ج7 - ف234

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

234- (يسوع في عيد تكريس الهيكل)

 

09 / 12 / 1946

 

مِن غير الممكن للمرء البقاء ساكناً في صبيحة باردة وعاصفة. إنّ الريح الآتية مِن جهة الشمال الشرقيّ، عند قمّة جبل موريا، تهبّ قارصةً، جاعلةً الملابس تتطاير، ومُسبّبةً احمرار الوجوه والعيون. ومع ذلك فهناك أشخاص قد صعدوا إلى الهيكل لأجل الصلوات. وعلى العكس يغيب الرابّيين كلّهم مع مجموعات التلاميذ الخاصّين بهم. والرواق يبدو أكثر اتّساعاً، وفوق كلّ شيء أكثر وقاراً، في غياب تجمّعات الصاخبين والمتباهين الّتي تشغله في العادة.

 

لا بدّ أنّه مِن الـمُستَغرَب جدّاً رؤيته خاوياً هكذا، فالجميع يندهشون مِن ذلك كما لو أنّه أمر خارج عن المعتاد. وبطرس يرتاب مِن ذلك أيضاً. إنّما توما، الّذي يبدو أكثر ضخامة بعد، إذ يتدثر برداء فضفاض وثقيل، يقول: «يكونون قد أقفلوا على أنفسهم في إحدى الغرف، خوفاً مِن فقدان أصواتهم. أتفتقدهم؟» ويضحك.

 

«أنا لا! لو أنّني لا أعود أراهم! إنّما لا أودُّ أن يكون...» وينظر إلى الاسخريوطيّ الّذي لا يتكلّم، إنّما الّذي يتلقّف نظرة بطرس ويقول: «لقد وعدوا بحقّ ألّا يسبّبوا المزيد مِن الإزعاج، إلّا في حالة أن يقوم المعلّم… بإثارة استيائهم. حتماً سوف يكونون مترقِّبين، إنّما باعتبار أنّ هنا لا أحد يخطئ، ولا أحد يسيء، فهم غائبون.»

 

«هكذا أفضل. وليبارككَ الله يا بنيّ، إذا ما نجحتَ في جعلهم عاقلين.»

 

الوقت لا يزال مبكّراً. هناك قلّة مِن الناس في الهيكل. أقول "قلّة" حيث يبدون هكذا بالنظر لرحابته، لأنّه كي يظهر ممتلئاً يحتاج لجماهير غفيرة. فمائتان أو ثلاثمائة شخص بالكاد يُرَون في هذا المجموع مِن الساحات، الأروقة، الباحات الداخليّة، الممرّات…

 

يسوع، المعلّم الوحيد في رواق الوثنيّين الواسع، يروح ويجيء متحدّثاً مع جماعته ومع تلاميذ وجدهم داخل نطاق الهيكل. وهو يجيب على اعتراضاتهم وأسئلتهم، يوضح نقاطاً لم يُحسِنوا إيضاحها لأنفسهم وللآخرين.

 

يَصل وثنيّان، ينظران إليه، يمضيان مِن دون أن يقولا شيئاً. يمرّ أشخاص لهم صلة بالهيكل، ينظرون إليه، إنّما هم كذلك لا يقولون شيئاً. يقترب بعض المؤمنين، يحيّون، يصغون. إنّما لا يزالون قلائل.

 

«هل سنبقى هنا بعد؟» يَسأَل برتلماوس.

 

«الجوّ بارد ولا يوجد أحد. إنّما جميل أن نكون هنا هكذا في سلام. يا معلّم، اليوم أنتَ بحقّ في منزل أبيكَ. وسيّد.» يقول مبتسماً يعقوب بن حلفى، ويضيف: «لا بدّ أنّ الهيكل كان هكذا حين كان نحميا والملوك الحكماء والأتقياء.»

 

«أنا أرى أن نذهب. إنّهم يراقبوننا مِن هناك...» يقول بطرس.

 

«مَن؟ الفرّيسيّون؟»

 

«لا. أولئك الّذين مَرّوا قبلاً، وآخرون. لنرحل يا معلّم...»

 

«أَنتَظر مرضى. لقد شُوهِدتُ أدخل إلى المدينة، والخبر قد أُشيع بالتأكيد. سوف يأتون في الساعات الأكثر دفئاً. لنبقَ على الأقل حتّى ثلث الساعة السادسة.» يجيب يسوع. ويعاود المسير جيئةً وذهاباً كي لا يبقى دون حراك في هكذا طقس بارد.

 

بالفعل، بعد بعض الوقت، حين بدأت الشمس تعمل على تلطيف تأثيرات ريح الشمال، تصل امرأة مع طفلة مريضة وتطلب شفاءها. يسوع يستجيب لها. المرأة تضع تقدمتها عند قدميّ يسوع قائلةً: «هذا لأجل الأطفال الآخرين الّذين يعانون.» الاسخريوطيّ يلتقط المال.

 

لاحقاً، يُؤتى برجل عجوز على نقّالة، مريض في ساقيه. ويسوع يشفيه.

