ج10 - ف25
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء العاشر
25- (حلول الروح القدس)
27 / 04 / 1947
لا أصوات ولا ضجيج في منزل العلّية. ولا تلاميذ فيه، إنّني على الأقلّ لا أسمع شيئاً يسمح لي بالقول إنّ هناك أشخاصاً مجتمعون في غرف أخرى مِن المنزل. هناك فقط حضور وأصوات الاثنيّ عشر ومريم فائقة القداسة المجتمعين في قاعة العشاء.
الغرفة تبدو أوسع، لأنّ الأثاث، الموضوع بشكل مختلف، يترك كلّ وسط الغرفة وكذلك اثنين مِن الجدران فارغين. الطاولة الكبيرة الّتي تمّ استخدامها للعشاء الأخير قد دُفِعت إلى قرب الحائط الثالث، وبينها وبين الحائط، وكذلك عند الجانبين الأضيق مِن الطاولة، وُضِعت الأرائك الّتي استخدمت في العشاء الأخير وكذلك الطبليّة الّتي استخدمها يسوع لغسل الأقدام. إنّما تلك الأرائك غير موضوعة بشكل عموديّ بالنسبة إلى الطاولة كما كانت في العشاء، بل متوازية معها، بحيث يتمكّن الرُّسُل مِن البقاء جالسين مِن دون أن يشغلوها كلّها، إنّما تاركين إحداها، الوحيدة الموضوعة عموديّاً بالنسبة للطاولة، للعذراء المباركة في وسط المائدة حيث المكان الّذي كان يشغله يسوع عند العشاء.
لا مفارش ولا أواني مائدة على الطاولة، خزائن الصحون خاوية، والزينة نُزِعَت مِن على الجدران. فقط المصباح يتّقد في الوسط، إنّما فقط بشعلته المركزيّة، أمّا الدائرة الأخرى للألسنة الّتي هي كتويج لهذا المصباح الغريب فهي مطفأة.
النوافذ مغلقة وموصدة بقضيب حديديّ ثقيل موضوع بشكل أفقيّ عليها. لكنّ شعاعَ شمس يتسلّل بجسارة عبر ثقب صغير، وينزل مثل إبرة طويلة ودقيقة حتّى الأرضيّة، حيث يرسم بقعة منيرة.
العذراء، الجالسة وحدها على مقعدها، لديها إلى جانبيها بطرس ويوحنّا على مقعدين، بطرس إلى يمينها، ويوحنّا إلى يسارها. ومتّياس، الرسول الجديد، هو بين يعقوب بن حلفى وتدّاوس. أمام العذراء صندوق عريض ومنخفض مِن خشب داكن، وهو مقفل.
مريم ترتدي ثوباً أزرقاً غامقاً. على شعرها حجاب أبيض وفوقه هدب مِن ردائها. الآخرون كلّهم حاسرو الرأس.
مريم تقرأ على مهل وبصوت عالٍ. إنّما، وبسبب شحّ الضوء الّذي يصل إلى هناك، فأنا أظنّها تُردّد مِن الذاكرة بدل أن تقرأ الكلمات المكتوبة على اللّفافة الّتي تبقيها مفتوحة. الآخرون يتابعونها بصمت، متأمّلين. ومِن وقت لآخر يجيبونها فيما إذا اقتضى الأمر ذلك.
وجه مريم متجلٍّ بابتسامة منتشية. مَن يعلم ما الّذي تراه والقادر على جعل عينيها تضطرمان مثل نجمتين نيّرتين، وجعل خدّيها العاجيّين أحمرين، كأنّ شعلة ورديّة كانت تنعكس عليها؟ إنّها حقّاً الوردة الصوفيّة…
الرُّسُل ينحنون إلى الأمام، حيث يجلسون بشكل جانبيّ، كي يروا وجهها فيما تبتسم بعذوبة كبيرة وتقرأ، وصوتها يبدو كنشيد ملائكيّ. وبطرس يتأثّر جدّاً بذلك إلى حدّ أنّ دمعتين كبيرتين تسقطان مِن عينيه، وتنزلان على طول التجاعيد المحفورة على جانبيّ أنفه لتتوها في دغل لحيته الشائبة. لكنّ يوحنّا يعكس ابتسامتها البتوليّة ويتأجّج حبّاً مثلها، فيما يتابع بنظره ما تقرأه العذراء على اللّفافة، وحين يُقدِّم لها لفافة جديدة، ينظر إليها ويبتسم.
