ج8 - ف6
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثامن
6- (في مأتم لعازر)
23 / 12 / 1946
لا بدّ أن نبأ موت لعازر قد أحدث تأثير عصا قد تمّ تحريكها داخل قفير نحل. أورشليم كلّها تتحدّث عن ذلك. أعيان، تجّار، عامّة الناس، فقراء، أناس مِن المدينة، مِن الأرياف المجاورة، غرباء عابرون إنّما ليسوا على الإطلاق جدداً على المكان، غرباء تواجدوا هناك للمرّة الأولى ويَسأَلون عمّن هو هذا الّذي يسبّب موته اضطراباً كهذا، رومان، عسكريّون، موظّفو الهيكل، لاويّون وكَهَنَة، يتجمّعون ويتفرّقون باستمرار متراكضين هنا وهناك… مجموعات أشخاص يتكلّمون عن الحدث بألفاظ وتعابير مختلفة. ومنهم مَن يمدح، آخرون يبكون، آخرون يشعرون بأكثر استجداءً مِن المعتاد، الآن وقد مات الـمُحسِن، أحدهم يئنّ: «لن أحظى بعد أبداً، أبداً بسيّد مثله.»، البعض يُعدّدون محاسنه، وآخرون يستعرضون ثروته وقرابته، ووظائف ومسؤوليّات أبيه، وجمال وغنى أُمّه وأصلها "الـمَلَكيّ"، آخرون، للأسف، يستحضرون كذلك ذكريات عائليّة قد كان مِن الأفضل إسدال حجاب عليها، خصوصاً إذا تعلّقت بميت قد عانى منها…
الأخبار الأكثر تبايناً حول سبب الوفاة، عن مكان القبر، عن غياب المسيح عن منزل صديقه العظيم وحاميه تحديداً في هذا الظرف، تجعل المجموعات الصغيرة تتكلّم. وهناك رأيان يسودان: أحدهما هو أنّ ذلك حصل، أو بالأحرى، نتج عن السلوك العدائيّ لليهود، لأعضاء السنهدرين، للفرّيسيّين ومَن شابههم، حيال المعلّم. الرأي الآخر، هو أنّ المعلّم، إذ وجد نفسه أمام مرض مميت بحقّ، قد توارى لأنّ أساليبه الاحتياليّة ما كانت لتنجح في هذه الحالة. وحتّى دون براعة، فمِن السهل إدراك مِن أيّ مصدر يأتي هذا الرأي الأخير. إنّه يثير سخط الكثيرين الّذين يردّون: «أأنتَ أيضاً فرّيسيّ؟ إن كنتَ كذلك فحاذر على نفسكَ، لأنّه معنا لا يُجدّف على القدّوس! أيّتها الأفاعي الملعونة، المولودة مِن جِماع ضباع مع لوياثان! (لقب من ألقاب الشيطان) [إشَعياء 27-1]! مَن يدفع لكم لقاء التجديف على المعلّم؟» تتردّد في الشوارع شِجارات، شتائم، بعض لكمات كذلك، إهانات لاذعة للفرّيسيّين المتدثّرين بالأردية الثمينة والكَتَبَة الّذين يمرّون بمظهر آلهة، دونما تنازل بالنّظر إلى العامّة الّذين يُعلّقون لصالحهم وضدّهم، لصالح وضدّ المعلّم. واتّهامات! كم مِن اتّهامات!
«أحدهم يقول إنّه معلم دجّال! حتماً هو أحد الّذين اشترتهم تلك الأفاعي الّتي مرّت للتوّ بنقودها.»
«بنقودهم؟ بنقودنا! ما ينبغي لكَ قوله! لأجل ذلك يسلبوننا! إنّما أين هو لأرى إن كان أحد أولئك الّذين أتوا يحدّثوني أمس...»
«لقد لاذ بالفرار. إنّما، لِيَحيَ الله! هنا يجب أن نتّحد ونتصرف. إنّهم وقحون للغاية.»
محادثة أخرى: «لقد سمعتُكَ وأعرفكَ. سأقول لِمَن بيده الأمر كيف تتكلّم عن المجلس الأعلى!»