 

في المرّة الثالثة تصل مجموعة أشخاص ويرجون يسوع للخروج إلى خارج أسوار الهيكل لطرد شيطان مِن طفلة صغيرة، الّتي تُسمَع صرخاتها المؤلمة الواصلة إلى الداخل. ويسوع ينطلق وراءهم، خارجاً إلى الطريق الّتي تؤدّي إلى المدينة. هناك أناس، بينهم غرباء، يحتشدون حول مَن يمسكون بالفتاة الصغيرة، الّتي تُزبِد وتتلوّى، قالبةً عينيها. كلمات نابية مِن كلّ الأنواع تخرج مِن شفتيها، وتتزايد أكثر كلّما اقترب يسوع منها أكثر، كما يتزايد تخبّطها كذلك. بصعوبة يمسك بها أربعة شبّان أقوياء البنية. ومع الشتائم، تنطلق صرخات تَعَرُّف على المسيح، وتَوسّلات محمومة مِن الروح القَلِق الّذي يستحوذ عليها كي لا يُطرَد، وكذلك حقائق، تتكرّر برتابة: «ارحلوا! لا تجعلوني أرى هذا الملعون! ارحل! ارحل! يا سبب هلاكنا. إنّني أعلم مَن أنتَ. أنتَ… أنتَ المسيح. أنتَ… لم تتلقّ مَسحاً سوى ذاك الّذي مِن العلى. إنّ قدرة السماء تُغلّفكَ وتحميكَ. أنا أكرهكَ! يا ملعون! لا تطردني. لماذا تطردنا وتلومنا، في حين تُبقي قربكَ جحافل مِن الشياطين في شخص واحد؟ ألا تعلم أنّ الجحيم كلّها هي في واحد؟ نعم، أنتَ تعلم ذلك. دعني هنا، أقلّه حتى ساعة الـ…» الكلمة تتوقّف أحياناً كما لو تمّ خنقها، وأحياناً تتبدّل، أو تتوقّف قبلاً، أو تُـمَطّ بين صرخات لا إنسانيّة، كما حين يصرخ: «دعني على الأقلّ أدخل فيه. لا ترسلني هناك إلى الهوّة! لماذا تكرهنا أيا يسوع، يا ابن الله؟ ألا يكفيكَ ما أنتَ عليه؟ لماذا تريد أن تأمرنا نحن أيضاً؟ لا نريد أوامر، نحن! لماذا أتيتَ لتضطهدنا، إن نحن أنكرناكَ؟ ارحل! لا تصبّ نيران السماء علينا! عيناكَ! حينما تنطفئان سوف نضحك… آه! لا! ولا حتّى حينذاك… فإنّكَ تنتصر علينا! تنتصر علينا! كُن ملعوناً أنتَ والآب الّذي أرسلكَ، والّذي يتأتّى منكما والّذي هو أنتما… آآآآه!»

 

الصرخة الأخيرة هي مُرعِبة بحقّ، صرخة مخلوق مذبوح يدخله الحديد القاتل على مهل، وهي قد بدأت مِن جرّاء أنّ يسوع يضع حدّاً له، بلمس جبهة الفتاة الصغيرة بإصبعه، بعدما قطع لمرّات عديدة، بأمر عقليّ، كلام الـمُستَحوَذ عليها. والصرخة تنتهي باختلاج فظيع، إلى أن، بصخب قهقهة ساخرة، وعويل حيوان كابوسيّ، يغادرها الشيطان صائحاً: «لكنّني لن أذهب بعيداً… هه! هه! هه!» يليه مباشرةً دويّ حادّ كدويّ الرعد، رغم أنّ السماء صافية تماماً.

 

كُثُر يفرّون مذعورين. آخرون يحتشدون أكثر بعد لمشاهدة الفتاة الصغيرة الّتي سكنت فجأة، منهارةً بين أذرع مَن كانوا يمسكونها. تلبث هكذا بضع لحظات، ومِن ثمّ تفتح عينيها، تبتسم، تُدرِك أنّها بين الناس بلا غطاء على وجهها ورأسها، وتحني وجهها كي تخفيه في ذراعها الّتي ترفعها إليه. مَن هم برفقتها يودّون أن تشكر المعلّم. لكنّه يقول: «دعوها في حيائها. إنّ نفسها تشكرني. أعيدوها إلى المنزل، إلى أُمّها. إنّه مكانها كفتاة صغيرة...» ويدير ظهره للناس ليعاود دخول الهيكل، إلى حيث كان قبلاً.

 

«أرأيتَ يا معلّم، أن الكثير مِن اليهود قد تبعونا؟ لقد عرفتُ بعضهم… ها هم هناك! إنّهم أولئك الّذين كانوا يراقبوننا قبلاً. انظر كيف يتجادلون فيما بينهم...» يقول بطرس.

 

«إنّهم يستقصون بأيّ واحد منهم دخل الشيطان. هناك أيضاً ناحوم، رجل ثقة حنّان. الشخص المناسب لذلك...» يقول توما.

 

«نعم. وأنتَ لم تَرَ، لأنّكَ كنتَ تدير ظهركَ. لكنّ النار قد تفجّرت بالضبط فوق رأسه.» يقول أندراوس، الّذي تكاد تصطك أسنانه. «لقد كنتُ قربه وتملّكني الخوف!...»

 

«حقّاً، لقد كانوا كلّهم مجتمعين معاً. لكنّني رأيتُ النار تُفتَح علينا، وظننتُ بأنّني أموت… حتّى أصابني الهلع لأجل المعلّم. لقد كانت تبدو بحقّ معلّقةً فوق رأسه.» يقول متّى.

 

«لكن لا. فأنا، على النقيض، قد رأيتُها تخرج مِن الطفلة الصغيرة، وتتفجّر فوق سور الهيكل.» يردّ لاوي، الراعي التلميذ.

 

«لا تتجادلوا فيما بينكم. فالنار لم تدلّ لا إلى هذا ولا إلى ذاك. لقد كانت مجرّد دلالة على أنّ الشيطان قد هرب.» يقول يسوع.

 

«لكنّه قال بأنّه لن يذهب بعيداً...» يعترض أندراوس.

