ج2 - ف59

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الأول

 

59- (شِفاء غانية كورازين. عِظَة في مَجْمع كفرناحوم)

 

01 / 02 / 1945

 

يَخرُج يسوع مِن بيت حَمَاة بطرس يرافقه تلاميذه عدا يوضاس تدّاوس. وأوّل مَن عَرِفهُ وعَرَّف عليه حتّى الذين لا يريدون معرفته، كان صبيّاً. يسوع على شاطئ البحيرة، يَجلس على حافّة مركب بطرس، يُحيط به حالاً أبناء المنطقة، يَحتَفون بعودته ويطلبون منه ألف طلب، ويسوع يجيبهم بصبره الذي لا حدود له، مبتسماً وهادئاً كما لو كانت كلّ هذه الثرثرة تناغُماً سماويّاً.

 

يأتي رئيس المَجْمع، فينهَض يسوع لتحيّته. وتبدو تحيّتهما المتبادلة مُفعَمة بالإجلال الشرقيّ. «أيّها المعلّم، هل يمكنني الاعتماد عليكَ في تثقيف الشعب؟»

 

«بكلّ تأكيد، إن كنتَ أنتَ راغباً في ذلك، وكذلك الشعب.»

 

«طوال هذه الآونة الأخيرة رَغِبنا بذلك. ويمكنهم قول ذلك.» ويؤكّد الشعب القول بصرخة جديدة.

 

«إذن في منتصف السهرة سأكون عندكَ. أمّا الآن فاذهبوا جميعكم. عليَّ الذهاب للقاء إنسان يَرغَب برؤيتي.»

 

يَبتَعِد الناس رغماً عنهم، بينما يسوع يُبحِر مع بطرس وأندراوس على المركب في البحيرة. أمّا باقي الرُّسُل فيبقون على اليابسة.

 

يَقطَع المركب ذو الشراع مسافة، ثمّ يَدفَعه الصيّادان إلى خليج بين هضبتين تشمخان قليلاً. وهاتان الهضبتان تبدوان وكأنّهما لم تكونا في الأصل سوى واحدة، انفَلَقَت نصفين بفعل التعرية أو هزّة أرضيّة لتُشكّلا فَجّاً صغيراً. على خِلاف شبيهه النرويجي، فهو غير مليء بالصنوبر، إنّما فقط بالزيتون الـمُبَعثَر الذي نما لستُ أَعلَم كيف، على السفوح شديدة الانحدار، بين الصخور المتهدّمة، وأخرى قد أزهَرَت. وتتشابك الأغصان الـمُورِقة المائلة بفعل رياح البحيرة التي يُفتَرَض أنّها تَعصف هنا بقوّة. إنّها تُشكّل نوعاً مِن السقف، يزبد تحته سَيل صغير متقلّب، مُحدِثاً جَلَبة لأنّ جلّه على شكل شلّالات، يزبد مع هذه المساقِط بين متر وآخر، إنّما في الحقيقة، مثل قَزَم بين مجاري المياه.

 

يقفز أندراوس إلى المياه لإرساء المركب في أقرب نقطة وربطه بجذع زيتونة، بينما يَطوي بطرس الشراع، ويضع دَفّاً يجعله جسراً يمرّ عليه يسوع ويقول: «ومع ذلك أنصحكَ بنزع نعليكَ وثوبكَ وأن تفعل مثلنا. فهذا المجنون (ويُشير إلى السيل الصغير) يجعل ماء البحيرة في دوامة، والجسر، مع هذا الترنح، ليس مأموناً.»

 

يطيع يسوع دون مناقشة. وحين يَصِل إلى اليابسة يستعيد نعليه وكذلك ثوبه الطويل. ويبقى الآخرون بثيابهم الداخليّة القاتمة.

 

يَسأل يسوع: «أين هي؟»

 

«تكون قد هَرَبَت لدى سماع الأصوات. تَعلَم... ما هي عليه...»

 

«نادِها.»

 

يَهتف بطرس بصوت مرتفع: «أنا تلميذ رابّي كفرناحوم، والرابّي هنا. اخرجي.»

 

لا حياة لِمَن تنادي.

 

ويُقَدِّم أندراوس تفسيراً: «إنّها لا تثق بأحد، ذلك أنّ أحدهم ناداها ذات يوم قائلاً: "هلمّي، هاكِ الطعام". ومِن ثم استَقبَلَها برشق الحجارة. وقد رأيناها آنذاك لأوّل مرّة، لأنّني، أنا على الأقلّ، لم أكن أذكر منذ متى كانت غانية كورازين.»