«إنّني أنتمي للمسيح، ولُعاب الشيطان لا يضرّ بي. قل ذلك حتّى لحنّان وقيافا، إن أردت، وعسى ذلك يجعلهما أكثر استقامة.»
وفي مكان أبعد: «أنا؟ أنا تعاملني ككاذب ومجدّف لأنّني أتبع الله الحيّ؟ أنتَ الكاذب والمجدّف الّذي تسيء إليه وتضطهده. أنا أعرفكَ، أتعلم؟ لقد رأيتُكَ وسمعتُكَ. جاسوس! مُباع! بسرعة أمسكوا به...» وفي تلك الأثناء يشرع بصفعه عدّة صفعات تُحيل الوجه البادي العظام والمائل إلى الخضرة أحمراً.
«كورنيليوس، سمعان، انظرا! إنّهم يزحمونني.» يقول آخر أبعد قليلاً، مخاطباً مجموعة مِن السنهدريّين.
«إِحتمل ذلك صَوناً للإيمان، ولا توسّخ شفتيكَ ويديكَ في عشيّة سبت.» يجيب أحد المخاطَبين مِن دون حتّى أن يلتفت لينظر إلى المعتدى عليه، والّذي تُمارِس عليه مجموعة مِن العامّة قضاءً مُعجّلاً…
النسوة يصرخن لاستدعاء أزواجهنّ، متوسّلات إليهم ألّا يتورّطوا.
الجنود يقومون بدوريّات، يُخلون الطريق بضربات عصيّ، مهدّدين بإجراء اعتقالات وفرض عقوبات.
إنّ موت لعازر، الحدث الرئيسيّ، يتيح الانتقال إلى أحداث ثانويّة، تنفيساً لضغط القلوب الطويل الأمد… السنهدريّون، الشيوخ، الكَتَبَة، الصدّوقيّون، أعيان اليهود، يمرّون بلا مبالاة، بخبث، كما لو أنّ انفجارات الغضب الصغيرة تلك، الأحقاد الشخصيّة، التوتّر، لم تكن متجذّرة فيهم. وكلّما مضت الساعات أكثر، كلّما ازداد الهيجان وتأجّجت القلوب.
«هم يقولون، أَنصِتوا قليلاً، أنّ المسيح لا يستطيع أن يشفي المرضى. أنا كنتُ أبرصاً وإنّني الآن سليم. هل تعرفونهم؟ أنا لستُ مِن أورشليم، إنّما لم أرهم أبداً وسط تلاميذ المسيح منذ عامين في هذه المنطقة.»
«هُم؟ دعنى أرى ذاك الّذي في الوسط؟ آه! المجرم الشقيّ! إنّه هو ذاك الّذي عند القمر الأخير قد آتى ليعرض عليَّ نقوداً باسم المسيح، قائلاً بأنّه يُوظّف رجالاً للاستيلاء على فلسطين. والآن يقول… إنّما لِـمَ تركتَه يفرّ؟»
«فهمتُ، هه! يا لهم مِن ماكرين! أنا كنتُ على وشك أن أُعتَقَل! حماي كان على حقّ! ها هو يوسف الشيخ، مع يوحنّا ويشوع. هيّا بنا لنسألهم فيما إذا كان صحيحاً أنّ المعلّم يريد تشكيل جيوش. إنّهم أبرار ويعلمون.» يهرعون جماعةً صوب السنهدريّين الثلاثة ويطرحون عليهم سؤالهم.
