ج6 - ف124
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الثاني
124- (مع فلاّحي جيوقانا)
08 / 05 / 1946
«هل سيأتون؟» يَسأَل متّى رفاقه الذين كانوا قد جلسوا في غيضة مِن أشجار سنديان، عند المنحدارات الأكثر انخفاضاً للجبل الذي تقع عليه سيفوريس. إنّ مرج ابن عامر لم يعد مرئيّاً على اعتبار أنّه خلف الجبل حيث هم متواجدون. إنّما هناك سهل أصغر بكثير بين هذا الجبل وجبال منطقة الناصرة، والتي يمكن رؤيتها بوضوح في ضوء القمر الساطع.
«لقد وَعَدوا. وسوف يأتون» يُجيب أندراوس.
«على الأقلّ بعضهم. لقد كانوا مُزمِعين أن ينطلقوا عند منتصف الهجعة الأولى، وسيكونون هنا عند بداية الهجعة الثانية» يقول توما.
«سيستغرقون أكثر مِن ذلك» يقول تدّاوس.
«لقد استغرق معنا الأمر أقلّ مِن ثلاث ساعات» يعترض أندراوس.
«نحن رجال وبكامل قوّتنا. هُم متعبون وسوف يكون معهم نساء» يُجيب تدّاوس مجدّداً.
«المهمّ ألّا يكتشف سيّدهم ذلك!» يقول متّى متنهّداً.
«ما مِن خَطَر. فقد ذهب إلى جزرائيل، حيث سيكون ضيفاً عند صديق. الوكيل أيضاً هناك. ولكنّه آتٍ كذلك، لأنّه لا يكره المعلّم» يقول توما.
«هل سيكون ذاك الرجل صادقاً؟» يَسأَل فيلبّس.
«نعم، لأنّ ما مِن سبب يدعوه كي لا يكون كذلك.»
«إنّما! ماذا عن السعي وراء عطايا سيّده السخيّة و...»
«لا يا فيلبّس. جيوقانا سوف يطرده حالما ينتهي موسم القطاف، فقط لأنّه لا يكره المعلّم» يُجيب أندراوس.
«مَن أخبركَ؟» يَسأَل العديد منهم.
«هو بنفسه، وأيضاً الفلاّحون... كلّ على حدة. وعندما يتطابق قول أُناس مِن طبقتين مختلفتين، فهذا يعني بأنّ ما يقولونه صحيح. فالفلّاحون كانوا يبكون لأنّ الوكيل سيرحل. فقد كان رحيماً جدّاً. وهو قال لنا: "أنا إنسان ولستُ ألعوبة. فالسنة الماضية كان سيّدي قد قال لي: "بَـجِّل المعلّم، تَقرَّب منه، آمِن به". وقد أطعتُ. أمّا الآن فهو يقول لي: "الويل لكَ إذا أحببتَ عدوّي، وإذا سمحتَ لخُدّامي بأن يحبّوه. لا أريد لأملاكي أن تصبح ملعونة باستقبال ذاك الرجل الملعون."
إنّما الآن وبعد أن عرفتُهُ، فكيف يمكنني أن أعتَبِر أنّ ما أَمَرَني به هو أمر عادل؟ فقلتُ لسيّدي: "في العام الماضي تكلمتَ بشكل مختلف، والمعلّم لم يتغيّر." فضربني للمرّة الأولى. ثمّ قلتُ: "أنا لستُ عبداً، وحتّى لو كنتُ كذلك، فأنتَ لا تمتلك تفكيري. وتفكيري حَكَمَ على مَن تقول عنه ملعون بأنّه قُدّوس." فضربني مجدّداً. وهذا الصباح قال لي: "لعنة إسرائيل في أملاكي. الويل لكَ إذا ما عصيتَ أمري. فلن تعود أبداً خادمي." فأجبتُ: "أنتَ على حقّ. فأنا لم أعد خادمكَ. ابحث عن شخص آخر لديه قلب مثل قلبكَ، وأن يكون متسلّطاً على أملاككَ كما أنتَ متسلّط على نفوس الآخرين." فَرَماني على الأرض وضربني... إنّما العمل السنويّ سوف ينتهي قريباً، وسوف أكون حرّاً مع قمر شهر تشرين (سبتمبر-اكتوبر). أنا آسف فقط على أولئك... "وأشار إلى الفلاحين"» يقول توما.
«ولكن أين رأيتموه؟...»
