ج6 - ف88
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
88- (الوداع في بيت صور)
09 / 03 / 1946
بالكاد انبلج النهار حين وصل المسافرون الذين لا يكلّون إلى مشارف بيت صور. وإذ كانوا متعبين وثيابهم مجعّدة بسبب استراحة بالتأكيد غير مريحة في الغابات، ينظرون بفرح إلى البلدة التي أضحت قريبة وهم على يقين بأنّهم سيلقون فيها الضيافة.
الفلاّحون الماضون إلى أعمالهم كانوا أوّل مَن تلاقى بيسوع، وهم يفكّرون بأنّهم يُحسِنون عملاً بترك أعمالهم والعودة إلى البلدة لسماع المعلّم. وهكذا فَعَلَ بعض الرعاة بعد أن سألوه إن كان سيبقى أم لا.
«سأغادر بيت صور هذا المساء.» يجيب يسوع.
«وهل ستتحدّث، يا معلّم؟»
«بالتأكيد.»
«متى؟»
«في الحال.»
«لدينا القطعان... ألا يمكنك التكلّم هنا، في الريف؟ فترعى النّعاج العشب ولا نفقد كلمتكَ.»
«اتبعوني. سأفعل ذلك في مراعي الشمال. عليَّ في البدء رؤية إليز.»
فيعيد الرُّعاة نعاجهم بعصيّهم، ويسيرون خلف الرجال مع قطعانهم التي تثغو. يجتازون الضيعة. ولكنّ الخبر قد وصل إلى بيت إليز، وفي الساحة التي بجانب البيت تُقدِّم إليز وأنستاسيا احتراماتهما كتلميذتين إلى المعلّم الذي يباركهما.
«ادخل إلى بيتي، يا رب. لقد حرَّرتَه مِن الألم ويبغي أن يكون لكَ عزاء بكلّ ما فيه مِن ساكنين ومفروشات.» تقول إليز.
«نعم، يا إليز. ولكن هل ترين أيّ جمع يتبعنا؟ الآن سوف أتحدّث للجميع، ثمّ بعد الساعة الثالثة، سآتي وأمكث في بيتكِ لأمضي في المساء. وسنتكلّم فيما بيننا...» يَعِد يسوع ليواسي إليز التي كانت تأمل بإقامة أطول، وهي تُبدي وجهاً خائباً وهي تتلقّى نوايا يسوع. ولكنّ إليز تلميذة صالحة ولا تعترض على شيء. فقط هي تطلب الإذن في إصدار الأوامر للخُدّام قبل الذهاب مع الآخرين إلى حيث يتوجّه يسوع. وتفعل ذلك على عجلة، مختلفة تماماً عن المرأة الخاملة في السنة السابقة…
يسوع أصبح في مكانه في حقل تلعب فيه الشمس التي تمرّ أشعّتها مِن خلال أوراق ناعمة لأشجار ضخمة هي، إن لم أكن مخطئة، شجر الدردار. هو الآن يُشفي غلاماً وعجوزاً مريضين، الأوّل مِن مرض داخليّ، الآخر مِن مرض في عينيه. لا مرضى آخرين، ويُبارك يسوع الأطفال الذين تقدّمهم أُمّهاتهم له، في انتظار أن تلحق به إليز مع أنستاسيا.
ها هما أخيراً، ويبدأ يسوع مباشرة الحديث.
«يا أهل بيت صور اسمعوا.
في العام الماضي قلتُ لكم ما كان يجب فعله لكسب ملكوت الله. الآن أؤكّده لكم لكي لا تفقدوا ما كسبتم. هذه المرّة هي الأخيرة التي يكلّمكم فيها المعلّم هكذا، في لقاء لا يغيب عنه أحد. بعد ذلك، يمكنني اللقاء بكم أيضاً، صدفة، بشكل منفرد أو في جماعات صغيرة، على طرقات موطننا الأرضيّ. فيما بعد، في وقت لاحق أيضاً، يمكنني رؤيتكم في ملكوتي. ولكنّ ذلك لن يكون أبداً كما هو الآن.
