ج4 - ف114

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

114- (المثابرة. هرمست الذي مِن أشقلون.)

 

12 / 08 / 1945

 

يَصِل يسوع، في ساعات الصباح الأولى، أمام مدينة ساحليّة. أربعة مَراكِب تتبع مَركبه. تمتدّ المدينة بشكل غريب داخل البحر، كما لو أنّها بُنِيَت على بَرزَخ (أرض ضيّقة محصورة بين بحرين) أو بالحريّ كأنّ بَرزَخاً ضيّقاً كان يَصِل الجزء الذي يطفو على البحر بذاك الذي يمتدّ على الشاطئ.

 

مَشهَد البحر وكأنّه قطعة فِطر ضخمة، يمتدّ رأسها على الأمواج، وتغوص جذورها على الشاطئ. البَرزَخ ساقها. مرفأ على كلّ مِن جانِبيّ البَرزَخ. الذي في الجهة الشماليّة أقلّ انغلاقاً، ويَغصّ بالزوارق الصغيرة؛ الآخَر الذي في الجهة الجنوبيّة، مَحميّ بشكل أفضل، وفيه سفن كبيرة تجيء وتروح.

 

«يجب الذهاب إلى هناك.» يقول إسحاق، وهو يُشير بإصبعه إلى مرفأ الزوارق الصغيرة. «هناك هم الصيادون.»

 

يَدورون حول الجزيرة، أُلاحظ أنّ البَرزَخ اصطناعيّ، هو عَرِمَة (سدّ يُبنى في وجه الموج) عملاقة، تَصِل الجزيرة بالأرض الصلبة. كانت عمليّة البناء قديماً تجري بلا عناء ولا صعوبة! هذا ما أَستَنتِجه مِن ذاك العمل وذاك العدد مِن السفن في المرافئ، كم المدينة غنيّة وتجاريّة. خلف المدينة، بعد منطقة مُنبَسِطة، هناك مرتفعات صغيرة ممتعة الـمَظهَر، وفي البعيد البعيد يُرى حرمون والسلسلة اللبنانيّة. وأَخلُص كذلك إلى أنّها إحدى المدن اللبنانيّة التي كنتُ أراها.

 

يَصِل مَركَب يسوع الآن إلى المرفأ الشماليّ، في مرسى المرفأ. لا يرسو ولكنّه يمضي ببطء، بقوّة التجديف إلى الأمام وإلى الخلف، حتّى يَجِد إسحاق أولئك الذين يبحث عنهم، ويناديهم بعالي صوته.

 

يتقدَّم مَركَبا صيد جميلان، وينحني الفريق على مَراكِب التلاميذ الأصغر حجماً.

 

«المعلّم معنا أيّها الأصدقاء. تعالوا إذا أردتم سماع كلامه. فإنّه سيعود هذا المساء إلى سيكامينون [حيفا].» يقول إسحاق.

 

«نأتي في الحال. أين نذهب؟»

 

«إلى مكان هادئ. لن يَنـزِل المعلّم في صور، ولا في المدينة التي على الساحل. سيتحدّث مِن الـمَركَب. اختاروا مكاناً ظَليلاً ومَحميّاً.»

 

«تعالوا صوب الصخور التي خلفنا. فهناك خِلجان هادئة وظَليلة. ويمكنكم حتّى النـزول.»

 

يَمضُون إلى ركن صخريّ، إلى الشمال أكثر. الضفّة مقطوعة عمودياً، تقي مِن الشمس. المكان مُنعَزِل. فقط النوارس والورشانات تَقطُنه. تَخرُج في غَزَوات على البحر وتعود إلى أعشاشها في الصخور، مُطلِقَة صيحات عالية.

 

تنضَمّ زوارق أخرى إلى تلك، مُشَكِّلة أسطولاً صغيراً. في عمق الخليج الصغير، هناك ساحل ضيّق، بل هو شِبه ساحل: ساحة ضيّقة مزروعة حصى. إنّما تتّسع لحوالي المائة شخص.

