ج7 - ف229
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الثاني
229- (يسوع والخاطئة الـمُرسَلة لإيقاعه في التجربة)
21 / 11 / 1946
الشعب المحتشد عامّة، والناس المعتبرون خصوصيّين، هم دوماً طفوليّون إلى حدّ ما، وهمجيّون بعض الشيء، أو على الأقلّ بدائيّون، وبالتالي حسّاسون جدّاً لكلّ ما ينمّ عن حداثة، ما هو خارق، وما يعطي صدىً احتفاليّاً.
إنّ اقتراب الاحتفالات له دوماً القدرة على إثارة حماسة الناس، وكأنّ الاحتفالات تلغي ما يجعلهم حزانى ومتعبين. فما أن يقترب احتفال، حتّى لستُ أدري ما الّذي يصيب الجميع بنوع مِن حيويّة، حماسة خفيفة، كما لو أنّ هذا الاقتراب يشبه "دوم-دوم" الهمجيّين في طقوسهم الوثنيّة أو مساعيهم الحربيّة.
والرُّسُل كذلك، مع اقتراب عيد الأنوار، هم في حالة الغبطة هذه. إنّهم ثرثارون، فَرِحون، يخطّطون لمشاريع، يتذكّرون الأعياد المنصرمة، بعض مِن الكآبة يضفي مسحة على الأحاديث، ثمّ أجواء العيد تستعيدهم، وتحثّهم على التصرّف بحيث يكون كلّ شيء جميلاً خلال الاحتفال.
هل المصابيح في منزل يوحنّا قليلة العدد؟ آه! إنّ منزل توما في راما مليء بها! وتوما يغادر إلى راما لجلب المصابيح. والزيت ليس وفيراً؟ آه! إنّ لدى إليز الكثير مِن الزيت في بيت صور وتُقدّمه. وأندراوس ويوحنّا يمضيان إلى بيت صور لجلب الزيت. تلزم أعواد خشبيّة ناعمة لخبز الفطائر؟ ها هما حاملا اسم يعقوب يمضيان إلى الجبال كي يجلبا منها. يبدو شحيحاً الدقيق والشعير والعسل للأطباق الطقسيّة؟ وما الّذي تفعله نيقي في أورشليم، المستاءة تقريباً لأنّهم لا يطلبون منها شيئاً أبداً، إن لم يكن تقديم عسلها الأشقر، وشعير ودقيق أراضيها الرائعة؟ وبطرس وسمعان الغيور يقصدان نيقي، بينما يوضاس بن حلفى يساعد إليز على تجميل المنزل، وحتّى العجوز برتلماوس ينضمّ إلى هذا الابتهاج المشترك، ويطلي مع فيلبّس المطبخ الّذي سَوَّده الدخان بطبقة سميكة مِن الكلس، لجعله أزهى.
يهوذا يحتفظ لنفسه بالجزء التزيينيّ، ولا يكفّ عن العودة بأغصان دائمة الخضرة، عَطِرة ومزدانة بثمار عنبية، ويرتّبها بأناقة على الرفوف وحول مدخنة الموقد.
وفي عشية عيد الأنوار يبدو المنزل الصغير وكأنّه مهيّأ لاستقبال عروس، مِن فرط ما هو مُتبدّل، بأطباق مائدته النحاسيّة اللامعة، بمصابيحه المتوهّجة كالشمس، بأغصانه الـمُبهِجة على الجدران الـمُبيَّضة، فيما رائحة الخبز والفطائر تعبق في الهواء المعطّر أساساً بالغصينات المقطوعة.
يسوع يدعهم يفعلون، يبدو كأنّه بعيد جداً عن الجميع، شديد الاستغراق، وحتّى حزين. إنّه يجيب مَن يسألونه، طالبين بالسؤال الّذي يطرحونه، إطراءً على ما فعلوه. وتلك الأسئلة هي ما سمح لي بإعادة استنتاج الأعمال الّتي قام بها التلاميذ، والّتي بمضامينها: «ألم تكن جيّدة الفكرة الّتي خطرت لي بالذهاب إلى المنزل لإحضار المصابيح؟» أو: «أفعلنا حسناً أنا وفيلبّس بتبييض كلّ شيء؟ إنّه زاهٍ وبهيج. يبدو أكثر اتّساعاً.» أو أيضاً: «أترى يا معلم؟ إنّ إليز سعيدة. تبدو أنّها في منزلها في زمن أبنائها. اليوم كانت تغنّي وهي تضع زيتها في المصابيح، وهي تعجن عسلها في الطحين، وتحلّه بالحليب فيما يخص الشعير.» أو أيضاً: «ليقل حِلقِيّا ما يريد. إنّما القليل مِن الخُضرة هو أمر حسن. في الواقع… إذا كان الخالق قد عمل الأغصان، فذلك كي نستخدمها، أليس ذلك صحيحاً؟» كلّ ذلك يسمح باستنتاج العمل الّذي قام به كلّ واحد. إنّما، وإن كان يسوع يجيب على هذه الأسئلة الّتي تنطوي على رغبة بالمديح، فإنّ تفكيره غائب. وذلك واضح.
المساء يهبط. وبعد تحيّات السكّان الأخيرة، الذين يطلّون برؤوسهم من المطبخ لتحيّة المعلّم قبل أن يُغلِقوا على أنفسهم في منازلهم، فإنّ الصمت يحلّ في نوبة. إنّه وقت العشاء. وهو وقت الراحة للأطفال وللمُسنّين، لكلّ مَن يجعلهم المرض أو العمر ضعفاء.
