ج4 - ف155

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

155- (في الطريق إلى بصرى)

 

30 / 09 / 1945

 

كان التاجر على حقّ. لا يمكن أن يكون يوم في تشرين (أكتوبر) أجمل مِن هذا اليوم، بالنسبة إلى المسافرين. فما أن يتبدّد الضباب الذي كان يُغلِّف الريف، كما لو أن الطبيعة كانت تريد نشر شراع يغطّي غفوة النباتات أثناء الليل، حتى يَظهَر الريف في عظمة امتداد مزروعاته التي تُدفِّئها الشمس. يبدو أنّ الضباب يجتمع حتّى يلفّ القمم البعيدة بزبد شفّاف، وهي ترسم ظلالها باستمرار في السماء الصافية.

 

«وهذه ما تكون؟ أهي جبال علينا اجتيازها؟» يَسأَل بطرس قَلِقاً.

 

«لا، لا. إنّها جبال حوران. أمّا نحن فسنظلّ في السهل، خلف هذه الجبال. وفي العشيّة، سنكون في بصرى حورانيطس [حوران]، المدينة الجيّدة والجميلة، ففيها تجارة كثيرة.» يؤكّد التاجر ويُثني عليها، وهو الذي يضع نَجاح التجارة في أساس أولويّات جمال مكان ما.

 

يسوع بمفرده، في المؤخّرة، كما في كلّ مرّة يريد الاختلاء. يَلتَفِت مارغزيام مَرّات عِدّة لِيَنظُر إليه. ثمّ لم يعد قادراً على المقاومة، فيترك بطرس ويوحنّا بن زَبْدي، يَجلِس على قارعة الطريق، على نُصبة، يُفتَرَض أنّها شاخصة عسكريّة للرومان، وينتظر. وعندما يَصِل يسوع، يَنهَض الصبيّ، ويذهب دون كلام إلى جانب يسوع، إنَّما يبقى خلفه بعض الشيء، كيلا يُضايقه، ويُراقِب، يُراقِب…

 

يستمرّ في المراقبة إلى أن يَخرُج يسوع مِن تأمُّله، ويلتَفِت وهو يَسمَع وَقعَ خُطى خَفيف خَلفه. يبتسم وهو يمدّ يده للصبيّ قائلاً: «آه! مارغزيام! ماذا تفعل هنا وحيداً؟»

 

«لقد كنتُ أراقبكَ، منذ أيّام وأنا أراقبكَ. للجميع عيون، ولكنّهم لا يَرَون جميعاً الشيء ذاته. أنا، رأيتُ أنّكَ مِن حين لآخر تبقى وحيداً، وحيداً... في الأيّام الأوائل، كنتُ أظنّكَ مُستاء مِن أمر ما. إنّما، بعدئذ، رأيتُ أنّكَ تفعل ذلك دائماً في الأوقات ذاتها، وأنّ الأُمّ، وهي التي تواسيكَ دائماً في حزنكَ، لا تقول لكَ شيئاً في الأوقات التي تكون فيها على هذه الحال. بل على العكس، فإن كانت تتكلّم، فهي أيضاً تصمت وتختلي. أنا أرى، هل تَعلَم؟ ذلك أنّني أرقبكما على الدوام، لأفعل ما تفعلانه. سألتُ الرُّسُل عمّا تَفعله، إذ مِن المؤكَّد أنّكَ تفعل شيئاً. فقالوا لي: "إنّه يُصلّي". وسألتُ: "ماذا يقول"؟ لم يُجِبني أحد، لأنّهم لم يكونوا يعرفون. إنّهم معكَ منذ سنين، ولا يعرفون. واليوم، في كلّ مرّة كنتُ أراكَ على تلك الحال كنتُ أتبعكَ، وأنظُر إليكَ وأنتَ تصلّي. ولكنّ مظهركَ لم يكن ذاته في كلّ مرّة. ففي هذا الصباح، عند الفجر، كنتَ تبدو ملاك نور. كنتَ تَنظُر إلى الأشياء نَظرَة، أظنُّها كانت تَنتَشِلها مِن الظُّلمة أكثر مِن الشمس. الأشياء والأشخاص. ثمّ كنتَ تَنظُر إلى السماء، وكانت قَسَماتُكَ تبقى هي ذاتها التي تبدو فيها أثناء تقدمتكَ الخبز على المائدة. وبعد ذلك، حينما كنّا نجتاز هذه البلدة، سِرتَ في المؤخّرة، وكنتَ تبدو لي أباً، بقدر ما كنتَ مهتمّاً بقول كلام طيّب لفقراء البلدة، أثناء مروركَ. فقد قلتَ لأحدهم: "تحمَّل بصبر، فسأُخفّف عنكَ قريباً، وعن كلّ الذين على شاكلتكَ". وقد كان عَبدُ تلك المتوحّشة التي أطلَقَت كلابها علينا. ثمّ، أثناء إعداد الطعام، كنتَ تَنظُر إلينا بعينين ملؤهما الطّيبة والحبّ. كنتَ تبدو كأُمّ... بماذا تُفكّر، يا يسوع، في هذه اللحظة، لتكون هكذا دوماً؟... وكذلك في بعض الأمسيات، إن لم أنم، أراكَ في غاية الجِّدِّ والصَّرامة. أتقول لي كيف تصلّي، ولماذا تصلّي؟»