في المستقبل، ستُقال لكم أمور كثيرة عنّي، ضدّي، عنكم وضدّكم. سيريدون إرهابكم.
أنا، أقول لكم مع إشَعياء: لا تخافوا لأنّني افتديتُكم ودعوتُكم باسمكم. وحدهم الذين يريدون هجري سيكون لهم سبب للخوف. وليس الذين هم خاصّتي بوفائهم لي. لا تخافوا! أنتم خاصّتي وأنا خاصّتكم. فلا مياه الأنهار ولا نيران الـمَحارق، ولا الحجارة ولا السيوف يمكنها أن تفرّقكم عنّي إذا بقيتم فيَّ. بل على العكس، فالنيران والمياه والحجارة والسيوف ستوحّدكم بي أكثر فأكثر، وستكونون أنا نفسي آخرين وتحصلون على المكافأة. سأكون معكم ساعة العذابات، معكم في التجارب، معكم حتّى الموت؛ ولا يمكن لشيء فيما بعد أن يفصلنا.
آه! يا شعبي! الشعب الذي دعوتُه وجمعتُه، والذي سأدعوه وأجمعه أكثر أيضاً عندما سأُرفَع لأجلب إليَّ الجميع، أيّها الشعب المختار، الشعب القدّيس، لا تخف لأنّني معكَ وسأكون معكَ، وستُبشّر بي، يا شعبي، لذلك فأنتم الذين تؤلّفونه ستُدعَون ممثّليَّ ولكم سأُعطي، بل أعطي منذ الآن الأمر بالتحدّث إلى الشمال، إلى الشرق، إلى الغرب وإلى الجنوب، بالعمل بحيث يعرفني أبناء وبنات الله الخالق حتّى أقاصي تخوم العالم كملكهم ويدعونني باسمي الحقيقيّ، ويحصلون على المجد الذي مِن أجله خُلقوا، ويكونون مجد الذي كوَّنهم وأعدَّهم.
يقول إشَعياء إنّه، مِن أجل الإيمان، ستدعو العشائر والأمم شهوداً لمجدي. وأين سأجد شهوداً إذا كان الهيكل والبلاط الملكيّ، إذا كان أصحاب النفوذ يبغضونني ويكذبون لأنّهم لا يريدون القول إنّني هو الذي هو؟ أين سأجدهم؟ يا الله، ها هم شهودي! الذين ثقّفتُهم في الشريعة، الذين شفيتُ أجسادهم وأرواحهم، الذين كانوا عمياناً والآن يبصرون، كانوا صمّاً والآن يَسمَعون، كانوا بكماً ويجيدون الآن ذكر اسمكَ، الذين كانوا مظلومين والآن هم محرَّرون، جميعهم، كلّ الذين كانت كلمتكَ لهم نوراً، حقّاً، طريقاً، وحياة.
أنتم شهودي، الخُدّام الذين اخترتُهم لكي تعرفوا وتؤمنوا وتدركوا مَن أكون حقيقة. أنا الربّ، الـمُخلِّص. آمنوا بذلك مِن أجل خيركم. فما مِن مُخلِّص سِواي. واعرفوا أن تؤمنوا خلافاً لكلّ التلميحات البشريّة أو الشيطانيّة. انسوا كلّ ما قيل لكم مِن فم غير فمي ومختلف عن كلمتي. ارفضوا كلّ ما يمكن أن يقال لكم في المستقبل. ولكلّ مَن يريد أن يجعلكم تُنكِرون المسيح علناً قولوا: "أعماله تتحدّث إلى روحنا." واثبتوا في الإيمان.
