ج6 - ف79

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الأول

 

79- (الوصول إلى عين جدي)

 

20 / 02 / 1946

 

المسافرون، رغم تعب مسيرة طويلة قد تكون حصلت على مرحلتين مِن الغسق إلى الفجر عبر دروب ليست سهلة بالتأكيد، لا يستطيعون حبس صيحة تعجّب. بعد عبور الجزء الأخير مِن الطريق على سفح حيث تتلألأ ماسات تحت أوّل شعاع شمس صباحيّة، فأمامهم المشهد الكامل لضفّتي البحر الميت.

 

الضفّة الغربيّة تترك فسحة صغيرة لسهل بين البحر الميت وخط الجبال الصغيرة، التي تبدو بارتفاعها القليل الموجة الأخيرة لجبال اليهوديّة التي تقدّمت على الشاطئ المنعزل وبقيت هنا مع نبات جميل، بعد أن جُعِلت الصحراء القاحلة بينها وبين أقرب سلسلة لليهوديّة. الضفّة الشرقيّة، على العكس، فيها جبال تسقط مباشرة في حوض البحر الميت. فيتكوّن الانطباع حقيقةً أنّ الأرض، في خلال كارثة أرضيّة مُروِّعة، قد تحطّمت هكذا بشرخ واضح، تاركة قرب البحيرة صدوعاً شاقوليّة تجري فيها السيول المحمّلة بقليل أو كثير مِن المياه، المقدَّر لها أن تتبخّر، والتي تصبّ في المياه المظلمة، الملعونة، للبحر الميت. في الخلف، فيما وراء البحيرة وأوّل كورنيش الجبال، جبال وجبال أخرى تتلألأ تحت شمس الصباح. في الشمال الـمَصَبّ الأخضر الـمُزرَورق للأردن. في الجنوب جبال هي بمثابة الكورنيش للبحيرة.

 

إنّه مشهد بعظمة مهيبة، حزينة، مستهجنة، حيث تتمازج المظاهر الضاحكة للجبال والصورة المظلمة للبحر الميت الذي يبدو وكأنّه يذكّر، بهيئته، ما هو بمستطاع الخطيئة، وما يقدر عليه غضب الربّ. إنّه بحقّ ذو هيئة رهيبة، فهو تلك المرآة الهائلة مِن المياه دون شراع، دون مَركَب يَمخر عُبابه، دون طير يحلّق فوقه، ولا أيّ حيوان يُقبِل ليشرب على ضفافه!

 

في مقابل إيحاء عقاب البحر الميت هذا، فإنّ التأثيرات العجائبيّة للشمس على الروابي والكثبان، حتّى على رمال الصحراء، حيث بلّورات الملح تتّخذ مظهر اليشب الثمين المنثور على الرمل، على الحجارة، على السُّوق الصلبة للنباتات الصحراويّة، تضفي على الكلّ مشهداً جماليّاً بفعل غبار الماس الذي يغلّف كلّ الأشياء. أكثر عجباً أيضاً مظهر هضبة خصيبة تعلو مِن مائة إلى مائة وخمسين متراً، تطلّ على البحر، بأشجار نخيل رائعة، كروم وأشجار مِن كلّ صنف، تجري فيها مياه زرقاء، وحيث تمتدّ بلدة جميلة تحيط بها أرياف خصيبة. وعندما يتحوّل النَّظَر مِن المشهد المظلم للبحر، مِن المشهد المضطرب للضفّة الشرقيّة، التي لا تبدي حزناً مسالماً إلاّ في شريط أرض واطئة وخضراء تنحدر في الجنوب الشرقيّ إلى البحر، مِن المظهر الحزين لصحراء يهوذا، وذاك القاسي لجبال اليهوديّة، إلى ذاك المنظر العذب، الضاحك، الـمُزهِر، فيبدو وكأنّه كابوس حمّى ينجلي، ليفسح المجال لرؤيا سلام عذبة.

