ج4 - ف97
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
97- (مريم المجدليّة في بيت سمعان الفرّيسيّ)
21 / 01 / 1944
لِتَعزيتي في آلامي المتعدّدة، ولِجَعلي أنسى خُبث الناس، فقد مَنَحَني يسوعي هذا التأمُّل الـمُمتِع.
أرى قاعة ثريّة جدّاً، ثُريّا فاخِرة متعدّدة المصابيح مُدَلّاة في الوسط، مُضاءة كلّها. على الجدران سِجّاد غاية في الجمال، مَقاعِد مُطَعَّمة ومُرصَّعة بالعاج والقَصَب النَّفيس، كذلك هناك مفروشات في غاية الروعة.
في الوسط طاولة كبيرة مُربَّعة الشكل، هي بالحَريّ تتألّف من أربع طاولات مُجتَمِعة. وبالتأكيد، جُعِلَت الطاولة بتلك الطريقة كي تُلائِم المدعوّين الكثيرين (وكلّهم مِن الرجال)، وهي مغطّاة بشراشف جميلة جدّاً، وعليها الأواني الفاخرة. جِرار كثيرة وكؤوس ثمّينة، والخُدّام حولها في حركة دَؤوبة، يَجلبون الأطباق، ويَسكبون النبيذ. لا أحد وسط المربّع. أرى بلاطاً جميلاً للغاية، يَنعَكِس منه نور مصابيح الزَّيت. في الـمُقابِل، في الناحية الخارجيّة، هناك متّكآت يَشغَل المدعوّون جميعَها.
يَبدو لي أنّني في المثلّث شبه المظلم، الواقع في صَدر القاعة، بجانب باب مفتوح على مصراعيه إلى الخارج، ولكنّه في الوقت ذاته، مُغلَق بسجّادة ثقيلة، أو نسيج صفيق موشّى يتدلّى مِن الساكف. (هو الجزء الذي يلي تاج العمود.)
في الجهة الأبعد مِن الباب، ربّ البيت مع المدعوّين المتميّزين. إنّه رجل مُسِنّ، يرتدي جلباباً ابيض فضفاضاً، يَشدّه عند الخصر حِزام مُوشَّى. على الثوب، كذلك، عند القَبَّة وأطراف الأكمام وطرف الثوب ذاته، أطواق تَوشية مطبقة، كما لو كانت شرائط موشّاة أو غالون، إذا كان مِن الأفضل تسميتها هكذا. ولكنّ وجه ذلك العجوز القصير لا يعجبني، إنّه وجه خبيث بارد، متكبِّر ونَهِم.
في الجهة المقابلة يسوعي. أراه بشكل جانبيّ، أكاد أقول مِن الخلف. يرتدي ثوبه الأبيض الاعتياديّ. وصندلاً، وقد فَرَقَ شعره إلى مجموعتين عند جبهته، وهو طويل كالمعتاد.
أُلاحِظ أنّه، وكلّ المدعوّين، غَير مُمَدَّدين، كما كنتُ أَظُنُّ الحال على المتّكآت؛ يعني أنّهم عموديّون على الطاولة، إنّما بشكل متوازٍ. في رؤيا عرس قانا، لم أُعِر كثير انتباه لهذه التفاصيل، كنتُ قد رأيتُهم يأكلون وهُم مُستَنِدون إلى المرفق الأيسر، إنّما كان يبدو لي أنّهم لم يكونوا مُستَلقين، لأنّ المتّكآت كانت أقلّ تَرَفَاً وأقصر كثيراً. أمّا هذه فإنّها أَسِرَّة حقيقيّة، شبيهة بالأرائِك الحديثة، حَسب الطِّراز التركيّ.
يوحنّا إلى جِوار يسوع، وبما أنّ يسوع يتّكئ على ذراعه الأيسر (كما الجميع)، يمكن الاستنتاج بأنّ يوحنّا محشور بين الطاولة وجَسَد السّيد، وقد استَنَدَ مرفقه إلى جوار فَخذ المعلّم، بشكل لا يضايقه أثناء تناول الطعام، ويَسمَح له كذلك، لو أراد، أن يتّكئ على صدره ودّياً.
لا نساء هناك. الجميع يتحدّثون، وربّ البيت يتوجّه بالكلام، بين الحين والحين، إلى يسوع، بِدَالَّة مُفعَمَة مَوَدّة وتنازلاً جليّاً. مِن الواضح أنّه يريد أن يُظهِر له، ولكلّ الحاضرين، أنّه قد كَرَّمَه كثيراً بدعوته إلى منـزله الفاخر، وهو النبيّ الفقير، والـمُعتَبَر كذلك مُتهوِّراً إلى حَدٍّ ما.
أرى يسوع يُجيب بكياسة وهدوء. يبتسم ابتسامته الخفيفة للذين يَسأَلونه، وابتسامة مُشرِقَة، فقط إذا كان الذي يُحدِّثه أو يَنظُر إليه هو يوحنّا.