 

«بكلّ تأكيد سأقول لكَ. وهكذا سوف تصلّي معي. اليوم، الله هو الذي يَمنَحه، ما هو مُنير منه وما هو مُظلِم: النهار والليل. هبة هي الحياة والحصول على النور. وطريقة الحياة هي نوع مِن التَّقديس. أليس كذلك؟ إذاً فيجب تقديس أوقات اليوم كلّه للحفاظ على الذَّات في القداسة، والاحتفاظ بالإله العليّ وصلاحه في قلوبنا، وفي الوقت نفسه إقصاء الشيطان بعيداً. انظر إلى العصافير: إنّها، ولدى أوّل شُعاع مِن الشمس، تَشرَع بالصُّداح، وتُبارِك النور. نحن كذلك، علينا أن نُبارِك النور، لأنّه عطيّة مِن الله، وأن نُبارِك الله الذي يَمنَحنا إيّاه وهو نور. وأن نشتهيه مِن طلوع الفجر، كما لِنُثبِّت سِمَة النور، علامة النور، على اليوم كلّه، الذي يتقدّم، كي يكون بأكمله مُنيراً ومقدّساً، ونتّحد بالخليقة كلّها لِنُرتِّل للخالق: "أوشعنا". ثمّ، عندما تمضي الساعات، وطالما هي تمرّ، فإنّها تحمل إلينا معاينة ما يحلّ في العالم مِن آلام وجهل، والتحقّق منها، فالصّلاة هي أيضاً مِن أجل أن يُداوىَ الألم، ويتبدّد الجَّهل، وأن يكون الله معروفاً ومحبوباً، وأن يَلتَجِئ ويتضرّع إليه جميع الناس الذين، لو كانوا يعرفون الله، لكانوا مُعَزَّين على الدوام، حتّى في آلامهم. وفي الساعة السادسة (ما يعادل الساعة التاسعة صباحاً اليوم) علينا الصّلاة مِن أجل الحُبّ العائلي. تَذوُّق نعمة الاتّحاد بالذين يحبّوننا. فهذه أيضاً عطية مِن الله. وعلينا الصّلاة مِن أجل ألّا يتجاوز الطعام طبيعته كحاجة، ويتحوّل إلى سبب للخطيئة. وعند الغَسَق، الصلاة مفكّرين بالموت، الذي هو الغروب الذي ينتظرنا جميعاً. أن نصلّي مِن أجل أن يتمّ غروب يومنا وغروب حياتنا، على الدوام، ونَفْسنا في حال النّعمة. وعندما تُضاء المصابيح، الصلاة مِن أجل الشُّكر على النهار الذي انتهى، وطلب الحماية والمغفرة، لِيُصار إلى الاستسلام إلى النوم دون خوف مِن الدينونة غير المتوقَّعة، وهَجَمات الشيطان. وأخيراً علينا الصلاة أثناء الليل -ولكن هذه للذين تجاوزوا سنّ الطفولة- للاحتراز مِن خَطايا الليل، لإبعاد شيطان الضُّعفاء، وكي يَندَم الخَطَأَة ويُفكِّروا، ولكي تُصبِح الحلول الصالحة حقيقة، عند طلوع النهار. هاكَ لماذا وكيف يُصلّي البارّ طوال النهار.»