لا بدّ أنّه مِن المعتاد تقديم الهدايا في عيد الأنوار، لأنّني أرى بالفعل، أنّه ما أن ينسحب العجوز يوحنّا إلى غرفته الصغيرة قرب المطبخ، حتّى تشرع إليز بإنهاء ثوب، والرُّسُل بإنهاء أشياء مفيدة منحوتة مِن الخشب، وستارة شبكيّة، بخيوط رفيعة مصبوغة بالأحمر، الأخضر، الأصفر والنيلي، الذي هو عمل خاصّ بالصيّادين.
توما، متّى، برتلماوس والغيور يشاهدونهم.
«هوذا. لقد انتهيتُ.» تقول إليز وهي تنهض وتنفض الثوب مِن بقايا الخيوط الّتي قد تكون علقت به.
«إنّ هذا سيجعله دافئاً، العجوز المسكين! إيه! نحن الرجال، مِن دون النساء، تعساء بحقّ. أتساءل عمّا كانت ستؤول إليه حالنا دونكِ، بعد أشهر مِن الغياب عن المنزل. إنّني قادر على فِعل هذا، إنّما إن كان عليَّ تعليق مشبك...» يقول بطرس وهو يتلمّس القماش.
«لقد كنتِ سريعةً أيضاً. أنتِ تشبهين زوجتي.» يقول برتلماوس.
«أنا أيضاً قد انتهيتُ. لقد كان هذا الخشب جيّداً. سهل النشر وصلباً في نفس الوقت.» يقول يوضاس تدّايوس وهو يضع على الطاولة القاتمة علبةً تصلح للملح أو للتوابل.
«عملي على العكس، لم يكتمل بعد. هنا عِرْق قاسٍ لا يُريد أن يُشغَل به. ربّما لن أنجح في إنجاز العمل. أتأسّف على ذلك. كانت جميلةً تلك العروق القاتمة على الخشب الأفتح. أُنظر يا يسوع. ألا تُذكّركَ بقِمم جبال مرسومة على خشب؟» يقول يعقوب بن حلفى عارضاً نوعاً مِن آنية لا أعرف لأيّ غرض قد تُستخدم، إنّ شكلها جميل حقّاً، بغطاء على شكل قُبّة، ومُعرّقة بلطافة على البطن والغطاء. إنّما بالضبط على الغطاء، عند نهاية المقبض، الخشب يقاوم بعناد.
«ثَابِر، ثَابِر، وستنجح. حَمِّ الحديد حتّى يغدو أحمراً. قم بكَشْط العِرْق وسوف تنجح. ما أن تُنزَع الطبقة الأولى...» يجيب يسوع الّذي كان يراقب.
«إنّما ألن يتلف بالنار؟» يَسأَل متّى.
«لا، إذا ما استُخدِمَت بمهارة. على أيّ حال! إمّا هذه الوسيلة، أو رمي كلّ شيء.»
يعقوب يُحمّي المخرز القاطع، ثمّ يُقرّب الرأس الأحمر مِن النقطة العنيدة. رائحة خشب محروق.
«كفى! الآن اشتغل وسوف تنجح.» يقول يسوع. ويساعد ابن عمّه ممسكاً الغطاء بإحكام كما في مِلزَمة. النصل ينزلق مرّتين ويلمس أصابع يسوع.
«ارفع يدكَ يا أخي. لا أودُّ أن أجرحكَ...» يقول يعقوب بن حلفى. لكنّ يسوع يواصل الإمساك بالآنية.
في المرّة الثالثة يجرح الإزميل الحادّ إبهام يسوع.
«هاكَ! أرأيتَ! لقد آذيتَ نفسكَ! دعني أرى!»
«هذا لا شيء. نقطتا دم...» يجيب يسوع وهو يهزّ إصبعه ليسقط الدم الّذي يقطر مِن الجرح. «امسح الغطاء بالأحرى، فقد أصبح ملطّخاً.» يضيف بعد ذلك.
«لا. دعوه! إنّه ثمين هكذا. امسح هنا إصبعكَ يا معلّم. هنا بحجابي. فدمكَ هو دم مبارك.» تقول إليز وهي تلفّ اليد بكتّان حجابها.
الغطاء، سبب الكثير مِن المشاكل، قد غُلِبَ. لقد تمّ الكَشْط.
«كان يريد التسبّب بالأذية أوّلاً.» يُعلّق الغيور.
«بالفعل! وبعدها أذعن. خشب معاند!» يقول توما.
«بالحديد، والنار والألم. تبدو كأنّها إحدى العبارات العزيزة على الرومان.» يلاحظ سمعان الغيور.
«بالنسبة لي، لا أعلم لماذا، هذه تذكّرني بالأنبياء في بعض النقاط. فنحن أيضاً خشب معاند… أيتطلّب الأمر الحديد، النار والألم لجعلنا صالحين؟» يَسأَل برتلماوس.
«الحقّ أنّ هذا يلزم. وذلك لا يفيد بعد. إنّي أعمل بالنار وبألمي، إنّما ليست كلّ القلوب تُحسِن الاقتداء بهذا الخشب… صمتاً! هناك أحد ما في الخارج! هناك وقع خطوات...»
يُنصِتون. لا يُسمَع شيء.
«ربّما هي الريح يا معلّم. هناك أوراق يابسة في البستان...»
«لا. لقد كانت خطوات...»
«حيوان ليليّ ما. إنّني لا أسمع شيئاً.»
«ولا أنا، ولا أنا...»
يسوع ينصت. يبدوا مُنصِتاً. ثمّ يرفع وجهه ويحدّق بيهوذا الاسخريوطيّ الّذي يُنصِت هو أيضاً، يُنصِت للغاية. أكثر مِن الآخرين. إنّه يحدّق به لدرجة أنّ يهوذا يَسأَل: «لماذا تنظر إليَّ هكذا يا معلّم؟» إنّما ما مِن إجابة، لأنّ يداً تقرع الباب.
