ج7 - ف160
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الأول
160- (يسوع يروي مَثَلاً حول توزيع المياه)
05 / 08 / 1964
بالتأكيد إنّ الأخبار بأنّ المعلّم هنا وبأنّه سوف يتحدّث قبل المساء قد انتشرت، ومحيط المنزل يعجّ بأناس يتحدّثون بأصوات خافتة، لأنّهم يَعلَمون بأنّ المعلّم يرتاح، وهم لا يريدون إيقاظه. إنّهم ينتظرون بصبر تحت الأشجار، التي تحميهم مِن الشمس إنّما ليس مِن الحرّ الذي لا يزال شديداً. ليس هناك مرضى، على الأقلّ هذا ما يبدو لي، إنّما، وكالمعتاد، هناك أطفال، وحنّة، في سبيل إبقائهم هادئين، توزّع عليهم بعض الثمار.
لكنّ يسوع لا ينام لفترة طويلة، والشمس لا تزال عالية في الأفق عندما يَظهَر مُزيحاً الستارة ومُبتسماً للجموع. إنّه وحده. على الأرجح لا يزال الرُّسُل نائمين. يسوع يتوجّه نحو الناس ليتوقّف قرب الحافّة المنخفضة لبئر يُستَخدَم بالتأكيد لريّ أشجار البستان، لأنّ قنوات ريّ صغيرة تنطلق بشكل شعاعيّ مِن البئر لتنتشر بين الأشجار. إنّه يجلس على الحافّة المنخفضة ويبدأ بالكلام على الفور.
«اسمَعوا هذا الـمَثَل:
كان لرجل غنيّ الكثير مِن التابعين المنتشرين في أماكن عديدة مِن أملاكه. وهذه لم تكن كلّها غنيّة بالمياه والتربة الخصبة. فهناك أماكن كانت تُعاني مِن شحّ المياه، والناس كانوا يُعانون أكثر بعد، لأنّه وإذا ما كانت الأرض مزروعة بالمزروعات التي يمكن أن تَصمُد أمام الجفاف، فإنّ الناس كانوا يُعانون بشدّة مِن نُدرة المياه. فيما كان للمالك الغنيّ، في المكان حيث كان يقطن، بحيرة غنيّة بالمياه حيث كانت تتدفّق ينابيع جوفيّة.
وذات يوم قرَّرَ القيام بجولة على أملاكه. ورأى أنّ بعض الأماكن، تلك القريبة مِن البحيرة، كانت المياه فيها وفيرة، في حين أنّ أُخرى، التي كانت بعيدة، كانت محرومة مِن الماء، لم يكن لها سوى الكمّيّة الضئيلة التي كان يرسلها الله على شكل مطر. رأى أيضاً أنّ أولئك الذين كانت لديهم مياه وفيرة لم يكونوا طيّبين مع إخوتهم الذين كانوا محرومين منها، وضَنّوا عليهم حتّى مِن دلو مِن الماء، متذرّعين بالخوف مِن البقاء دون ماء. السيّد فَكَّرَ. واتَّخَذَ قراراً: "سوف أُحوُّل مياه بحيرتي نحو أولئك الأقرب إليها، وسوف آمرهم بألّا يمنعوا الماء بعد عن خدّامي البعيدين، الذين يُعانون بسبب جفاف الأرض.
وشَرَعَ بالعمل في الحال، فشقَّ الأقنية التي تنقل مياه البحيرة النقيّة إلى أملاكه الأكثر قُرباً، حيث حَفَرَ خزّانات كبيرة بحيث تتجمّع فيها المياه بكمّيّات، تُضاف إلى ما هو موجود قبلاً في المكان. ومِن هذه شَقَّ أقنية أصغر كي تُغذّي خزّانات أخرى أكثر بُعداً. ثمّ دعا الناس الذين يقيمون في تلك الأمكنة وقال لهم: "تذكّروا أنّني لم أقم بكلّ هذا العمل كي أعطيكم كمّيات إضافيّة مِن الماء، إنّما فعلتُ ذلك كي أُقدّم العون، بواسطتكم، لأولئك الذين يفتقرون حتّى لما هو ضروريّ. فكونوا إذن، رُحماء كما أنا رحيم" وصَرَفهم.
مرَّ بعض الوقت، وقرَّرَ المالك الغنيّ زيارة أملاكه كلّها مجدّداً. ورأى أنّ تلك الأقرب قد أصبحت أكثر جمالاً، ولم تكن زاخرة بالنباتات المفيدة فقط، وإنّما أيضاً بنباتات الزّينة، بالأحواض، بالمسابح، وبالنوافير المنتشرة في بيوتهم في كلّ مكان وفي الجِوار.