«بين الأشجار، كما لو أنّنا كنّا قُطّاع طرق. إنّ ميخا الذي تحدّثنا إليه كان قد أَعلَمَه، وهو جاء وكان لا يزال ينزف، وجاء الخُدّام والخادمات في مجموعات صغيرة بالتّتابُع...» يقول أندراوس.
«همم (همهمة)! إذن يهوذا كان على حقّ! إنّه على دراية بمزاج الفرّيسيّ...» يُلاحِظ برتلماوس.
«يهوذا يعرف الكثير مِن الأمور!...» يقول يعقوب بن زَبْدي.
«اصمت! قد يسمعكَ!» ينصح متّى.
«لا. لقد ابتَعَد قليلاً قائلاً بأنّه يشعر بالنعاس وأنّ لديه صداعاً...» يُجيب يعقوب.
«قمر! قمر في السماء وقمر في رأسه. إنّه هكذا: إنّه أكثر تقلّباً مِن الريح» يُعلن بطرس الذي كان قد بقي صامتاً لوقت طويل.
«نعم! مصيبة حقيقيّة بيننا!» يقول برتلماوس متنهّداً.
«لا، لا تقل ذلك! ليس مصيبة! بل على العكس: وسيلة للتقدُّس...» يقول الغيور.
«أو للهلاك، لأنّه يدفع المرء كي يفقد فضائله...» يقول تدّاوس بحزم.
«إنّه بائس مسكين!» يُعلّق أندراوس بحزن.
يسود صمت.
ثمّ يَسأَل بطرس: «إنّما هل لا يزال المعلّم يصلّي؟»
«لا. فقد مرّ فيما كنتَ نائماً كي ينضمّ إلى يوحنا وأخيه يعقوب، الـمُعيّنان كَمُراقِبين على الطريق. فهو يريد أن يكون مع الفلّاحين المساكين حال وصولهم. فلربّما هي المرّة الأخيرة التي يراهم فيها» يُجيب الغيور.
«لماذا هي المرّة الأخيرة؟ لماذا؟ لا تقل ذلك. فذلك يبدو جالباً للنّحس!» يقول تدّاوس بتوتّر.
«لأنّه يمكنكَ أن تُدرك ذلك... إنّنا نصبح مضطَهَدين أكثر فأكثر... لا أعرف ما الذي علينا فِعله في المستقبل...»
«سمعان على حقّ... أه! سوف يكون أمراً جميلاً لو كنّا كلّنا روحانيّين... إنّما... لو سُمِح لنا بامتلاك القليل مِن... الإنسانيّة... فما كان ضرّنا القليل مِن حماية كلوديا» يقول متّى.
«لا. مِن الأفضل أن نكون وحدنا... وخصوصاً أن نكون بمنأى عن أيّ تواصل مع الوثنيّين. أنا... لا آمن جانبهم» يقول برتلماوس بحزم.
«وأنا لا آمن جانبهم كثيراً... إنّما... المعلّم يقول بأنّ عقيدته يجب أن تنتشر في كلّ العالم. وبأنّه نحن مَن يتوجّب علينا فِعل ذلك... يجب أن نزرع كلماته في كلّ مكان... لذلك فسوف يكون علينا أن نجعل أنفسنا تتأقلم على الاقتراب مِن الأُمميّين والوثنيّين...» يقول تدّاوس.
«أُناس نَجِسون. إنّه يبدوا لي أمراً تدنيسيّاً. الحكمة للخنازير!...»
«هُم أيضاً لديهم، نفوس، يا نثنائيل! فقد كنتَ تُشفِق على تلك الفتاة في الأمس...»
«لأنّ... إنّها... عِبارة عن مجرّد لاشيء يجب إيصاله إلى الكمال. إنّها كما مولود... لكنّ الآخرين!... كما أنّها ليست رومانيّة...»
«هل تعتقد أنّ الغاليين ليسوا وثنيّين؟ هم أيضا لديهم آلهتهم القاسية. وسوف تُدرك ذلك فيما إذا كان عليكَ الذهاب لهدايتهم!...» يقول الغيور الأكثر اطّلاعاً مِن الآخرين، أودُّ القول، الأكثر انفتاحاً.
«ولكنّها لا تنتمي إلى عِرق أولئك الذين يُدنّسون إسرائيل. أنا لن أُبشّر أبداً أعداء إسرائيل، لا القريبين منهم ولا البعيدين.»