«اذهبوا إلى منازلكم أيّها الرجال. ففي الشوارع يرتكبون الخطايا ويؤذون بعضهم. لا تتشاجروا. لا تقلقوا. اهتمّوا بشؤونكم وبعائلاتكم. لا تُنصِتوا إلى مُحرّضي المخدوعين، ولا تنخدعوا. إنّ المعلّم هو معلّم، وليس محارباً. أنتم تعرفونه، وهو يقول ما يفكّر فيه. ما كان ليرسل آخرين كي يقولوا لكم أن تتبعوه كمحاربين، لو كان يريدكم هكذا. لا تضرّوا به، بأنفسكم وبوطنكم. عودوا إلى منازلكم يا رجال! عودوا إلى المنازل! لا تجعلوا ممّا هو أساساً مصيبة، موت شخص بارّ، سلسلة مصائب. عودوا إلى المنازل وَصَلّوا لأجل لعازر، الـمُحسِن للجميع.» يقول يوسف الذي مِن الرّامة، الّذي لا بدّ أنّه محبوب جدّاً وكلمته مسموعة مِن قبل الشعب الّذي يعرف أنّه بارّ.
كذلك يوحنّا (الّذي كان غيوراً)1 يقول: «هو رجل سلام، لا رجل حرب. لا تصدّقوا التلاميذ الزائفين. تذكّروا كم كانوا مختلفين الآخرون الّذين كانوا يدّعون أنّهم المسيا. تذكّروا، قارنوا، وبرّكم سوف يخبركم بأنّ تلميحات العنف تلك لا يمكن أن تتأتّى منه! إلى منازلكم! إلى منازلكم! إلى نسائكم اللواتي يبكين وأطفالكم الخائفين. قد قيل: "الويل للعنيفين ولِمَن يُفضّلون الشّجار".»
مجموعة نساء يقتربن باكيات مِن السنهدريّين الثلاثة وإحداهنّ تقول: «الكَتَبَة قد هدّدوا زوجي. إنّني خائفة! يا يوسف، كلّمهم أنتَ.»
«سأفعل ذلك. إنّما لِيُحسن زوجكِ الصمت. أتعتقدون بأنّكم تفيدون المعلّم وتكرّمون الميت بهكذا هيجانات؟ إنّكم تخطئون. إنّكم تسبّبون الضرر للواحد وللآخر.» يجيب يوسف ويتركهم ليذهب لملاقاة نيقوديموس الّذي يصل عبر شارع يتبعه خدّامه: «لم أكن أترقّب رؤيتكَ يا نيقوديموس، أنا نفسي لا أعرف كيف استطعتُ. إنّ خادم لعازر قد أتى بعد صياح الديك ليخبرني بالفاجعة.»
«وأنا لاحقاً. لقد انطلقتُ في الحال. هل تعلم فيما إذا كان المعلّم في بيت عنيا؟»
«لا. ليس هناك. إنّ وكيلي الّذي في بيزيتا كان هناك في الساعة الثالثة وقال لي بأنّه غير موجود هناك.»
«أنا لا أفهم كيف… المعجزات للجميع وليس لأجله!» يصيح يوحنّا.
«ربّما لأنّه قد أجرى في المنزل أكثر مِن شفاء: لقد افتدى مريم وأعاد لهم السلام والكرامة...» يقول يوسف.
«سلام وكرامة! أخيار للأخيار. فكُثُر… لم يعيدوا ولا يعيدون الكرامة ولا حتّى الآن، حيث أنّ مريم… أنتم لا تعلمون… منذ ثلاثة أيّام، حِلقِيّا وكُثُر آخرون ذهبوا إلى هناك… ولم يُكرِّموا. ومريم طردتهم. لقد قالوا لي ذلك حانقين، وأنا تركتُهم يقولونه لئلّا أكشف قلبي...» يقول يشوع.
«والآن يذهبون إلى الجنازة؟» يَسأَل نيقوديموس.
«لقد تمّ إعلامهم، وقد اجتمعوا في الهيكل للتشاور. آه! الخدّام تراكضوا كثيراً عند فجر هذا الصباح!»
«لماذا يستعجلون الجنازة هكذا؟ فوراً بعد الساعة السادسة!...»
«لأنّ لعازر كان قد تحلّل بالفعل عندما مات. لقد قال لي وكيلي بأنّ رائحة نتانة الجثّة كانت تُشَمّ بدءاً مِن رواق المنزل، رغم الراتنجات الّتي تُحرَق في الغرف، والطيوب المنتشرة فوق الميت. ومِن ثمّ عند المغيب يبدأ السبت. لم يكن ممكناً فِعل خلاف ذلك.»