 

يَهبُطون مُستَخدِمين رصيفاً بحريّاً عريضاً ومسطّحاً يطفو على وجه المياه مثل حاجز للأمواج طبيعي، ويتَّخِذون أماكنهم على الساحل الحَصَويّ الصغير المتلألئ بفعل الملح. إنّهم رجال سُمر، هَزيلون، أحرَقَتهُم الشمس والبحر. ثياب داخليّة قصيرة تكشف عن هُزال أعضائهم ورشاقتها. فَرق الأصول واضح جدّاً بينهم وبين اليهود الحاضرين، ولكنّه غير واضح مع الجليليّين. أقول إنّ فينيقيّي سورية هؤلاء يُشبِهون بالأحرى الفلسطينيّين البعيدين، أكثر مِن الشعوب الـمُجاوِرة لهم. أقلَّه أولئك الذين أراهم.

 

يُدير يسوع ظَهره للشاطئ ويبدأ الحديث.

 

«نقرأ في سفر الملوك كيف أَمَرَ الربّ إيليا أن يمضي إلى صرفت من أعمال صيدون، أثناء الجَّفاف والقَحط الـمُرهِق للأرض أكثر مِن ثلاث سنوات.

 

لَم يَفتَقِر الربّ إلى الوسائل التي بها يُشبِع نبيّه في أيّ مكان. ولَم يُرسِله إلى صرفت، لأنّ تلك المدينة كانت جيّدة التموين. لا، فهناك أيضاً كانوا يَموتون جوعاً. لماذا إذاً أرسَلَ الله إيليا التِّشْبِيُّ؟

 

في صرفت كانت امرأة، قلبها مستقيم، أرملة وقدّيسة، وكان لها وَلَد. كانت فقيرة، وحيدة، وكانت مع ذلك غير مُعتَرِضة على ذلك القصاص الرهيب، لَم تكن أنانيّة، رغم جوعها، ولم تكن غير مُطيعة. وشاء الله أن يُنعِم عليها بمعجزات ثلاث. واحدة مِن أجل الماء الذي كانت قد حَمَلَته إلى إيليّا العطشان، الثانية مِن أجل الخبز الذي تمّ خَبزه تحت الرماد، عندما لم يكن قد بقي لديها سوى قَبضَة مِن طحين، والثالثة مِن أجل الضيافة المقدَّمة للنبيّ. فَمَنَحَها الخبز والزيت وحياة ابنها ومعرفة كلمة الله.

 

تَرَون أنّ فِعل محبّة لا يُشبع الجسد ويُزيل ألم الموت وحَسب، ولكنّه يثقِّف النَّفْس بحكمة الربّ.

 

أنتم قدَّمتُم السَّكَن لِخُدّام الربّ، وهو يمنحكم كلمة الحكمة. على هذه الأرض حيث لا تَصِل كلمة الربّ، فها إنّ فِعل صَلاح يَجلبها. يمكنني مقارنتكم بامرأة صرفت الوحيدة التي استقبَلَت النبيّ. أنتم كذلك، الوحيدون هنا، الذين استقبلتم النبيّ، ذلك أنّني لو نَزلتُ في المدينة، فإنّ الأغنياء وذوو النفوذ لَم يكونوا لِيَستقبلوني، التجّار الـمُنهَمِكون، وقَباطنة السفن الكبيرة كانوا سَيُهملونني، ولكان بقي قدومي بِلا أَثَر.

 

سأترككم الآن، وسوف تقولون: "ولكن ماذا نكون؟ حَفنة مِن رجال. ماذا نَملِك؟ نقطة مِن حكمة." ومع ذلك أقول لكم: "أترُككم مع مَهمّة الإعلان عن زمن الفِداء". أترككم مُكرِّراً كلّمات النبيّ إيليّا: "جَرَّة الطحين لا تَفرَغ وقارورة الزيت لا تَنقُص، إلى يوم يأتي مَن يُوزِّعها بسخاء أكبر".

 

ولقد فَعَلتُم ذلك، إذ يوجد بينكم هنا فينيقيّون قد أتوا مِن وراء الكرمل. وهذا يعني بأنَّكم قد تحدَّثتم لهم بمثل ما قيل لكم. تَرَون أنّ قَبضة الدقيق ونقطة الزيت لَم يَنفَذا، بل على العكس، لَم يتوقّفا عن الازدياد. وإذا بَدا لكم الأمر غريباً أن يختاركم الله لهذا العمل، بينما أنتم تَشعُرون أنّكم غير أهل لإنجازه، فقولوا كلمة الثقة العظيمة: "أَفعَل ما تقول، واثِقاً بكلمتكَ".»