 

«وماذا فعلتم أنتم آنذاك؟»

 

«رمينا لها رغيف خبز وسَمَكاً وقطعة قماش، قطعة مِن الشراع ممزقة، كانت معنا للتنشيف، لأنّها كانت عارية، ثمّ هربنا لكي لا نصاب بعدوى مرضها.»

 

«كيف عدتم إذاً؟»

 

«يا معلّم... كنتَ، أنتَ، قد ذَهَبتَ، ونحن لم نكن نفكّر سوى بالتعريف بكَ أكثر. فَكّرنا بكلّ المرضى وبكلّ العميان والكسيحين وبالبُكم... وكذلك بها. قلنا: "لنحاول". تَعلَم... كثيرون... آه! والخطأ منّا بكلّ تأكيد، اعتَبَرونا مجانين ولم يرضوا الاستماع لنا. وآخرون، على العكس، صَدَّقونا. أمّا هي، فأنا الذي تحدّثتُ إليها. أتيتُ وحدي بالمركب على ضوء القمر. ذلك أنّني كنتُ أناديها وأقول لها: "على الصخرة تحت الزيتونة يوجد خبز وسمك، تعالي دون خوف". وأمضي. وكانت هي تنتظر اختفائي، إذ لم أكن أراها مطلقاً. وفي المرة السادسة رأيتُها واقفة على الشاطئ، تماماً في مكانكَ. كانت تنتظرني. يا للفظاعة! ولم أهرب، إذ كنتُ أفكّر بكَ... وقالت لي: "مَن أنتَ؟ ولماذا هذه الشفقة؟" قُلتُ لها: "لأنّني تلميذ الرحمة".»

 

"مَن هو؟"

 

"إنّه يسوع الجليليّ."

 

"وهو يُعلّمكم الرأفة بنا؟"

 

"بالجميع".

 

"ولكن هل تعرف مَن أكون؟"

 

"إنّكِ غانية كورازين، والآن برصاء".

 

"وحتّى لي توجد رحمة؟"

 

"هو يقول إنّ رحمته تشمل الجميع، ونحن، لكي نقتدي به، ينبغي لنا أن تكون لدينا رحمة للجميع". 

 

وهنا جدَّفَت البرصاء دون أن تقصد ذلك إذ قالت: "إذن يُفتَرَض أنّه هو أيضاً كان خاطئاً كبيراً".

 

كنتُ أودُّ أن أقول لها: "فلتكوني ملعونة بسبب لسانكِ" ولكنّني قُلتُ لها: "لا إنّه مَسيا، قدّوس الله". ولم أقل لها شيئاً آخر، لأنّني فَكَّرتُ: "لا يمكنها، في شقائها هذا، التفكير بالرحمة الإلهيّة". عندئذ شَرَعَت بالبكاء وقالت: "آه! إذا كان القدّيس فلا يمكنه، لا يمكنه الرأفة بالغانية، يمكنه ذلك بالبرصاء... إنّما بالغانية فلا. وأنا التي كنتُ آمل..."

 

وسألتُها: "بماذا كنتِ تأملين، يا امرأة ؟"

 

«بالشفاء... بالعودة إلى العالم... وسط الناس.. أن أموت فقيرة مستجدية، ولكن وسط الناس... لا مثل حيوان برّيّ في جحر حيوانات أُرعبها".

 

فقُلتُ لها: «هل تقطعين عهداً أنّكِ لو عُدتِ إلى العالم ثانية سوف تكونين نزيهة؟" فقالت: "نعم، فالله قد عاقَبَنَي بالضبط مِن أجل خطاياي. إنّني نادمة مِن أعماقي. لقد تَلَقَّت نفسي الكفّارة، وكَرِهَت الخطيئة إلى الأبد".

 

بدا لي آنذاك أنّني أستطيع أن أعِدها بالسلام باسمكَ. وقالت لي: "عُد، عُد أيضاً وأيضاً... وحَدِّثني عنه. فلتتعرّف إليه نفسي قبل أن تراه عيني..." وكنتُ آتي لأحدّثها عنكَ على قدر معرفتي...»

 

«وها أنا قد أتيتُ أحمِل السلام لأوّل مَن اهتَدَت على يد تلميذي أندراوس.» (بالفعل كان أندراوس هو الذي يتكلّم طوال الفترة التي كان فيها بطرس يقفز مِن صخرة إلى صخرة فوق السيل وهو ينادي البرصاء.)