 

«كلام شيطان… ينبغي عدم الاستماع إليه. بالأحرى فلنُسبّح العليّ مِن أجل أبناء إبراهيم الثلاثة هؤلاء الّذين تعافوا جسداً ونَفْساً.»

 

في تلك الأثناء، يهود كُثُر، خرجوا مِن هنا وهناك -إنّما ليس ضمن مجموعاتهم لا فريّسيّ، ولا كاتب، ولا كاهن- يقتربون مِن يسوع ويحيطون به، وأحدهم يتقدّم قائلاً: «لقد صنعتَ أموراً عظيمةً في هذا اليوم! صنائع نبيّ، ونبيّ عظيم بحقّ. وأرواح الهاويات قد قالت عنكَ أموراً عظيمةً. لكنّ كلامها لا يمكن أن يُقبَل إن لم يثبته كلامكَ. لقد خفنا بسبب ذاك الكلام. لكننّا أيضاً نخشى خداعاً عظيماً، لأنّه معلوم أنّ بعلزبول هو روح كذب. فنحن لا نودّ أن نخدع أنفسنا ولا أن نكون مخدوعين. قل لنا إذاً مَن تكون، بفمكَ الصادق والبارّ.»

 

«أوَلم أقل لكم مرّات كثيرة مَن أكون؟ منذ حوالي الثلاثة أعوام وأنا أقول لكم ذلك، وقبلي قالها لكم يوحنّا عند نهر الأردن، وصوت العليّ الآتي مِن السماوات.»

 

«هذا صحيح. إنّما نحن لم نكن موجودين في المرّات السابقة. نحن… أنتَ البار يجب أن تتفهّم قلقنا. إنّنا نودُّ أن نؤمن بكَ كمَسيّا. إنّما لمرّات كثيرة قد تمّ خداع شعب الله مِن قِبَل مسحاء كذبة. عَزِّ قلوبنا الّتي ترجو وتنتظر، بكلمة أكيدة، ونحن سوف نعبدكَ.»

 

«يسوع ينظر إليهم بصرامة. عيناه تبدوان وكأنّهما تخترقان الأجساد وتعرّيان القلوب. ثمّ يقول: «الحقّ أنّ البشر يُحسِنون في مرّات كثيرة قول الأكاذيب بأفضل مِن الشيطان. لا، أنتم لن تعبدوني. أبداً. مهما أقول لكم. وحتّى لو توصّلتم لفعل ذلك، فَمَن ستعبدون؟»

 

«مَن؟ إنّما مسيحنا!»

 

«أأنتم أهل له لهذه الدرجة؟ مَن هو بالنسبة لكم المَسيّا؟ أجيبوا، لأنّني أعلم ما أنتم أهل له.»

 

«المَسيّا؟ إنّما المَسيّا هو ذاك الّذي بتكليف مِن الله سيجمع إسرائيل المشتّت، ويجعل منه شعباً منتصراً سيكون العالم تحت سلطانه. وماذا؟ ألا تعرف أنتَ مَن هو المَسيّا؟»

 

«أنا أعرف ذلك كما لا تعرفونه أنتم. فبالنسبة لكم إذن هو إنسان سوف يجعل مِن إسرائيل الأمّة الّتي تسود العالم، متخطّياً داود وسليمان ويهوذا المكابيّ؟»

 

«هو ذا. الله قد وعد بذلك. إنّ كلّ انتقام، كلّ مجد، كلّ مَطلَب، سوف يتأتّى مِن مَسيّا الموعود به.»

 

«قد قيل: "لا تعبد سوى الربّ إلهكَ". فلماذا إذن سوف تعبدونني إذا ما كنتم لن تروا فيَّ سوى مَسيّا-الإنسان؟»

 

«وأيّ شيء آخر يجب أن نرى فيكَ؟»

 

«أيّ شيء؟ أبهذه المشاعر أتيتم لتسألوني؟ أيا نسل الأفاعي المخادعة والسامّة! والـمُدَنِّسة كذلك. لأنّكم إن كنتم لا تستطيعون أن تروا فيَّ سوى مَسيّا-الإنسان، وكنتم لتعبدوني، فستكونون عبدة أصنام. فالعبادة ينبغي أن تكون لله وحده. والحقّ أقول لكم مرّة أخرى أنّ مَن يكلّمكم هو أعظم مِن المَسيّا الّذي تشيرون إليه أنتم، برسالة ومهامّ وقدرات، أنتم، كونكم مجرّدين مِن الروح والحكمة، تتخيّلونها. إنّ مَسيّا لا يأتي كي يمنح شعبه مملكةً كما تعتقدون، لا يأتي كي يمارس انتقامات على مقتدرين آخرين. فمملكته ليست مِن هذا العالم، وسلطانه يفوق كلّ سلطان محدود لهذا العالم.»

 

«إنّكَ تحقّرنا يا معلّم. فإذا كنتَ معلّماً ونحن جَهَلة، فلماذا لا تريد أن تثقّفنا؟»

 

«لثلاث سنوات وأنا أفعل ذلك، وأنتم في الظلمات أكثر فأكثر لأنّكم ترفضون النور.»

 

«هذا صحيح. قد يكون هذا صحيحاً. إنّما ما كان في الماضي قد لا يكون في المستقبل. وماذا؟ أنتَ الّذي تشفق على العشّارين والعاهرات، وتغفر للخطأة، أتريد أن تكون بلا رحمة تجاهنا، فقط لأنّنا متعنّتي الذهن ونواجه صعوبة في فهم مَن تكون؟»

 

«ليس الأمر أنّكم تواجهون صعوبة. الأمر هو أنّكم لا تريدون أن تفهموا. أن يكون المرء متبلّد الذهن ليس خطيئة. فإنّ لله أنواراً كثيرة بحيث يمكنه أن ينير أكثر العقول تبلّداً إنّما المفعم بالإرادة الصالحة. وهذا ما ينقصكم. بل إنّ فيكم إرادة معارضة. لذلك لا تفهمون مَن أكون.»

