ج4 - ف115
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
115- (العودة مِن صور. المعجزات ومَثَل الكرمة والدردار.)
13 / 08 / 1945
أهالي سيكامينون [حيفا]، مَدفوعِين بالفُضول، وعلى مدى اليوم كلّه، حاصَروا مكان تواجُد التلاميذ الذين يَنتَظِرون عودة المعلّم. إلّا أنّ النساء التلميذات لَم يَهدِرن الوقت سُدى أثناء الانتظار، فَغَسَلنَ الثياب المتَّشِحة بالغبار والتي تَعصُر عَرَقاً، ويا له مِن مَعرض جميل على الشاطئ لثياب تُجفَّف في الهواء والشمس. الآن وقد أوشَكَ الليل على الهبوط، ومع الليل الإحساس بالرطوبة المالحة، فإنّهنّ يسرعن في جمع الثياب المغسولة التي ما تزال رطبة قليلاً، ونَفضَها وشدّها في كلّ الاتجاهات قبل طيّها، لتكون مرتّبة جيّداً حينما تُقدَّم لأصحابها.
«لِنَحمِل الثياب إلى مريم فوراً.» تقول مريم التي لحلفى، وتضيف: «كان ذلك بالنسبة إليها تضحية عظيمة، أمس واليوم، في ذاك الكوخ دون هواء!...»
مِن ذلك أُدرِك أنّ غياب يسوع آنذاك دام أكثر مِن يوم، وفي أثنائها كان على مريم المجدليّة، التي ليس لديها سِوى ثوب وحيد، البقاء مُختَبِئة حتّى يَجفّ ثوبها.
تُجيب سُوسَنّة: «لحسن الحظّ أنّها لا تتشكّى أبداً! لَم أكُن أظنُّها أَصبَحَت بهذا الصَّلاح.»
«بل عليكِ القول: وبهذا التَّواضُع والحِشمة. يا لها مِن فتاة مسكينة! بالحقيقة لقد كان الشيطان يُعذِّبها! وما أن حَرَّرَها يسوعي حتّى عادت إلى طبيعتها، فبالتأكيد هكذا كانت حينما كانت صغيرة.»
وعادَتَا، وهما تتحادَثان، إلى البيت تَحمِلان الثياب المغسولة.
وفي تلك الأثناء، كانت مرثا مُنهَمِكة في المطبخ في إعداد الطعام، بينما العذراء تَغسل الخضار في وعاء نحاسيّ، ثمّ تقوم بطهيها مِن أجل العشاء.
«هي ذِي، جافّة كلّها، ونظيفة ومطويّة. لقد كانت فعلاً بحاجة للتنظيف. اذهبي إلى مريم وأَعطيها ثيابها.» تقول سُوسَنّة وهي تُعطي الثياب لمرثا.
بعد قليل. تعود الأُختان معاً. «شكراً لكما، أنتما الاثنتين. فإنّ تضحية ارتداء ذات الثّوب لعدّة أيام كانت الأكثر عناء.» تقول مريم المجدليّة مُبتَسِمة. «الآن تبدو لي مريحة.»
«اجلسي في الخارج، فهناك نَسيم عَليل. حتماً أنتِ في حاجة إلى ذلك، بعد حَبسكِ الطويل.» تُبدي مرثا رأيها، وهي التي، باعتبارها أَصغَر وأَضعَف مِن أُختها، استطاعت ارتداء واحد مِن ثياب سُوسَنّة أو مريم التي لحلفى، بينما كان ثوبها يُغسَل.
«هذه المرّة تدبَّرنا أنفسنا هكذا. إنّما مستقبلاً، فسوف نُرتِّب حقيبة صغيرة لنا مِثل الأُخرَيات، ولن نتعرّض لهذا العناء.» تقول مريم المجدليّة.