 

أخيراً أَظهَرَت وجهها الـمُروِِّع مِن بين أغصان شجرة الزيتون. نَظَرَت وصَرَخَت.

 

وهَتَف بطرس: «ألا فانزِلي. أنا لا أريد رجمكِ! إنَّه هناك، ألا ترينه؟ إنّه الرابّي يسوع.»

 

وتَدَحرَجَت المرأة. (أَستَخدِم هذا التعبير نظراً للسرعة الفائقة التي هَبَطَت بها) ووَصَلَت عند أقدام يسوع قبل أن يعود بطرس إلى قُرب المعلّم. «رحمتكَ يا سيّدي!»

 

«هل تؤمنين أنّ بإمكاني أن أَرحَم؟»

 

«نعم، لأنكَ قدّيس وأنا تائبة. أنا الخطيئة إنّما أنتَ الرحمة. ولقد كان تلميذكَ أوّل مَن رَحَمَني. أتى إليَّ يعطيني الخبز والإيمان. فَطَهِّرني أنتَ يا ربّ، إنّما النَّفْس قبل الجسد. ذلك أنّني ثلاثية النجاسة، وإذا كان مِن المفروض أن تمنحني تطهيراً واحداً، واحداً فقط، فأَطلب إليكَ أن يكون لنفسي الخاطئة. قبل أن أسمع كلامكَ الذي كان هو يُردّده لي، كنتُ أقول: "أن أُشفَى لكي أعود وسط الناس". أمّا الآن وقد عَرَفتُ فأقول: "أن أُشفَى لأنال الحياة الأبديّة".

 

«وأنا أمنحكِ المغفرة. ليس إلّا...»

 

«فلتكن مباركاً! ولسوف أعيش في سلام مع الله في جِحري... حرّة... آه! وقد تحرّرتُ مِن تأنيب الضمير ومِن الـمَخاوِف. لم أعد أخشى الموت الآن وقد نلتُ المغفرة! لم أعد أرتعد خوفاً مِن الله، الآن وقد بَرَّأتَني!»

 

«اذهبي إلى البحيرة واغتسلي، وابقي هناك لحين أناديكِ.»

 

المرأة، وهي شبح هيكل عظمي لامرأة بائسة، وقد تآكلها البرص، وبشعرها الأشعث، وهي متوترة، بيضاء بالكامل، تَنهَض وتنزل في مياه البحيرة، تغطس فيها بثوبها البالي الذي يُغطي جزءاً يسيراً مِن جسدها.

 

فيقول له بطرس: «لماذا أرسَلتَها تَغتَسِل؟ صحيح أن نتانَتَها تبعث على المرض. ولكن... لستُ أفهم.»

 

«يا امرأة اخرُجي وهَلمّي إلى هنا. خذي قطعة القماش التي على الغصن.» (إنها القطعة التي تَنَشَّف بها يسوع عند عبوره مِن المركب إلى اليابسة.)

 

تَنصَاع المرأة للأمر وتَخرُج، عارية تماماً، فلقد تَرَكَت أسمالها في الماء لتأخذ القماش الجاف. فكان بطرس أوّل مَن هَتَفَ، وهو الذي نَظَرَ إليها، بينما أندراوس الأكثر تحفُّظاً أدار لها ظهره. ولكنّه لدى سماعه هتاف أخيه يستدير ويهتف هو الآخر. كانت المرأة مُثَبِّتة نَظَرها على يسوع لدرجة أنّها لم تهتمّ بأيّ شيء آخر. ولدى سماعها الهتاف ورؤيتها الأيدي تشير إليها، تَنظُر إلى نفسها... وتُلاحِظ أنّها بالإضافة إلى أسمالها، فقد تَرَكَت البَرَص في البحيرة. فلم تركض كما يمكن أن نظنّ. بل ارتمت على الشاطئ، وتكوَّرَت على نفسها خَجِلَة مِن عريها ومتأثّرة، لدرجة أنها بَقِيَت عاجزة عن القيام بأيّ فعل آخر غير البكاء بنحيب طويل لا ينتهي، يَفطر القلب بشكل يَفوق الصراخ.

 

يدنو يسوع... يَصِل قريباً منها... يَرمِي عليها القماش ويُداعِب رأسها بشكل لطيف خفيف وهو يقول لها: «وداعاً. كوني صالحة. لقد كنتِ مستحقّة للنعمة بصدق ندامتكِ. انمي في الإيمان بالمسيح. وأطيعي شريعة التطهير.»