 

«يا معلّم، ولكن كيف نتصرّف مع هؤلاء الوثنيّين؟ فنحن إذا كنّا نَعرِفهم، فَمِن خلال الصيد، لأنّ الذي يجمعنا هو العمل نفسه. أمّا الآخرون؟» يَسأَل صيّاد مِن إسرائيل.

 

«تقول: العمل نفسه يَجمَعنا. وإذن أَفَلا يُفتَرَض أن يجمعكم الـمَنشَأ نفسه؟ فلقد خَلَقَ الله الإسرائيليّين كما خَلَقَ الفينيقيّين. وأولئك الذين في سهل شارون أو اليهوديّة العليا، لا يَختَلِفون عن الذين في هذا الساحل. الفردوس لكلّ أبناء البشر هو، على السواء. وابن الإنسان أتى لِجَلب كلّ الناس إلى الفردوس. الهدف هو بلوغ السماء لِيَفرَح الآب. فلتَجِدوا أنفسكم إذن على الدرب ذاته، وأَحِبّوا بعضكم روحيّاً، كما تُحِبّون بعضكم بدافع العمل.

 

«لقد قال لنا إسحاق الكثير، ولكنّنا نودُّ معرفة المزيد. هل مِن الممكن أن نحظى بتلميذ يكون لنا نحن في هذا المكان النائي؟»

 

«أَرسِل يوحنّا الذي مِن عين دور يا معلّم. إنّه جدير بذلك، وقد تعوَّدَ على العيش مع الوثنيّين.» يَقتَرِح يهوذا الاسخريوطيّ.

 

«لا. يوحنّا يبقى معنا.» يُجيب يسوع بطريقة جَازِمة. ثمّ يَلتَفِت إلى الصيّادين: «متى ينتهي موسم صيد الفرفورة؟»

 

«عندما تَهبّ عواصف الخريف. بعدها يَضطَرِب البحر كثيراً هنا.»

 

«وستعودون حينذاك إلى سيكامينون [حيفا]؟»

 

«إلى هناك وإلى القيصريّة. إنّنا نبيع الكثير إلى الرومانيّين.»

 

«حينذاك، سوف تتمكّنون مِن مُعاوَدة اللقاء مع التلاميذ. وفي انتظار ذلك ثابِروا.»

 

«هناك شخص على متن مركبي، لَم أكن راغباً به، وقد أتى باسمكَ.»

 

«مَن هو؟»

 

«صيّاد شاب مِن أشقلون.»

 

«لِيَنـزِل، وليأتِ إلى هنا.»

 

يَمضِي الرجل إلى ظهر الـمَركَب لِيَعود بصحبة شاب خجول، كونه مَحطّ الأنظار. يتعرَّف عليه يوحنّا الرَّسول: «إنّه واحد مِن الذين أعطونا السمك يا معلّم.» يَنهَض لتحيّته: «أأتيتَ يا هرمست؟ هل أنتَ بمفردكَ؟»

 

«بمفردي. في كفرناحوم خَجِلتُ... بَقيتُ على الضفّة، آملاً...»

 

«ماذا؟»

 

«رؤية معلّمكَ.»

 

«ألم يُصبِح معلّمك كذلك؟ لماذا يا صديقي مُواصَلة المماطلة؟ هَلُمَّ إلى النور الذي ينتظركَ. انظر كيف يرنو إليكَ ويبتسم.»

 

«كيف سيستقبلني؟»

 

«يا معلّم، هلاّ أتيتَ إلينا لحظة.»

 

يَنهَض يسوع ويَمضي إلى يوحنّا.

 

«لا يجرؤ لأنّه غريب.»

 

«بالنسبة إليَّ، ما مِن أحد غريب. ورفاقكَ؟ أَلَم تكونوا كثيرين؟... لا تضطَرِب. فأنتَ وحدكَ مَن عَرِف المثابرة. وأنا سعيد بكَ، ولو كنتَ وحدكَ. تعال معي.»

 

يعود يسوع إلى مكانه مع غنيمة جديدة.

 

«هذا، نعم، سوف نَعهَد به إلى يوحنّا الذي مِن عين دور.» يقول للإسخريوطيّ. ثمّ يخاطب الجميع:

 

«مجموعة مِن عُمَّال المناجم نَزلوا إلى منجم حيث كانوا يَعلَمون بوجود كنوز مخبّأة جيّداً في أعماق الأرض. وبدأوا بالحَفر. ولكنّ الأرض صلبة والعمل مُرهِق.