«كيف؟ هل تَنويِن أن تتبعيه مِثلنا؟»
«بالتأكيد. إلّا إذا أَمَرَني عكس ذلك. أنا ماضية الآن إلى الشاطئ لأراه إذا ما كان قد عاد. هل يعودون هذا المساء؟»
«آمُل ذلك.» تُجيب مريم الكُلّيّة القداسة. «إنّني قَلِقَة لذهابه إلى فينيقية، ولكنّني أُفكِّر أنَّه مع الرُّسُل، وأُفكِّر كذلك أنّ الفينيقيّين، قد يكونون أفضل مِن كثيرين آخرين. ولكنّني أودُّ لو يَعود مِن أجل الناس الذين ينتظرونه. فعندما ذَهَبتُ إلى النبع أوقَفَتني أُمّ قائلة لي: "هل أنتِ مع المعلّم الجليليّ، الذي يُدعى المسيح؟ تعالي إذن وانظري إلى وَلَدي. ها قد مضى عام والحُمّى تُرهِقه". ودَخَلتُ بيتاً صغيراً. ويا لِلوَلَد المسكين! وكأنّي به وردة صغيرة تَذبُل! سوف أقول ذلك ليسوع.»
تقول مرثا: «هناك آخرون يَسأَلون الشفاء. والشفاء أكثر أهميّة مِن التعلُّم.»
«مِن الصعوبة بمكان أن يكون المرء روحيّاً بالكامل. فإنّه دائم الاستماع إلى نداء الجسد وحاجاته.» تُجيب العذراء.
«حينئذ، وبعد المعجزة، يُولَد الكثيرون لحياة الروح.»
«نعم، يا مرثا. ولذلك يَجتَرِح ابني معجزات كثيرة. رأفة بالإنسان، إنّما كذلك كي يَشدّه، بهذه الوسيلة، إلى طريقه التي، بغير ذلك، الكثيرون لا يتبعونها.»
يعود يوحنّا الذي مِن عين دور إلى البيت. ذلك أنّه لم يكن قد ذَهَبَ مع يسوع، وكذلك العديد مِن التلاميذ الذين كانوا قد ذَهَبوا إلى البيوت الصغيرة التي يَقطنونها. وفي الوقت نفسه تقريباً تَصِل مريم المجدليّة قائلة: «لقد وَصَلوا. إنّها الـمَراكِب الخمسة التي أَبحَرَت فَجر أمس. لقد تعرَّفتُ عليها جيّداً.»
«سيكونون تَعِبين وظمآنين. سوف آخُذ لهم الماء، فالنبع بارد جدّاً.» تقول مريم التي لحلفى، وتَخرُج حاملة الجِّرار.
«هيّا بنا إلى لقاء يسوع. تعالوا.» تقول العذراء. وتَخرُج مريم المجدليّة ويوحنّا الذي مِن عين دور، ذلك أنّ سُوسَنّة ومرثا تَبقَيان عند الفرن، وقد احمرَّتا، وهما مُنهَمِكتان جدّاً في إنهاء تحضيرات العشاء.
يَصِلون، بمحاذاة الشاطئ، إلى رصيف صغير، وقد وَصَلَت إليه مَراكِب صيد أخرى كثيرة للمبيت. مِن أحد الجوانب، يَظهَر خليج المدينة كلّه، الذي منه تأخُذ المدينة اسمها، وتُرَى كذلك الـمَراكِب الخمسة التي تسير بسرعة، مائِلة قليلاً في سيرها. أشرِعتها مُنتَفِخة، بِفِعل رياح الشمال المؤاتية، والمخفِّفة عِبئاً عن الرجال الـمُرهَقين بِفِعل الحرارة.
«انظري إلى سمعان والآخرين كيف يُدبِّرون أمورهم. إنّهم يَتبَعون مَركَب القبطان بشكل رائع. ها هُم يتجاوزون الرصيف؛ ويتوجّهون الآن إلى عرض البحر، لِيَدوروا حول المجرى القويّ في ذاك الموضع. هو ذا... كلّ شيء الآن على ما يرام. إنَّهم على وشك أن يكونوا هنا.» يقول يوحنّا الذي مِن عين دور. بالفعل، تَقتَرِب الـمَراكِب أكثر، ويتميّز الذين فيها.