لقد عملتُ كثيراً لأمنحكم إيماناً جريئاً. لقد شفيتُ مرضاكم، سَكَّنتُ آلامكم، علّمتُكم كمعلّم صالح، وكصديق استمعتُ إليكم، كسرتُ الخبز معكم وشاركتُكم الشراب. ولكنّ هذه الأشياء هي أيضاً أعمال قدّيس ونبيّ. وسأفعل أشياء أخرى، تكون قادرة على دفع كلّ شكّ يمكن للظلمات أن تثيره، كما يَرفَع الإعصار سُحُب العاصفة في صفاء سماء الصيف. دعوا السحابة تمرّ مع بقائكم ثابتين في محبّتكم ليسوعكم، ليسوع هذا الذي تَرَكَ الآب ليأتي فيخلّصكم، والذي سيترك الحياة ليمنحكم الخلاص.
أنتم، أنتم الذين أحببتُكم، وأحبُّكم أكثر مِن ذاتي، ذلك أنّ ما مِن حُبّ أعظم مِن أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه، فتفضّلوا في ألاّ تكونوا أدنى مِن أولئك الذين يُدعَون في نبوءة إشَعياء بالوحوش، تنانين ونعامات، أي أمميّين، عابدي أصنام، وثنيّين ونَجِسين. فهُم، عندما سأعطي بذاتي شهادة سلطان حبّي وطبيعتي، منتصراً بذاتي فقط حتّى على الموت -هذا بالفعل أمر يمكن التحقّق منه كما لا يمكن لإنسان، إن لم يكن كاذباً، أن ينكره- هم سيقولون: "لقد كان ابن الله!" ومتغلّباً على عوائق لا يمكن التغلّب عليها في الظاهر، فإنّ أجيالاً وأجيالاً، مِن الوثنيّة النَّجِسة، مِن الظلمات، مِن الرذائل، سيأتون إلى النور، إلى الينبوع، إلى الحياة. فلا تكونوا، لا تكونوا كما كثيرين في إسرائيل لا يُقدّمون لي المحرقات، لا يكرّمونني بأضاحي، بل على العكس يؤلمونني بظلمهم ويجعلونني ضحيّة لقسوة نَفْسهم، الذين يَردّون على حبّي بضغينة تحت أرضيّة تُفخّخ الأرض لجعلي أقع، وللتمكّن مِن القول: "هل تَرَون؟ لقد وَقَعَ لأن الله صعقه".
يا سكّان بيت صور، كونوا أقوياء. أحبّوا كلمتي لأنّها حقيقة، وعلامتي لأنّها مقدّسة. وليكن الربّ معكم على الدوام، ولتكونوا مع خُدّام الربّ، متّحدين جميعاً، ليكون كلّ واحد منكم حيث أذهب أنا، وليكون مَسكَن في السماء لكلّ الذين، بعد تجاوُز المحنة وإحراز الانتصار، سيموتون في الربّ وفي الربّ يقومون إلى الأبد!»
«يا ربّ، ولكن ما الذي أردتَ قوله؟ فقد كان في حديثكَ هتافات نصر وصرخات ألم!» يقول البعض.
«نعم، تبدو كَمَن يعرف أنّه محاط بالأعداء.» يقول آخرون.
«ويظهر عليكَ القول بأنّنا سنكون إيّاهم.» يقول آخرون.
«ما الكامن في مستقبلكَ، يا ربّ؟» يقول آخرون أيضاً.
«المجد!» يقول يهوذا الاسخريوطيّ.
«الموت!» تتنهّد إليز باكية.
«الفِداء. إتمام رسالتي. لا تخافوا. لا تبكوا. أحبّوني. أنا سعيد لكوني الفادي. تعالي، يا إليز. هيّا بنا إلى بيتكِ...» ويسير في المقدّمة ليتوجّه إليه شاقّاً طريقه وسط الجمع المضطَرِب بانفعالات متضاربة.
«ولكن، يا ربّ، لماذا هذه الخُطَب دائماً؟!» يَسأَل يهوذا بلهجة اللّوم. ويضيف: «إنّها لا تليق بمَلِك.»