«وتقول بأنّهم اجتمعوا في الهيكل؟ لماذا؟»
«هوذا… في الحقيقة إنّ الاجتماع كان قد حُدّد للمناقشة حول لعازر. يريدون أن يقولوا أنّه كان أبرصاً...» يقول يشوع.
«هذا لا. فهو قبل كلّ شيء قد عزل نفسه طاعة للشريعة.» يقول يوسف مدافعاً. ويضيف: «لقد تكلّمتُ مع الطبيب. لقد استبعده بالمطلق. لقد كان مصاباً بتآكل تعفّنيّ.»
«فإذن ما الّذي ناقشوه بما أنّ لعازر قد مات؟» يَسأَل نيقوديموس.
«حول الذهاب أو عدم الذهاب إلى الجنازة بعدما طردتهم مريم. منهم مَن كان يريد الذهاب ومنهم لا. إنّما الّذين أرادوا الذهاب كانوا الأكثر عدداً، وذلك لأسباب ثلاثة. رؤية إذا ما كان المعلّم هناك، هو السبب الأوّل والمشترك لدى الجميع. رؤية إذا ما كان سيجترح المعجزة، هو السبب الثاني. والثالث، ذكرى كلام المعلّم الأخير للكَتَبَة عند الأردن قرب أريحا2» يشرح أيضاً يشوع.
«المعجزة! أيّ معجزة، إذا كان قد مات؟» يَسأَل يوحنّا رافعاً كتفيه ويختم قائلاً: «دوماً هم ذاتهم الّذين يبحثون عن المستحيل!»
«إنّ المعلّم قد أقام أمواتاً آخرين.» يلاحظ يوسف.
«هذا صحيح. إنّما لو أراد أن يبقيه حيّاً لما كان يتركه يموت. إنّ السبب الّذي طرحتَه قبلاً صائب. قد سبق لهم أن حظوا بمعجزة.»
«نعم. لكنّ عوزيل، ومعه صادوق، قد تذكّرا تحدّياً جرى منذ عدّة أقمار خلت. فالمسيح قال بأنّه سوف يثبت أنّه قادر كذلك على إعادة تكوين جسد متحلّل. ولعازر هو هكذا. وأيضاً يقول صادوق الكاتب، أنّ الرابّي، قرب الأردن، مِن تلقائه، قد قال أنّه عند القمر الجديد سوف يرى إنجاز نصف التحدّي. الذي هو هذا: جسد متحلّل سيعود إلى الحياة، ومِن دون فساد ولا اعتلال. وقد ساد رأيهم. وإذا حصل ذلك، فبالتأكيد لأنّ المعلّم موجود هناك. وأيضاً إن حصل ذلك فلا يعود هناك شكّ به.»
«شريطة ألّا يكون سوء...» يهمس يوسف.
«سوء؟ لماذا؟ الكَتَبَة والفرّيسيّون سوف يقتنعون...»
«آه! يا يوحنّا! أأنتَ إذاً غريب حتّى أمكنكَ قول هذا؟ ألا تعرف مواطنيكَ؟ متى إذاً جعلتهم الحقيقة قدّيسين؟ ألا يعني لكَ هذا شيئاً أن لا تُرسَل الدعوة إلى الاجتماع إلى منزلي؟»
«ولا إلى منزلي كذلك. إنّهم يشكّون فينا وغالباً ما يقصوننا.» يقول نيقوديموس. ويَسأَل: «هل كان غَمَالائيل موجوداً؟»
«كان هناك ابنه. وهو كذلك سيحضر عوضاً عن أبيه، الّذي يعاني المرض في جمالا اليهوديّة.»
«وماذا كان يقول سمعان؟»
«لا شيء. لا شيء على الإطلاق. لقد استمع ورحل. لقد مرّ منذ قليل مع تلاميذ لأبيه، متوجّهاً إلى بيت عنيا.»