يسوع في الـمَركَب الأوّل، ومعه إسحاق. لقد نَهَضَ وبَدَت قامَته بكامل عَظَمَتها، حتّى أخْفَته الأشرعة للحظات. بالفعل، يَنعَطِف الـمَركَب، يَدور ليستقرّ في حِمَى الرصيف الصغير، مارّاً أمام النساء اللواتي هُنّ فوق الرصيف تماماً. يبتسم يسوع في تحيّة لهنّ، بينما يُسرِعنَ في المشي لِيَصِلن، في نفس الوقت، مع الـمَركَب، إلى الـمَوضِع الذي يَرسو فيه.
«بارَككِ الله يا أُمّي. هل كنتِ قَلِقة؟ في صيدون لَم نَجِد ضالّتنا الذي كنّا نبحث عنه، فَوَصَلنا إلى صور، وهناك وَجَدناه. تعالَ يا هرمست... يا يوحنّا، هذا الشاب يودُّ لو نُثقِّفه. وأنا أَعهَد به إليكَ.»
«لن أخذلكَ بتثقيفه حسب كلمتكَ. شكراً يا معلّم! هناك الكثيرون ينتظرونكَ.» يقول يوحنّا الذي مِن عين دور.
«وأيضاً هناك مريض صغير مسكين، يا بنيّ، وأُمّه متلهِّفة لحضوركَ.»
«سأمضي إلى هناك في الحال.»
«أعرِف مَن يكون يا معلّم. أرافقكَ إلى هناك. تعال أنتَ كذلك يا هرمست. وابدَأ بمعرفة صلاح سيّدنا اللّامتناهي.» يقول الذي مِن عين دور.
ويَهبِط مِن الـمَركَب الثاني بطرس، ومِن الثالث يعقوب، ومِن الرابع أندراوس، ومِن الخامس يوحنّا، الرَّبابِنة الأربعة، يتبعهم الرُّسُل الآخرون، والتلاميذ الذين كانوا معهم والذين يتجمَّعون حول يسوع ومريم.
«اذهبوا إلى البيت. سآتي أنا أيضاً في الحال. وفي هذه الأثناء، هَيِّئوا ما يَلزَم للطعام، وقولوا للذين ينتظرون إنّني سأتحدّث في المساء.»
«وإذا كان هناك مرضى؟»
«سوف أبدأ بشفائهم، حتّى قبل الطعام، كي يتمكَّنوا مِن العودة إلى البيت سعداء.»
يتفرَّقون. يَمضي يسوع مع الذي مِن عين دور وهرمست إلى المدينة. يَسير الآخرون على الشاطئ الـمُحصَّى، وهم يَروُون كلّ ما رَأوه وسَمِعوه، مسرورين كالأطفال الذين يعودون إلى أُمّهم. ويهوذا الاسخريوطيّ سعيد كذلك. ويَعرض الصَّدَقات التي شاء صيّادو الفرفورة إعطاءَه إيّاها، وخاصّة صُرّة مِن المادة النفيسة.
«هذه للمعلّم. وإذا لم يَحمِلها هو فَمَن ذا الذي يستطيع حَملها؟ لقد نادُوني على حِدة وقالوا لي: "لدينا مَرجانات نفيسة في الـمَركَب، حتّى لدينا لؤلؤة، تصوَّر! إنّه كنـز. لستُ أدري كيف وَصَلَت إلينا ثروة كهذه، نعطيكَ إيّاها، عن طِيب خاطِر، مِن أجل المعلّم. تعالَ لِتَراها". وذهبتُ إرضاء لهم، بينما كان المعلّم قد اختلى في مغارة للصلاة. لقد كانت هناك مَرجانات جميلة ولؤلؤة، ليست ضخمة ولكنّها جميلة. فقلتُ لهم: "لا تَحرموا أنفسكم مِن هذه الأشياء. فالمعلّم لا يَحمِل الجواهر. بالحَريّ أعطوني قليلاً مِن هذا الأرجوان، وسَنَجعَل منه بعض زينة لثوبه. ولم يكن لديهم سِوى هذه الصُّرّة. وشاؤوا إعطائي إيّاها بأيّ شكل. خُذي أيّتها الأُمّ. اصنعي منها شُغلاً جميلاً، حسب معرفتكِ، مِن أجل سيّدنا. إنّما اصنعيه، هل تَعرِفين؟ فلو لاحَظَ هو ذلك، لَفَضَّل أن نَبيعه مِن أجل الفقراء. أمّا نحن، فيطيب لنا أن نَراه مُرتَدياً ما يستحقّه ويَليق به، أليس كذلك؟»
«آه! نعم، صحيح! أنا أتألّم حينما أراه بسيطاً للغاية وسط الآخرين، وهو الـمَلِك، وهُم الأدنى مِن الصِبية، مُفعَمين بالشرائط، متلألِئين، ويَنظُرون إليه كفقير غير خَليق بهم!» يقول بطرس.