 

«ولكنّكَ لم تَقُل لي لماذا تختلي، وأنتَ صارم ومَهيب، في الهزيع الرابع مِن النهار...»

 

«لأنّني... أقول: "ليأت ملكوتك إلى العالم بتضحية هذه الساعة، ولِيَخلص كلّ الذين يؤمنون بكلمتكَ". قُلها أنتَ كذلك...»

 

«أيّة تضحية تقصد؟ إنَّ البخور، كما قلتَ، يقدّم في صباحاً ومساء. والذبائح تُقدَّم في الوقت ذاته، كلّ يوم، على هيكل المعبد. أمّا ذبائح النذور والكفّارات، فتُقَدَّم في كلّ وقت وكلّ ساعة. أمّا الساعة التاسعة، فما مِن إشارة إلى أنّها مخصّصة لإحدى الشعائر.»

 

يتوقّف يسوع ويحمل الصبيّ بين يديه، ويرفعه إلى قُبالة وجهه، وكما لو أنّه كان يُرتّل مزموراً، ووجهه مرتفع، يقول: «"وبين الساعة السادسة والساعة التاسعة، فإنَّ الذي قد أتى مخلّصاً وفادياً، ذاك الذي تحدّث عنه الأنبياء، سوف يَدخُل بذبيحته، بعد أكله خبز الخيانة المر، ومنحه خبز الحياة اللذيذ، وبعد أن يُعصَر كالعنقود في الدنّ (وعاء ضخم)، وبعد أن يشفي غليل الناس والنبات بذاته كلّها، وبعد أن يجعل لنفسه برفيراً مَلَكيّاً بدمه، وبعد ضَفْر أكليل له وإمساكه بالصولجان ونقل عرشه إلى مكان عال لتراه صهيون كلّها وإسرائيل والعالم، وبعد رفعه بثوب جراحه التي لا تحصى الأرجوانيّ،، في الظلمات لِيَهِب النور، في الموت لِيَهِب الحياة، سوف يموت في الساعة التاسعة ليفتدي العالم".»

 

وينظر إليه مارغزيام بهلَع، وقد شحب لونه، وبرغبة عارمة بالبكاء تبدو على شفتيه وفي عينيه الخائفتين. يقول بصوت متردّد: «ولكنّ الـمُخلِّص هو أنتَ! وإذن ستكون أنتَ مَن يموت في هذه الساعة؟» وتبدأ دموع منه بالانهمار على خدّيه، فيشربها فمه شبه المفتوح، بينما هو ينتظر تكذيباً.

 

ولكنّ يسوع يقول: «سأكون أنا، أيّها التلميذ الصغير. وسيكون كذلك مِن أجلكَ.» وبما أنّ الصبّي ينفجر في بكاء متشنِّج، يضمّه إلى قلبه ويقول له: «أتحزن إذن لموتي؟»

 

«آه! يا فرحي الوحيد! أنا، لا أريد ذلك! أنا... اجعلني أموت بدلاً عنكَ...»