"لقد حوّلتم هذه المنازل إلى مساكن أغنياء" عَلَّقَ السيّد. "أنا نفسي ليس لديَّ هكذا جمال مُفرِط"، وسألهم: "هل يأتي الآخرون؟ هل أعطيتموهم بوفرة؟ هل الأقنية الأصغر مُغذّاة؟"
"نعم. لقد حصلوا على قَدر ما طَلَبوا. إنّهم حتّى مُتطلِّبون، لا يَكتَفون أبداً، ليس لديهم حرص ولا معيار، إنّهم يأتون ليَطلبوا باستمرار، كما لو أنّنا خدّام لديهم، وعلينا أن ندافع عن أنفسنا كي نحمي ما هو لنا. ما عادت تُرضيهم الأقنية والخزّانات الصغيرة. يأتون حتّى إلى الكبيرة."
"ألهذا السبب قمتم بتسييج الـمُلكيّات ووضعتم هذه الكلاب الشّرسة عند كلّ واحدة منها؟"
"لهذا السبب يا سيّد. لقد كانوا يَدخُلون دون أيّة مُراعاة، ويَطمَحون لأخذ كلّ شيء منّا، وتخريب كلّ شيء..."
"إنّما أحقّاً كنتم تعطونهم؟ تَعلَمون أنّني فعلتُ كلّ هذا مِن أجلهم، وبأنّني جعلتُكم وسيطاً بين البحيرة وأراضيهم القاحلة؟ لستُ أفهم... لقد استجررتُ مِن مياه البحيرة ما يكفي للجميع، إنّما بلا تبذير."
"ومع ذلك، ثِق تماماً بأنّنا لم نمنع عنهم الماء أبداً."
وانطَلَقَ السيّد نحو أملاكه البعيدة. وكانت الأشجار الباسقة المتكيّفة مع الأرض القاحلة خضراء ومُورِقة. "لقد صَدَقوا القول" قال السيّد وهو يراها مِن بعيد تهتزّ مع الهواء. إنّما عندما اقتَرَبَ منها ومَشى تحتها رأى التربة الجافّة، ورأى العشب الذابل تقريباً الذي كانت النّعاج الهزيلة تنتزعه بمشقّة، ورأى بساتين الخُضار قرب المنازل وقد اجتاحتها الرمال، ومِن ثمّ رأى المزارعين الأوائل: متألّمين، عيونهم محمومة، مَهيضي الجناح... كانوا ينظرون إليه ويخفضون رؤوسهم ويبتعدون كما لو أنّهم كانوا مُرتاعين.
مندهشاً مِن سلوكهم، ناداهم. فدنوا منه مُرتَعِدين. "ممَّ أنتم خائفون؟ ألم أعُد سيّدكم الطيّب الذي رعاكم، والذي بعمل متبصِّر عالَجَ لكم شحّ المياه؟ لماذا تبدو وجوهكم مريضة؟ لماذا هذه الأراضي قاحلة؟ والنّعاج شديدة الهزال؟ ولماذا تبدون مرتاعين منّي؟ تكلّموا بلا خوف. أَخبِروا سيّدكم عن سبب معاناتكم."
تكلَّمَ رجل باسم الجميع. "يا سيّد، لقد أُصِبنا بخيبة أمل كبيرة وحزن كثير. كنتَ قد وعدتَنا بالمساعدة، ونحن قد خسرنا حتّى ما كان لنا قبلاً، وقد فقدنا كلّ أمل فيكَ."
"كيف؟ لماذا؟ ألم أدع المياه الإضافيّة تتدفّق إلى الناس الأقرب، آمراً إيّاهم بأنّ يجعلوكم تستفيدون مِن هذه الكمّيات الإضافية؟"
"أهذا ما قُلتَه؟ حقّاً؟"
"بكلّ تأكيد. إنّ طبيعة الأرض قد منعتني مِن إيصال المياه إلى هنا مباشرة. إنّما كان بإمكانكم، بنيّة طيّبة، الذهاب إلى أقنية الخزّانات الصغيرة مع قُرَب (أوعية مِن جلد يوضع فيها الماء ونحوه) وحمير، وأن تأخذوا بقدر ما تشاؤون. ألم يكن لديكم ما يكفي مِن الحمير والقُرَب؟ أولم أكن هنا كي أعطيكم إيّاها؟"
"هاكُم! أنا قلتُ ذلك! لقد قُلتُ: 'مِن غير الممكن أن يكون السيّد قد أعطى الأمر بمنع الماء عنّا'. أتمنّى لو كنّا قد ذهبنا إليه!"