مِن الوجوه الأربعة عشر الّتي ينيرها المصباح، وحده وجه يسوع يبقى على ما كان عليه، الوجوه الأخرى يتغيّر لونها.
«افتحوا! افتح يا يهوذا الاسخريوطيّ!»
«أنا لا، لا أفتح! يمكن أن يكونوا أشراراً قد قصدوا المجيء خلال الليل. لن أكون أنا مَن يتسبّب لكَ بالأذى!»
«افتح أنتَ يا سمعان بن يونى.»
«قطعاً لا. بل ألقي بالطاولة عند المدخل!» يقول بطرس ويتهيّأ لفعل ذلك.
«افتح يا يوحنّا ولا تخف.»
«آه! إن أردتَ حقّاً أن تسمح بالدخول، فأنا أمضي إلى عند العجوز. إنّني لا أريد أن أرى شيئاً.» يقول الاسخريوطيّ، وبينما يقول ذلك يجتاز بأربع خطوات المسافة الّتي تفصله عن باب غرفة العجوز، ويختفي فيها.
يوحنّا، الواقف عند الباب ويده على المفتاح، ينظر بفزع إلى يسوع ويتمتم: «يا ربّ!...»
«افتح ولا تخف.»
«إنّما نعم. في نهاية المطاف نحن ثلاثة عشر رجلاً قويّاً. لن يكونوا جيشاً! بأربع قبضات وصراخ كثير -أنتِ تصرخين يا إليز إن لزم الأمر- سوف نجعلهم يفرّون. فنحن لسنا في صحراء!» يقول يعقوب بن زَبْدي، ويخلع ثوبه ويرفع كُمّي جلبابه أو لباسه الداخلي، متأهّباً للدفاع. بطرس يقتدي به.
يوحنّا، الّذي ما يزال متردّداً، يفتح الباب، ينظر عبر الفتحة. لا يرى شيئاً. يصيح: «مَن هذا الّذي يتسبّب بالإزعاج؟»
صوت انثويّ ضعيف، كأنّه متألّم، يجيب: «امرأة. أريد المعلّم.»
«ليست الساعة المناسبة للمجيء إلى المنازل. إن كنتِ مريضة، فكيف تتجوّلين في هذه الساعة؟ إن كنتِ برصاء، فكيف تجازفين بدخول بلدة؟ إن كنتِ محزونة، فعودي غداً. هيّا، هيّا، عودي إلى أعمالكِ.»
«آه! الرحمة! إنّني وحدي على الطريق. أشعر بالبرد. أشعر بالجوع. وأنا بائسة. نادوا لي المعلّم. هو يرحم...»
ينظر الرُّسُل إلى يسوع، منذهلين. يسوع صارم جدّاً ويصمت. يعاودون إغلاق الباب.
«ما العمل يا معلّم؟ أنعطيها على الأقلّ بعض الخبز؟ لا يوجد متّسع. والذهاب إلى المنازل مع مجهولة...» يتسائل فيلبّس.
«انتظر. أذهب أنا لأرى.» يقول برتلماوس، ويلتقط المصباح كي يرى بوضوح.
«لا حاجة لأن تذهب. فالمرأة لا تشعر بالجوع ولا بالبرد، وتعلم جيّداً أين تذهب. وهي لا تخشى الليل. لكنّها بائسة، رغم أنّها ليست مريضة ولا برصاء، إنّها بائعة هوى، وتأتي كي تجرّبني. أقول لكم كلّ هذا كي تعلموا بأنّني أعلم، كي تقتنعوا بأنّني أعلم. وأيضاً أقول لكم بأنّها لا تأتي لأجل نزوة شخصيّة، بل تأتي لأنّه قد تمّ الدفع لها كي تأتي.» يسوع يتكلّم بصوتٍ عالٍ، عالٍ بحيث يتمّ سماعه في الغرفة المجاورة، حيث يتواجد يهوذا.
«ومَن تريد أن يفعل ذلك؟ لأيّة غاية؟» يقول يهوذا نفسه، وهو يعاود الظهور في المطبخ. «الفرّيسيّون بالتأكيد لا، ولا الكَتَبَة، ولا الكَهَنَة، إذا كانت بائعة هوى. كذلك لا أعتقد بأنّ الهيروديّين حاقدون لدرجة أن يتسبّبوا لأنفسهم بمشاكل كي… ولا أنا أعرف حتّى لماذا.»
«السبب أقوله لكَ أنا. كي يستطيعوا التوصّل إلى القول بأنّني خاطئ، شخص له علاقات مع خاطئات شهيرات. وأنتَ تعلم بقدر ما أنا أعلم أنّ الأمر هو كذلك. وأقول لكَ أيضاً بأنّني لا ألعنها ولا ألعن مَن أرسلها. فأنا لا أزال وسأظلّ دوماً الرحمة وسأذهب إليها. وإذا كنتَ ترى أنّ المجيء معي حسن هو، فتعال. أَذهَب إليها لأنّها بائسة بحقّ. هي تقول بأنّها كذلك ظنّاً منها بأنّها تكذب، لأنّها شابّة، جميلة ومدفوع لها بسخاء، سليمة وسعيدة بحياتها الشائنة، ولكنّها بائسة. إنّها الحقيقة الوحيدة الّتي تقولها بين أكاذيب كثيرة. تقدّمني واحضر المقابلة.»
«أنا لا، لا أحضرها! لماذا عليَّ فِعل ذلك؟»
«لتشهد لِمَن يسألكَ.»