 

تبكي المرأة، وتبكي وتبكي وتبكي... وفقط عندما تسمع صوت الدفة التي يسحبها بطرس إلى المركب، ترفع رأسها وتفتح ذراعيها وتصيح: «الشكر لكَ يا مبارك. آه! مبارك أنتَ يا مبارك!...»

 

يقوم يسوع بحركة وداع لها قبل أن يستدير المركب ويغيب…

 

يسوع، وهو الآن بصحبة جميع تلاميذه، يَدخُل إلى مَجْمع كفرناحوم، بعد عبوره الساحة والدرب المؤدّي إليه. يُفتَرَض أن يكون خبر المعجزة قد انتشر، إذ إنّ هناك الكثير مِن الهمس والكثير مِن التعليق.

 

إنّني أرى على عتبة المَجْمع تلميذ المستقبل متّى. إنّه هنا. تَحسَبه يتساءل إذا كان ينبغي له الدخول أم الخروج، لستُ أدري إذا ما كان خَجِلاً أم متكدّراً مِن غمزات العيون التي تشير إليه، وحتّى مِن النعوت قليلة الظُّرف التي توجّه إليه. فرّيسيّان يلتحفان بمعطفيهما اللذين يشدّانهما بعناية إليهما، كما لو كانا خائفين مِن التقاط عدوى الطاعون إذا ما لامَسَا ثوب متّى.

 

ويسوع، أثناء دخوله، يُمعِن النَّظَر فيه لحظة، ويتوقّف لحظة. ولكن متّى يخفض رأسه. وهذا كلّ شيء.

 

ما إن يَتَجاوَزه حتّى يقول بطرس ليسوع: «هل تعلم مَن يكون هذا الرجل الأجعد المعطّر أكثر مِن امرأة؟ إنّه متّى، مُحَصِّل الضرائب لدينا (عشّار)... ما الذي جاء به إلى هنا؟ إنّها المرّة الأولى. يجوز أنّه لم يجد رفاقه، خاصّة أولئك الذين يمضي معهم السبت، مُبذِّراً، بالسُّكر والعربدة، ما يبتزه مِنّا مِن الضرائب الـمُضاعَفَة مرّتين وثلاث مرّات للحصول على المال لخزانة الضرائب ولسلوكه المعيب.»

 

يَنظُر يسوع إلى بطرس نظرة صارمة لدرجة أنّ بطرس يحمرّ مثل خشخاش منثور، ويُطأطئ رأسه ويتوقّف بحيث يصبح في الصفّ الأخير مِن جماعة الرُّسُل بعد أن كان في الصف الأوّل.

 

يأخذ يسوع مكاناً له. وبعد تراتيل وصلوات تمّت تلاوتها مع الشعب، يعود ليتحدث. يسأله رئيس المَجْمع إذا ما كان يرغب بلفيفة، فيجيبه يسوع: «لستُ في حاجة إليها. فالموضوع حاضر في ذهني.»

 

ويبدأ: «مَلِك إسرائيل الكبير، داود الذي مِن بيت لحم، بعد أن أَخطَأ، بكى، بقلب نادم، مُجاهِراً بتوبته إلى الله طالباً منه غفرانه. لقد كانت روح داود مُظلِمة بضباب الشهوات الذي كان يمنعها مِن رؤية وجه الله وفهم كلامه.

 

قُلتُ: وجه الله. ففي قلب الإنسان موقع يَحفَظ ذكرى وجه الله، موقع مختار بشكل خاص وهو "قدس أقداسنا"، منه تأتي الإلهامات المقدّسة والحلول المقدّسة، موقع يَضوع عطراً مثل مذبح، يَلمَع مثل مِحرَقَة، ويَصدَح بالتراتيل مثل مقام السيرافيم. إنّما حينما تنشر الخطيئة فينا دخانها، تُظلِم هذه النقطة لدرجة يتلاشى معها النور والعطر والتراتيل، ولا يبقى فيها سوى رائحة الدخان الثقيل الخانقة وطعم الرماد. إنّما حينما تعود الإنارة، لأنّ خادماً لله يحملها للبائس فاقد النور، حينئذ يرى قباحته وانحطاطه، ومُرَوَّعاً مِن ذاته يَصرُخ مثل الـمَلِك داود: "ارحمني يا الله كعظيم رحمتكَ، وكَمِثل كَثرة صلاحكَ امح مآثمي". فهو لا يقول: "لا يمكن أن يَصفَح عني، لذلك أَستَمرّ في الخطيئة". إنّما يقول: "إنّني أَتَّضِع وقلبي مُنكَسِر، إنّما أرجوكَ، أنتَ يا مَن تَعلَم أنّي وُلِدتُ في الخطيئة، أن تَنضَحني وأن تَغسِلني لأعود شبيهاً بثلج القِمم". ولكنّه يقول أيضاً: "لن تكون ذبيحتي ذبيحة تيوس وعجول، إنّما انكسار حقيقيّ لقلبي، لأنّي عالِم بأنّ هذا ما تُريده مِنّا وأنّكَ لن ترذله".

