ج5 - ف16
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
16- (يسوع في الإسكندروسين)
12 / 11 / 1945
إنّهم على الطريق مِن جديد، بعد دَورة طويلة عَبْر الحقول، وبعد اجتياز سَيل على جسر مِن الألواح الخشبيّة المتخَلخِلة التي لا تسمح بالمرور سوى للأشخاص: عَبَّارة أكثر منها جسر.
ويستمرّ المسير عَبْر السهل الذي يضيق باطّراد، ذلك أنّ الروابي تقترب مِن الشاطئ، لدرجة أنّ طريق السهل، بعد سَيل آخر عليه جسر رومانيّ لا غنى عنه، تصبح طريقاً جبليّة، حتّى إنّها شُطِرَت عند الجسر إلى طريق بطيئة تمتدّ صوب الشمال الشرقيّ عبر أحد الوديان، وأُخرى اختارها يسوع، وبحسب ما تشير إليه الشاخصة الرومانيّة: الإسكندروسين (Alexandroscène–m.Vo)، وهي بالحقيقة عِبارة عن دَرَجات في الجبل الصخريّ الشديد الانحدار، والذي يغطُس رأسه الحادّ في البحر الأبيض المتوسط، المتجلّي للعيان باطّراد بمقدار الارتقاء. ولا يَسلُك هذه الطريق، أو قُل هذه الدَّرجات، سِوى المشاة والحمير. ولكن قد يكون ذلك بسبب كونها طريقاً مُختَصَرة، وهي ما تزال مطروقة جدّاً، والناس يَنظُرون بفضول إلى مجموعة الجليليّين الذين يَسلكونه، وهذا أمر غير مألوف.
«قد يكون هذا الرأس هو (رأس العاصفة)» يقول متّى مشيراً إلى الرَّأس المتقدّم في البحر.
«نعم. ها هي القرية التي حَدَّثَنا عنها الصيّاد في الأسفل.» يؤكِّد يعقوب بن زَبْدي.
«ولكن مَن تراه استطاع بناء هذه الطريق؟»
«مَن يدري منذ متى هي موجودة؟ قد يكونون الفينيقيّين...»
«مِن القمّة سوف نرى الإسكندروسين التي يليها الرأس الأبيض. عزيزي يوحنّا، سوف ترى بحراً ممتدّاً بشكل هائل!» يقول يسوع واضعاً ذراعه حول كتفيّ الرَّسول.
«سأكون مسروراً لذلك. ولكنّ الليل وشيك الهبوط. أين سنُقيم لنرتاح؟»
«في الإسكندروسين. هل تَرى؟ الطريق تبدأ بالانحدار. وفي الأسفل يمتدّ السهل حتّى المدينة التي تظهر هناك.»
«إنّها مدينة المرأة التي مِن أنتيجونيا... ما الذي يمكننا عمله لنُفرِحها؟» يقول أندراوس.
«هل تعلم يا معلّم؟ لقد قالت لنا: "اذهبوا إلى الإسكندروسين. فإخوتي يَملكون فيها محلّات تجاريّة، وهُم صابِئون. حَدِّثوهم عن المعلّم. فنحن كذلك أبناء الله..." وكانت تبكي بسبب سوء معاملتها ككنّة (زوجة الابن)... بحيث لم يَزُرها أخوتها أبداً، وهي لا أخبار لديها عنهم...» يَشرح يوحنّا.
«سوف نبحث عن إخوة المرأة. إذا استقبَلونا كمسافرين، نتمكّن مِن إرضائها...»
«ولكن كيف العمل لنقول إنّنا رأيناها؟»
«هي في خدمة لعازر. ونحن أصدقاء لعازر» يقول يسوع.
«حقّاً. أنتَ مَن سوف يتكلّم...»
«نعم. ولكن فلنسرع لنجد المنزل. هل تعرفون أين يقع؟»
«نعم. قرب المخيّم. لهم علاقات كثيرة مع الرومانيّين، فهم يبيعونهم أشياء كثيرة.»
«حسناً.»
يَقطَعون بسرعة الطريق المنبَسِطة، الجميلة، هي طريق قنصليّة بحقّ، ترتبط بالتأكيد مع طُرُقات الداخل، أو بالحريّ، المستمرّة صوب الداخل بعد إنهاء الامتداد الصخريّ، المتدرِّج، على طول الساحل، مُنفَرِجة عند الرأس.