إنّهم تقريباً عند الباب الّذي يطلّ على طريق بيت عنيا. ويوحنّا يصيح: «أُنظر! إنّه محروس. لماذا؟ ويُوقِفون مَن يخرج.»
«هناك اضطراب في المدينة...»
«آه! مع ذلك هو ليس الأعنف...»
يَصِلون إلى الباب ويُوقَفون مثل الآخرين.
«ما سبب ذلك أيّها الجنديّ؟ أنا معروف في كلّ أرجاء قلعة الأنطونيا، لا يمكنكم أن تقولوا عنّي سوءاً. إنّني أحترمكم وأحترم شرائعكم.» يقول يوسف الذي مِن الرّامة.
«أَمْر مِن قائد المئة. إنّ القائد على وشك دخول المدينة ونريد أن نعرف مَن يخرج مِن الأبواب، وخصوصاً مِن هذا الّذي يؤدّي إلى طريق أريحا. نحن نعرفكَ. لكنّنا نعرف أيضاً مشاعركم تجاهنا. أنتَ وجماعتكَ مُرّوا. وإن كان لكم تأثير على الشعب فقولوا له أنّه يُفضَّل أن يبقى هادئاً. البنطيّ لا يحبّذ تغيير عاداته لأجل رعايا تثير الشبهة... ويمكنه أن يكون شديد القسوة. نصيحة صادقة لكَ، أنتَ الصادق.» يمرّون…
«أسمعتَ؟ أتوقّع أيّاماً قاسية… ينبغي أن ننصح الآخرين بدلاً مِن الشعب...» يقول يوسف.
الطريق إلى بيت عنيا مزدحمة بالناس الّذين يمضون جميعاً صوب وجهة واحدة: صوب بيت عنيا. كلّهم ذاهبون إلى الجنازة. يمكن رؤية سنهدريّين وفرّيسيّين مختلطين مع صدّوقيّين وكَتَبَة، وهؤلاء مع فلّاحين، خدّام، وكلاء مختلف المنازل والملكيّات الّتي يملكها لعازر في المدينة والأرياف، وكلّما تمّ الاقتراب مِن بيت عنيا أكثر، كلّما وَرَدَ أناس مِن الدروب والطرق إلى الطريق الرئيسيّة.
ها هي بيت عنيا. بيت عنيا وهي في حداد على مواطنها الأعظم. كلّ السكّان، المرتدين أفضل ثيابهم، هم منذ الآن خارج المنازل، المغلقة كما لو أنّ لا أحد فيها. إنّما هم ليسوا بعد في منزل الميت. الفضول يبقيهم قرب البوّابة، على طول الدرب. يراقبون مَن يمرّ وسط المدعوّين، ويتبادلون الأسماء والانطباعات.
«ها هو نثنائيل بن فابي. آه! العجوز متاتياس قريب يعقوب! ابن حنانيا! انظر إليه مع دوراس، كالّاشبونا وأرخيلاوس. آه! كيف فعل جماعة الجليل للمجيء؟ كلّهم موجودون. أُنظر: إيلي، جيوقانا، إسماعيل، أوريا، يواكيم، إيليا، يوسف… العجوز كنعان مع صادوق، زكريّا وجيوقانا الصدّوقيّين. هناك أيضاً سمعان بن غَمَالائيل، وحده. الرابّي ليس معه. ها هو حِلقِيّا مع ناحوم، فيلكس، حنانيا الكاتب، زكريّا، يوناثان بن عوزيل! شاول مع إليعازر، تريفون ويوعازر. صالحون هم هؤلاء! ابن آخر مِن أبناء حنانيا. الأصغر. إنّه يتحدّث إلى سمعان كاميت. فيلبّس مع يوحنّا الأفيقي. إسكندر، إسحاق، ويونا الّذي مِن جبعون. صادوق. يهوذا، سليل الحسيديّين، الأخير، على ما أعتقد، مِن تلك الفئة. ها هم وكلاء مختلف القصور. لا أرى الأصدقاء الأوفياء. كم مِن الناس!»