 

«قد يكون الأمر كما تقول. إنّكَ ترى كم نحن متواضعون. لكنّنا نرجوكَ باسم الله. أجب على أسئلتنا. لا تبقنا معلّقين أكثر. إلى متى يجب أن تبقى أرواحنا غير متيقّنة؟ إن كنتَ المسيح، فقل ذلك لنا صراحةً.»

 

«لقد قلتُ لكم ذلك. في المنازل، في الساحات، على الطرق، في البلدات، فوق الجبال، على طول الأنهر، قبالة البحر، أمام الصحارى، في الهيكل، في المعابد، في الأسواق قلتُ لكم ذلك، وأنتم لا تصدّقون. ما مِن موضع في إسرائيل لم يسمع صوتي. حتّى المواضع الّتي تحمل تجاوزاً اسم إسرائيل منذ عصور، والّتي انفصلت عن الهيكل، حتّى المواضع الّتي أعطت الاسم لأرضنا هذه، إنّما الّتي مِن كونها سائدة قد غدت تابعة، والّتي رغم ذلك لا تتحرّر أبداً مِن ضلالها بشكل كلّي لتأتي إلى الحقّ، حتّى سوريا-الفينيقيّة، الّتي هجرها الرابّيين باعتبارها أرض خطيئة، كلّها سمعت صوتي وعرفت بوجودي.

 

لقد قلتُ لكم ذلك، ولم تصدّقوا كلامي. لقد عملتُ، وأنتم لم تتقبّلوا أعمالي بروح صالحة. لو أنّكم فعلتم ذلك، بنيّة صادقة كي تستعلموا عن شخصي، لكنتم توصّلتم إلى الإيمان بي، لأنّ الأعمال الّتي أعملها باسم أبي تشهد لي. إنّ ذوي الإرادة الصالحة، الّذين تبعوني لأنّهم عرفوني كما راعٍ، قد آمنوا بكلامي وبالشهادة الّتي تقدّمها أعمالي.

 

وماذا؟ أوَتعتقدون بأنّ ما أعمله غايته ليست منفعتكم؟ منفعة جميع المخلوقات؟ ثوبوا إلى رشدكم. ولا تفكّروا أنّ النّفع ينحصر بالصحّة المستعادة للفرد بقدرتي، أو بالتحرّر مِن الاستحواذ أو مِن خطيئة هذا أو ذاك، فهذا نفع مقتصر على الفرد. وهذا شيء ضئيل للغاية مقارنةً بالقدرة المنبعثة، وبالمصدر الفائق الطبيعة، الأكثر مِن فائق الطبيعة، الإلهيّ، الّذي يحرّره، كي يكون النفع الوحيد. فهناك نفع جماعيّ للأعمال الّتي أعملها. نفع نزع كلّ شكّ مِن المتردّدين، إقناع المعارضين إلى جانب تعزيز إيمان المؤمنين أكثر فأكثر.

 

ولأجل هذا النفع الجماعيّ، ولصالح كلّ البشر الحاليّين والمستقبليّين، لأنّ اعمالي ستشهد لي لدى الأجيال المقبلة وسوف تقنعهم بي، لأجل ذلك أبي يمنحني السلطان كي أفعل ما أفعله. ما مِن شيء ممّا يتعلّق بأعمال الله يُعمَل دون غاية صالحة. تذكّروا هذا دوماً. وتأمّلوا في هذه الحقيقة.»

 

يسوع يتوقّف لبرهة. يحدّق بيهوديّ يحني رأسه، ثمّ يقول: «أنتَ الّذي تفكّر بهذا الشكل، أنتَ يا ذا الثوب الّذي بلون الزيتون الناضج، أنتَ الّذي تتساءل فيما إذا كان الشيطان أيضاً قد خُلِق لغاية صالحة. لا تتغابى كيما تعارضني وتبحث عن أخطاء في كلامي. إنّني أجيبكَ بأنّ الشيطان ليس صنيعة الله، إنّما هو صنيعة الإرادة الحرّة للملاك المتمرّد. فالله كان قد جعل منه خادمه الممجّد، وبالتالي فقد خلقه لغاية صالحة. وها أنتَ الآن، متحدّثاً إلى نفسكَ، تقول: "إذن فالله غبيّ، لأنّه قد مَنَحَ المجد لمتمرّد مستقبليّ وائتَمَنَ عاصياً على مشيئته". وأجيبكَ: "الله ليس غبيّاً، إنّما هو كامل في أفعاله وأقواله. إنّه الكامل المطلق. المخلوقات هي الناقصة، حتّى أكثرها كمالاً. ففيها دوماً نقطة مِن الدونيّة أمام الله. إنّما الله، الّذي يحبّها، قد منح المخلوقات حرّية الاختيار، كي يتكامل المخلوق مِن خلالها في الفضيلة ويغدو بالتالي أكثر شبهاً بالله أبيه". وأقول لكَ بعد، أيا أيّها المتهكّم والباحث الماكر عن الخطيئة في كلامي، أنّ الله، مِن شرّ قد تأتّى إراديّاً، يستخرج خيراً: ذاك الّذي يخدم في جعل البشر حائزين لمجد مستحقّ. إنّ الانتصارات على الشرّ هي إكليل المختارين. وإن لم يكن ليتأتّى مِن الشرّ تبعة حسنة لذوي الإرادة الصالحة، لكان الله أباده. فلا شيء ممّا في الخليقة ينبغي أن يكون خالياً تماماً مِن التحفيز أو العواقب الصالحة.