"لقد كنّا خائفين. كانوا يقولون لنا بأنّ الماء كان مكافأة لهم وبأنّنا كنّا مُعاقَبين." وأَخبَروا السيّد الطيّب أنّ المزارعين الـمُنتَفِعِين مِن الأراضي الخصبة قد قالوا لهم بأنّ المالِك، وفي سبيل معاقبة خُدّام الحقول القاحلة لأنّهم لم يكونوا يعرفون أن يُنتِجوا بوفرة، فقد أعطى الأمر بضبط لا مياه الخزّانات فقط، بل أيضاً مياه الآبار البدائيّة. بذلك إذا كانوا سابقاً ينالون مائتي مقياس مِن الماء يوميّاً لهم وللأراضي، والتي كان عليهم أن يحملوها بمشقّة كبيرة لمسافة طويلة، فإنّهم الآن لا ينالون سوى خمسين مقياساً، وللحصول على ما يكفي للناس والحيوانات، فقد كان عليهم الذهاب إلى السواقي عند حدود الأماكن المحظوظة، حيث كان الماء الذي يفيض مِن الحدائق والحمّامات، وأخذ الماء الـمُوحِل، وكانوا يموتون. كانوا يموتون بسبب الأمراض والعطش، وكانت المزروعات والنّعاج تهلك أيضاً…
"آه! هذا كثير! وعليَّ أن أُنهيه. خُذوا أغراضكم وأمتعتكم وحيواناتكم واتبعوني. سوف تتعبون قليلاً، بسبب الإنهاك الذي أنتم فيه، إنّما بعد ذلك سوف يكون السلام. سوف أمضي على مهل كي يتسنّى لكم بضعفكم أن تتبعوني، مراعاة لضعفكم هذا. إنّني سيّد صالح، أب لكم، وأهتمّ باحتياجات أبنائي." وانطَلَقَ على مهل، يتبعه جَمع الخدّام الحزين وحيواناتهم، وقد بدأوا يَفرحون بتعزية مَحبّة معلّمهم الطيّب.
ووصلوا إلى الأراضي الغنيّة جدّاً بالمياه. ولدى وصولهم، جَمَعَ السيّد بعض الرجال الأقوى فيهم وقال لهم: "اذهبوا واطلبوا باسمي بعض ما يَروي غليلكم."
"وإذا ما أطلَقوا الكلاب علينا؟"
"أنا خلفكم. لا تخافوا. اذهبوا وقولوا بأنّني قد أرسلتُكم وألّا يُغلِقوا قلوبهم دون البرّ، لأنّ المياه كلّها ملك لله وأنّ كلّ البشر إخوة. وليَفتحوا الأقنية في الحال."
ذَهَبوا وخلفهم المالك. وتوقّفوا عند إحدى البوّابات، واختبأ السيّد خلف السّور. ونادوا. وهرع المزارعون.
"ماذا تريدون؟"
"ارحمونا. إنّنا نموت. لقد أَرسَلَنا المعلّم الذي أَمَر بأن نأخذ الماء الذي جَلَبَه إلى هنا مِن أجلنا. لقد قال بأنّ الله قد أعطاه إيّاه، وهو قد أعطاه لكم مِن أجلنا لأنّنا إخوة، وقال بأنّ عليكم أن تَفتحوا الأقنية في الحال."
"آه! آه!" قال القُساة ضاحكين. "هذا القطيع بالثياب الرثّة إخوة لنا؟ تَهلكون؟ فليكن. سوف نستولي على أراضيكم، وسوف نُوصِل الماء إلى هناك. سوف نُوصِله بالتأكيد إلى هناك في هذه الحالة! وسوف نجعل الأماكن خصبة. الماء لكم؟ أغبياء! الماء لنا."
"ارحمونا. إنّنا نموت. افتحوا، إنّها أوامر المعلّم."
وتشاوَرَ المزارعون الأشرار فيما بينهم، ثمّ قالوا: "انتَظِروا لحظة" وانصَرَفوا راكضين. ثمّ عادوا وفتحوا. إنّما كان معهم كلاب وهراوات غليظة... المساكين خافوا. "ادخلوا، هيّا... ألن تدخلوا الآن وقد فتحنا لكم؟ وبعدها ستقولون بأنّنا لم نكن كُرماء... واحد مِن الرجال متهوّر دَخَلَ، وهَلَّ عليه وابل مِن الضربات، بينما انقضّت الكلاب الشرسة التي أُفلِتت على الآخرين.
وخَرَجَ المالك مِن خلف السّور. "ما الذي تفعلونه أيّها القُساة؟ الآن عرفتُ حقيقتكم وحقيقة حيواناتكم، ولسوف أضربكم" وأَطلَقَ سهاماً على الكلاب ثمّ دَخَلَ، قاسياً وغاضباً. أهكذا تُنفّذون أوامري؟ ألهذا أعطيتُكم هذه الثروات؟ نادوا كلّ أفراد جماعتكم. أريد أن أُكلّمكم. وأنتم" قال مخاطباً الخدّام العِطاش "ادخلوا مع نسائكم وأولادكم، مع نعاجكم وحميركم، مع طيور الحَمام خاصّتكم وكلّ حيواناتكم، واشربوا وانتعِشوا، واقطفوا هذه الثمار الكثيرة العُصارة، وأنتم، أيّها الأطفال الصغار الأبرياء، اركضوا بين الزهور. ابتهجوا. العدل في قلب المعلّم الصالح، والبرّ سيكون للجميع."
