لكِ.»
الأُمّ تُنصِت إليها وتصيح، بصوت مرتفع، كي تتغلّب على صوت الأناشيد والخُطى: «يا ربّ! ارحمني!»
يسوع، الّذي كان يتقدّم بضعة أمتار، يتوقّف ويلتفت باحثاً عمّن صاح، والخادمة تقول: «إنّه يبحث عنكِ يا سيّدتي. فانهضي إذن واذهبي إليه، وفابيا سوف تُشفى.» وتساعدها على النهوض لتقودها صوب الربّ، الّذي يقول: «ليأتِ إليَّ مَن ناداني. إنّه وقت رحمة لِمَن يُحسِن الرجاء بها.»
المرأتان تشقّان لنفسيهما طريقاً، أوّلاً الخادمة لتفسح المجال للأُمّ، ثمّ الأُمّ ذاتها، وكانتا على وشك الوصول إلى يسوع عندما يصيح صوت: «ذراعي الهالكة! انظروا! مبارك ابن داود! مسيحنا الحقّ القادر والقدّوس على الدوام!»
تحصل بلبلة، لأنّ كُثُراً يستديرون والحشد يتداخل، حركة تموّج معاكسة حول يسوع. الجميع يريدون أن يروا، أن يعلموا… يسألون رجلاً عجوزاً يحرّك ذراعه اليمنى كما لو كانت عَلَمَاً، والّذي يجيب: «هو كان قد توقّف. أنا قد تمكّنتُ مِن الإمساك بهدب مِن ردائه وتغطية نفسي به، وكما نار وحياة قد جريا في ذراعي الميتة، وها هي، اليمنى كما اليسرى، فقط لأنّني لمستُ ثوبه.»
يسوع في تلك الأثناء يَسأَل المرأة: «ماذا تريدين؟»
المرأة تمدّ طفلتها وتقول: «هي أيضاً لها الحقّ بالحياة. إنّها بريئة. هي لم تطلب أن تكون مِن مكان أو مِن آخر، مِن دم أو مِن آخر. أنا المذنبة. لي العقاب، وليس لها.»
«هل تأملين أنّ تكون رحمة الله أعظم مِن تلك الّتي للبشر؟»
«آمل ذلك يا ربّ. أؤمن. لأجلي ولأجل طفلتي، الّتي آمل بأن تعيد لها الفِكر والحركة. يقال أنّكَ الحياة…» وتبكي.
«إنّني الحياة، ومَن يؤمن بي يَنَل حياة الروح والأعضاء. أشاء!» وصاح يسوع هذه الكلمات بصوتٍ مرتفع، والآن يخفض يده فوق الطفلة الجامدة، وهذه يبدر منها ارتعاش، ابتسامة، كلمة: «ماما!»
«إنّها تتحرّك! إنّها تبتسم! لقد تكلّمت! فابيوس! سيّدتي!» المرأتان قد تابعتا مراحل المعجزة وأعلنتا عنها بصوت مرتفع، ونادتا الأب، الّذي يشقّ لنفسه طريقاً وسط الناس، ويصل إلى المرأتين في الوقت الّذي كانتا عند قدميّ يسوع باكيتَين، وفيما الخادمة تقول: «قلتُ لكِ إنّه يتحلّى بالشفقة تجاه الجميع!» الأُمّ تقول: «والآن اغفر لي أيضاً خطيئتي.»
«ألا تُظهِر لكِ السماء، بالنعمة الّتي منحتكِ إيّاها، بأنّ خطأكِ قد غُفِر؟ انهضي وسيري في الحياة الجديدة مع ابنتكِ ومع الرجل الّذي اخترتِه. اذهبي. السلام لكِ. ولكِ أيّتها الصغيرة. ولكِ، أيّتها الإسرائيليّة المخلصة. وسلام كبير لكَ، لإخلاصكَ لله وابنة العائلة الّتي خدمتَها، وبقلبكَ قد حفظتَها قريبةً مِن الشريعة. والسلام لكَ أيضاً أيّها الرجل، الّذي كنتَ أكثر احتراماً، تجاه ابن الإنسان، مِن إسرائيليّين آخرين كثيرين.»