«إذن... سوف يكون عليكَ أن تذهب بعيداً جدّاً، إلى شعوب القطب الشماليّ، لأنّ... قد لا يبدو كذلك، ولكنّ إسرائيل قد جَرَّبَ كلّ الشعوب المجاورة...» يقول توما.
«سوف أذهب بعيداً... إنّما ها هو المعلّم. لنذهب إليه. كَم مِن النّاس! لقد أتوا كلّهم! حتّى الأطفال...»
«سوف يكون المعلّم سعيداً...»
إنّهم ينضمّون إلى المعلّم الذي يتقدّم بصعوبة على المرج، يزحمه الكثيرون الذين يُحيطون به.
«أما يزال يهوذا غائباً؟» يَسأَل يسوع.
«نعم يا معلّم. لكنّنا سوف نناديه، إذا كنتَ ترغب بذلك...»
«لا حاجة لذلك. فإنّ صوتي سوف يصل إليه حيث هو موجود. وضميره الحرّ سوف يُحدّثه بصوته الخاص. ليس مِن الضروريّ أن تضمّوا إليه أصواتكم وتُرغِموا إرادته. تعالوا، لنجلس هنا مع إخوتنا. وسامحوني إن لم يكن بمقدوري أن أتشارك الخبز معكم في وجبة مَحبّة.»
يجلسون بشكل دائرة ويسوع في الوسط، ويسوع يريد حوله كلّ الأطفال، الذين يحيطون به بمودّة ومفعمين بالثقة.
«باركهم يا ربّ! كي يحظوا بما نتوق لأن نحظى به: حرّية أن نحبّكَ!» تصيح امرأة.
«نعم. إنّهم يَحرموننا أيضاً مِن ذلك. لا يريدون لكلماتكَ أن تنطبع في نفوسنا. والآن وبعد منعكَ مِن المجيء، فإنّهم يَحرموننا مِن ملاقاتكَ... ولن نحظى بعد بكلام مقدّس!» ينوح رجل عجوز.
«إن كنّا سنُترَك هكذا، فإنّنا سوف نغدو خطأة. لقد عَلَّمتَنا أن نُسامح... لقد مَنَحتَنا الكثير مِن المحبّة بحيث استطعنا تحمّله وتحمّل نواياه الشرّيرة... أمّا الآن...» يقول شابّ. (إنّني غير قادرة على رؤية الوجوه بشكل جيّد، لذلك فليس بمقدوري أن أعرف بالضبط مَن الذي يتكلّم. إنّني أعتمد على نبرات الأصوات.)
«لا تبكوا. سوف أحرص على ألّا تفتقروا إلى كلامي. سوف آتي ثانية، طالما أستطيع ذلك...»
«لا أيّها المعلّم والربّ. إنّه شرّير، وأصدقاؤه كذلك. قد يؤذوكَ بسببنا، نحن سوف نضحّي بفقدانكَ، إنّما لا تُحمّلنا ألم أن نضطرّ للقول: "لقد تمّ القبض عليه بسببنا".»
«نعم، أنقذ نفسكَ يا معلّم.»
«لا تخافوا. لقد قرأنا في إرميا كيف أنّ النبيّ طلب مِن كاتبه باروخ أن يكتب ما أملاه عليه الربّ، وأن يذهب ويقرأ ما كَتَبَه على مسامع أولئك الذين كانوا قد تجمّعوا في بيت الربّ، وأن يقرأه بدل النبيّ الذي كان مسجوناً ولم يكن بمقدوره الذهاب إلى هناك. وأنا سوف أفعل الأمر ذاته. بين رُسُلي وتلاميذي هناك الكثير مِن المخلصين كما باروخ. سوف يأتون ويتلون على مسامعكم كلمة الربّ، ونفوسكم لن تهلك. وأنا لن يُقبَض عليَّ بسببكم، لأنّ الله العليّ سوف يحجبني عن عيونهم حتّى تحين الساعة التي يُكشَف فيها للجموع عن الذي هو مَلِك إسرائيل، بحيث أنّ العالم أجمع سوف يعرفه. ولا تخافوا أيضاً مِن فقدان الكلمات التي تسكن ذواتكم.