«أوَلم تَرَ ضحكات سادَة صور، حينما استأذنّا مِن الصيّادين؟» يُجيبه أخوه.
ويقول يعقوب بن زَبْدي: «لقد قُلتُ لهم: "اخجَلوا مِن أنفسكم، يا لَكُم مِن كِلاب! فإنّ خيطاً واحداً مِن ثوبه الأبيض لَهُو أثمَن مِن كلّ زخارفكم.»
«بِما أنّ يهوذا قد حَصَلَ على هذا، فأودُّ لو تُحضِّريها مِن أجل عيد المظالّ.» يقول يوضاس تدّاوس.
«لَم أَنسُج الأرجوان أبداً، إنّما سوف أُحاوِل...» تقول مريم الكُلّيّة القداسة وهي تَلمس الخيط الحريريّ، الخفيف، الطريّ، ذا اللون الرائع.
«إنّ مُربِّيتي تجيد ذلك.» تقول مريم المجدليّة الخبيرة بالجَّمال فعلاً. «سوف نَجِدها في القيصريّة. وسوف تُريكِ كيف. وستتعلّمين بسرعة، فأنتِ تُجيدين كلّ شيء. وأنا سأضع الشريط على القَبّة والأكمام وأسفل الثوب: أرجوان على كتّان أبيض ناصع أو صوف ناصع البياض، مع سَعف وتَطريز ورد، كما هو الحال على مَرمَر قُدس الأقداس، مع عُقدة داود في الوسط. وهكذا تسير الأمور على ما يرام.»
تقول مرثا: «نَظَراً لجمال هذا الرَّسم، فقد رَسَمَته أُمّنا على الثوب الذي لَبِسه لعازر، عندما سافَرَ إلى الأراضي السوريّة، للاستملاك فيها. ولقد احتَفَظتُ به، لأنّه كان آخر شُغل بيد أُمّنا. سوف أُرسِله لكِ.»
«سوف أشتَغِله وأنا أُصلّي مِن أجل أُمّكِ.»
بَلَغوا البيوت، وتَفرَّق التلاميذ لِيَجمَعوا الذين يُريدون المعلّم، خاصّة المرضى منهم…
يَعود يسوع مع يوحنّا الذي مِن عين دور وهرمست، ويَمرّ مُحيّياً وسط الذين يَتدافَعون أمام البيوت الصغيرة. ابتسامته بَرَكة.
يَدفَعون إليه مريض العيون الذي لا يُمكِن تحاشيه، فهو شِبه أعمى، على إثر التهاب عينين تَقرُّحي، ويُشفيه. بعده جاء دور ذاك الذي قد أُصيبَ بالملاريا حتماً، فهو هَزيل وأصفر مِثل صِينيّ، ويُشفيه. ثُمّ تَطلُب منه امرأة مُعجِزة خاصّة: تَطلُب حليباً لِصَدرها الذي جَفّ، وتُشير إلى طفل لم يتجاوز عمره بضعة أيّام، مُصاب بسوء تغذية وقد احمرَّ وكأنّه مُعرَّض لعمليّة تسخين. إنّها تبكي. «تَرى أنّ لدينا وصيّة طاعة الرجل والإنجاب، ولكن ماذا يُفيد ذلك، إذا كُنّا نَرى بعدئذ أولادنا سُقَماء؟ إنّه الوَلَد الثالث الذي أُنجِبه، وقد أَوصَلتُ اثنين منهم إلى القبر، بسبب هذا الصَّدر العقيم. وهذا الآن يُوشِك أن يموت، لأنّه وُلِد في زمن الحَرّ. الآخَران عاشا الواحد عشرة أشهر والآخر سنة، لِيَجعَلاني أبكي أكثر حينما يموتان بإصابات معويّة. لو كان لديَّ حليب، لما كان وَقَعَ هذا!...»
