ج4 - ف139
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
139- (لِقاء مع التلاميذ)
08 / 09 / 1945
يسوع في سـهول قورازين، على مَدى وادي الأردن الأعلى، بين بحيرة جنّيسارت وبحيرة ميرون. قرية مليئة بالكروم وقد حان موعد قِطافها. يُفتَرَض أنّه هنـا منذ بضعة أيّام، لأنّ التلاميذ الذين كانوا في سيكامينون [حيفا]، هم معه هذا الصباح، وبينهم مَن هو جديد مثل استفانوس وهَرْماس. يَعتَذِر إسحاق لعدم تمكّنه مِن التواجد هنا قبل ذلك الوقت، وذلك، حسب قوله، لأنّه كان يتساءل ما إذا كان مِن المستحسن جلب القادمين الجُّدد معه أم لا، وتلك الأفكار أَخَّرته.
إنَّه يقول: «إنَّما… لقد فكّرتُ أن طريق السماء مفتوحة لكلّ ذوي الإرادة الحسنة، ويبدو لي أنّ هؤلاء، رغم كونهم تلاميذ غَمَالائيل، فإنّهم كذلك.»
«أَحسَنتَ قولاً وفعلاً. هاتهم إليَّ هنا.»
يَمضي إسحاق ويعود مع الاثنين.
«السلام لكما. هل بدا لكما كلام الرُّسُل كلام حقّ، حتّى أردتما الانضمام إليهم؟»
«نعم، وكلامكَ أكثر. لا تُبعِدنا يا معلّم.»
«لماذا ينبغي لي ذلك؟»
«لأنّنا مِن تلاميذ غَمَالائيل.»
«ومع هذا، فأنا أُجِلُّ غَمَالائيل العظيم وأرغب به إلى جانبي لأنّه أهل لذلك. فهو لا ينقصه سوى هذا لِيَجعَل مِن حكمته كمالاً. ماذا قال لكما عندمـا غادرتماه؟ لأنّكما بالتأكيد قد سلَّمتُما عليه.»
«نعم. لقد قال لنا: "مَغبوطان أنتما لأنّكما استطعتما الإيمان. صَلّيا مِن أجل أن أنسـى لأتمكّن مِن أن أتذكّر".»
والرُّسُل الذين احتَشدوا حول يسوع بدافع الفضول، ينظرون بعضهم إلى بعض ويتساءلون بصوت منخفض: «ماذا يقصد بذلك؟ ماذا يريد؟ النسيان مِن أجل التذكّر؟»
يَسمَع يسوع هذا الهمس فيشرح: «يُريد نسيان حكمته ليأخذ التي لي. يريد نسيان أنّه الرابّي غَمَالائيل، ليتذكّر أنّه ابن لإسرائيل ينتظر المسيح. يريد أن ينسى ذاته ليتذكّر الحقيقة.»
«غَمَالائيل ليس كاذباً، يا معلّم.» يقول هَرْماس ملتمساً له العذر.
«لا. ولكنّها كومة مِن الكلّمات البشريّة المسكينة التي هي كَذِب. الكلّمات التي تحلّ محلّ الكلمة. وتلك الكلّمات يجب نِسيانها، التخلّص منها، المجيء إلى الحقّ في حالة العُري والعُذريّة، ليُعاد إلباس المرء وإخصابه. وهذا يتطلّب التّواضع. العَثَرَة...»
«إذن، فنحن كذلك علينا أن ننسى؟»
«بدون أيّ شكّ. نسيان كلّ ما هو بشريّ. وتذكّر كلّ ما هو إلهيّ. تعاليا، يمكنكما فِعل ذلك.»
«إنّنا نريد فِعل ذلك.» يؤكّد هَرْماس.
«هل عشتما حياة التلاميذ؟»
«نعم، منذ اليـوم الذي عَلِمنـا فيه نبأ قتل المعمدان. لقد وَصَل النبـأ بسرعة فائقة إلى أورشليم، حَمَله رجال مِن حاشية وضباط هيرودس. وموته قد أيقَظَنا مِن سُباتنا.» يُجيب استفانوس.
«إنّ دم الشهداء هو دائماً حياة للذين في السُّبات. تذكّر ذلك يا استفانوس.»
«نعم يا معلّم. هل ستتحدّث اليوم؟ فأنا متعطّش إلى كلامكَ.»
«لقد تحدّثتُ، ولكنّني سوف أتحدّثُ أيضاً وكثيراً إليكم أيّها التلاميذ. رفاقكم الرُّسُل قد بدأوا التبشير بعد تهيئة فاعِلة. ولكنّهم غير كافيين لاحتياجات العالم. ويجب أن يتمّ كلّ شيء في وقت محدّد. إنّني كَمَن حان أجله وعليه أن يُتمَّ عملَه كلّه في وقت محدود. أطلب منكم جميعكم العَون، وباسم الله أَعِدُكم بالعَون وبمستقبل مجيد.»