الإسكندروسين هي مدينة عسكريّة أكثر منها مدنيّة. المفروض أنّ لها أهميّة استراتيجيّة أَجهَلها. مُتلملِمة كما هي حالها بين الرأسين، تبدو وكأنّها أُنشِئت لحراسة هذا الرّكن مِن البحر. الآن وقد أَصبَحَ الرأسان باديين للعيان، فيظهَر عدد كبير من الأبراج مُنتَصبة فيهما، وهي تُشكِّل سلسلة مع أبراج السهل والمدينة، حيث يتصدّر المخيّم الـمَهيب قرب الساحل.
يَدخلون المدينة بعد اجتيازهم سيلاً صغيراً قريباً مِن الأبواب، ويتوجّهون صوب القلعة المقابلة، وهُم يُلقون حولهم نظرات فضوليّة، ويُصبحون بِدَورهم مَثار فُضول.
الجنود كثيرون جدّاً، ويبدو أنّهم على وِفاق مع السكّان، مما يجعل الرُّسُل يُهمهِمون: «يا لسكّان فينيقيا! إنّهم فاقدو نُبل الشعور!»
يَبلُغون مَخزَن إخوة هرميون بينما يَخرُج آخر الزبائن، مُحمّلين ببضائع مُختلفة مِن ملاءات أسرّة إلى شراشف مائدة، ومِن العَلَف إلى البقول، أو الزيت والأغذية. روائح الجلد والتوابل والتبن والصوف الخام تملأ الردهة الواسعة الموصلة إلى دار رَحبّة، وكأنّها ساحة تحت أروقتها توجد مخازن عديدة.
يَهرَع رجل ملتحٍ أسمر. «ماذا تريدون؟ موادّ غذائيّة؟»
«نعم... وكذلك مكان إقامة، إذا لم تكن تأنف مِن تقديم السَّكَن للمسافرين. نحن قادمون مِن البعيد، ولم نأت قبلاً أبداً إلى هذا المكان. اقبَلنا باسم الربّ.»
يُمعِن الرجل النَّظَر بيسوع الذي يتكلّم باسم الجميع. يتفحّصه... ثمّ يقول: «في الحقيقة أنا لا أُقدِّم السَّكَن لأحد، ولكنّكَ تُعجِبني. أنتَ جليليّ، أليس كذلك؟ والجليليّون أفضل مِن اليهود. فلديهم مِن العفونة الكثير. لا يَغفرون لنا كون دمنا ليس نقيّاً. والأفضل لهم أن تكون لهم نفس نقيّة. تعال، ادخل هنا، سآتي في الحال. سأُغلِق المحالّ لأنّ الليل يهبط.» بالفعل، إنّه الغسق، وقد أظلَمَت الدار أكثر مِن المخيّم.
يَدخُلون إلى غرفة، ويَجلسون على مقاعد موضوعة هنا وهناك. إنّهم متعبون…
يَعود الرجل ومعه رَجُلان آخران، الواحد أكبر سنّاً منه، والآخر أصغر سنّاً، ويُشير إلى الضيوف الذين يَقِفون مُحيّين، ويقول: «ها هُم. ماذا يبدو لكم؟ يَبدون لي نَزيهين...»
«نعم. أَحسَنتَ فِعلاً.» يقول الأكبر سنّاً لأخيه، ثمّ يتوجّه بالكلام إلى الضيوف، أو بالحريّ إلى يسوع الذي يَظهَر جليّاً أنّه رئيسهم، ويَسأَل: «ما هي أسماؤكم؟»
«يسوع مِن الناصرة، يعقوب ويوضاس مِن الناصرة أيضاً، يعقوب ويوحنّا مِن بيت صيدا، وكذلك أندراوس، إضافة إلى متّى مِن كفرناحوم.»
«كيف وصلتم إلى هنا؟ هل أنتم مُلاحَقون؟»
«لا. بل نحن نَكرز. لقد طفنا فلسطين أكثر مِن مرّة، مِن الجليل إلى اليهوديّة، مِن بحر إلى آخر، وقد تجاوزنا نهر الأردن، وصولاً إلى حورانيطس [حوران]. والآن أتينا إلى هنا... لِنُعلِّم.»