يَنظُر إليها يسوع ويقول: «سيعيش ابنكِ. آمِني. امضِي إلى بيتكِ، وعندما تَصِلين، أعطي صغيركِ صدركِ. آمِني.»
وتَمضي المرأة طائِعة مع صغيرها المسكين الذي يتذمَّر مِثل هِرّ صغير، وهي تَضمّه إلى قلبها.
«ولكن هل سيتدفَّق منها الحليب؟»
«بالطبع سيتدفَّق.»
«أنا أقول إنّ الصبي سيعيش، إنّما لن يتدفَّق الحليب، وهكذا تكون معجزة في ذلك، إذا عاش. فهو الآن مائِت مِن الحرمان.»
«أبداً. أنا أقول إنّه سَيَحصَل على الحليب.»
«نعم.»
«لا.»
وتَختَلِف الآراء حسب الأشخاص. وفي أثناء ذلك يَنسَحِب يسوع لِيَتناوَل طعامه. وعندما يَخرُج للوَعظ مِن جديد، يكون عدد الناس قد ازداد. بالفعل إنَّ خَبَر معجزة الطفل المصاب بالحُمّى التي اجتَرَحَها يسوع منذ نزوله من الـمَركَب، قد انتَشَر في المدينة.
«سلامي أُعطيكم، لتهيئة نفوسكم للاستماع إليَّ. فلا يمكن لصوت الربّ الوصول أثناء هبوب العاصفة. فإنّ كلّ اضطراب يُسيء إلى الحكمة، ذلك أنّها سَلاميّة، لأنّها آتية مِن الله. والضّيقات والشكوك هي مِن أعمال الشيطان، لِجَعل أبناء البشر يَضطَرِبون ويَبتَعِدون عن الله.
أقول لكم هذا الـمَثَل لكي تُدرِكوا التعليم بشكل أفضل:
كان لِمُزارع حقول كثيرة، فيها العديد مِن الأشجار، وكروم تَغلّ كثيراً، ومِن بين الكروم كانت واحدة فاخِرة يَعتزّ بها.
في إحدى السنوات كانت غَلّة تلك الكرمة أوراقاً كثيرة وعناقيد قليلة. فقال للمزارع صديق له: "ذلك لأنّكَ لَم تُقلِّمها كفاية". وفي السنة التالية، أكثَرَ الـمُزارِع في تقليمها. فأعطَت الكرمة أغصاناً قليلة، وعناقيد أقلّ. فقال له صديق آخَر: "لأنّكَ أكثرتَ التّقليم". وفي السنة الثالثة تَرَكَها الرجل دونما تَقليم. فَلَم تُعطِ الكرمة ولا حتّى عنقوداً واحداً، وكان وَرقها قليلاً، هزيلاً، مُنكَمِشاً، وتُغطّيها بُقَع حمراء. صديق له ثالث يُقرِّر: "الكَرمة تموت لأنّ الأرض غير صالحة. فما عليكَ سِوى إحراقها". ولكن لماذا، إذا كانت الأرض ذاتها بالنسبة إلى الأشجار الأخرى التي أعتَني بها العناية ذاتها؟ وقد كانت في البداية تَغلّ كثيراً؟ يَرفَع الصديق كتفيه ويمضي.
مَرَّ عابِر سبيل مجهول فتوقَّف ليَرى الـمُزارِع مُستَنِداً على جِذع الكَرمة المسكينة.