«ومَن تريد أن يسألني؟ لا يوجد بيننا مَن يطرحون الأسئلة، والآخرون… أنا لا أرى أحداً.»
«أَطِع. تقدّمني.»
«لا. لا أريد أن أطيع في هذا، ولا يمكنكَ إرغامي على الدنوّ مِن عاهرة.»
«إيه! أنتَ ماذا؟ كبير الكَهَنَة؟ آتي أنا يا معلّم، ودونما خوف مِن أن يصيبني أيّ شيء.» يقول بطرس.
«لا. أَذهَب وحدي. افتح.»
يسوع يخرج إلى البستان. في السواد المطلق لليلة لا تزال بلا قمر، لا يمكن رؤية أيّ شيء. باب المطبخ يُفتَح ثانيةً وبطرس يخرج ومعه مصباح. «على الأقل خذ هذا يا معلّم، إذا كنتَ لا تريدني حقّاً.» يقول بصوتٍ عالٍ. ومِن ثمّ بصوت منخفض: «ومع ذلك ضع في اعتباركَ أنّنا وراء الباب. إن احتجتَ، نادِ...»
«نعم. اذهب. ولا تتشاجروا مع بعضكم البعض.»
يسوع يأخذ المصباح ويرفعه كي يرى. خلف الجذع الضخم لشجرة الجوز هناك شكل بشريّ. يسوع يخطو خطوتين نحوها، يأمر: «اتبعيني.» ويذهب ليجلس على المقعد الحجريّ الصغير المستند إلى المنزل، مِن جهة الشرق.
المرأة تتقدّم، محجّبة كلّيّاً ومنحنية. يسوع يضع المصباح على الحجر، قربه.
«تكلّمي.» يأمر هكذا بصرامة، بحزم، بألوهيّة، بحيث أنّ المرأة بدلاً مِن أن تتقدّم وتتكلّم، فهي تتراجع وتنحني أكثر بعد، صامتة.
«تكلّمي، أقول لكِ. أنتِ طلبتِني وأنا أتيتُ. تكلّمي» يقول بلهجة لطيفة في صوته.
صَمْت.
«إذن أتكلّم أنا. أسألكِ: لماذا تكرهينني لدرجة أن تخدمي أولئك الّذين يريدون هلاكي، ويحلمون به بشتّى الطرق، ويبحثون عن كلّ الأسباب الّتي تجعله ممكناً؟ أجيبي. ما الأذى الّذي سبّبتُه لكِ، أيّتها البائسة؟ أيّ أذىً قد سبّبه لكِ الإنسان الّذي لم يحتقركِ حتّى في قلبه بسبب الحياة المشينة الّتي تحيينها؟ ماذا؟ أأفسدكِ الإنسان، الّذي لم يرغب بكِ حتّى في قلبه، بحيث يتوجّب عليكِ أن تكرهيه أكثر مِن أولئك الّذين جعلوكِ ساقطة، والّذين يُحقّرونكِ في كلّ مرّة يأتون فيها إليكِ؟ أجيبي! ما الّذي فعله لكِ يسوع الناصريّ، ابن الإنسان، الّذي بالكاد تعرفينه بالنظر لمصادفتكِ إيّاه في طرقات المدينة، يسوع الّذي يجهل وجهكِ، والّذي لا تهمّه مفاتنكِ، لأنّه لا يهتمّ سوى بصورة نفسكِ الملطّخة، المشوّهة، كي يعرفها ويشفيها؟ هيّا تكلّمي!
ألا تعلمين مَن أكون؟ بلى، تعلمين ذلك جزئيّاً. بالأحرى تعلمين ذلك في ثلثيه. تعلمين أنّني شاب وأنّ شخصي يعجبكِ. هذا ما قالته لك حيوانيّتكِ الجامحة. ولسانكِ الّذي لامرأة سكرى قاله لِمَن التقط اعتراف حواسّكِ وجعل منه سلاحاً ليؤذيني.
أنتِ تعلمين أنّني يسوع الناصريّ، المسيح. هذا ما قاله لكِ أولئك الّذين، مستغلّين رغبتكِ الجسديّة، قد دفعوا لكِ كيما تأتي إلى هنا لإغوائي. لقد قالوا لكِ: "هو يَدَّعي بأنّه المسيح، الجموع تدعوه القدّوس، المسيا. هو ليس إلّا دَجّال. إنّنا بحاجة إلى أدلّة على بؤسه الإنسانيّ. أَعطِنا إيّاها، وسوف نكسوكِ بالذهب". ولأنّكِ، ببقيّة مِن برّ، آخِر بقايا كنز البرّ الّذي وضعه لكِ الله في الجسد مع النَّفْس، والّذي هَشَّمتِه وبَدَّدتِه، لم تكوني تريدين أن تؤذيني حيث إنّكِ، على طريقتكِ، كنتِ تحبّينني، فهم قالوا لكِ: "لن نؤذيه. على العكس! سوف نترك لكِ الرجل، معطين إيّاكِ الوسائل لتجعليه يعيش كالـمَلِك إلى جانبكِ. يكفينا أن نتمكّن مِن القول لأنفسنا، لنجعل ضميرنا في سلام، بأنّه مجرّد إنسان. دليل على أنّنا على حقّ بعدم التصديق أنّه المسيح". هكذا قالوا لكِ. وأنتِ أتيتِ. لكن، لو كنتُ قبلتُ إغواءكِ، لكانت الجحيم عليَّ. إنّهم على أهبة الاستعداد كي يغطّوني بالوحل ويقبضوا عليَّ. وأنتِ الأداة لفعل ذلك.