 

ألا تجيب؟ أيشقّ عليكَ وجوب التصريح بأنّني قرأتُ قلبكَ وبأنّني تغلّبتُ على الافتراضات الظالمة لتفكيركَ الملتوي؟ أنا لن أرغمكَ على فِعل ذلك. في حضور أناس كُثُر، أترككَ في استكباركَ. لن أطالب بأن تعلنني منتصراً. لكن حينما ستكون بمفردكَ مع هؤلاء، أشباهكَ، ومع أولئك الّذين أرسلوكم، حينذاك اعترف كذلك بأنّ يسوع الناصريّ قد قرأ أفكار عقلكَ، وخنق اعتراضاتكَ في حنجرتكَ فقط بسلاح كلامه الحقّ.

 

إنّما لندع هذه المقاطعة الشخصيّة ولنعد إلى الكثيرين الّذين يُصغون إليَّ. فلو أنّ واحداً فقط مِن هذا العدد الكبير، كان ليهدي روحه للنور بفعل كلامي، فسأكون قد كوفئتُ على تعبي بالتكلّم إلى حجارة، لا بل إلى قبور مليئة بالأفاعي.

 

كنتُ أقول أنّ أولئك الّذين يحبّونني قد عرفوني كما راعٍ بسبب كلامي وأعمالي. أمّا أنتم فلا تؤمنون، لا يمكنكم أن تؤمنوا، لأنّكم لستم مِن نعاجي.

 

ماذا تكونون أنتم؟ إنّني أسألكم ذلك. اطرحوا السؤال في أعماق قلوبكم. أنتم لستم أغبياء. يمكنكم أن تعرفوا ذواتكم على ما أنتم عليه. يكفي أن تصغوا إلى صوت نفسكم، الّتي هي ليست في سلام بسبب مواصلتكم الإساءة إلى ابن خالقها. وأنتم، رغم معرفتكم لما أنتم عليه، لن تُفصِحوا عن ذلك. إنّكم لستم متواضعين ولا صادقين. إنّما أنا أقول لكم ما أنتم عليه. إنّكم ذئاب في جزء منكم، وفي جزء جداء برّية. إنّما لا أحد منكم هو حَمَل حقيقيّ، رغم جِلد الحمل الّذي تلبسونه كي تتظاهروا بأنّكم حملان. فَتَحْتَ فروة الصوف الناعم والأبيض لديكم جميعاً الألوان الشرسة، القرون المدبّبة وأنياب ومخالب الّتيس أو الحيوان الضاري، وتريدون أن تبقوا هكذا لأنّه يسرّكم البقاء هكذا، وتحلمون بالعنف والتمرّد. لذلك لا يمكنكم أن تحبّوني ولا يمكنكم أن تتبعوني وتفهموني. وإذا ما دخلتم القطيع، فذلك كي تتسبّبوا بالأذى، كي تجلبوا الألم أو الفوضى. إنّ نعاجي تخافكم. ولو أنّها كانت مثلكم، لكانت تكرهكم. إنّما هي لا تُحسِن الكراهية. إنّها حِملان أمير السلام، معلّم المحبّة، الراعي الرحوم. وهي لا تُحسِن الكراهية. هي لن تكرهكم أبداً، كذلك أنا لن أكرهكم أبداً. إنّني أترك لكم الكراهية، الّتي هي الثمرة السيّئة للشَّبَق الثلاثيّ مع الأنا الجامحة في الحيوان-الإنسان، الّذي يعيش ناسياً أنّه روح كذلك، بالإضافة إلى أنّه جسد. وأنا أحتفظ بما هو لي: المحبّة. وهذه أُمرّرها إلى حملاني، وأُقدّمها أيضاً لكم كي أجعلكم صالحين.

 

وإذا ما جعلتم أنفسكم صالحين، حينذاك ستفهمونني وتنضمّون إلى قطيعي، مشابهين للآخرين الّذين هم فيه. ونتحابّ فيما بيننا. فأنا ونعاجي نتحابّ فيما بيننا. هي تنصت لي، وتتعرّف إلى صوتي. أمّا أنتم فلا تدركون ما الّذي يعنيه حقّاً معرفة صوتي. إنّه عدم الشكّ في مصدره، وتمييزه مِن بين ألف صوت آخر لأنبياء كَذَبَة، كصوت حقيقيّ آتٍ مِن السماء. الآن وعلى الدوام. وحتّى مِن بين أولئك الّذين يظنّون أنفسهم أتباع الحكمة، وهم كذلك جزئيّاً، سيكون هناك كُثُر لا يُحسِنون تمييز صوتي عن الأصوات الأخرى الّتي ستتحدّث عن الله، إلى حدّ ما بعدل، إنّما الّتي ستكون كلّها أصواتاً أدنى مِن صوتي...»

 

«أنتَ تقول دائماً بأنّكَ سترحل قريباً، ومِن ثمّ تقول أنّكَ ستتكلّم دوماً؟ في حين أنّكَ عندما ستكون قد رحلتَ فلن تتكلّم بعد.» يعترض يهوديّ بنبرة تهكّميّة كما تلك الّتي يُخاطَب بها معاقاً عقليّاً.