وفيما كان العطاش يَهرَعون إلى الخزّانات، ويغطسون في المسابح، والمواشي تمضي إلى الأحواض، وكان يغمرهم الفرح، فإنّ الآخرين كانوا يأتون مِن كلّ الاتّجاهات والخوف بادٍ عليهم.
وصَعَدَ المالك إلى حافّة خزّان وقال: "لقد أنجزتُ كلّ هذا العمل وجعلتُكم مؤتمَنين على أوامري وعلى هذه الكنوز، لأنّني اخترتكم لتكونوا مسؤولين لديَّ. لقد فشلتم في الاختبار. لقد كنتم تبدون صالحين. وكان عليكم أن تكونوا كذلك، لأنّ المفروض أن يجعلكم الرّخاء صالحين، وممتنّين لِمَن أَحسَنَ إليكم، وأنا قد أنعمتُ عليكم بمنحكم حقّ الإقامة في هذا الأرض ذات المياه الوافرة. فكنتم تعتبرون الوفرة واختياري لكم امتيازاً لكم وحدكم. إنّما هكذا وَفرة ومعها حرية الاختيار قد جعلتكم قُساة القلوب، وأكثر جفافاً مِن الأرض التي تسبّبتم بجفافها تماماً، ومرضى أكثر مِن هؤلاء الذين يحرقهم الظمأ. لأنّه يمكن للماء بالفعل أن يشفيهم، أمّا أنتم، بأنانيّتكم، فقد أحرقتم أرواحكم التي مِن غير المرجّح أن تتعافى، وبصعوبة شديدة يمكن لمياه المحبّة معاودة الجريان فيكم. والآن أعاقبكم. ارحلوا إلى أراضيهم وعانوا ما قد عانوه."
"الرحمة يا سيّد! ارحمنا! أتريدنا أن نهلك؟ أأنتَ أقلّ إشفاقاً علينا نحن البشر ممّا نحن عليه تجاه الحيوانات؟"
"وهؤلاء مَن يكونون؟ أليسوا بشراً، إخوتكم؟ أيّة رحمة كانت لديكم؟ لقد كانوا يطلبون منكم الماء وكنتم تعطونهم ضربات عصيّ وتُعاملونهم بازدراء. لقد كانوا يطلبون منكم ما هو لي وكنتُ قد منحتُه لكم، وأنتم منعتموه عنهم قائلين بأنّه 'لكم'. لِمَن هو الماء؟ حتّى أنا لستُ أقول بأنّ ماء البحيرة هو لي رغم أنّني مالك البحيرة. الماء لله. مَن منكم قد خَلَقَ قطرة واحدة مِن الندى؟ ارحلوا!... ولكم، لكم يا مَن عانيتم، أقول: كونوا صالحين. افعلوا لهم ما كنتم تَودّون أن يفعلوه لكم. افتحوا الأقنية التي أغلَقوها ودعوا الماء يتدفّق إليهم، في أقرب وقت ممكن. إنّني أُقيمكم موزّعيَّ لهؤلاء الإخوة المذنبين، الذين أترك لهم الوسائل والوقت كي يُكفّروا عن أنفسهم. والعليّ، أكثر منّي، يعهد إليكم بثروة مياهه. كي تكونوا حَسَني التدبير تجاه أولئك الذين لا يملكونه. وإذا ما عرفتم القيام بذلك بمحبّة وبرّ، قانِعِين بما هو ضروريّ، مُقدِّمين ما هو زائد للفقراء، عادلين، غير مدّعين أنّكم مالكون لما وُهِب لكم، بل الذي هو وَديعة أكثر منه هبة، فسلامكم سوف يكون عظيماً، ومحبّة الله ومحبّتي سوف ترافقكم على الدوام."