أنتِ ترين أنّني لا أسألكِ. إنّني أتكلّم لأنّني أعرف دونما حاجة إلى أن أسأل. إنّما إن كنتِ تعلمين هذين الأمرين، فالثالث لا تعلمينه. أنتِ لا تعلمين مَن أنا، باستثناء أنّني رجل ويسوع. أنتِ ترين الإنسان. الآخرون يقولون لكِ: "إنّه الناصريّ". إنّما أنا سأقول لكِ مَن أكون. إنّني الفادي. وكي أفتدي ينبغي أن أكون بلا خطيئة. أمّا شهوانيّتي الرجوليّة المحتملة، فأُنظري كيف دُستُ عليها. كما أفعل مع هذا اليسروع المقزّز الّذي ينتقل في الظلام مِن حمأة إلى حمأة لأجل شهوانيّته الفاسقة. هكذا دستها على الدوام. وهكذا أدوسها الآن أيضاً. وهكذا أنا على استعداد لأن أنتزع مرضكِ منكِ، وأن أدوسه مُحرّراً إيّاكِ منه، كي أجعلكِ سليمة ومقدّسة. لأنّني الفادي. هذا فقط. لقد اتّخذتُ جسداً إنسانيّاً كي أخلّصكم، كي أُدمّر الخطيئة، لا كي أخطئ. لقد اتّخذتُه كي أنزع خطاياكم، لا كي أخطئ معكم. لقد اتّخذتُه كي أحبّكم، إنّما محبّة تمنح حياتها، دمها، كلمتها، كلّ شيء، كي أقودكم إلى السماء، إلى البرّ، لا كي أحبّكم مثل بهيمة. ولا حتّى كما إنسان، لأنّني أكثر مِن إنسان.
هل تعلمين على وجه الدقّة مَن أكون؟ أنتِ لا تعلمين. بل حتّى لم تكوني تعلمين حجم ما كنتِ قد أتيتِ لتفعليه. وهذا أغفره لكِ دون أن تطلبيه. إنّكِ لم تكوني تعلمين. أمّا فجوركِ! كيف أمكنكِ العيش فيه؟ لم تكوني هكذا. كنتِ صالحة. آه! أيّتها البائسة! ألا تتذكّرين طفولتكِ؟ ألا تتذكّرين قبلات أُمّكِ؟ كلامها؟ وساعات الصلاة؟ كلام الحكمة الّذي كنتِ تسمعين أباكِ يشرحه في المساء، ورئيس المعبد في أيام السبت… مَن جعلكِ مُغيّبة الفكر وسَكْرى؟ ألا تتذكّرين؟ ألا تتحسّرين؟ قولي لي! أأنتِ حقّاً سعيدة؟ ألا تجيبين؟ أنا أتكلّم عنكِ. أقول: لا، لستِ سعيدة. فعندما تستيقظين، تجدين على وسادتكِ خزيكِ ليعطيكِ أوّل جولة يوميّة مِن التعذيب. وصوت ضميركِ يصرخ بتأنيبه بينما تُسرّحين شعركِ وتتعطّرين كي تبدي جذّابة. وتشمّين رائحة مُنَفِّرة في أرقى العطور. ومذاق غثيان في أكثر الأطعمة ندرة. ومجوهراتكِ تُثقِل عليكِ كأنّها أغلال، وهي كذلك. وبينما تضحكين وتغوين، ففي داخلكِ شيء ما ينوح. وتسكرين كي تتغلّبي على سأم وغثيان حياتكِ. وتكرهين مَن تقولين أنّكِ تحبّينهم كي تتكسّبي منهم. وتلعنين نفسكِ. ونومكِ تُثقِله الكوابيس. وذكرى أُمّكِ سيف في قلبكِ. ولعنة أبيكِ تنتزع منكِ السلام. ومِن ثمّ هناك إهانات مَن تلتقين بهم، وحشيّة مَن يستغلّونكِ، دون رحمة، على الدوام. أنتِ سلعة. لقد بعتِ نفسكِ. إنّ مَن يشتري سلعة يستخدمها كما يشاء. يمزّقها، يستهلكها، يدوسها، يبصق عليها. إنّه حقّ الشاري. وأنتِ لا يمكنكِ التمرّد… هل يجعلكِ هذا الوضع سعيدة؟ لا. إنّكِ يائسة. إنّكِ مقيّدة. إنّكِ مُعَذَّبة. على الأرض أنتِ خِرقة قذرة يمكن لأيّ كان أن يدوسها. وإذا ما سعيتِ، في ساعة ألم، أن تجدي تعزية برفع روحكِ نحو الله، فإنّكِ تشعرين بغضب الله عليكِ، أنتِ الفاجرة، والسماء مغلقة بالنسبة لكِ أكثر منها بعد بالنسبة لآدم. وإذا شعرتِ بسوء، فإنّ ذُعر الموت يتملّككِ لأنّكِ تعلمين مصيركِ. فالجحيم هي مصيركِ.
آه! أيّتها التعيسة! وألم يكن ذلك كافياً بعد؟ أتودّين أن تضمّي إلى سلسلة خطاياكِ سلسلة أن تكوني هلاك ابن الإنسان؟ ذاك الّذي يحبّكِ؟ الوحيد الّذي يحبّكِ. ذلك أنّه مِن أجل روحكِ لبس جسداً كذلك. بإمكاني أن أخلّصكِ إذا ما كنتِ تريدين ذلك. إنّ هوّة القداسة الرحيمة تنحني فوق هاوية انحطاطكِ وتنتظر رغبة منكِ بالخلاص لتنتشلكِ مِن هاوية دنسكِ. إنّكِ تفكّرين في قلبكِ بأنّه مِن المستحيل أن يغفر الله لكِ. وتستمدّين أساس فكركِ هذا مِن المقارنة بالعالم الّذي لا يغفر لكِ كونكِ البغيّ. لكنّ الله ليس العالم. الله صلاح. الله مغفرة. الله محبّة.