 

«عليكَ أن تَكرز بي في العالم كلّه. هذا الأمر مفروغ منه. إنّما اسمع. سوف أموت مسروراً لأنّني أعرف أنّكَ تحبّني. وبعدئذ سأقوم مِن بين الأمّوات، أتتذكّر قصّة يونا؟ لقد خَرَجَ مِن بطن الحوت بشكل أبهى، وهو مُرتاح وقويّ. وأنا كذلك، وسوف آتي مباشرة إليكَ، وأقول لكَ: "يا مارغزيام الصغير، دموعكَ أزالت منّي العطش. حبّكَ رافَقَني في القبر. والآن آتي لأقول لكَ: ”كُن كاهِني‘‘ وسأُقبِّلكَ ورائحة الفردوس ما تزال فيَّ.»

 

«ولكن أين سأكون؟ أليس مع بطرس؟ أليس مع الأُمّ؟»

 

«أنا سوف أُخلِّصكَ مِن هجمات تلك الأيّام الجهنّميّة. سوف أُخلِّص الأكثر براءة والأكثر ضعفاً. ما عدا واحد... يا مارغزيام، أيّها الرَّسول الصغير، هل تريد أن تساعدني بالصلاة مِن أجل تلك الساعة؟»

 

«نعم يا سيّدي! والآخرون؟»

 

«هذا سرّ بيني وبينكَ، سرّ عظيم. ذلك أنّ الله يحب أن يتجلّى للصغار... لا تَعُد تبكي. ابتسم وأنتَ تفكّر أنّي، بعد ذلك، لن أتألّم أبداً، وأنّني سأتذكّر فقط حبّ البشر كلّه، بدءاً مِن حبّكَ. تعال، تعال. انظر كم الآخرون بعيدون. هيّا بنا نعدو لنلحق بهم.» ويُنـزِله يسوع أرضاً. يمسكه بيده، ويَشرَعان يَركُضان حتّى يلحقا بالجماعة.

 

«ماذا فعلتَ يا معلّم؟»

 

«كنتُ أشرح لمارغزيام ساعات اليوم.»

 

«وهل بكى الصبيّ؟ كان شقياًّ وأنتَ عَذرتَه، لصلاحكَ.» يقول بطرس.

 

«لا يا سمعان. لقد نَظَرَ إليَّ وأنا أصلّي. وأنتم لم تفعلوا ذلك. سألني عن السبب. وشرحتُه له. ولقد تأثّر الصبيّ مِن كلامي. الآن دعوه في سكون. اذهب إلى أُمّي، يا مارغزيام. أمّا أنتم، فاسمعوني جميعكم. لن يضيركم أن تسمعوا الأمثولة أنتم أيضاً.»

 

ويَشرَح يسوع مِن جديد فائدة الصلاة في ساعات النهار الرئيسيّة، دون الحديث عن شرح الساعة التاسعة (الهزيع الرابع). ويقول مختتماً كلامه: «الاتّحاد بالله هو الحصول عليه حاضراً في كلّ وقت لتمجيده والتضرّع إليه. افعلوا ذلك، وستتقدّمون في حياة الروح.»

 

لقد أَضحَت بصرى قريبة. ممتدّة في السهل، تبدو كبيرة وجميلة بأسوارها وأبراجها. المساء الذي يهبط يطبع أشكال جدران المنازل والأرياف، مُكسِباً إيّاها لون الليلك المائل إلى الرماديّ الباهت، حيث يتلاشى المحيط، بينما ثُغاء النِّعاج وخَفخَفة الخنازير الحبيسة ضمن زرائب خارج السور، تقطع صمت الريف. ينتهي السكون حالما تَعبُر القافلة البوّابة وتَدخُل في متاهة الدروب الصغيرة، التي تُخيِّب آمال الذين كانوا يَرَون المدينة مِن الخارج، جميلة. أصوات وروائح و... إنتانات تفوح في الدروب المعقّدة، وترافق المسافرين حتّى إحدى الساحات، وهي حتماً سوق فيه الفندق.

 

وها هُم قد وَصَلوا إلى بصرى.