«رابّي هنا؟ هذا يُدهِشنا، أليس كذلك يا فليبّس وإيلي؟» يَسأَل الأكبر سنّاً.
«كثيراً. إلى أيّة جماعة تنتمي؟»
«لستُ أنتمي لأيّة جماعة. أنا مِن الله. ولقد آمن بي الصالحون مِن العالم. أنا فقير، أُحبّ الفقراء، ولكنّني لا أحتَقِر الأغنياء، بل أُعلِّمهم الحبّ والرحمة والتخلّي عن الثروات، وفي الوقت نفسه أُعلِّم الفقراء حبّ فقرهم والرّجاء بالله الذي لا يدع أحداً يَفنى. ومِن ضمن أصدقائي الأغنياء وتلاميذي لعازر الذي مِن بيت عنيا...»
«لعازر؟ لنا أخت متزوّجة مِن أحد خُدّامه.»
«أَعلَم. ولأجل ذلك أيضاً أتيتُ لأقول لكم إنّها تُسلّم عليكم وتحبّكم.»
«هل رأيتَها؟»
«ليس أنا، بل الذين معي، وقد أَرسَلَهم لعازر إلى أنتيجونيا.»
«آه! قولوا لنا، ماذا هي فاعلة، هرميون؟ هل هي حقّاً سعيدة؟»
«زوجها وحماتها يحبّانها كثيراً. وحموها يحترمها ويجلّها...» يقول يوضاس تدّاوس.
«ولكنّه لا يغفر لها دمها الأموميّ. قُلها.»
«إنّه في طريقه إلى المسامحة. لقد مَدَحَها كثيراً. ولديها أربعة أولاد جميلون جدّاً وظرفاء. وهذا يجعلها سعيدة. ولكنّكم في قلبها على الدوام، وقالت لنا أن نَجلب لكم المعلّم الإلهيّ.»
«ولكن... كيف... أنتَ... أنتَ مَن يدعونه مَسيّا، أنتَ؟»
«أنا هو.»
«أنتَ حقّاً الـ ... قيل لنا في أورشليم أنّكَ، أنّكَ تُدعى كلمة الله. هل هذا صحيح؟»
«نعم.»
«هل أنتَ كذلك مِن أجل الذين هناك أم مِن أجل الجميع؟»
«مِن أجل الجميع. هل يمكنكم الإيمان بأنّني هو؟»
«الإيمان لا يُكلّف شيئاً. خاصّة حينما نرجو أنّ الذي نؤمن به يُزيل عنّا مُسبّب الألم.»
«هذا صحيح يا إيلي. إنّما لا تتكلّم هكذا. إنّها فكرة فاسدة جدّاً، أكثر مِن الدم المختَلَط. افرح، ليس أملاً في سقوط ما يُسبّب الألم، كإنسان، واحتقار الآخر، إنّما افرح في رجاء كسب ملكوت السماوات.»
«أنتَ على حقّ، فأنا نصف وثنيّ، يا ربّ...»
«لا تَحطّ مِن قَدر نفسكَ. فأنا أحبّكَ أنتَ أيضاً، ومِن أجلكَ كذلك أنا أتيتُ.»
«المفروض أنّهم تَعِبون، يا إيلي. وأنتَ تحجزهم بأحاديثكَ. هيّا بنا إلى العشاء، ثمّ فلنأخذهم إلى حيث ينالون قسطاً مِن الراحة. لا توجد نساء هنا... لم تَرضَ بنا إسرائيليّة واحدة، ونحن نرغب في واحدة منهنّ... سامِحنا إذن إذا ما بدا لكَ البيت بارداً وبغير زينات.»
«قلبكم الصالح يجعله بالنسبة لي مزيّناً ودافئاً.»
«كَم مِن الوقت تمكث هنا؟»
«ليس أكثر مِن يوم. أريد الذهاب إلى صور وصيدا، وأودُّ أن أكون في أَكزِيب قبل السبت.»
«لا يمكنكَ ذلك يا سيّدي! فصيدا بعيدة!»
«أودُّ أن أتكلّم هنا، غداً.»
«بيتنا كالمرفأ. دون الخروج منه سيكون لديكَ مستمعون بقدر ما ترغب، إضافة إلى أنّ غداً يوم تسوّق وسيكون سُوقاً عظيماً.»
«هيّا بنا إذن، وليكافئكم الربّ على محبّتكم.»