عين يسوع الخارِقة اكتَشَفَت رجلاً متدثّراً معطفاً مِن كتّان: «ألستَ الكاهن يوحنّا؟»
«بلى يا معلّم. إنّ قلب اليهود مُجدِب أكثر مِن وِهاد ملعون. ولقد هربتُ لأبحث عنكَ.»
«والكَهَنوت؟»
«في المرّة الأولى أقصاني عنه البَرَص، والناس في المرّة الثانية، لأنّني أحبّكَ. نعمتكَ تشدّني إليها: إليكَ. فهي كذلك أخرَجَتني مِن مكان نَجِس لتقودني إلى مكان طاهر. لقد طَهَّرتَني، يا معلّم، جسداً وروحاً. وما هو طاهر لا يمكنه، بل عليه ألّا يدنو ممّا هو نَجِس. ففي ذلك إساءة لِمَن طَهَّر.»
«إنّ حكمكَ صارم ولكنّه ليس ظالماً.»
«يا معلّم، إنّ قباحات العائلة يعرفها الذي يعيش في العائلة، وينبغي ألّا تُقال إلّا لذوي الروح المستقيم. إنّكَ هو، وفضلاً عن ذلك فإنّكَ تَعلَم. وأنا لا أقول ذلك للآخرين. هنا يوجد أنتَ، رُسُلكَ، واثنان مِمّن هُم على عِلم، مثلكَ ومثلي. بالتالي...»
«هذا حَسَن. ولكن... آه! أنتَ أيضاً؟! السلام لكَ! هل أتيتَ لتقديم أطعِمة أخرى؟»
«لا. بل لأحصل أنا على غذائكَ.»
«هل ضاعت محاصيلكَ؟»
«آه! لا. لم تكن في يوم أجمل منها الآن. ولكن، يا معلّمي، إنّني أبحث عن خبز آخر، محصول آخر: مِن محاصيلكَ. ومعي الأبرص الذي برّأتَه على أرضيَّ. لقد عاد إلى معلّمه. إنّما هو وأنا، لدينا الآن معلّم نتبعه ونخدمه: أنتَ.»
«تعالوا. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة... محصول جيّد! ولكن هل فكّرتم بوضعكم تجاه الهيكل؟ أنتم تعلمون، وأنا أَعلَم... ولستُ أقول غير هذا...»
«إنّني رجل حرّ، وأذهب مع مَن أشاء.» يقول الكاهن يوحنّا.
«وأنا كذلك.» يقول القادم الجديد، الكاتب يوحنّا، وهو الرجل الذي قَدَّمَ الطعام يوم السبت أسفل جبل التطويبات.
«ونحن كذلك.» يقول هَرْماس واستفانوس.
ويُضيف استفانوس: «تحدّث إلينا يا ربّ. فإنّنا نَجهل ما هي رسالتنا بالتحديد. امنحنا الحدّ الأدنى الذي يؤهّلنا لنتمكّن مِن خدمتكَ حالاً. والبقيّة تأتي ونحن نتبعكَ.»
«نعم. فعلى الجبل تحدّثتُ عن التطويبات. وكان ذلك تعليماً بالنسبة لنا. ولكنّنا، بالنسبة للآخرين، بالنسبة للحبّ الثاني، حبّ القريب، ماذا علينا أن نفعل؟» يَسأَل الكاتب يوحنّا.
«أين هو يوحنّا الذي مِن عين دور؟» يَسأَل يسوع جواباً على كلّ الأسئلة.
«هناك يا معلّم، مع الذين قد بَرئوا.»
«فليأت إلى هنا.»
يَهرَع يوحنّا الذي مِن عين دور. ويضع يسوع يده على كتفه وهو يُحيّيه تحية خاصّة، ويقول له: «هاكم، فإنّني سوف أتحدّث الآن. أريدكم أمامي، أنتم يا مَن تَحملون الاسم المقدّس. أنتَ، رَسولي؛ وأنتَ أيّها الكاهن؛ وأنتَ أيّها الكاتب؛ وأنتَ، يا يوحنّا تلميذ المعمدان؛ وأنتَ، أخيراً، لإقفال تاج النِّعَم الممنوحة مِن الله. وإذا ذكرتُ اسمك في الآخِر، فأنتَ تعلَم أنّك لستَ الأخير في قلبي. لقد وعدتكَ يوماً بهذا. وسوف يكون لكَ.»
ويسوع، كما يَفعَل عادة، يَصعَد على حافة صغيرة ليتمكّن الجميع مِن رؤيته. أمامه، في الصفّ الأوّل، الخمسة الذين يَحملون اسـم يوحنّا. خلفهم التلاميذ، وقد اختَلَطَ بهم الذين هَرَعوا من كلّ أنحاء فلسطين مِن أجل صحّتهم أو مِن أجل الاستماع إلى الكلمة.