تلك هي نهاية الـمَثَل والجميع يمكنهم فهمه. إنّني فقط أقول لكم بأنّ الأغنياء هم المؤتَمَنون على الثروة الممنوحة لهم مِن الله، مع أمره بتوزيعها على مَن يُعانون. فَكِّروا بالتكريم الذي يمنحه لكم الله بدعوتكم كي تكونوا شركاء في عمل العناية الإلهيّة لصالح الفقراء والمرضى، لصالح الأرامل واليتامى. بوسع الله أن يُمطِر مالاً، ثياباً، وطعاماً على خُطى الفقراء. إنّما سيَحرم بذلك الأغنياء مِن استحقاقات عظيمة: استحقاقات المحبّة تجاه إخوتهم. لا يمكن لكلّ الأغنياء أن يكونوا علماء، إنّما بإمكانهم كلّهم أن يكونوا صالحين. ليس بوسع كلّ الأغنياء الاعتناء بالمرضى، دفن الموتى، زيارة المرضى والسجناء. إنّما يمكن لكلّ الأغنياء، وحتّى لأولئك الذين ليسوا فقراء، أن يُعطوا رغيف خبز، جرعة ماء، ثوباً لم يعد يُلبَس، بإمكانهم أن يستضيفوا قرب مواقدهم أولئك الذين يرتجفون برداً، وبإمكانهم أن يمنحوا ملجأً لِمَن لا سقف لهم، والذين هم عرضة للمطر والحرّ. إنّ الفقير هو مَن يفتقر إلى ما هو ضروريّ للعيش. أمّا ما عداهم فهم ليسوا فقراء. مواردهم محدودة، إنّما يظلّون أغنياء بالمقارنة مع أولئك الذين يموتون مِن الجوع، مِن الفاقة والبرد.
إنّني راحل. لم يعد بإمكاني مساعدة فقراء هذه المنطقة. وقلبي يتألّم فيما أفكّر أنّهم يَخسَرون صديقاً... أنا الذي أتحدّث إليكم، وأنتم تعرفون مَن أكون، أطلب منكم أن تكونوا العَون للفقراء الذين سيلبثون دون صديقهم الرَّحوم. امنحوهم الصدقات وأحِبّوهم باسمي ولِذِكري... كونوا استمراريّتي. سَكِّنوا قلبي الـمُنهك بهذا الوعد: بأنّكم سَتَرَونني دوماً في الفقراء، وبأنّكم ستتقبّلونهم باعتبارهم الممثِّلين الأكثر تجسيداً للمسيح الفقير، الذي أراد أن يكون فقيراً محبّة بمن هم الأكثر تعاسة على الأرض، وكي يُكفّر، مِن خلال فقره ومحبّته المتّقدة، عن تبذير البشر الجائر وأنانيّاتهم.
تذكّروا! إنّ المحبّة والرحمة هما مَوضع مكافأة للأبد. وتذكّروا! أنّ المحبّة والرحمة يحلّان مِن الخطايا. إنّ الله يغفر كثيراً لِمَن يحبّ. والمحبّة تجاه الفقراء غير القادرين على السّداد هي الأكثر استحقاقاً في عينيّ الله. تذكّروا الكلمات التي أقولها لكم حتّى نهاية الحياة ولسوف تكونون مُخلَّصين ومغبوطين في ملكوت الله.
لتحلّ بركتي على أولئك الذين يَقبَلون كلمة الربّ ويَعمَلون بها.»
خرج الرُّسُل ومارغزيام مع التلاميذ مِن المنزل بهدوء بينما كان يتكلّم، وشَكَّلوا مجموعة متراصّة وراء الجمع. لكنّهم تَقدَّموا إلى الأمام حينما أنهى يسوع كلامه، وبينما يتقدّمون فقد كانوا يجمعون أثناء مرورهم الصّدقات المقدّمة مِن الكثيرين ويحملون المال إلى يسوع.
يتبعهم رجل ضعيف البنية ويبدو عليه الفقر الـمُدقِع. إنّه يمشي حانياً رأسه كثيراً لدرجة أنّني لا أستطيع رؤية وجهه. إنّه يقترب مِن قدميّ يسوع وهو يَقرَع صدره نائحاً: «لقد خطئتُ يا ربّ، وأنتَ قد عاقبتَني. لقد استحققتُ ذلك. إنّما على الأقلّ اغفر لي قبل أن تغادر. ارحم يعقوب الخاطئ!» يَرفَع وجهه وأتعرّف عليه لأنّه ذَكَرَ اسمه أكثر منه مِن مظهره البائس، إنّه الفلّاح التي تمّت مساعدته مرّة، وعُوقِب فيما بعد بسبب قسوته تجاه اليتيمَين.
«مغفرتي! منذ وقت قصير أردتَ الشفاء مِن ذلك. وقد كنتَ قَلِقاً مِن فساد حبوبكَ. وهؤلاء الرُّسُل قد بَذَروا مِن أجلكَ. أَمِن الممكن ألاّ يكون لديكَ خبز؟»
«لديَّ ما يكفي»
«أوليست تلك مغفرة يا ترى؟» يسوع صارم جدّاً.