"ما بكَ؟" يَسأَله. "أفي البيت ميّت؟"
"لا، ولكنّ هذه الكَرمة التي أُحِبُّها كثيراً تكاد تموت. لَم يَعُد فيها نَسغ يُنتِج ثَـمَراً. سنة أعطَت قليلاً، السنة التالية أقلّ، وهذه السنة لَم تُعطِ ثَـمَراً أبداً. عَمِلتُ ما قيل لي، ولكنّ ذلك لم يُجْدِ نَفعاً.
دَخَلَ عابر السّبيل المجهول الحَقل، ودَنا مِن الكَرمة. لَمَسَ الأوراق، أَخَذَ كُتلَة مِن الأرض في يده وتَحسَّسَها، فَتَّتَها بين أصابعه، رَفَعَ بَصَرَه إلى جذع شجرة، كان بمثابة الدَّعامة للكَرمة.
"يجب قَلع هذا الجذع. فهو الذي يَجعَل الكَرمة عَقيمة."
"ولكنّها تَستَنِد عليه منذ سنوات؟!"
أَجِبني أيّها الرجل: عندما غَرَستَ هذه الكرمة، كيف كانت هي، وكيف كان الجَّذع؟"
"آه! كانت كَرمَة رائعة، بعمر الثلاث سنوات. أَخَذتُها مِن كَرمة أُخرى لي لِأغرِسها هنا، وحَفَرتُ عميقاً كي لا أَجرَح الجُّذور وأنا أَقلَعها مِن الأرض حيث كانت قد نَبَتَت. وهنا كذلك، كنتُ قد حَفَرتُ حُفرة مُشابِهة، بل حتّى أكبر مِن الأولى، كي تكون حالاً في الوضع المريح. وكنتُ قبل ذلك قد عَزَّقتُ الأرض كلّها حولها لِأَجعَلها رَخوة أكثر مِن أجل الجُّذور، لكي تمتدّ بسرعة ودون صعوبة، لقد هيَّأتُها بعناية، واضِعاً في العُمق سماداً. فالجُّذور، كما تَعلَم، تَقوَى عندما تَجِد الغذاء مباشرة. بينما اهتمامي بالدَّردار كان أقل. فقد كانت شجرة لا دور لها سوى أن تُشكِّل دعامة للكَرمة. وقد زَرَعتُها سطحيّة، قريبة منها. كَدَّستُ التراب حول جُذرها ومَضَيتُ. وكِلتَاهما ضَرَبَتا جُذوراً لأنّ الأرض صالحة. ولكنّ الكَرمة كانت تنمو، مِن سنة إلى أخرى، مُدلَّلة، محبوبة، مُقلَّمة، وكانت الأرض تُعزَّق حولها. أمّا الدَّردار فعلى العكس، كانت تنمو بعناية تتناسب وقيمتها!... ثمّ أَصبَحَت الشجرة قويّة وضخمة. أترى كم هي جميلة الآن؟ عندما آتي، أرى مِن بعيد قِمّتها الشامخة، العالية كالبُرج، وتَحسَبها صرح مملكتي الصغيرة. قبل ذلك، كانت الكَرمة تُغطّيها، فلا يُرى إيراقها الجميل. أمّا الآن فانظُر كَم هي جميلة هناك، في الأعلى، تحت الشمس! وأيّ جِذع هو جِذعها! فقد أَصبَحَ مُمتَشِقاً وقويّاً. لأمكنه دَعَم الكَرمة لسنوات وسنوات، حتّى ولو أصبحت مثل تلك التي أخذها مستكشفوا إسرائيل من قرب وادي الكروم. على العكس..."