 

هذا ما كان يقوله داود بعد خطيئته، وبعد أن قاده ناتان خادم الربّ إلى التوبة. وهذا أيضاً، مِن وجهة أَولَى، ما ينبغي أن يقوله الخَطَأَة، الآن وقد أرسَلَ لهم الربّ ليس أحد خدّامه، إنّما الـمُخَلِّص ذاته، كَلِمَته. هو العادل، ليس فقط سيّد البشر، إنّما سيّد الكائنات السماويّة والجهنّميّة كذلك. خَرَجَ مِن وسط شعبه كما يَخرُج النور مِن الفجر الذي يتلألأ عند بزوغ الشمس الصباحيّة في جوّ صاف خالٍ مِن الغيوم.

 

لقد قرأتم كيف أنّ الإنسان، فريسة الشيطان، هو أضعف مِن مَسلول مُشرِف على الموت، حتّى ولو كان في السابق "الجبّار". تَعلَمون كيف أنّ شمشون قد تلاشى بعد أن رَضَخَ للميل إلى الشهوة. أودُّ لو تتعلّموا الدرس مِن شمشون بن منواح، الـمُرشَّح للانتصار على الذين كانوا يَضطهِدون إسرائيل. لقد كان الشرط الأوّل لإتمام رسالته، منذ مَولِدِه، أن يُحافِظ على نفسه مِن كلّ ما مِن شأنه تحريض الشهوات وإشراك أحشاء الإنسان بالأجسام الدَّنِسَة: أي الخمر واللحوم الدَّسِمَة التي تُشعِل في الصدر ناراً نَجِسَة. والشرط الثاني، لكي يكون الـمُحرِّر، كان أن يُكرَّس للربّ منذ الطفولة، ويبقى كذلك في نَذر دائم. فالـمُكرَّس ليس الذي يحافظ على قداسته الخارجيّة، إنّما على قداسته الداخليّة.

 

ولكن الجسد هو الجسد، والشيطان هو التجربة. وتُستَخدَم التجربة لمحاربة الله في قلب الجسد الذي يثير الرجل: المرأة، وفي مقرّراته المقدّسة. هي ذي حينئذ قوّة "الجبّار" تَرتَعِد، فيصبح ضعيفاً يُبدِّد الامتيازات التي حَبَاه إيّاها الله. والآن اسمعوا: لقد رُبِط شمشون بحبال سبعة مِن أوتار جديدة وقويّة ومثبّتة إلى الأرض بسبع جدائل مِن شعره. وانتَصَر. إنّما لا نضعنّ الله عبثاً تحت الاختبار، ولا حتّى صلاحه. فهذا غير مسموح به. إنّه يغفر ويغفر ويغفر. ولكنّه يُطالِب الإرادة بالخروج مِن الخطيئة ليستمرّ هو بالغفران. أحمق هو الذي يقول: "غفرانكَ ربّي"، وبعد ذلك لا يَهرُب مما يدفعه بشكل مستمرّ للخطيئة! شمشون الذي انتصر ثلاث مرات، إذ لم يَهرُب مِن دليلة، والشهوة والخطيئة، وهو مُتكدِّر حتّى الموت، يقول الكتاب، وحالما وَهَنَت قوّة نفسه، يقول الكتاب أيضاً، أفشى السر: "قُوّتي تكمن في جَدائِلي السَّبع".