وقد قرأنا، كذلك في إرميا، أنّه أيضاً بعد إتلاف اللُّفافة مِن قِبَل يواكيم -مَلِك يهوذا، الذي بإحراقه اللُّفافة، كان يأمل بأن يُبيد الكلمات الأزليّة الصادقة- فإنّ ما أملاه الله قد بقي، لأنّ الربّ كان قد أعطى هذا الأمر للنبيّ: "خُذ لفافة أُخرى واكتب كلّ الكلام الذي كان مكتوباً على اللُّفافة التي أحرقها الـمَلِك." وإرميا أعطى لُفافة لباروخ، لُفافة خالية مِن أيّة كتابات، وقد أملى مرّة ثانية على كاتبه الكلمات الأزليّة، وقد أضاف عليها أيضاً كي يُكمل السابقة، لأنّ الربّ يُصلِح الأضرار التي يُسبّبها البشر عندما تكون هكذا إصلاحات نافعة للنُّفوس، وهو لا يسمح للكراهية بأن تلغي صنيع المحبّة.
إذن، فحتّى لو أنا -مُقارِناً نفسي بِلُفافة ممتلئة بفضائل مقدّسة- كان عليَّ أن أُتلَف، فهل تعتقدون بأنّ الربّ سوف يترككم كي تهلكوا دون إعانتكم بلُفافة أُخرى، والتي سوف تتضمّن كلماتي وكلمات شهودي الذين سوف يقولون لكم ما لن أستطيع أنا قوله، حيث العنف يكون قد سجنني وأتلفني؟
وهل تعتقدون بأنّ ما نُقش على لفافات قلوبكم قد يُمحى بمرور الزمن عليه؟ لا. فملاك الربّ سوف يعيد تلك الكلمات على مسامعكم، مُبقياً إيّاها حاضرة في نفوسكم المتلهّفة للحكمة. وليس ذلك فقط. بل وسوف يشرحها لكم، وسوف تكونون حكماء مِن خلال كلمات معلّمكم. اختموا حبّكم لي بختم الألم. هل يَهلَك مَن يقاوم الاضطهاد؟ لا. أنا أقول لكم ذلك.
إنّ عطايا الله لا تُمحى. الخطيئة وحدها هي التي يمكنها محوها. وأنتم بالتأكيد لا ترغبون بأن ترتكبوا الخطايا، أليس كذلك يا أصدقائي؟»
«لا يا ربّ. فهذا يعني خسارتكَ في الحياة الآتية» يُجيب كُثُر.
«لكنّهم سوف يجعلوننا نخطئ. لقد أَمَرَنا بألّا نَعُود نغادر حقوله يوم السبت... ولن يعود هناك فصح لنا مجدّداً. فإذن سوف نرتكب خطيئة...» يقول آخرون.
«لا. لن ترتكبوا خطيئة. هو مَن سيرتكب خطيئة. هو وحده، كونه يعتدي على حقّ الله وحقّ أبنائه بأن يتعانقوا ويتحابّوا فيما بينهم في حِوار حبّ وتعلُّم عَذب في يوم الربّ.»
«ولكنّه يُكَفِّر بالصيام لفترات طويلة وبالتقدمات. ونحن لا نستطيع، لأنّ الطعام الذي نحصل عليه هو أساساً شحيح جدّاً بالمقارنة مع العمل الذي نقوم به، ولا نملك شيئاً كي نقدّمه... إنَّنا فقراء...»
«إنّكم تُقدّمون ما هو موضع تقدير مِن قِبَل الله: قلوبكم. إنَّ إشَعياء كان قد تحدّث باسم الله إلى التائبين المزيَّفين قائلاً:
"انظروا، في أيّام صيامكم تكشَّفت إرادتكم، وها أنتم تُرهِقون مَن لكم عليهم ديون. انظروا، صومكم هو للنزاع والخصومة والإيذاء بقسوة. وفيما إذا أردتم أن تجعلوا صوتكم مسموعاً في الأعالي، فلا تعودوا تصوموا أبداً كما أنتم تصومون الآن. أهذا النوع مِن الصيام هو الذي يسرّني؟ أن يقوم الإنسان، ليوم واحد، بإذلال نفسه وتعذيب جسده والاستلقاء على الرماد؟ هل تُسمّون هذا صياماً ويوماً مقبولاً للربّ؟ الصيام الذي أُفضّله هو صيام مختلف تماماً. حَطِّموا قيود الخطيئة، أَبْطِلوا الفرائض القمعيّة، حرّروا المسحوقين مِن الضيق، أزيلوا كلّ عبء. تقاسموا خبزكم مع الجياع، استضيفوا المساكين والمسافرين، أَلبِسوا العُراة، ولا تحتقروا قريبكَم."