"على العكس، فقد قَتَلَها، خَنَقَها. كلّ شيء كان في مصلحة حياتها: الأرض، الوضعيّة، النور، الشمس والعناية التي مَنَحتَها إيّاها. ولكنّ هذه الشجرة قَتَلَتها. فقد أَصبَحَت قويّة جدّاً، وتشابَكَت الجذور حتّى خَنَقَتها، ذلك أنّها أَخَذَت النَّسغ كلّه مِن الأرض، وسَدَّت عليها الـمَنافِس لِتَمنَعها مِن التنفس والاستفادة مِن النور. اقطع هذه الشجرة القويّة في الحال، فهي لا تُفيد في شيء، وستعيش كرمتكَ مِن جديد. وسوف تعيش بشكل أفضَل إذا ما حَفَرتَ الأرض بتأنٍّ لِتُعرّي جذور الدردار وتَقطَعها، لتتأكّد أنّها لَن تُخلِّف، بل أنَّ تَشعُّباتها تموت في الأرض، وبَدَل أن تُسبِّب الموت، تعطي الحياة، لأنّها ستُصبِح سماداً، وذاك هو العِقاب الـمُوائِم لأنانيّتها. أمّا الجَّذع فَتَحرقه، لتستفيد منه. فالشجرة التي لا نفع منها والمؤذية لا تصلح لغير النار، ويجب قَلعَها، وذلك كي يَذهَب كلّ ما هو صالح إلى الشجرة الصالحة والمفيدة. آمِن بما أقول وستكون مسروراً."
"ولكن مَن تكون أنتَ؟ قُل لي لأتمكّن مِن الإيمان."
"أنا الحكيم. مَن يؤمِن بي يَعِش بأمان". ومَضَى.
بَقِيَ الرجل فترة متردِّداً. ثُمّ قرَّرَ وَضْع يده على المنشار. ونادى كذلك أصدقاءه لِيُساعِدوه.
"ولكن هل أنتَ أَبلَه؟". "سوف تَخسَر الدردار إضافة إلى الكَرمَة". "أنا أكتفي بِقَطع القمّة لِأَفسَح المجال للكَرمَة للاستفادة مِن الهواء ليس أكثر". "مع ذلك يَجِب أن تكون لها دعامة، فَعَملكَ لا طائل منه". "مَن يدري مَن أشار عليكَ بذلك؟ قد يكون ذلك بحسب قلَّة معرفتكَ، أو بحسب أحد الذين يَحقدون عليكَ". أو بالحريّ أحد المجانين". وهكذا دواليك.
"أَفعَل ما قاله لي. فأنا أؤمن بذلك الإنسان". ويبدأ بِنَشر الدردار على مستوى الأرض، ولا يكتفي بذلك، بل يَحفر دائرة كبيرة لِيُعرّي جذور الشجرتين. وبكلّ تأنٍّ وصبر يَقطَع جذور الدردار، منتبهاً تماماً لكيلا يُخرِّب جذور الكَرمَة. يَردم الحفرة الكبيرة، ويَضَع للكَرمَة التي فَقَدَت دعامتها وَتَدَاً كبيراً صلباً مِن الحديد، حامِلاً كلمة "إيمان"، مَكتوبة على لوحة مُعلَّقَة في أعلى الوَتَد.
ومَضى الآخرون وهُم يَهزُّون رؤوسهم. ومَرَّ الخريف. وكذلك الشتاء. وجاء الربّيع. وتزيَّنت الأغصان الملتفّة حول الدعامة ببراعِم كثيرة، في البداية كانت مُغلَقة كما في غِلاف مِن المخمل الفضّيّ، ثُمّ شِبه مفتوحة على زمرّد الوُرَيقات الوَليدة، ثُمّ مفتوحة، ثمّ مُمتَدَّة مِن الجذع أغصاناً قويّة، تفتَّحَت زُهيرات، ثُمّ تحوَّلَت إلى حَبّات عِنَب. عناقيد أكثر مِن الأوراق، والأوراق عريضة، خضراء وقويّة، مع مجموعات مِن عُنقودَين وثلاثة وأكثر، وكان كلّ عُنقود يَحمِل حَبَّات عِنب لبّية، ريّانة، رائعة ومُكتَظّة.