لقد أتيتِ إليَّ، وقد تمّ الدفع لكِ كي تؤذيني. الحق أقول لكِ إنّ الخالق كي يخلّص واحداً مِن مخلوقاته، يستطيع حتّى أن يحيل إلى خير ما هو شرّ. وإذا أنتِ أردتِ، فإلى خير يستحيل مجيئكِ إليَّ. لا تخجلي مِن مخلّصكِ. لا تخجلي مِن إظهار قلبكِ عارياً له. فحتّى لو أردتِ إخفاءه، فهو يراه ويبكي عليه. يبكي. يحبّ. لا تخجلي مِن أن تندمي. كوني جريئة في الندم كما كنتِ في الخطيئة. فأنتِ لستِ أوّل بغيّ تبكي عند قدميّ وأعيدها إلى البرّ… أنا لم أطرد أيّ مخلوق أبداً مهما كان مذنباً. بل على العكس قد سعيتُ لجذبه وتخليصه. إنّها رسالّتي.
إنّ حالة قلب لا ترعبني. أعرف الشيطان وأفعاله. أعرف البشر وضعفهم. أعرف ظرف المرأة الّتي تُسدّد، بشكل أقسى مِن الرجل، كما يقتضي العدل، تبعات خطيئة حوّاء. وبالتالي فإنّني أُحِسن الحكم والرأفة. وأقول لكِ بأنّني أكثر قسوة تجاه الّذين يقودون النساء إلى السقوط، منه تجاه النساء اللواتي سقطن. وبالنسبة لكِ، أيّتها التعيسة، فإنّني أكثر قسوة تجاه أولئك الّذين أرسلوكِ، منه تجاهكِ، الّتي أتيتِ دون أن تعلمي على وجه الدقّة بما كنتِ قد رضيتِ. كنتُ أُفضّل لو أنّكِ أتيتِ مدفوعةً برغبة فداء مثل أخوات أخريات لكِ. إنّما إن أنتِ تستجيبين لرغبة الله، ومِن عمل شرّير تضعين حجر الزاوية لحياتكِ الجديدة، فإنّني سأقول كلمة السلام...»
يسوع، الصارم جدّاً في البداية، قد أصبح أكثر فأكثر وداعة، مع بقائه هكذا… الله الّذي يقصي كلّ ضعف في المشاعر، وكذلك كلّ خطأ في التقدير تجاه طيبته، يصمت الآن، ناظراً إلى المرأة، الّتي لبثت واقفةً طوال الوقت، إنّما منحنية، منحنيةً أكثر فأكثر، على بُعد حوالي المترين منه، والّتي في منتصف حديثه قد رفعت يديها إلى وجهها ضاغطةً بهما وشاحها، يدين جميلتين تبرزان مِن الرداء القاتم، مزدانتين كلّيّاً بخواتم. وأساور عند معصمي الذراعين المكشوفين حتّى المرفقين.
لا يمكنني القول إذا ما كانت المرأة تبكي أم لا. وإذا كانت تفعل ذلك، فحتماً بصمت، حيث لا يُسمَع نحيب ولا تُرى هزّات. إنّها شبيهة بتمثال مِن فرط ما هي جامدة في ملابسها القاتمة. ثمّ فجأة تخرّ على ركبتيها، وتتكوّر على الأرض، حينذاك تبكي بحقّ، دون أن تكبح نفسها لعدم إظهار ذلك. ومِن ثمّ، لابثةً هكذا كمثل خِرقة على الأرض، تتكلّم: «هذا صحيح! إنّكَ حقّاً نبيّ… كلّ شيء صحيح… لقد دفعوا لي لأجل هذا… لكنّهم قالوا لي أنّ ذلك كان لأجل رهان... كي يضبطوكَ في منزلي… إنّما أيضاً قربكَ...»
«يا امرأة، لا أريد سوى سماع سرد خطاياكِ...» يقاطعها يسوع.
«هذا صحيح. ليس لديَّ الحقّ في اتّهام أيّ شخص، لأنّني بؤرة قذارة. كلّ شيء صحيح. أنا لستُ سعيدة… لا أستمتع بالثروات، بالولائم، بالغراميّات… إنّني أَحـمَرّ عندما أفكّر بأُمّي… أخاف مِن الله ومِن الموت… أكره الرجال الّذين يدفعون لي. كل ما قلتَه صحيح. إنّما لا تطردني يا سيّدي. لا أحد أبداً، بعد أُمّي، قد كلّمني مثلكَ. لا بل أنتَ كلّمتَني بأكثر وداعة بعد مِن أُمّي، الّتي كانت في الآونة الأخيرة قاسيةً معي بسبب سلوكي… وكي أكفّ عن سماعها فقد هربتُ إلى أورشليم… إنّما أنتَ… كما لو أنّ وداعتكَ كانت ثلجاً على النار الّتي تلتهمني. إنّ ناري تهدأ، لا بل إنّها نار أخرى. لقد كانت متّقدة، إنّما لم تكن تمنح نوراً ولا حرارة. فقد كنتُ متجّمدة وفي الظلمات. آه! كم رضيتُ أن أتألّم! كم مِن آلام عبثيّة وملعونة قد سبّبتُها لنفسي! يا ربّ، لقد قلتُ لكَ عبر شقّ الباب بأنّني كنتُ بائسة وبأن ترحم. لقد كان كلاماً كاذباً كانوا قد عَلَّموني أن أقوله لكَ كي أجذبكَ إلى الفخّ. لقد قالوا لي بأنّ جمالي بعد ذلك سيتكفّل بالباقي… جمالي! ملابسي!...»