أرى النسيج الصفيق المطرّز الفاخِر، الذي يغطّي فتحة الباب، يَرتَفِع لِتَدخُل امرأة شابة، غاية في الجمال، ترتدي الثياب الفاخرة، وقد سَرَّحَت شعرها بعناية. الشعر الأشقر الكثيف جدّاً يُشكِّل على الرأس زينة حقيقيّة بالخصلات المجدولة بشكل فنّي. تَبدو وكأنّ على رأسها قبّعة مِن ذَهَب نَافِر، بِقَدر ما كان الشَّعر كثيفاً برّاقاً. وثوبها، أقول إنّه مُعقَّد وغريب جدّاً، إذا ما قارنتُهُ بالذي كانت العذراء مريم ترتديه بشكل دائم. إبزيمات مِن الذهب على الكتفين، جواهر تَحصُر الثنيات في أعلى الصدر، سلاسل ذهبيّة تَرسُم الصدر، حِزام بِعُقَل ذهبيّة وأحجار ثمّينة. ثوب مُثير، يُبرِز كلّ تفاصيل جسدها الجميل جدّاً. وعلى رأسها وِشاح خفيف للغاية... بحيث لا يَستر شيئاً. ما هو إلّا مَظهَر ليس إلّا. وفي قدميها حذاء فاخِر بإبزيمات مِن ذهب، حذاء مِن الجّلد الأحمر، بشرائط متشابكة عند الكاحلين.
يَلتَفِت الجميع لِيَنظُروا إليها إلّا يسوع. يَرمقها يوحنّا للحظة، ثمّ يَلتَفِت إلى يسوع. يُحدِّق الآخرون بها بِنَهَم جَليّ وخبيث. ولكنّ المرأة لا تَنظُر إليهم على الإطلاق، ولا تَهتمّ للهَمهَمات التي ارتَفَعَت لدى دخولها، ولِغَمَزات كلّ المدعوّين، ما عدا يسوع والتلميذ. يَتظاهَر يسوع بعدم الانتباه إلى شيء، ويُتابِع الحديث، مُكمِلاً نقاشاً بَدَأَه مع ربّ البيت.
تتوجّه المرأة إلى يسوع، وتَجثو عند قدميّ المعلّم. تَضَع على الأرض إناء صغيراً على شكل جَرّة بَطينة، تَنـزَع الوشاح عن رأسها، وقد فَكَّت الدبّوس الثمين الذي كان يثبّته بشعرها، تَنـزَع الخواتم مِن أصابعها، وتَضَعها كلّها على المتّكأ، جانب قدميّ يسوع. بعد ذلك، تأخذ قدميّ يسوع بين يديها، القدم اليمنى أوّلاً ثمّ اليسرى، تَحلّ سير الحذاء، وتضعهما على الأرض، ثمّ تُقبِّل قدميه وهي تَنتَحِب، مُسنِدة جَبهَتَها إليهما، تُلامِسهما بِلُطف، وتَنهَمِر دموعها كمطر يَسطَع تحت نور الثريّا، وتُبلِّل قدميه المحبّبتين.
يُدير يسوع رأسه ببطء، ويَستقرّ نَظَرَه الأزرق الداكن لحظة على الرأس المنحني. نظرة عين تَغفُر. ثُمّ يَنظُر مِن جديد إلى الوَسَط، ويَدَعها حُرّة في مُكاشَفَتها.
أمّا الآخرون فلا. إنّهم يَتندَّرون فيما بينهم، ويَغمزون ويَهزؤون. ويَجلس الفرّيسيّ لِيَرى بشكل أفضل، ونظرته تُعبِّر عن رغبة وغَيظ وسخرية. بالنسبة إليه هي شَهوة المرأة، هذا الإحساس جليّ. مِن جهة أخرى، هو غاضِب لِدُخولها هكذا بكلّ حرّيّة، مِمّا يُوحي للآخرين بأنّ المرأة... مُعتادة على البيت. في النهاية يَنظُر إلى يسوع نظرة ساخِرة…
ولكنّ المرأة لا تنتبه إلى شيء. وتستمرّ في سَكب الدموع غزيرة بلا أيّة صرخة. بَل دموع سخيّة فقط، ونَحيب قليل. بعد ذلك تَحلّ شَعرها ساحبة منه دبابيس الذهب التي تُثبِّت التسريحة الـمُعقَّدة، وتضع الدبابيس بجانب الخواتم والدبّوس الكبير الذي كان يثبّت الوشاح. وتَنسَدِل شلَّات الذهب على الكتفين. تُمسِكها بيدها وتَجلبها إلى صدرها وتُمرّرها إلى قدميّ يسوع الـمُبلَّلَتين، وتُجفِّفهما بها. ثمّ تَغمس أصابعها في الإناء الصغير، وتَسحَب مِنه دُهناً يميل إلى الصُّفرة وذا رائحة زكيّة جدّاً. إنّه طِيب مُستَخرَج مِن الزنبق والمسك الروحيّ، يفوح أريجه ويَعبق في الغرفة كلّها. تَغرُف منه المرأة بسخاء، وتَدهَن وتُقبِّل وتُلامِس بِخِفّة.
وبين الحين والحين، يَنظُر إليها يسوع برحمة وَدودة. أَمّا يوحنّا الذي يَلتَفِت مُندَهِشاً وهو يَسمَع النحيب، لا يستطيع أن يَشيح النَّظَر عن يسوع والمرأة. ويَنقُل نَظَرَه بينهما.
يزداد وجه الفرّيسيّ ضِيقاً. أَسمَع هنا كَلمات الإنجيل المعروفة، وأَسمَعها تُقال بِنَغمة تُرافِقها نَظرَة تَجعَل الرَّجُل يَخفض رأسه كارِهاً ساخِطاً.
أَسمَع كلمات الغُفران الموجَّهة إلى المرأة التي تَمضي تاركة جواهرها عِند قدميّ يسوع. لَفَّت وشاحها حول رأسها، شادَّة شَعرها الأشعَث قَدْرَ المستطاع. أمّا يسوع، فبينما يقول لها: «اذهبي بسلام»، يَضَع يده على رأسها المنحني، إنّما بِلُطف لا مُتناه.