«لا. إنّني أُفضّل الموت جوعاً إنّما أن أشعر بأنّ نفسي في سلام. لقد حاولتُ أن أُكفّر بالقليل الذي كان لديَّ... لقد صلّيتُ وبكيتُ... إنّما أنتَ وحدكَ مَن يستطيع أن يغفر ويمنح السلام لروحي. يا ربّ، لا أطلب منكَ سِوى المغفرة...»
يسوع يُحدّق بالرجل... يجعله يرفع رأسه الذي أَخفَضَه، ويسبره بعينيه الساطعتين فيما هو منحنٍ قليلاً فوقه... ومِن ثمّ يقول: «امضِ. سوف يُغفَر أو لن يُغفَر لك وفقاً للكيفيّة التي ستعيش بها في الزمن المتبقّي لكَ.»
«آه! ربّي! ليس هكذا! لقد غفرتَ خطايا أعظم...»
«إنّ مرتكِبيها لم يكونوا أشخاصاً نالوا إحسانات مثلكَ، وهم لم يخطئوا بحقّ أطفال أبرياء. إنّ المسكين مقدّس على الدوام، إنّما اليتامى والأرامل فهم الأكثر قدسيّة مِن الجميع. ألا تعرف الشريعة؟...»
الرجل يبكي. لقد كان يريد أن يُغفَر له في الحال.
يسوع يَصمد: «لقد سَقطتَ مرّتين ولم تكن مستعجلاً على النهوض... تذكّر. إنّ ما سَمَحتَ به، أنتَ الإنسان لنفسكَ، يَسمَح به الله لنفسه. إنّ الله يظلّ طيّباً جدّاً إذا ما قال لكَ بأنّه لا يرفض المغفرة بشكل مُطلَق، بل يجعلها مشروطة بالكيفيّة التي ستحيا بها حتّى مماتكَ. اذهب.»
«على الأقلّ باركني... لكي أحظى بمزيد مِن القوّة لأكون بارّاً.»
«لقد سَبَقَ أن مَنَحتُ بركتي.»
«لا، ليس هكذا. باركني على نحو خاص. إنّكَ ترى قلبي...»
يسوع يضع يده على رأس الرجل ويقول: «لقد سبق أن قُلتُ. إنّما فلتقنعكَ هذه الملامسة بأنّني وإن كنتُ صارماً، فأنا لا أكرهكَ. إنّ محبّتي الصارمة هي في سبيل تخليصكَ، ومعاملتي لكَ كصديق تعيس، ليس لأنّكَ فقير، بل لأنّكَ كنتَ شرّيراً. تذكّر بأنّني أحببتُكَ، وبأنّني ترأّفتُ بروحكَ، ولتستحثّكَ هذه الذكرى كي تحصل على صداقتي، التي لم تعد صارمة.»
«متى يا ربّ؟ أين سأجدكَ إذا كنتَ تقول بأنّكَ تمضي؟»
«في مملكتي.»
«أيّة مملكة؟ أين ستؤسّسها؟ سوف آتي إليها...»
«مملكتي ستكون في قلبكَ إذا ما جعلتَه صالحاً، ومِن ثمّ ستكون في السماء. الوداع. يجب أن أرحل لأنّ الظلام يحلّ وعليَّ أن أُبارك أولئك الذين سأفارقهم» ويصرفه يسوع، ثمّ يتوجّه إلى التلاميذ وإلى صاحب وصاحبة المنزل ويباركهم فرداً فرداً. ومِن ثمّ يستأنف رحلته بعدما يعطي المال ليهوذا…
إنّه يختفي في الريف الأخضر فيما يسير نحو الجنوب الغربي باتّجاه كفرناحوم…
«إنّك تُفرِط بالسير يا معلّم!» يهتف بطرس. «إنّنا مُتعَبون. لقد قطعنا أشواطاً كثيرة...»
«كُن طيّباً يا سمعان. قريباً سنكون على مرأى مِن كورازين. ستَدخُلون البلدة داعين القلّة مِن البيوت الصديقة وخصوصاً بيت الأرملة، وستقولون للصغير يوسف بأنّني أريد أن أحيّيه عند الفجر. سوف تُحضِرونه لي عند الطريق التي تصعد صوب جيسكالا...»
«إنّما ألا تَدخُل إلى كورازين؟»
«لا. سوف أصعد إلى الجبل كي أصلّي.»
«إنّكَ خائر القوى تماماً. إنّكَ شاحب. لماذا تُهمل نفسك؟ ولماذا لا تأتي معنا؟ لماذا لا تَدخُل إلى البلدة؟» إنّهم يُغرِقونه بالأسئلة. إنّ عاطفتهم مُتعِبة في بعض الأحيان.