إنّما جيوقانا لا يفعل ذلك. إنّكم أنتم دائنوه بسبب العمل الذي تقومون به لأجله، جاعلين منه غنيّاً، وهو يسيء معاملتكم أكثر مِن مدينين متعثّرين، ويرفع صوته كي يهدّدكم ويده ليضربكم. إنّه ليس رحيماً، وهو يحتقركم لأنّكم خُدّام. لكنّ الخادم هو إنسان تماماً مثل سيّده، وإذا كان واجبه أن يَخدُم، فإنّ له أيضاً الحقّ بأن يحظى بما هو ضروريّ للإنسان، على حدّ سواء بالنسبة لجسده وروحه. السبت لا يكون مُكَرَّماً حتّى ولو أمضاه الإنسان في المعبد، فيما إذا قام ذاك الإنسان بذات اليوم بتقييد إخوته وتجريعهم الـمُرّ. احفظوا سبتكم متحدّثين فيما بينكم عن الربّ، والربّ سوف يكون بينكم. اغفروا والربّ سوف يُمجّدكم.
أنا الراعي الصالح، وأنا رحيم تجاه كلّ خِرافي. ولكنّني بالتأكيد أُكِنّ محبّة خاصّة لأولئك الذين ضربهم الرّعاة المتزمِّتين، كي يُبعدوهم عن دربي. لأجلهم هم أتيتُ، أكثر مِن غيرهم. لأنّ أباكم وأبي أمرني: "ارع تلك الخِراف المعدّة للذبح، التي قتلها بلا رحمة أسيادها، والذين باعوها قائلين: "لقد صرنا أغنياء" والتي لم يشفق عليها أولئك الرُّعاة."
لذلك، سوف أرعى القطيع المعدّ للذبح، أَيَا مساكين القطيع، تاركاً لشرّهم أولئك الذين يُحزِنونكم ويُحزِنون الآب الذي يتألّم في أبنائه. سوف أمدّ يدي إلى الأصغر مِن بين أبناء الله، وسوف أجذبهم إليَّ كي يحظوا بمجدي.
إنّ الربّ قد وعد بذلك على لسان الأنبياء الذين عَظَّموا شَفَقتي وقُدرتي كراعٍ. وأنا أعدكم مباشرة، أنتم يا مَن تحبّونني، بأنّني سوف أرعى قطيعي. أمّا لأولئك الذين يتّهمون الخِراف الصالحة بأنّها تُعكّر المياه وتُتلف المراعي كي تأتي إليَّ، فسوف أقول: "ارحلوا. فأنتم الذين تُجفّفون النبع وتُيبّسون مراعي أبنائي. لكنّني قُدتُهم وسوف أقودهم إلى مراعٍ أُخرى، إلى المراعي التي تُشبِع الروح. وسوف أترك لكم هذه المراعي مِن أجل بطونكم المنتفخة، وسوف أترك لكم النبع الذي جعلتوه مُرّاً، وسوف أذهب مع خِرافي، فاصلاً خِراف الله الحقّة عن تلك الزائفة، ولن يعود هناك شيء يُسبّب الحزن لحِملاني، وسوف يبتهجون للأبد في مراعي السماء."
ثابروا، يا أبنائي الأحباء! اصبروا قليلاً بعد، كما أصبر أنا. كونوا أوفياء، فاعِلين ما يسمح لكم بفعله سيّدكم الظالم. والله سوف يحكم بأنّكم أتممتم كلّ شيء، وسوف يكافئكم على كلّ شيء. لا تكرهوا، حتّى ولو أنّ كل شيء دفعكم أو عَلَّمكم أن تكرهوا. آمنوا بالله. وتذكّروا: يونان خُلِّص مِن ألمه، وجابي اقتيد إلى الحبّ. وما فعله الربّ للعجوز وللصبيّ، سوف يفعله لكم: جزئيّاً في هذه الحياة، وكلّياً في الحياة الآتية.
لا أملك ما أعطيكم سوى المال، كي أجعل وضعكم المادّيّ أقلّ إيلاماً. وسأعطيكم إيّاه. أعطهم إيّاه يا متّى، كي يتقاسموه. هناك منه الكثير، ولكنّه يبقى قليل بالنسبة لكثرة عددكم وشدّة فقركم. إنّما ليس لديَّ شيء آخر... مِن منظور ماديّ. إنّما لديَّ محبّتي، والقُدرة لكوني ابن الآب، لذلك فأنا أستطيع أن أطلب لكم كنوزاً فائقة الطبيعة لا حصر لها، كي أُعزّي حزنكم وأُنير ظلامكم. آه! فقط الله هو مَن يمكنه جعل حياتكم الحزينة مُشرِقة! هو وحده!...