 

وبنبرته الصبورة والحزينة، الّتي استحالت صوتاً صارماً فقط عندما تحدّث إلى اليهود في البداية، وبعد ذلك عندما أجاب على الاعتراضات الباطنيّة لذاك اليهوديّ، فإنّ يسوع يجيب أيضاً: «أنا سوف أتكلّم دوماً، كي لا يغدو العالم بأسره وثنيّاً. وسوف أتكلّم إلى خاصّتي، إلى مختاريَّ كيما يردّدوا لكم كلامي. فروح الربّ سوف يتكلّم، وهم سوف يدركون ما لا يُحسِن الحكماء أنفسهم فهمه. بالفعل فإنّ العلماء سوف يدرسون الكلمة، الجملة، الأسلوب، المكان، الكيفيّة، الأداة الّتي تتكلّم الكلمة بواسطتها، بينما مختاريّ لن يضيعوا في هذه الدراسات غير المجدية، إنّما سينصتون، ضائعين في المحبّة، وسيفهمون لأنّ المحبّة هي الّتي ستكلّمهم. هم سوف يميّزون صفحات العلماء الـمُنَمَّقة، أو الصفحات الكاذبة للأنبياء الكَذَبَة، صفحات رابّيو النفاق الّذين يُعلّمون عقائد فاسدة، أو يُعلّمون ما لا يمارسونه، سوف يميّزونها عن الكلام البسيط، الصحيح، العميق، الّذي سيأتي منّي. لكنّ العالم سوف يكرههم بسبب ذلك، لأنّ العالم يكرهني أنا-النور ويكره أبناء النور، العالم المظلم الّذي يحبّ الظلمات الملائمة لخطيئته. نعاجي تعرفني وستعرفني وتتبعني دوماً، حتّى على دروب الدم والألم الّتي سأعبرها أنا أوّلاً، وهي ستعبرها مِن بعدي. الدروب الّتي تقود النفوس إلى الحكمة. الدروب حيث دم ودموع المضطهدين، لأنّهم يُعلّمون البرّ، تنيرها لأنّها تلمع وسط ضباب أدخنة العالم والشيطان، وتكون مثل مسارات النجوم كي تقود الّذين يبحثون عن الطريق، الحقّ، الحياة، ولا يجدون مَن يقودهم إليها. فالنفوس بحاجة إلى هذا: إلى مَن يقودها إلى الحياة، الحقّ، إلى الطريق الصحيحة. إنّ الله ممتلئ رحمة تجاه الّذين يبحثون ولا يجدون، لا بخطأ منهم، بل بكسل الرعاة الأوثان. إنّ الله ممتلئ رحمة تجاه النفوس الّتي، إذ تُرِكَت لذاتها، تضيع ويستقبلها خدّام لوسيفورس، الّذين هم على أُهْبَة الاستعداد لاستقبال مَن ضلّوا لجعلهم يرتدّون إلى عقائدهم. إنّ الله ممتلئ رحمة تجاه مَن خُدِعوا فقط لأنّ رابّيي الله، رابّيي الله المزعومين، لم يهتمّوا بهم. إنّ الله ممتلئ رحمة تجاه كلّ أولئك الّذين يمضون لملاقاة الإحباط، الضباب، الموت، بخطأ المعلّمين الكَذَبَة، الّذين ليس فيهم مِن المعلّمين سوى الثوب، والتفاخر بحمل هذا اللقب. ولهذه النفوس المسكينة، وكما أَرسَلَ الأنبياء لشعبه، كما أرسلني أنا إلى العالم بأسره، فهكذا، فيما بعد، مِن بعدي، سوف يُرسِل خدّام الكلمة، خدّام الحقّ والمحبّة، كي يردّدوا كلامي. لأنّ كلامي هو الّذي يعطي الحياة. لذلك ستنال نعاجي الحاليّة والمستقبليّة، الحياة الّتي أعطيها لهم عبر كلمتي الّتي هي حياة أبديّة لِمَن يَقبَلها، ولن تهلك أبداً، ولن يستطيع أحد انتزاعها مِن يديَّ.»

 

«نحن لم نرفض أبداً كلام الأنبياء الحقيقيّين. لطالما احترمنا يوحنّا الّذي كان آخر نبيّ.» يجيب أحد اليهود بغضب، ورفاقه يَحذون حَذوه.

 

«لقد مات في الوقت المناسب كي لا يكون مكروهاً ومضطهداً حتّى مِن قِبَلِكم. فلو كان لا يزال بين الأحياء، لكانت عبارته: "لا يجوز" الّتي قيلت لِسِفاح ذَوي القُربى، لقالها لكم أيضاً، أنتم الّذين ترتكبون عهراً روحيّاً حيث تزنون مع الشيطان ضدّ الله. ولكنتم قتلتموه كما تعتزمون قتلي.»

 

اليهود يستشيطون غضباً، جاهزين للضرب، وقد تعبوا مِن اضطرارهم للتظاهر بالوداعة.