المرأة تنهض. الآن، وقد استقامت، أرى أنّها طويلة القامة. انتزعت حجابها ورداءها، وظهرت بجمالها الحقيقيّ، امرأة ذات شعر بنّيّ وبشرة شديدة البياض. عيناها، اللتان جعلهما التبرّج أوسع، هما كبيرتان وجميلتان جدّاً، فيهما نظرة براءة مذهولة مِن الغريب أن نجدها لدى امرأة مِن هذا النوع. ربّما تكون الدموع قد غسلتهما بالفعل. المرأة تنتزع قماش الرداء وتدوسه، تمزّق الحجاب، تنزع المشابك (الأبازيم) الثمينة مِن هذا وذاك وترميها أرضاً، تنزع خواتمها وأساورها، ترمي بعيداً زينة رأسها، تمسك حلقات شعرها المجعّدة والمملوءة بقضبان صغيرة لامعة وتقتلعها، وتشعّث شعرها، كيما تطمس تَصَنُّع تسريحتها، في هياج تضحية هو حتّى مخيف. العقد الّذي حول عنقها، وقد انتُزِع بعنف، ينفرط على الأرض، وبقدمها المحتذية نعلاً مزيّناً تدوس الأحجار وتسحقها، الحزام الثمين يلحقه ذات المصير، وكذلك مِشبَكاً كان يُثبّت بطريقة فنّية قماش الثوب عند الصدر. وكلّ ذلك فيما تُردّد بصوت منخفض، لاهث: «بعيداً! بعيداً! أيّتها الأشياء اللعينة. بعيداً! أنتِ ومَن أهداني إيّاكِ. بعيداً يا جمالي! بعيداً يا شعري. اذهبي بعيداً يا بشرتي الياسمينيّة!»
وبنشاط تمسك بحجر مُرَوَّس تراه على الأرض، وتضرب وجهها حتّى تدميه، فمها، تخدش نفسها بأظافرها الملوّنة. الدم يقطر مِن الجروح، قَسَماتها تنتفخ تحت وقع الضربات… إلى أن يهدأ هيجانها، وتلقي بنفسها أرضاً عند قدميّ يسوع، لاهثةً، منهكةً، مشوّهةً، مشعّثةً، مجرّحة، في ثوب ملطّخ بالدم والتراب، وهي تئنّ: «والآن يمكنكَ أن تغفر لي، إذا كنتَ ترى قلبي، لأنّه لم يبقَ مِن ماضيّ شيء، لم يبق شيء مِن… لقد انتصرتَ أنتَ يا ربّ، على أعدائكَ وعلى جسدي… اغفر لي إثمي...»
«لقد سبق أن غفرتُه لكِ منذ أن أتيتُ لملاقاتكِ. انهضي ولا تعودي تخطئي بعد أبداً.»
«قل لي ماذا عليَّ أن أفعل، كي أفعله.»
«ابتعدي عن أماكن خطيئتكِ، عن أولئك الّذين يعلمون مَن أنتِ. إنّ أُمّكِ...»
«آه! يا ربّي! هي لن تستقبلني. إنّها تكرهني لأجل أبي الّذي مات بسبب خطيئتي وهو يلعنني.»
«إذا كان الله، الّذي هو الله، يستقبلكِ، وهو يستقبلكِ لأنّه أب، فهل يمكنها ألّا تستقبلكِ الأُم الّتي ولدتكِ وهي امرأة مثلكِ؟ اذهبي إليها بتواضع. ابكي عند قدميها كما بكيتِ عند قدميّ. اعترفي لها كما فعلتِ معي. بُوحي لها بألمكِ، ارتجي شفقتها. فأُمّكِ في انتظار هذه اللحظة منذ أعوام. إنّها تنتظرها لتموت بسلام. احتملي كلام لومها الـمُحِبّ كما احتملتِ كلامي. أنا قد كنتُ بالنسبة لكِ الغريب، ومع ذلك فقد أنصتِ إليَّ. هي أُمّكِ. فعليكِ إذاً واجب مضاعف بأن تنصتي إليها باحترام.»
«أنتَ المسيا. أنتَ أهمّ مِن أُمّي.»
«الآن تقولين ذلك. إنّما حين أتيتِ كي تجرّبيني لم تكوني تعلمين بأنّني المسيا، ومع ذلك فقد أنصتِّ إلى كلامي.»
«لقد كنتَ مختلفاً جدّاً عن الرجال… هكذا… إنّكَ قدّوس، يا يسوع الناصريّ!»
«إنّ أُمّكِ قدّيسة كما أُمّ وكما مخلوقة. بصلواتها قد وجدت لكِ رحمة لدى الله. الأُمّ قدّيسة على الدوام! والله يريد أن تُكَرّم.»
«لقد ألحقتُ بها العار. كلّ البلدة تعلم ذلك.»
«حافز إضافي كي تذهبي إليها وتقولي لها: "أُمّي، المغفرة". وكي تكرّسي لها حياتكِ لتعوّضيها عن الآلام الّتي عانتها بسببكِ.»
«سوف أفعل ذلك… لكن… ياربّ، لا تعدني إلى أورشليم… إنّهم ينتظرونني… ولا أعلم إن كنتُ سأصمد أمام التهديدات… دعني هنا حتّى الفجر، وبعدها...»
«انتظري لحظة.»
يسوع ينهض، يذهب صوب باب المطبخ، يقرع، يفتح. يقول: «إليز، تعالي إلى الخارج.»
إليز تطيع. يسوع يقودها صوب المرأة الّتي، إذ رأت امرأة أخرى ومُسنّة آتية، تبدر منها حركة خجل وتسعى لتغطية وجهها وثوبها غير المحتشم بما تبقّى مِن الرداء والحجاب الممزّقَين.