لكنّ يسوع حَليم... ويُجيب بِطول أَناة: «إنّكم تَعلَمون جيّداً! الصلاة هي راحة بالنسبة لي. إنّه لأمر مُضنٍ أن أكون وسط الناس حيث لا أشفي ولا أبشّر. سأصعد إذاً إلى الجبل. إلى حيث ذهبتُ في مرّات أُخرى. إنّكم تعرفون المكان.»
«عند الدرب الذي يؤدّي إلى منزل يواكيم؟»
«نعم. تعرفون أين تجدونني. عند الفجر سآتي وألاقيكم...»
«و... هل سنمضي نحو جيسكالا؟»
«إنّها الطريق الصحيحة للتوجّه نحو التخوم السورية-الفينيقيّة. لقد قلتُ للناس في أَفِيقَ بأنّني سوف أذهب إلى هناك، وسوف أذهب.»
«المسألة أنَّ... ألا تَذكُر المرّة السابقة؟»
«لا تخف يا سمعان. لقد غَيّروا أسلوبهم. إنّهم الآن يُظهِرون لي التكريم...»
«آه! إذن فهم يحبّونكَ.»
«لا. إنّهم يكرهونني أكثر ممّا كانوا عليه في السابق. إنّما وبما أنّهم غير قادرين على القضاء عليَّ بما لديهم مِن قوّة، فإنّهم يُحاوِلون فِعل ذلك بِحِيلهم. إنّهم يُحاوِلون إغواء ’الإنسان‘... ولتحقيق ذلك فَهُم يَستَخدِمون التكريم، حتّى ولو كان زائفاً. على العكس ... تعالوا إلى هنا بقربي، كلّكم» يقول بعدئذ للآخرين الذين كانوا يتقدّمون جماعة وقد رأوا أنّ يسوع كان يتحدّث مع بطرس على انفراد.
يَجتمعون معاً. يقول يسوع: «كنتُ أقول لسمعان -وأقول ذلك للجميع، حيث إنّ لا أسرار لديَّ أُخفيها عن أصدقائي- لقد كنتُ أقول لسمعان بأنّ أولئك الذين يُعادونني قد غيّروا مِن أسلوبهم في سبيل إيذائي، ولكنّهم لم يُغيّروا أفكارهم حيالي. كذلك، فيما كانوا سابقاً يستعملون الشتائم والتهديد، فإنّهم الآن يُعوّلون على التكريم، لي، وبالتأكيد لكم أيضاً. فكونوا أقوياء وحُكَماء. لا تَدَعوا كلامهم الكاذب، ولا هداياهم وإغواءاتهم تخدعكم. تذكّروا ما يقوله سفر تثنية الاشتراع: "الهدايا تعمي عيون الحُكماء، وتُزوّر كلام الأبرار". تذكّروا شمشون. لقد كان نذيراً لله منذ مولده، مِن بطن أُمّه، التي حَبِلَت به وربّته على التعفّف بأمر الملاك، كي يكون قاضياً عادلاً لإسرائيل. إنّما أين انتهى كلّ هذا الخير؟ وكيف؟ وعلى يد مَن؟ ألم يكن بالتكريم، بالمال والنسوة المأجورات لهذا الهدف، قد انهارت قوّته لتنفيذ ألاعيب الأعداء؟ الآن كونوا فَطِنين واسهروا لئلّا تُفاجأوا وتَخدموا الأعداء حتّى ولو عن غير قصد. اجهدوا كي تظلّوا أحراراً كالطيور، التي تُفضّل فُتات الطعام وغصناً تستريح عليه، على الأقفاص الذهبيّة حيث الطعام وفير والعُشّ مُريح، إنّما حيث تكون أسيرة أهواء البشر. تذكّروا بأنّكم رُسُلي وبالتالي خُدّام لله فقط، كما أنا مُكرّس فقط لمشيئة الآب. سوف يحاولون إغواءكم، وربّما قد فَعَلوا ذلك بالفعل، مُتصيِّدين كلّ واحد منكم مِن نقاط ضعفه، ذلك أنّ خُدّام الشرّ ماكِرون، حيث أنّهم قد تتلمذوا على يد الشرّير. لا تُصدّقوا كلامهم. إنّهم ليسوا صادقين. فإذا ما كانوا كذلك، لكنتُ أوّل مَن يقول لكم: "لنرحّب بهؤلاء الناس كإخوة لنا طيّبين." إنّما على العكس، يجب عدم الوثوق بأفعالهم وأن نصلّي مِن أجلهم، ليصيروا صالحين. أنا أفعل ذلك. وأنا أصلّي مِن أجلكم، لئلّا يَخدعكم أسلوب الحرب الجديد هذا، وأصلّي مِن أجلهم، لعلّهم يتوقّفون عن نصب الشِّراك لابن الإنسان، ويتوقّفون عن الإساءة لله أبيه. وأنتم اقتدوا بي، صلّوا كثيراً للروح القدس، ليمنحكم النور كي تروا بوضوح، وكونوا أنقياء، إذا ما أردتموه صديقاً لكم. أريد أن أُقوّيكم قبل أن أغادركم. إنّني أُحِلّكم إذا ما خطئتم حتّى الآن. إنّني أُحِلّكم مِن كلّ شيء. كونوا صالحين في المستقبل. طيّبين، حكماء، عفيفين، متواضعين وأوفياء. ولتقوِّكم نعمة مغفرتي... لماذا تبكي يا أندراوس؟ وأنتَ، لِـمَ أنتَ مُضطَرِب يا أخي؟»
«لأنّ هذا يبدوا لي وكأنّه وداع...» يقول أندراوس.