 

لكنّ يسوع لا يكترث لذلك. فهو يرفع صوته كيما يهيمن على الجلبة ويهتف: «وقد سألتموني مَن أكون، أيا أيّها المنافقون؟ لقد كنتم تقولون بأنّكم أردتم معرفة ذلك كي تكونوا على يقين؟ والآن تقولون أنّ يوحنّا كان النبيّ الأخير؟ وتدينون أنفسكم بخطيئة الكذب مرّتين. مرّة لأنّكم تقولون بأنّكم لم ترفضوا أبداً كلام الأنبياء الحقيقيّين، والأخرى، بقولكم أنّ يوحنّا هو النبيّ الأخير وبأنّكم تؤمنون بالأنبياء الحقيقيّين، فإنّكم تستبعدون أن أكون أنا أيضاً نبيّاً، على الأقلّ نبيّاً، ونبيّاً حقيقيّاً. أيّتها الأفواه الكاذبة! أيّتها القلوب الخادعة! نعم. الحقّ الحقّ أنّني، هنا في بيت أبي، أُعلِن بأنّني أكثر مِن نبيّ. إنّني أملك ما منحني إيّاه أبي. وما منحني إيّاه أبي هو أثمن مِن كلّ شيء ومِن الجميع. لأنّه شيء ليس باستطاعة إرادة البشر وقدرتهم أن تمسّاه بأيديهم الضارية. إنّني أملك ما منحني إيّاه الله، والّذي مع أنّه فيَّ، فهو دوماً في الله، ولا أحد يستطيع سلبه مِن يديّ أبي ولا منّي، لأنّه الطبيعة الإلهيّة نفسها. فأنا والآب واحد.»

 

«آه! فظاعة! تجديف! لعنة!!» صياح اليهود يتردّد صداه في الهيكل، ومرّة ثانية، الحجارة الّتي يستخدمها الصيارفة وتجّار البهائم لتثبيت سياجاتهم، تغدو ذخيرة للباحثين عن أسلحة يمكن استخدامها في الضرب.

 

لكن يسوع يرتقي وذراعاه متصالبان على صدره. لقد صعد فوق مقعد حجريّ كي يكون أكثر علوّاً ومرئيّاً أكثر بعد، ومِن هناك يهيمن عليهم بأشعّة عينيه الزفيريّتين. إنّه يهيمن ويرشقهم بنظراته. إنّه بغاية الجلال إلى درجة أنّه يشلّهم. وبدلاً مِن أن يقذفوا الحجارة، فإنّهم يرمونها أو يُبقونها في أيديهم، إنّما مِن دون امتلاك الجرأة لرميها عليه. حتّى الصياح يهداً لتحلّ محلّه رهبة غريبة. إنّه بحقّ الله الّذي يتجلّى في المسيح. وحين يتجلّى الله هكذا، فإنّ الإنسان، حتّى الأكثر تصلّفاً، يغدو صغيراً وخائفاً.

 

إنّني أفكّر بماهية السرّ الكامن وراء تمكّن اليهود مِن أن يكونوا بهكذا شراسة يوم الجمعة العظيمة. أيّ سرّ يكمن وراء غياب قدرة الهيمنة هذه عن المسيح في ذاك اليوم. حقّاً لقد كانت ساعة الظلمات، ساعة الشيطان، هما وحدهما كانا يسودان… إنّ الألوهة، أُبوّة الآب قد هجرت مسيحه، وهو لم يكن سوى الضحيّة…

 

يسوع يلبث هكذا لبضع دقائق. ثمّ يستأنف التكلّم مع هذا الحشد الـمُباع والجبان، الّذي فقد كلّ تصلّف فقط لأنّه رأى وميضاً إلهيّاً: «فإذاً؟ ماذا أنتم فاعلون؟ لقد سألتموني مَن أكون. وقلتُ لكم. وأنتم غدوتم حانقين. لقد ذَكَّرتكم بما فعلتُ، لقد جعلتُكم تَرَون وتتذكّرون صنائع كثيرة متأتّية مِن أبي ومُتمّمة بالقدرة الّتي تأتيني مِن أبي. لأيّ مِن هذه الأعمال ترجمونني؟ ألأنّني عَلَّمتُ البرّ؟ ألأنّني حملتُ للبشر البشرى الحسنة؟ ألأنّني قد أتيتُ كي أدعوكم إلى ملكوت الله؟ ألشفائي مرضاكم، إعادتي البصر لعميانكم، منحي الحركة للمشلولين، الكلام للبكم، تحرير الـمُستَحوَذ عليهم، إقامة الأموات، إغاثة الفقراء، غفراني للخطأة، محبّتي للجميع، حتّى مَن يكرهونني: أنتم ومَن يرسلونكم؟ لأيّ مِن هذه الأعمال تريدون إذن أن ترجموني؟»

 

«ليس لأجل الأعمال الصالحة الّتي عملتَها نرجمكَ، بل لتجديفكَ، لأنّكَ، وأنتَ الإنسان، تجعل نفسكَ الله.»

 

«أليس مكتوباً في شريعتكم: "أنا قلتُ: إِنَّكم آلِهَةٌ وَبَنُو العليّ1"؟ الآن، إذا ما كان قد دعا "آلِهَة" أولئك الّذين كَلَّمهم لإعطائهم أمراً: أمراً للعيش بحيث أنّ شَبَه الله وصورته، المتضمّنان في الإنسان، يتجلّيان ولا يكون الإنسان شيطاناً ولا بهيمة، وإذا ما كان البشر مدعوّين "آلِهَة" في الكتابات المقدّسة، الموحى بها كلّياً مِن الله، وبالتالي فإنّ الكتابات المقدّسة لا يمكن أن تُعدَّل ولا أن تُلغى وفقاً لرغبات الإنسان ومصالحه، فلماذا تقولون عنّي، أنا الّذي كرّسني الآب وأرسلني إلى العالم، بأنّني أجدّف لأنّني قلتُ: "إنّني ابن لله"؟ فلو لم أكن أعمل أعمال أبي، لكنتم على حقّ بعدم تصديقي. لكنّني أعملها. وأنتم لا تريدون الإيمان بي. فآمنوا إذن على الأقلّ بهذه الأعمال، حتّى تعلموا وتعترفوا أنّ الآب فيَّ وأنا في الآب.»