لا يجيبه يسوع. بالمقابل يجيب ابن عمّه يعقوب الذي يَسأَله، والدموع تلمع في عينيه: «لماذا، يا أخي، تروي فقرات مِن الكتاب المقدّس في وداعاتكَ؟»
«كي لا يقول الذين يتّهمونني بأنّني أهذي وأكفر، وكي يدرك الذين لا يبغون بلوغ الواقع أنّ الوحي أظهرني على الدوام كمَلِك لمملكة ليست بشريّة، تُرسَم، تُبنى، وتترسّخ بموت الذبيحة، الذبيحة الوحيدة التي يمكنها إعادة خلق ملكوت السماوات الذي دمّره الشيطان والأبوان الأوّلان. إنّ الكبرياء والحقد والكذب والفسق والتمرّد قد دَمَّرت. والتواضع والطاعة والحب والطهارة والتضحية تعيد البناء... لا تبكي، يا امرأة. فالذين تحبّينهم وينتظروني، يتوقون لساعة تضحيتي...»
يَدخُلون البيت، وبينما ينشَغِل الرُّسُل بالاستراحة وتهدئة جوعهم، يمضي يسوع إلى الحديقة المنسّقة، الـمُزهِرة، ومنفرداً، مع إليز، يستمع إليها تقول: «يا معلّم، أنا فقط أعلم أنّ يُوَنّا تريد التحدّث إليكَ سرّاً. لقد أَرسَلَت لي يوناثان. وقد قال لي: "مِن أجل أمور جسيمة." حتّى الفتاة التي وَهَبتَني إيّاها -والتي بوركتَ مِن أجلها- تجهل ذلك. ولقد أَرسَلَت يُوَنّا خُدّاماً في كلّ اتّجاه للبحث عنكَ. ولكنّهم لم يجدوكَ...»
«كنتُ بعيداً جدّاً وكنتُ سأذهب أبعد مِن ذلك لو لم يدفعني الروح للعودة... إليز، سوف تذهبين معي والغيور إلى يُوَنّا. وسيبقى الآخرون هنا يستريحون لمدّة يومين وثمّ سيأتون إلى بِتّير. أنتِ ستعودين مع يوناثان.»
«نعم، يا ربّي...» وتنظر إليه إليز، نظرة أُمّ، بتمعّن... لم تستطع كبح كلمة: «أتتألّم؟»
يهزّ يسوع رأسه دون قول لا صراحة، إنّما بفتور ظاهر.
«أنا أُمّ... أنتَ إلهي... ولكن... آه! ربّي! ماذا تظنّ أنّ يُوَنّا تريد؟ لقد تحدّثتَ عن الموت، وأنا فهمتُ ذلك لأنّ الشابّات في الهيكل كنّ يقرأن كثيراً الكُتُب التي تتحدّث عنكَ كمخلّص، وأنا أتذكّر هذه الكلمات. كنتَ تتكلّم عن الموت ووجهكَ يشعّ بفرح سماويّ... والآن لم يعد وجهكَ يشعّ... لقد كانت مريم بمثابة الابنة لي... وأنتَ ابنها... أُمّكَ بعيدة... ولكن ها إنّ أُمّاً قريبة منكَ. بارَكَكَ الله، ألا يمكنني تخفيف كربكَ عنكَ؟»
«ها أنتِ تخفّفينه لأنّكِ تحبّينني. ماذا أظنُّ أنّ يُوَنّا ستقول لي؟ حياتي تشبه شجيرة الورد هذه. الورود هي أنتنّ، التلميذت الصالحات. ولكن إن انتُزعَت الورود، فماذا يبقى؟ أشواك...»
«ولكنّنا سنبقى وفيّات حتّى الموت.»
«صحيح، حتّى الموت! وسيكافئكنّ الله لمواساتكنّ إيّاي. فلندخل إلى البيت. ولنسترح. وعند الفجر سنمضي إلى بِتّير.»