«وهل تظنّ بأنّني قد أودّعكَ بكلام قليل للغاية؟ إنّها نصيحة للأيّام الحاضرة. أرى بأنّكم مُضطَربِون كلّكم. يجب ألّا يَحدُث هذا. الاضطراب يُعكّر السلام. يجب أن يكون السلام فيكم دوماً. إنّكم في خدمة السلام وهو يحبّكم كثيراً لدرجة أنّه اختاركم كخُدّام له أوائل. إنّه يحبّكم. فإذن يجب أن تضعوا في اعتباركم بأنّه سيُعينكم دوماً، حتّى حينما تَلبَثون وحيدين. الله هو السلام. وإذا ما كنتم أوفياء لله، فهو سوف يكون فيكم. ومعه وهو فيكم، فما الذي يخيفكم؟ وما الذي يمكنه فصلكم عن الله، إذا لم تَضَعوا أنفسكم في موقف قد يتسبّب بخسارتكم له؟ الخطيئة وحدها هي التي تفصل عن الله. أمّا الباقي: التجارب، الاضطهادات، الموت، حتّى الموت لا يفصل عن الله. بل يُقرّبكم مِن الله أكثر، لأنّ كلّ تجربة يتمّ التغلّب عليها ترتقي بكم درجة نحو السماء، إذ إنّ الاضطهادات تُكسِبكم محبّة واقية مُضاعَفَة مِن الله، وموت قدّيس أو شهيد هو ليس سوى اتّحاد مع الربّ الإله. الحقّ أقول لكم أنّه وباستثناء أبناء الهلاك، فلا أحد مِن تلاميذي العظماء سوف يموت قبل أن أفتح أبواب السموات. وبناءاً عليه فلن يكون على أحد مِن تلاميذي الـمُخلِصين أن ينتظر معانقة الله بعد الانتقال مِن هذا المنفى المظلم إلى أنوار الحياة الأُخرى. ما كنتُ لأقول لكم ذلك لو لم يكن صحيحاً. إنّكم تَرَون بأنفسكم. حتّى اليوم كنتم قد رأيتم إنساناً قد عاد إلى طريق البرّ بعد الضلال. عليكم ألّا تُخطِئوا. لكنّ الله رحوم ويغفر للذي يتوب. ويمكن للذي يتوب أن يتفوّق على مَن لم يخطئ، إذا كانت توبته تامّة، وإذا ما كانت الفضيلة، التي تتبع توبته، بطوليّة. سيكون أمراً رائعاً جدّاً أن نلتقي هناك في الأعالي! أن أراكم تصعدون إليَّ، فيما أنا أهرع لملاقاتكم واحتضانكم، مصطحباً إيّاكم إلى أبي قائلاً: "ها هو واحد مِن أحبّائي. إنّه لطالما أحبَّني ولطالما أحبَّكَ منذ أن حدّثتُه عنكَ. وها قد أتى الآن. بارِكه يا أبي، ولتكن بركتكَ إكليله المشعّ." يا أصدقائي... أصدقائي هنا وأصدقائي في السماء. ألا يبدو لكم بأنّها هَيّنة كلّ تضحية في سبيل الحصول على هكذا فرح أبديّ؟ ها قد استعدتم هدوءكم الآن. لنفترق هنا. إنّني صاعد إلى الأعلى، وأنتم كونوا طيّبين... فلنُقبّل بعضنا...»
يُقبّلهم واحداً واحداً. يهوذا يبكي وهو يُقبّله. لقد انتَظَرَ ليكون الأخير، على الرغم مِن أنّه دائماً ما يسعى كي يكون الأوّل، ويبقى مُعانِقاً يسوع، يُقبّله عدّة مرّات، ويهمس مِن بين شعره، قريباً مِن أذنه: «صلّ، صلّ، صلّ لأجلي...»
يَفترقون، يسوع يمضي نحو التلّة والآخرون يتابعون المضيّ إلى كورازين التي قد بدت بيضاء وسط خُضرة الأشجار.