 

أما مِن أحد بينكم، وقد ضاق ذرعاً مِن إعياء الخطيئة، لم يَشعُر أنّ نفسه تَضعُف، إذ لا شيء يُنهِك أكثر مِن إدراك الشرّ المرضيِّ به، وإيجاد الذَّات على وشك الاستسلام للعدو؟ لا، مهما يكن، فلا يفعلنّها أحد. لقد باح شمشون للتجربة بسرّ الانتصار على مزاياه السبع: الجدائل السبع الرمزيّة، فضائله، أي أمانته للنَّذر. فنام على صدر المرأة وانهَزَمَ، كفيفاً، مُستَعبَداً، عاجزاً نتيجة رفضه البقاء وفيّاً لنذره. ولم يعد "الجبَّار"، "المحرِّر"، إلاّ عندما استعاد قوّته مِن خلال ألم ندامة حقيقيّة... ندامة وصبر ومثابرة وبطولة، وثمّ، أيّها الخَطَأَة، أَعِدُكم أنّكم سوف تصبحون مُحرِّري أنفسكم. الحقّ أقول لكم: لا قيمة لمعموديّة ولا فائدة مِن طقس إذا لم تكن هناك التوبة والإرادة والتصميم على نبذ الخطيئة. الحقّ أقول لكم: ما مِن خاطئ، مهما عَظُم، إلّا ويستطيع، بدموع النَّدَم، إعادة فضائِله التي انتَزَعَتها الخطيئة مِن قلبه.

 

اليوم، امرأة خاطئة مِن إسرائيل، كان الله قد عاقَبَها على خطيئتها، نالَت رحمة بفضل ندامتها. قُلتُ: رحمة. ولن ينال رحمة بهذا القدر أولئك الذين لم تكن لديهم رحمة تجاهها، والذين طارَدوا المسكينة الـمُعاقَبَة دونما شفقة. فهؤلاء الناس، ألم يكونوا، هُم أنفسهم، مصابين بِبرص خطيئتهم؟ فليَفحص كلّ واحد ضميره... وليُمارِس الرحمة، ليستحقّ هو نفسه الرحمة. إنّي أمدّ لكم اليد مِن أجل هذه التائبة التي تعود إلى وسط الأحياء، بعد أن طُرِحَت بين الأموات. إنّ سمعان بن يونا، وليس أنا، هو الذي سيتلقّى الصَّدَقَة للتائِبة التي عادَت إلى الحياة الحقيقيّة بعد أن شارَفَت على مفارقة الحياة. لا تُهمهِموا أيّها الكبار، لا تُهمهِموا. لم أكن في العالم عندما كانت الغَانية، أمّا أنتم فقد كنتم. ومع ذلك، لا أزيد كلمة واحدة.»

 

ويَسأله أحد العجوزين حاقداً: «هل تتّهمنا بأنّنا كنا عشّاقها؟»

 

«فليتأمّل كلّ واحد قلبه وسلوكه. أمّا أنا فلستُ أتَّهِم، بل أتحدّث باسم العدالة. هيّا بنا.» ويَخرُج يسوع مع أتباعه.

 

إلّا أنّ رَجُلَين يَستَوقِفان يهوذا الاسخريوطيّ، ويبدو أنّهما يعرفانه جيّداً. أَسمَعهُما يقولان: «حتّى أنتَ معه؟ هل هو حقيقة قدّيس؟»

 

للإسخريوطي إجابات غير متوقّعة، هذه إحداها: «أتمنّى لكم أن تتوصّلوا، على الأقلّ، إلى فَهم قداسته.»

 

«ولكنّه مع ذلك أجرى الشِّفاء يوم السبت.»

 

«لا، بل غَفَرَ يوم السبت. وأيّ يوم أنسَب للغفران مِن السبت؟ أفلا تُعطياني شيئاً لتلك التي افتُدِيَت؟»

 

«نحن لا نَمنَح أموالنا للعاهرات. فالعطايا والهبات للهيكل المقدّس.»

 

يَنفَجِر يهوذا ضاحكاً بلا احترام، ويتركهما هناك ليلحق بالمعلّم. 

 

يعود يسوع إلى بيت بطرس الذي يقول له: «ها إنّ يعقوب الصغير قد أعطاني اليوم، لدى خروجنا مِن المَجْمع، كيسين مِن النقود بدل الواحد، وأيضاً مِن قِبَل ذلك المجهول. ولكن مَن يكون يا معلّم؟ إنّكَ تعرفه... فقل لي.»

 

يبتسم يسوع: «سوف أقول لكَ حينما تتعلم ألا تَنُمَّ على أحد.»

 

وينتهي كل شيء.

 

--- نهاية القسم الأول من الجزء الثاني ---