 

«إنّها عين جدي، التي أنشدها أنبياء وطننا. تأمّلوا كم هي جميلة المنطقة التي تغذّيها المياه الـمُنعَم بها وسط قفر كهذا! فلنهبط إلى بساتينها، فكلّ شيء هنا بستان: الحقل، الغابة والكروم. إنّها أسانسون-تامار التي  يُذكّر اسمها بواحات النخيل الجميلة، حيث تحتها كان بناء الأكواخ أحلى، وزراعة الأرض، والتَّحاب، وتربية الأولاد والقطعان في تناغم حفيف أوراق النخيل. إنّها الواحة الباسمة الناجية مِن أراضي عدن المعاقبة مِن الله، محاطة، كَدُرَّة مرصّعة، بمسالك لا يؤمّها سوى الماعز والأيائل، كما قيل في سفر الملوك. وعلى هذه المسالك تُفتَح كهوف مُضيفة للمُضطَهَدين، للتَّعِبين والمرذولين. تذكّروا داود، مَلِكَنا، وتذكّروا رفقه بشاول عدوّه. إنّها أساسون-تامار، إنّها عين جدي، النبعة، المباركة، الجمال، حيث انطلق الأعداء لمواجهة الـمَلِك يوشافاط وأبناء شعبه، الذين، إذ هم خائفون، واساهم يحزِئيل، بن زكريا، الذي كان روح الله قد تكلّم فيه. وأحرزوا نصراً عظيماً لأنّهم آمنوا بالرب واستحقّوا عونه بفضل التوبة والصلاة التي انقطعوا إليها قبل المعركة. إنّها التي أنشدها سليمان، كمثال على جمالات الجميلة بين الجميلات. إنّها التي ذكرها حزقيّال كواحدة مِن التي غذّتها مياه الربّ... فلنهبط! هيّا بنا نحمل لجوهرة إسرائيل، الماء الحيّ النازل مِن السماء.»

 

ويبدأ الهبوط، تقريباً جرياً، عبر مَسلَك وَعِر مستدير ومتعرّج في الصخر الكلسيّ الأحمر الذي، في ذروة اقترابه مِن البحر، يذهب إلى الحدّ الأقصى الذي يصبح فيه الجبل كورنيشاً لهذا الأخير. إنّه مَسلَك يُسبّب الدوار حتّى للجبليّين الأكثر براعة. يصعب على الرُّسُل اللحاق به، والأكبر سنّاً قد أصبحوا بعيدين كثيراً عن المعلّم عندما يتوقّف عند شجرة النخيل الأولى والكرم الأوّل في هذا النجد الخصيب، حيث يصدح خرير المياه الصافية والطيور مِن كلّ الأشكال.

 

ماعز بِيض تَرعى تحت حفيف سعف واحات النخيل، الميموزا (نبات من الفصيلة القرنيّة) والنباتات البلسميّة، والبطم، وبعض أشجار تفوح منها عطور ناعمة أو نافذة تمتزج بعطر الورود، والخزامى الـمُزهِرة، والقرفة، والكافور، والمرّ، والبخور، والزعفران، والياسمين، والزنابق، وزنبق الوادي، وزهور الشوكيّات (لسان الحماية) العملاقة هنا، والقرنفل والراتنج البلسميّ الدامع مع أنواع أخرى مِن الراتنج مِن خلال أثلام في الجذوع. إنّه بحقّ "البستان المسيَّج، نبع البستان"، ومِن كلّ جهة تتبدّى الثمار والورود والعطور والجمال! ما مِن مكان في فلسطين بهذا الجمال، في امتداده وفي جماله الطبيعيّ. مِن خلال النَّظَر إلى هذا المشهد، يمكن فهم صفحات كثيرة لشعراء مِن الشرق، حيث يتغنّون بجمالات الواحات وكأنّها لِجنّات منتشرة على الأرض.

 

الرُّسُل الذين يتصبّبون عرقاً، إنّما الممتلئون إعجاباً، يلحقون بالمعلّم، ويهبطون معاً عبر طريق معبّدة إلى الشاطئ الذي يبلغونه بعد اجتياز مسطّحات متتالية مزروعة جيّداً كلّها، حيث تتساقط ضاحكة على شكل شلاّلات المياه الخيّرة، التي تسقي كلّ المزروعات حتّى السهل الذي ينتهي على الشاطئ. في منتصف الشاطئ يَلِجُون البلدة البيضاء حيث حفيف السعف، وعطر الورود وآلاف الزهور في حدائقها، ويبحثون، باسم الله، عن مأوى في طلائع البيوت. والبيوت، المعتنى بها كما الطبيعة، تُفتَح دون تردّد ويَسأَل سكّانها مَن يكون «هذا النبيّ الذي يشبه الـمَلِك سليمان، اللابس الكتّان والمشعّ بهاء.»…

 

يَدخُل يسوع مع يوحنّا وبطرس إلى بيت صغير تقطنه أرملة مع ابنها. ينتشر الآخرون هنا وهناك بعد بركة المعلّم، ومع مشروع الاجتماع عند الغسق في الساحة الأكبر.