وأقول: "أبي، أتضرّع مِن أجلهم. إنّني لا أتضرّع إليكَ مِن أجل سعداء العالم وأغنيائه. بل أتضرّع مِن أجل هؤلاء، الذين ليس لهم إلّا أنتَ وأنا. اجعلهم يرتقون عالياً في دروب الروح، كي يجدوا كلّ تعزية في محبّتنا، ولنمنح لهم أنفسنا بالمحبّة، بكلّ محبّتنا اللامتناهية، لملء أيّامهم وأعمالهم بالسلام والصفاء والشجاعة، بسلام فائق الطبيعة، براحة البال والصلابة، بحيث -كما لو كانوا منفصلين عن العالم بفعل محبّتنا- أن يكونون قادرين على تحمّل محنتهم، وبعد موتهم، أن يَنعَموا بكَ، بنا، نحن الغبطة الأزلية."»
يسوع كان قد صلّى واقفاً، وقد حرّر نفسه شيئاً فشيئاً مِن الأطفال الذين ناموا مُستنِدين عليه. إنّه جليل ووديع في صلاته.
إنّه الآن يتوجّه بنظره إلى الأرض ويقول: «إنّني راحل، يجب أن تذهبوا الآن، كي تَصِلوا إلى منازلكم في الوقت المناسب. سوف نرى بعضنا ثانيةً. وسوف آتي بمارغزيام. ولكن حتّى عندما لن أعود أستطيع المجيء، فإنّ روحي سوف يكون معكم دائماً، ورُسُلي سوف يُحبّونكم كما أنا أحبّكم. وليُحِلّ الربّ بركاته عليكم. اذهبوا!» وينحني ليداعب الأطفال النائمين، ويستسلم إلى دفق محبّة الناس المساكين الذي لا يستطيعون أن يحسموا أمرهم ويفارقوه…
أخيراً يمضون في طريقهم، وتنفصل المجموعتان، فيما يَغرُب القمر، وتُشعَل أغصان الأشجار لإنارة الدرب. والدخان اللّاذع للأغصان الرّطبة هو عذر جيد للعيون المغرورقة بالدموع…
يهوذا ينتظرهم مستنداً إلى جذع شجرة. يسوع ينظر إليه ولا يقول شيئاً، ولا حتى عندما يقول يهوذا: «أشعر بأنّني أحسن حالاً.»
يتقّدمون على مهل، بأفضل ما يمكنهم خلال الليل، ثمّ بشكل أسرع عند الفجر.
وعندما يصلون بالقرب مِن مفترق طرق، يتوقّف يسوع ويقول: «لنفترق. توما وسمعان الغيور وأخواي سوف يأتون معي. أمّا الآخرون فسوف يذهبون إلى البحيرة وينتظرونني.»
«شكراً يا معلّم... لم أكن أجرؤ على أن أَطلُب، ولكنّكَ شجّعتني. فأنا متعب حقّاً. وإذا سمحتَ لي، فسوف أتوقّف في طبريّا...»
«عند صديق» يعقوب بن زَبْدي لا يستطيع منع نفسه مِن قول ذلك.
يهوذا يَجحَظ عينيه... لكنّه يكتفي بذلك.
يُسارع يسوع إلى القول: «بغضّ النَّظر عن أيّ شيء آخر، فإنّه يكفي فيما إذا ذهبتَ أنتَ ورفاقكَ إلى كفرناحوم في السبت. تعالوا كي أُقبّلكم يا مَن ستفترقون عنّي.» ويُقبّل بعاطفة الرُّسُل المغادرين، مقدّماً لكلّ واحد منهم نصيحة بصوت هامس…
لا أحد يعترض. فقط بطرس، يقول وهو يمضي: «تعال سريعاً يا معلّم.»
«نعم، تعال سريعاً» يقول الآخرون. ويُنهي يوحنّا: «البحيرة ستكون كئيبة مِن دونكَ.»
يسوع يباركهم مجدّداً ويَعِد: «سوف أراكم قريباً!» ومِن ثمّ يذهبون كلّ في طريقه.