 

عاصفة الصياح والعنف تعود بأكثر قوّة مِن ذي قبل. ومِن إحدى شرفات الهيكل، كَهَنَة، كَتَبَة وفرّيسيّون حيث كانوا حتماً ينصتون ويختبؤون، يطلقون صيحات كثيرة: «إنّما اقبضوا على هذا المجدّف. لقد أصبحت خطيئته علنيّة. لقد سمعناه كلّنا. الموت للمجدّف الّذي يعلن نفسه الله! عاقبوه بذات عقوبة ابن شَلُومِيَةَ بنت دِبْرِي2. فليؤخذ خارج المدينة ويُرجَم! إنّه حقّنا! لقد قيل: "المجدّف يُقتَل".»

 

صيحات الرؤساء تُفاقِم حدة غضب اليهود، الّذين يحاولون القبض على يسوع وتسليمه مكبّل اليدين لقضاة الهيكل، الّذين يهرعون يتبعهم حرّاس الهيكل.

 

إنّما أسرع منهم مرّة أخرى جنود الفرقة، الّذين إذ كانوا يراقبون مِن قلعة أنطونيا، فقد تابعوا الهياج، ويخرجون مِن ثكنتهم متوجّهين إلى موضع الصياح. ولا يحترمون أحداً. وعصيّ الرماح تهوي بشدّة على الرؤوس والظهور. ويحثّون بعضهم البعض بتهكّمات وشتائم تنصبّ على اليهود: «إلى الجحور يا كلاب! ابتعدوا! اضرب بقسوة هذا المقيت يا ليتشينيو. ارحلوا! إنّ الخوف يجعلكم نتنين أكثر مِن أيّ وقت! إنّما ما الّذي تأكلونه، أيّها الغربان، حتّى تكونوا كريهي الرائحة لهذه الدرجة؟ إنّكَ تُحسِن القول يا باسّو. إنّهم يتطهّرون إنّما ينتنون. أُنظر إلى ذاك ذي الأنف الضخم هناك! إلى الحائط كي نأخذ أسماءكم! وأنتم، يا أشباه البوم، انزلوا مِن فوق. إنّنا نعرفكم على كلّ حال. سيكون على قائد المئة أن ينظّم تقريراً لا بأس به للقائد. لا! هذا اتركه. إنّه رسول للرابّي. ألا ترى أنّ له وجه إنسان لا ابن آوى؟ انظر! انظر كيف يهربون مِن تلك الجهة! ودعهم يرحلون! فكي نقنعهم ينبغي أن نعلّقهم كلّهم على رماحنا! فقط حينئذ نكون قد أخضعناهم! لو أنّ ذلك يكون غداً! آه! إنّما أنتَ مقبوض عليكَ ولن تفلت. لقد رأيتُكَ، أتعلم؟ إنّ أوّل حجر كان حجركَ. سوف تجيب على ضربكَ جنديّاً رومانيّاً… هذا أيضاً. لقد لعننا شاتماً الرايات. آه! نعم؟ حقّاً؟ تعال كي نجعلكَ تحبّها في سجوننا...» وهكذا، بالمهاجمة والسخرية، بتوقيف البعض، بجعل الآخرين يفرّون، فإنّ الجنود يخلون الساحة الواسعة.

 

إنّما فقط حينما يرى اليهود أنّه قد تمّ حقّاً إلقاء القبض على اثنين منهم، فإنّهم يتكشّفون على حقيقتهم، جبناء، جبناء، جبناء. إنّهم إمّا يهربون وهم يقوقئون مثل سرب دجاجات يرى باشقاً ينقضّ، أو يرتمون عند أقدام الجنود لاستجداء الرحمة بخنوع وتملّق مَقيتَين.

 

أحد الضباط، الّذي يتشبّث ببطّتي رجليه عجوز متجعّد هو أحد أكثر الهائجين ضدّ يسوع، داعياً إيّاه "بالشهم والعادل"، يتحرّر منه بهزّة قويّة تقذف باليهودي وهو يتدحرج على بُعد ثلاث خطوات إلى الوراء، ويصيح: «ارحل أيّها الثعلب العجوز الـمَقيت.» ويقول وقد استدار نحو زميل له، ويريه بَطّة رجله: «لديهم أظافر ثعالب ولُعاب حيّات. انظر هنا! بحقّ جوبيتر الأعظم! إنّني ذاهب الآن في الحال إلى الحمّامات لأمحو آثار ذاك العجوز الـمُرَيِّل!» ويمضي بالفعل، ساخطاً، وبَطّة رجله مُعَلَّمة بالخدوش.

 

لقد غاب يسوع عن ناظري تماماً. لا يمكنني القول أين ذهب، ومِن أيّ باب خرج. لقد رأيتُ فقط لبعض الوقت تبرز وتختفي وسط الفوضى، وجوه كلّ مِن ابنيّ حلفى وتوما، الّذين كانوا يجاهدون ليشقّوا لهم طريقاً، ووجوه بعض التلاميذ الرعاة الّذين كانوا منهمكين بفعل الأمر ذاته. بعدها هم أيضاً قد اختفوا. ولم يبق لي سوى النعيق الأخير لليهود الأشرار، المنكبّين على الجري هنا وهناك تجنّباً للإمساك بهم أو التعرّف عليهم مِن قِبَل جنود الفرقة، الّذين لديَّ انطباع أنّه كان بمثابة عيد بالنسبة لهم التمكّن مِن تبريح اليهود ضرباً، للتعويض عن كلّ الكراهية الـمُشبَعين بها تجاههم.

----------

1- [المزامير 82-6].

2- [لاويين 24-11].