يستأذن بينما الجمع، إذ يفارق الرجل العجوز، يهتمّ بالمعجزة الجديدة على الطفلة الصغيرة، المشلولة والمعاقة ذهنيّاً، ربّما بسبب التهاب السحايا، والّتي هي الآن تقفز بسعادة، متفوّهة بالكلمات الوحيدة الّتي تعرفها، تلك الّتي ربّما كانت تعرفها عندما مرضت، وتعاود إيجادها سليمة في فِكرها الّذي استفاق: «بابا، ماما، إليز. الشمس الجميلة! الزهور!...»
يسوع يهمّ بالرحيل، إنّما مِن التقاطع الّذي قد تمّ اجتيازه، قرب الحمير الّتي تركها مَن نالوا الشفاء بمعجزة، صيحتان أُخريان ترتفعان نائحتين، بالإيقاع العبرانيّ المميّز: «يا يسوع الربّ! يا ابن داود، ارحمني!» ومجدّداً، بشكل أقوى، كي تطغيا على صيحات الجمع الّذي يقول: «أُصمتا. اتركا المعلّم يمضي. فالطريق طويلة والشمس تغدو أقوى فأقوى. لعلّه يتمكّن مِن أن يكون على التلال قبل الحرّ.» لكنّهما يصيحان ثانيةً: «يا يسوع الربّ! يا ابن داود، ارحمني!»
يسوع يتوقّف مجدّداً قائلاً: «اذهبوا لإحضار اللذيَن يصيحان، وقودوهما إليَّ.»
بعض المتطوّعين يذهبون. يَصِلون إلى الأعميين ويقولون لهما: «تعاليا. إنّه يرحمكما. انهضا لأنّه يريد أن يستجيب لكما. لقد أرسلنا كي نستدعيكما باسمه.» ويسعون لقيادة الأعميين عبر الحشد.
إنّما إن كان أحدهما قد ترك نفسه يُقاد، فإنّ الآخر، أكثرهما شباباً وربّما أكثر إيماناً، يسبق رغبة المتطوّعين ويتقدّم وحده، بعصاه الـمُصَوّبة إلى الأمام، بالابتسامة والمظهر المميّزين للعميان على وجوههم المرفوعة سعياً للنور… ويبدو أنّ ملاكه يقوده مِن فرط ما يمضي مسرعاً وواثقاً. ولو لم تكن عيناه بيضاوان، لما كان يبدو أعمى. يصل أوّلاً أمام يسوع، الّذي يوقفه قائلاً: «ماذا تريد أن أفعل لكَ؟»
«أن أرى يا معلّم. اجعل، يا ربّ، أن تُفتَح عيناي وعينا رفيقي.» وإذ يصل الأعمى الآخر يجعلونه يركع قرب رفيقه.
يسوع يضع يديه على وجهيهما المرفوعين ويقول: «ليكن لكما كما تطلبان. امضيا! إيمانكما قد خلّصكما!»
يرفع يديه وصيحتان تخرجان مِن شفاه الأعميين: «إنّني أرى يا أوريل!» «إنّني أرى يا برطماوس!» ومِن ثمّ معاً: «مبارك الآتي باسم الربّ! مبارك مَن أرسله! المجد لله! هوشعنا لابن داود.» يرتميان ووجهاهما على الأرض ليقبّلا قدميّ يسوع، ومِن ثمّ ينهض الأعميان، وذاك المدعو أوريل يقول: «سأذهب لأعرض نفسي على أهلي ومِن ثمّ أعود كي أتبعكَ يا ربّ.» في حين برطماوس يقول: «أنا لا أترككَ. سوف أرسل مَن يخطرهم. سيكون ذلك فَرَحاً على الدوام. إنّما أن أنفصل عنكَ، لا. لقد منحتَني النظر. وأنا أكرّس لكَ حياتي. أَشفِق على رغبة آخر خدّامكَ.»
«تعال واتبعني. الإرادة الصالحة تجعل كلّ الحالات متساوية، ووحده عظيم مَن يُحسِن خدمة الربّ على النحو الأفضل.»
ويسوع يستأنف السير وسط هوشعنات الجمع، وبرطماوس ينضمّ إليه، صائحاً هوشعنا مع الآخرين، قائلاً: «قد أتيتُ لأجل رغيف خبز فوجدتُ الربّ. كنتُ مسكيناً، والآن أنا خادم للمَلِك القدّوس. المجد للربّ ولمسيحه.»
----------
1- [ج7 - ف222]
2 - راجع (صموئيل الثاني 19 : 31-40).
3- مزامير (41-9).
4- راجع (ج7 - ف222).
5- إشَعياء (32-14 ، 34-14). إرميا (14-6). مراثي إرميا (4-3).