 

تَعِب عدد كبير منهم، فَرَموا مَعاوِلهم ومَضوا. آخَرون أَخَذوا يَسخَرون مِن رئيس الفريق، فعامَلوه كَشِبه أبله. آخرون عَتِبوا على مصيرهم والعمل والأرض والمعدن، وضَرَبوا باطن الأرض بِغَضَب، مُحطِّمين عِرق المعدن إلى أجزاء غير صالحة للاستعمال، ثمّ، وبعد أن خَرَّبوا كلّ شيء ولَم يَصِلوا إلى نتيجة، مَضوا هُم كذلك. لم يبقَ سوى واحد، الأكثر مثابرة. عامَلَ طبقات الأرض الـمُقاوِمة بِلِين لِيَثقُبها دون تخريب أيّ شيء، قام بمحاولات كثيرة، وحَفَرَ أعمق، وانتهى إلى اكتشاف عِرق معدن ثمّين رائع وكوفِئَت مثابرة عَامِل المنجم؛ وبواسطة المعدن الفائق النقاء الذي اكتَشَفَه، استطاع الشروع بأعمال عديدة، وتحصيل أمجاد كثيرة، والحصول على زبائن عديدين، لأنّ الجميع كانوا يَرغَبون بهذا المعدن الذي لم يُكتَشَف بِغَير المثابرة، وحيث لم يَحصَل الآخرون، الكسالى والغاضِبون، على شيء.

 

ولكنّ الذهب الـمُكتَشَف، كي يكون جميلاً بالدرجة المطلوبة للاستخدام في الصياغة، ينبغي له بدوره المثابرة على الإرادة في إتمام الشُّغل عليه. فإذا كان الذهب، بعد أوّل عملية اكتشاف، لا يريد تَحمُّل المصاعب، فإنّه يظلّ خَاماً، ولا يمكن صياغته. تَرَون إذن أنّ الحماس البِدائيّ لا يكفي للنجاح، لا كَرسول ولا كتلميذ ولا كمؤمن. يجب المثابرة.

 

رِفاق هرمست كانوا كثيرين، وكان حَماسهم متأجّجاً، وقد وَعَدوا جميعهم بالمجيء. وهو وَحده الذي أتى. كثيرون هُم تلاميذي، ويزدادون باستمرار. إنّما ثِلث النصف فقط سوف يظلّون كذلك حتّى النهاية. المثابرة. هي العبارة العظيمة لكلّ الأشياء الصالحة.

 

أنتم، عندما تَرمُون الشِّباك لالتقاط أصداف الأرجوان، هل تفعلون ذلك على سبيل الصُّدفة ولِمَرّة واحدة؟ لا. إنّما المرَّة تِلو المرَّة، على مدى ساعات، أيّام، أشهر، كلّ ذلك متعلِّق في العودة إلى الأمكنة ذاتها في العام التالي، لأنّ ذلك يُوفِّر لكم القوت ووسائل الرَّفاه، لكم ولعائلاتكم. وتُريدون التصرّف بخلاف ذلك في الأمور العظيمة التي هي مصالح الله ونفوسكم، إذا كنتم مؤمنين أنّها مصالحكم ومصالح إخوتكم، إذا كنتم تلاميذ؟ الحقّ أقول لكم، لاستخراج أُرجوان الملابس الأزليّة، يجب المثابرة حتّى النهاية.

 

والآن، فلنتصرّف كأصدقاء صَدوقين حتّى تحين ساعة العودة، هكذا نَعرِف بعضنا بشكل أفضل، وسَيَسهل علينا التعرّف على بعضنا...»

 

انتَشَروا في الخليج الصخريّ، وطَهوا مَحاراً وسَرطانات التَقَطوها مِن على الصخور، وسمكاً اصطادوه بِشِباك صغيرة؛ إنّهم يَرقُدون على أَسِرّة مِن الإشنيّات المجفَّفة، داخل كُهوف فُتِحَت بفعل الزلازل، أو حتّى بِفعل حتّ الأمواج للساحل الصخريّ، بينما السماء والبحر لازورد خَلَّاب يُعانِق الأُفُق. والنوارس تُتابع مهرجان الطيران بين البحر وأعشاشها، مُطلِقة صيحات، ومُرفرِفة بأجنحتها؛ الأصوات الوحيدة، مع طبطبة الأمواج، التي تُسمَع في ساعات حرارة الصيف الخانقة تلك.