القراءة انتهت. صوت مريم يتوقّف، لم يعد يُسمَع حفيف اللّفافات الّتي تُفرَد وتُلَفّ. مريم تستغرق في مناجاة سريّة، ضامّة يديها إلى صدرها، ومُسنِدة رأسها إلى الصندوق. الرُّسُل يقتدون بها…
هدير قويّ جدّاً ومتناغم، يشبه صوت الريح والقيثارة، ويشبه كذلك شدو إنسان وصوت أُرغن رائع، يتردّد بغتة في سكون الصباح. يقترب، بتناغم أكثر وأقوى، ويملأ الأرض باهتزازاته، ينشرها ويطبعها على المنزل، الجدران، الأثاث. وشعلة المصباح الّتي كانت ساكنة حتّى ذلك الحين في سلام الغرفة الـمُقفَلة، تخفق كأنّ ريحاً تنفخ عليها، وسلاسل المصباح الصغيرة ترنّ إذ تهتزّ بفعل موجة الصوت الفائق للطبيعة الّذي يضربها.
يرفع الرُّسُل رؤوسهم مروّعين. وحيث أنّ هذا الصوت الهادر والرائع، الّذي يتضمّن كلّ الأنغام الأكثر روعة الّتي منحها الله للسماء والأرض، يقترب أكثر فأكثر، فالبعض ينهضون مستعدّين للهرب، وآخرون ينكبّون على الأرض مغطّين رؤوسهم بأيديهم وأرديتهم، أو يقرعون صدورهم طالبين الغفران مِن الربّ، آخرون أيضاً يلتصقون بمريم، إذ يمنعهم خوفهم الشديد مِن أن يحافظوا على ذلك التحفّظ الّذي اتّسموا به دوماً حيال الفائقة الطهارة. وحده يوحنّا لا يخاف، لأنّه يرى السلام الساطع للفرح الّذي يرتسم على وجه مريم، الّتي ترفع رأسها مبتسمة لشيء لا يعرفه سواها، والّتي تنزلق بعد ذلك على ركبتيها فاتحة ذراعيها، والطرفان الأزرقان لردائها المفتوح ينبسطان فوق بطرس ويوحنّا، اللذين اقتديا بها وركعا. إنّما كلّ ذلك، الّذي أخذ منّي دقائق لأصفه، حصل في أقلّ مِن دقيقة.
ومِن ثمّ ها هو النور، النار، الروح القدس، يدخل، مع نغم أخير شجيّ، إلى الغرفة المقفلة في هيئة كرة باهرة ومضطّرمة جداً، مِن دون أن يتحرّك باب أو نافذة، ويبقى حائماً لبُرهة فوق رأس مريم، على بُعد نحو ثلاثة أشبار مِن رأسها، الّذي انكشف الآن، لأنّ مريم، وقد رأت النار البارقليط، رفعت ذراعيها كما كي تبتهل إليه، وردّت رأسها إلى الوراء مع صيحة فرح، مع ابتسامة حبّ بلا حدود. وبعد تلك البُرهة الّتي كانت فيها كلّ نار الروح القدس، كلّ الحبّ، قد اجتمع فوق عروسه، تنقسم الكرة الكلّية القداسة إلى ثلاث عشرة شعلة متناغمة وباهرة جدّاً، نور بسطوع لا يمكن لأيّ تعبير أرضيّ أن يصفه، وتنزل لتُقبّل جبهة كلّ رسول.