حقّاً! كم مِن الناس! كلّهم ذوو شأن، قسم منهم بوجه يوافق الظَّرف، أو بِسِمات ألم حقيقيّ على الوجه. البوّابة المفتوحة على مصراعيها تبتلع الجميع، وأرى يمرّ كلّ مَن رأيتُهم في مناسبات مختلفة حول المعلّم سواء أكانوا متعاطفين أو معادين. كلّهم، ما عدا غَمَالائيل والسنهدرينيّ سمعان. وأرى كذلك آخرين لم أرهم أبداً مِن قبل، أو رأيتُهم دون معرفة أسمائهم، في الجدالات حول يسوع… يمرّ رابّيون مع تلاميذهم، وكَتَبَة بمجموعات متراصّة. يمرّ يهود أسمع تعداد ثرواتهم… إنّ الحديقة ممتلئة بالناس، يذهبون للتعبير عن تعازيهم للأختين -اللتين ربّما وفقاً لما جرت عليه العادة، قد جلستا تحت الرواق، وبالتالي خارج المنزل- بعد ذلك ينتشرون في الحديقة باختلاط ألوان لا يتوقّف، وبانحناءات تحيّات.
مرثا ومريم قد انهارتا. تمسكان بيد بعضهما كأنّهما طفلتان، خائفتين مِن الفراغ الّذي حصل في منزلهما، مِن الفراغ الّذي يسود يومهما الآن حيث لم يعد لديهما لعازر لتعتنيا به. تنصتان إلى كلام الزوّار، تبكيان مع الأصدقاء الحقيقيّين، مع مُستخدَميهما الأوفياء، تنحنيان أمام السنهدريّين جليديّي المظهر، المتصلّفين، المتصلّبين، الّذين أتوا للتباهي أكثر منه لتكريم المتوفّى. تجيبان مَن يسألهما عن لحظات لعازر الأخيرة، مُنهَكَتَين مِن تكرار الأمور ذاتها مئات المرّات.
إنّ يوسف، نيقوديموس، الصديقان الأكثر ثقة، يجلسان إلى جانبهما، قليليّ الكلام، إنّما مُظهِرَين صداقة أكثر مواساة مِن الأحاديث الطويلة.
يعود حِلقِيّا مع الأكثر تصلّباً، الّذين تحدّث إليهم مطوّلاً، ويَسأَل: «ألا يمكننا رؤية الميت؟»
مرثا تُمرّر يدها بألم على جبينها وتَسأَل: «منذ متى يُفعَل ذلك في إسرائيل؟ لقد سبق أن أُعِدّ...» وتنحدر دموع مِن عينيها على مهل.
«ليست العادة، هذا صحيح. إنّما نحن نرغب بذلك. فالأصدقاء الأكثر وفاء لهم الحقّ برؤية الصديق مرّة أخيرة.»
«حتّى نحن أختاه قد كان لدينا هذا الحقّ. إنّما كان مِن الضروريّ تحنيطه على الفور… وعندما عدنا إلى غرفة لعازر، لم نرَ سوى شكله ملفوفاً بالأربطة...»
«كان عليكما إعطاء أوامر واضحة. أما أمكنكما وألا تستطيعان نزع الكفن عن الوجه؟»
«آه! إنّه متحلّل بالفعل… وقد حانت ساعة الجنازة.»
يوسف يتدخّل: «حِلقِيّا، يبدو لي أنّنا… بإفراط محبّة، نسبّب لهما ألماً. لندع الأختين في سلام...»
يتقدّم سمعان بن غَمَالائيل ليحول دون ردّ حِلقِيّا: «أبي سوف يأتي حالما يستطيع. أنا أُمثّله. هو كان يُقدّر لعازر. وأنا مثله.»
مرثا تنحني، وتجيب: «ليكافئ الله تكريم الرابّي لأخينا.»
حِلقِيّا، نظراً لوجود ابن غَمَالائيل، يبتعد دونما مزيد مِن الإلحاح ويتناقش مع آخرين، الّذين يلفتون انتباهه: «إنّما ألا تشمّ النتانة؟ أتريد أن تشكّك بذلك؟ ومِن ثمّ سنرى إن كانوا سوف يختمون القبر. لا يمكن العيش دون هواء.»