"والآن ما قولكم؟ هل كانت الشجرة هي التي تُميت كَرمَتي، نعم أم لا؟ هل كان الحكيم يُجيد الكلام، نعم أم لا؟ هل كنتُ مُحِقّاً في كتابة كلمة ‘الإيمان’ على اللوحة، نعم أم لا؟" يقول الرجل لأصدقائه الـمُتشكِّكين.
"لقد كنتَ على حقّ، وسعيد أنتَ لمعرفتكَ الإيمان وقُدرَتكَ على تدمير الماضي والأمور المؤذية التي كان مُتَّفقاً عليها."
ذاك هو الحال بالنسبة إلى الـمَثَل. وهي ذي الإجابة بالنسبة إلى المرأة جافّة الثَّديَين. انظروا صوب المدينة.»
يَلتَفِت الجميع جِهة المدينة، ويُشاهِدون المرأة إيّاها وهي تَهرَع وَوَليدها مُتمَسِّك بثديها المنتَفِخ، الممتلئ حليباً يمتصّه الجائع الصغير بِنَهَم، لدرجة أنّه يبدو أنّه يَغرَق فيه. ولا تتوقّف المرأة إلّا عند قدميّ يسوع، حيث تُبعِد أمامه طِفلها عن ثَديها وهي تهتف: «بارِكه، بارِكه كي يعيش مِن أجلكَ!»
بعد هذه الوقفة، يُعاوِد يسوع: «لقد حَصَلتُم على إجابة لِتَوقُّعاتكم حول المعجزة. ولكنّ الـمَثَل له معنى أوسع مِن هذه الحقبة الصغيرة مِن الإيمان المكافأ؛ هو ذا:
لقد غَرَسَ الله كَرمَتَه، شَعبه، في مكان مُناسِب، مُوَفِّراً له كلّ ما يَلزم لنموّه وإعطائه ثمّاراً دائماً أكبر، داعِماً إيّاه بالـمُعلِّمين ليتمكّن مِن فَهم الشريعة بشكل أفضل فيستمدّ منها القوّة. ولكنّ الـمُعلِّمين شاؤوا أن يَضَعوا أنفسهم أعلى مِن الـمُشرِّع، وتطاولوا، تطاولوا، تطاولوا حتّى فَرَضوا ذواتهم كأعلى مِن الكلمة الأزليّة. وأَصبَحَت إسرائيل عقيمة. حينئذ أرسَلَ الربّ الحكيم، لكي يتمكّن أولئك الذين يتألّمون، في إسرائيل، بنفوس مستقيمة، مِن هذا العَقم، ويُجرِّبون هذا أو ذاك مِن العلاجات، حسب كلام أو نصائح الـمُعلِّمين، الـمُفعَمَة علوماً إنسانيّة، إنّما الخالية مِن العلوم فائقة الطبيعة، وبالنتيجة بعيدة عن معرفة ما يجب فِعله لإعادة الحياة لروح إسرائيل، كي يتمكَّنوا مِن الحصول على النصيحة النَّاجِعة بحقّ.
ما الذي يَحصل إذن؟ لماذا لا تستعيد إسرائيل قِواها ولا تعود شديدة كما كانت في أجمل أزمنة وفائها للربّ؟ لأنّه يجب نُصحها بإزالة كلّ التشوّشات التي تنامت فتسبَّبَت بالضَّرَر للأمر المقدّس: شريعة الوصايا العَشر، كما أُعطِيت، دونما تواطؤ، دونما مراوغة، ودون رياء، بإزالة هذه جميعها، للسَّماح للكَرمَة بالهواء والمساحة والغذاء، أي لِشَعب الله، مانِحاً إيّاه دَعامة قويّة، مستقيمة، لا تلتوي، وحيدة، بالاسم المتلألئ كالشمس: الإيمان. وهذه النصيحة غير مقبولة.
كذلك أقول لكم إنّ إسرائيل سَتَقضي عليها، بينما ما يزال بإمكانها الحياة مِن جديد، والحُصول على ملكوت الله، لو كانت تَعلَم أن تُؤمِن وتتوب بِكَرَم وتتغيَّر في الصميم.
امضوا بسلام، وليكن الربّ معكم.»