لكنّ الشعلة الّتي تحلّ على مريم ليست شعلة تهبط على جبهتها لتُقبّلها، بل إكليل يحيط مثل تاج رأسها البتوليّ ويزنّره، مُتوّجاً كَمَلِكة ابنة الله، أُمّه، عروسه، العذراء غير القابلة للفساد، الكلّية الجمال، المحبوبة الأبديّة والطفلة الأبديّة، الّتي لا يمكن أن تُذَلّ لشيء أو بشيء، تلك الّتي شاخت بفعل الألم، إنّما الّتي قامت في فرح القيامة، مُشارِكةً ابنها تعاظم الجمال ونضارة الجسد، الهيئة، الحيويّة... وقد امتلكت مسبقاً مِن جمال جسدها الممجّد الصاعد إلى السماء ليكون زهرة الجنّة.
الروح القدس يجعل شعلاته تتوهّج حول رأس المحبوبة. أيّ كلام قد يكون يقول لها؟ لغز! وجهها المبارك يتجلّى بفرح فائق للطبيعة، ويضحك لضحك السيرافيم، فيما دموع مغتبطة تبرق كماسات تنحدر على خدّي الـمُبارَكة، الـمُنارَين بنور الروح القدس.
تبقى الشعلة هكذا لبعض الوقت... ومِن ثمّ تنقشع... وكذكرى على نزولها يبقى عطر لا يمكن أن يفوح مِن أيّة زهرة أرضيّة... عطر الجنّة…
يعود الرُّسُل إلى رشدهم…
مريم تلبث في نشوتها. فقط تشبك ذراعيها فوق صدرها، تغمض عينيها، تخفض رأسها... تُتابِع حوارها مع الله... فاقدة الشعور بكلّ شيء…
لا يجرؤ أحد على إزعاجها.
يوحنّا يقول وهو يشير إليها: «إنّها المذبح. وعلى مجدها استقرّ مجد الربّ...»
«نعم. دعونا لا نزعج فرحها. إنّما لنذهب ونبشّر بالربّ، ولتكن أعماله وكلماته معروفة وسط الشعوب.» يقول بطرس باندفاع فائق للطبيعة.
«هيّا بنا! هيّا بنا! روح الله يتّقد في داخلي.» يقول يعقوب بن حلفى.
«وهو يحثّنا على العمل. كلّنا. هيّا لنبشّر الناس.»
يخرجون كأنّ ريحاً أو قوّة عظيمة لا تُقاوَم تدفعهم أو تجذبهم.
***
يقول يسوع:
«وهنا ينتهي العمل الّذي أملاه حبّي عليكم، والّذي تلقّيتموه بفعل الحبّ الّذي كَنّه مخلوق لي ولكم.
لقد انتهى اليوم، في يوم إحياء ذكرى القدّيسة زيتا دي لوكا [Santa Zita da Lucca]، الخادمة المتواضعة الّتي خدمت ربّها بمحبّة في كنيسة لوكا هذه، تلك الكنيسة الّتي قدتُ إليها يوحنّاي الصغير [فالتورتا] مِن أمكنة بعيدة لتخدمني بمحبّة، بمحبّة القدّيسة زيتا ذاتها لكلّ التعساء.
زيتا كانت تعطي خبزها للفقراء، متذكّرة أنّني في كلّ واحد منهم، وسيكون الّذين أعطوا خبزاً وشراباً للعطشى والجياع مغبوطين إلى جانبي.
ماريّا-يوحنّا [فالتورتا] أعطت كلماتي لأولئك الّذين يضعفون في الجهل أو في الفتور، أو في الشكّ حيال الإيمان، متذكّرة ما قالته الحكمة بأنّ أولئك الّذين يعانون مِن أجل التعريف بالله سوف يلمعون مثل نجوم في الأبديّة، معتزّين بمحبّتهم، بجعلها معروفة ومحبوبة للكثيرين.