مجموعة أخرى مِن الفرّيسيّين تقترب مِن الأختين. إنّهم تقريباً كلّ الّذين مِن الجليل. مرثا، بعد أن تلقّت منهم واجب العزاء، لا تستطيع الامتناع عن الإفصاح عن دهشتها لحضورهم.
«يا امرأة، إنّ السنهدرين يعقد مداولات غاية في الأهمّية، ونحن في المدينة لهذا السبب.» يشرح سمعان الّذي مِن كفرناحوم، وينظر إلى مريم الّتي بالتأكيد يتذكّر توبتهما. إنّما يكتفي بالنظر إليها.
ها هو جيوقانا يتقدّم، ودوراس ابن دوراس وإسماعيل مع كنعان وصادوق، وآخرون لا أعرف مَن هم. إنّهم يتكلّمون، حتّى قبل أن يتكلّموا، بوجوههم الثعبانيّة. إنّما ينتظرون ابتعاد يوسف مع نيقوديموس كي يتحدّثوا إلى ثلاثة يهود، ليتمكّنوا مِن أن يَجرحوا. العجوز كنعان، بصوته الأجشّ لعجوز متداعٍ، هو الّذي يبدأ الهجوم: «ما قولكِ يا مريم؟ إنّ معلّمكم هو الوحيد الغائب مِن بين أصدقاء أخيكِ الكُثُر. صداقة فريدة! محبّة كثيرة طالما كان لعازر بصحّة جيدة! ولا مبالاة عندما حان الوقت كي يحبّه! الكلّ نالوا معجزة منه. إنّما هنا فلا معجزة. ما قولكِ يا امرأة، بأمر كهذا؟ لقد خدعكِ كثيراً، كثيراً، الرابّي الجليليّ الوسيم، هه! هه! ألم تكوني تقولين بأنّه قال لكِ بأن ترجي إلى ما وراء حدود إمكانيّة الرجاء؟ ألم ترجي إذن، أم أنّه مِن غير المجدي الرجاء به؟ لقد قلتِ بأنّكِ ترجين بالحياة. صحيح! هو يقول عن نفسه بأنّه "الحياة" هه! هه! إنّما هناك في الداخل يوجد أخيكِ الميت. وهناك فم القبر قد فُتِحَ بالفعل. والرابّي غير موجود. هه! هه!»
«هو يُحسِن إعطاء الموت، لا الحياة.» يقول دوراس مبتسماً.
مرثا تحني وجهها إلى يديها وتبكي. إنّها الحقيقة بالفعل. إنّ رجاءها قد خاب حقّاً. الرابّي ليس هنا. لم يأتِ حتّى ليعزّيهما. مع ذلك كان بمقدوره أن يكون هنا الآن. مرثا تبكي. ما عادت تُحسِن سوى البكاء.
مريم أيضاً تبكي. هي كذلك في مواجهة الحقيقة. لقد آمَنَتْ، لقد رَجَتْ إلى ما رواء حدود ما هو قابل للتصديق… إنّما لم يحدث شيء، وها هم الخدّام يرفعون بالفعل الحجر عن فتحة القبر لأنّ الشمس آخذة بالمغيب، والشمس تغرب بسرعة في الشتاء، واليوم هو الجمعة، وكلّ شيء يجب أن يُنجَز في وقته، وبحيث لا يخرق الضيوف شريعة السبت الّذي سوف يبدأ بعد قليل. لقد رجت كثيراً، دوماً، رجت للغاية. لقد استنفذت قدراتها في هذا الرجاء. وهي محبطة.
كنعان يلحّ: «ألا تجيبين؟ هل أنتِ مقتنعة الآن بأنّه دجّال قد استغلّكما واستهزأ بكما؟ أيّتها المرأتان المسكينتان!» ويهزّ رأسه وسط أشخاص ثانويّين يقتدون به، قائلين هم كذلك: «أيّتها المرأتان المسكينتان!»