«اسمعي يا إليز. سوف أغادر هذا المنزل فوراً. قولي لرُسُلي أن يلحقوا بي عند الفجر إلى باب هيرودس. كلّهم، ما عدا يهوذا الاسخريوطيّ الّذي يجب أن يأتي معي. اصطحبي هذه المرأة كي تنام معكِ. يمكنكِ أن تأخذي سريري، لأنّني لن أعود إلى نوبة لوقت طويل. غداً، عندما يستيقظ يوحنّا، أنتِ وهو سترافقان هذه المرأة إلى حيث تقول لكما. ستعطيها ثوباً عاديّاً وأحد أرديتكِ. وستساعدانها في كلّ شيء.»
«حسناً يا ربّ. سوف يتمّ ما تريد. إنّني آسفة بشأن يوحنّا...»
«أنا أيضاً. فقد كنتُ أريد إسعاده، لكنّ كراهية البشر تمنع ابن الإنسان مِن منح ساعة بهجة لإنسان بارّ...»
«وبعد ذلك يا ربّ؟»
«بعد ذلك؟ يمكنكِ العودة إلى بيت صور، في الانتظار… وداعاً يا إليز. لتكن بركتي وسلامي معكِ. وداعاً يا امرأة. أعهد بكِ إلى أُمّ وإلى بارّ. إنّما، إن كنتِ تعتقدين بوجوب العودة لجلب حاجياتكِ...»
«لا. لا أريد أن أمتلك أيّ شيء مِن الماضي.»
«إنّما يا عزيزتي. لا يمكنكِ بالتأكيد هجر كلّ شيء. أليس لديكِ خدّام ولا أهل؟» تقول إليز.
«ليس لديَّ سوى خادمة واحدة… و...»
«يجب أن تصرفيها، يجب...»
«أرجوكِ أن تفعلي ذلك أنتِ، عند عودتكِ. ساعديني على الشفاء التامّ، يا امرأة.» هناك قلق حقيقيّ في صوتها.
«نعم يا ابنتي! نعم. لا تقلقي. غداً سنفكّر بكلّ شيء. الآن تعالي معي إلى فوق.» وإليز تمسكها مِن يدها وتقودها صعوداً عبر الدرج إلى إحدى الغرفتين العلويّتين. ثمّ تنزل سريعاً: «لقد فكّرتُ بأنّه مِن المستحسن أن يراكَ الجميع مِن دونها يا ربّ. وألّا يعلموا أين هي. هذه الحليّ...» تنحني لالتقاط خواتم وأساور، مشابك (أبازيم) ودبابيس شعر والحزام، وكلّ ما أمكنها أن تجد مِن حجارة العقد المقطوع. «ماذا أفعل بها يا ربّ؟»
«تعالي معي. معكِ حقّ. مِن المستحسن أن يروني.»
يدخلان إلى المطبخ. ينظر الجميع إلى يسوع بتساؤل. يوحنّا العجوز أيضاً قد نهض، ربّما قد أيقظه الجدال.
«إليز، أعطي توما الأشياء الثمينة. وأنتَ يا توما، غداً ستبيعها لأحد الصيّاغ. سوف تنفع الفقراء. نعم. إنّها حليّ امرأة، تلك المرأة. وهذه هي الإجابة لِمَن يظنّون بأنّ جسداً يمكنه أن يجرّب ابن الإنسان ويحيّده عن رسالته. وهي نصيحة كذلك، لأولئك الّذين يكرهونني، بأنّ كلّ مكيدة لإيجاد مادّة اتّهام عبثيّة هي. يا يوحنّا، إليز ستقول لكَ ما يجب عليكَ فِعله. أبارككَ...»
«أتفارقني يا ربّ؟» العجوز مغموم.
«يجب عليَّ ذلك. وداعاً. ليكن السلام معكَ.» يلتفت إلى الرُّسُل: «اذهبوا للراحة. كلّكم ما عدا يهوذا الاسخريوطيّ، الّذي يأتي معي.»
«إنّما إلى أين؟ إنّ الوقت ليل.» يعترض يهوذا.
«للصلاة. وذلك لن يؤذيكَ. أو أنّكَ تخاف هواء الليل، إذا ما استنشقتَه معي؟»
يهوذا يحني رأسه، متناولاً رداءه على مضض، فيما يسوع يأخذ رداءه.
«غداً في الفجر عند باب هيرودس. سنذهب إلى الهيكل و...»
«لا!» الـ "لا" جماعيّة. وتلك الّتي ليهوذا هي الأقوى.
«سنذهب إلى الهيكل. ألم تقل يا ترى بأنّكَ أقنعتَهم بأن يتركوني بسلام؟»
«هذا صحيح.»
«فإذن سنذهب إلى الهيكل. هيّا.» ويتوجّه إلى المخرج.
«وهكذا ينتهي الاحتفال الّذي كنّا قد أعددنا له...» يقول بطرس بتنهّد.
«انتهى قبل أن يبدأ، عليكَ أن تقول.» يجيبه يعقوب بن زَبْدي.
يسوع عند عتبة الباب المفتوح. يستدير ويبارك. ثمّ يختفي في الليل.
في المطبخ الجميع صامتون. أخيراً متّى يَسأَل إليز: «إنّما ما الّذي حدث في النهاية؟»
«لا أعلم. كانت هناك امرأة تبكي. وهو قال لي ما قاله لكم أيضاً. مَن كانت، مِن أين ولماذا أتت، لا أعلم...»
«حسناً. هيّا بنا.» الكلّ يرحلون، باستثناء متّى وبرتلماوس، اللذان ينامان في المنزل.