وينتهي اليوم، حيث تَرفع فيه الكنيسة على المذابح زنبقة الحقول الطاهرة، ماريا تيريزا غوريتّي [MariaTeresa Goretti]، الّتي كُسِرت ساقها فيما كان تويجها لا يزال بُرعماً. ومَن كسرها إن لم يكن الشيطان، حاسد ذاك البياض الناصع، الأكثر تألّقاً مِن مظهره الملائكيّ القديم؟ كُسِرَت لأنّها كانت مُكَرَّسة لحبيبها الإلهيّ. ماريا، عذراء وشهيدة عصر الخزي هذا، حيث يُحتَقَر حتّى شرف المرأة، ببصق لعاب الزواحف إنكاراً لقدرة الله على أن يعطي مسكناً مُحَصَّناً لكلمته، الّذي تجسّد بفعل الروح القدس، لتخليص الّذين يؤمنون به.
كذلك ماريّا-يوحنّا [فالتورتا] هي أيضاً ضحيّة الكراهية الّتي لا تريد أن تُكرّم معجزاتي بهذا العمل، الّذي هو سلاح قادر على انتزاع فرائس كثيرة منها. لكنّ ماريّا-يوحنّا [فالتورتا] تعلم أيضاً، كما كانت ماريا تيريزا تعلم، أنَّ الشهيد، مهما كان اسمه وشكله، فهو مفتاحٌ لفتح ملكوت السماوات مِن دون إبطاء لأولئك الّذين يكابدون لمتابعة آلامي.
العمل انتهى.
وبنهايته، بحلول الروح القدس، تُختَتَم الدورة المسيحانيّة الّتي أضاءتها حكمتي، منذ فجرها: الّذي بدأ بالحَبَلِ الطاهر بمريم، حتّى غروبها: حلول الروح القدس. كلّ الدورة المسيحانيّة هي صنيعة روح المحبّة، للّذين يُحسِنون الرؤية. لذلك فقد كان صائباً بدؤها بسرّ الحَبَل الطاهر بعروس المحبّة، وختمها بخاتم نار البارقليط على كنيسة المسيح.
إنّ الأعمال الظاهرة لله، لمحبّة الله، تنتهي بالعنصرة. ومنذ ذلك الحين يستمرّ عمل الله الحميم والخفيّ في مؤمنيه، المتّحدين باسم يسوع في الكنيسة الواحدة، الجامعة، المقدّسة، الرسوليّة، الرومانيّة، والكنيسة، أو بالأحرى تَـجَمُّع المؤمنين ذاك -رعاة، نعاج وحِملان- يمكنها أن تتقدّم مِن دون أن تتوه، بفضل العمليّة الروحيّة المستمرّة للمحبّة، لاهوتيّ اللاهوتيّين، الّذي يُنشئ اللاهوتيّين الحقيقيّين، الّذين تاهوا في الله ويملكون الله فيهم: حياة الله فيهم بفضل إرشادات روح الله الّذي يقودهم، الّذين هم حقّاً "أبناء الله" وفقاً لفكر بولس [رومية 8 : 14 - 17].
وفي ختام العمل، عليّ أن أضع مرّة أخرى الشكوى الّتي وضعتها في نهاية كلّ عام إنجيليّ، وفي خضمّ ألمي لرؤية هبتي مُحتقَرَة، أقول لكم: "لن تنالوا شيئاً آخر طالما أنّكم لم تُحسِنوا تلقّي ما أعطيتُكم." وأقول لكم أيضاً ما جعلتكم تقولونه الصيف الفائت، لأعيدكم إلى الدرب المستقيم: "لن تروني حتّى يأتي اليوم الّذي ستقولون فيه: ’مبارك الآتي باسم الربّ.‘"»
العمل انتهى اليوم 27 نيسان [مايو] 1947
فياريجيو - جادّة فراتّي 113 - ماريا فالتورتا.