مكسيمين يقترب: «لقد حان الوقت. أعطيا الأمر. فذلك يعود إليكما.»
مرثا تنهار أرضاً، تتمّ نجدتها وتُحمَل بعيداً على الأذرع وسط نواح الخدّام، الّذين يدركون أنّ ساعة الإيداع في القبر قد حانت، ويُنشِدون المراثي.
مريم تلوي يديها، بتشنّج، تتوسّل: «قليلاً بعد! قليلاً بعد! وأَرسِلوا خدّاماً إلى طريق عين شمس والنبع، إلى كلّ الطرق. خدّاماً على أحصنة. ليروا إن كان آتياً...»
«ولكن أما زلتِ ترجين، أيّتها البائسة؟ إنّما ما الّذي يلزم لإقناعكِ بأنّه قد خانكما وخدعكما؟ لقد كرهكما واستهزأ بكما...»
لقد طفح الكيل! وبوجه تُبلّله الدموع، مُعَذَّبة ومع ذلك وفيّة، وسط نصف دائرة جميع المدعوّين الّذين تجمّعوا ليروا خروج الجثمان، مريم تُعلن: «إن تَصَرَّف يسوع الناصريّ هكذا، فهذا حسن، ومحبّته لجميعنا نحن أهل بيت عنيا عظيمة هي. كلّ شيء لمجد الله ومجده! هو قد قال بأنّ مجداً للربّ سيأتي مِن ذلك، لأنّ قدرة كلمته سوف تسطع بالكامل. أَنجِز يا مكسيمين. إنّ القبر ليس عائقاً أمام قدرة الله...»
تبتعد، تسندها نُعْمي الّتي هرعت، والّتي تومئ… الجثمان، الملفوف بالأربطة، يخرج مِن المنزل، يعبر الحديقة بين صفّين مِن الناس، وسط صيحات الحداد. مريم تودّ أن تتبعه، لكنّها تترنّح. تصل حين يكون الجميع قد أصبحوا عند القبر. تصل في الوقت المناسب لترى الشكل الطويل الجامد يختفي في ظلمة القبر، حيث تتوهّج المشاعل الّتي يمسك بها الخدّام عالياً لإنارة الدَّرَج لأولئك الّذين ينزلون مع الميت. لأنّ قبر لعازر هو تحت الأرض، ربّما للاستفادة مِن طبقات صخور باطنيّة.
مريم تصيح… إنّها تتمزّق… تصرخ… ومع اسم أخيها اسم يسوع. يبدو أنّهما يقتلعان قلبها. لكنّها لا تقول إلّا هذين الاسمين، وتكرّرهما إلى أن يُعلمِها الضجيج الثقيل لغطاء القبر الذي أعيد وضعه على مدخل القبر أنّ لعازر ما عاد على الأرض حتّى بجسده. عندها تستسلم وتفقد الوعي. ترتمي على مَن تسندها وتتنهّد بعد، فيما تغرق في تلاشي الإغماء: «يسوع! يسوع!» وتُؤخَذ بعيداً.
يبقى مكسيمين ليصرف الضيوف ويشكرهم باسم العائلة. يبقى ليسمع الجميع يقولون بأنّهم سوف يعودون كلّ يوم لأجل التعزية…
ينسحب الجمع على مهل. في الآخر يغادر يوسف، نيقوديموس، إليعازر، يوحنّا، يواكيم، يشوع. وعند البوّابة يجدون صادوق مع أوريل، اللذين يضحكان، بخبث، قائلين: «تَحدّيه! وقد خشيناه!»
«آه! إنّه ميت بحقّ. كم كان ينتن رغم الطيوب! ما مِن شك، لا! لم تكن هناك حاجة لنزع الكفن. أظنُّ أنّه كان بالفعل مُدوّداً.» إنّهما سعيدان.
يوسف ينظر إليهما. نظرة قاسية لدرجة يَخرس معها الكلام والضحك. الكلّ يسرعون في العودة ليكونوا في المدينة قبل نهاية الغروب.
----------
1- راجع (ج6 - ف98).
2- راجع (ج7 - ف222).