«السلام لكم جميعاً، والحكمة.
اسمعوا. سَأَلَني أحدهم ذات يوم إذا ما كان الله رحيماً بالخَطَأَة، وإلى أيّة درجة هو كذلك. والذي كان يَسأَل، كان خاطئاً غُفِرَت له خطاياه، ولم يكن يتوصّل إلى الاقتناع بعفو الله الـمُطلَق. وقد جعلتُهُ يهدأ بأمثال، طمأنتُهُ ووعدتُهُ أنّني، مِن أجله، سأتكلّم دائماً عن الرحمة، لكي يشعر قلبه التائب، الذي يشبه طفلاً تائهاً كان يبكي في داخله، بالطمأنينة والأمان بأنّه أَصبَحَ لأبيه السماويّ.
الله رحمة لأنّ الله محبّة. وعلى خادم الله أن يكون رحيماً ليقتدي بالله، فالله يستخدم الرحمة ليشدّ إليه أبناءه الضالّين، وعلى خادم الله استخدام الرحمة كوسيلة لجلب الأبناء الضالّين إلى الله. إنَّ وصيّة الحبّ مفروضة على الجميع، ولكنّها بالنسبة لخدّام الله، ينبغي أن تكون ثلاث مرّات أكثر.
لا يحصل أحد على السماء إذا لم يحبّ. إنّما هذا يكفي قوله للمؤمنين. أمّا لـِخُدّام الله، فأنا أقول: "لا يمكن جعل المؤمنين ينالون السماء إذا لم يكن الحبّ كاملاً. "وأنتم، مَن تكونون، يا مَن تَحتَشِدون حولي؟ القسم الأكبر منكم، مخلوقات تسعى إلى كمال الحياة، الحياة المبارَكة، الحياة الشاقّة والمنيرة لخادم الله، لِمُمثّل المسيح. وأيّ الواجبات عليكم في حياة الخُدّام أو الممثِّلين تلك؟ حبّ كامل لله، وحبّ كامل للقريب. هدفكم: الخدمة. كيف؟ بأن تُعيدوا لله ما أخذه العالم والجسد والشيطان مِن الله. بأيّة طريقة؟ الحبّ الذي له ألف طريقة يُمارَس بها ونهاية واحدة: أن تَجعَل الآخر يحبّ.
فلنفكّر بِأُردننا، النهر الجميل. كم هو مَهيب في أريحا! ولكن هل كان هكذا عند منبعه؟ لا، بل كان خيط ماء، وكان سيبقى كذلك لو أنّه بَقِيَ وحيداً دائماً. إنّما على العكس، فها ألف ألف رافد تَهبط مِن جِبال وروابي عديدة مِن على ضفّتي واديه، منها الوحيد ومنها المتشكِّل مِن مئات الجداول، وجميعها تصبّ في مجراه الذي ينمو وينمو وينمو، ومِن مجرىً مائيّاً فضّيّاً لازورديّاً يضحك ويلهو في طفولته كنهر، يصبح النهر الواسع، الـمَهيب، والساكن الذي يَسيل شريطه اللازورديّ وسـط ضفّتيه الخصيبتين بلون الزمرّد.
هكذا هو الحال بالنسبة إلى الحبّ. فهو بداية خيط أوّليّ لدى أولئك الأطفال على درب الحياة، الذين بالكاد يعرفون حفظ أنفسهم مِن الخطيئة الثقيلة خوفاً مِن العقاب، وثمّ، إذ يتقدّمون على طريق الكمال، فها هي مِن جِبال الإنسانيّة الغليظة، الـمُجدِبة، المتكبّرة، والقاسية، تنبثق بإرادة الحبّ روافد كثيرة مِن تلك الفضيلة الأسـاسيّة، وكلّ شيء يفيد في جعلها تنبثق وتتدفّق: الآلام والأفراح، وكما الثلج المتجلّد على الجبال والشمس التي تذيبه يشكّلان روافداً. فكلّ شيء يفيد في شقّ الطريق لها: التواضع ومِثله التوبة. كلّ شيء يفيد في توجيهها صوب النهر الأوّليّ، إذ إنّ النَّفْس، مدفوعة على تلك الطريق، تحبّ النـزول في تلاشي الأنا، وهي تتوق إلى الصعود مِن جديد، تشدّها الشمس-الله، بعد أن تُصبح نهراً جبّاراً، رائعاً وخَيِّراً.
الروافد التي تغذّي جدول الحبّ الجنينيّ ذاك بالاحترام، هي، إضـافة إلى الفضائل، الأعمال التي تُعلِّم الفضائل القيام بها، الفضائل التي هي بالضبط، لكي تكون سواقي حبّ، هي أفعال رحمة. فلنتطرّق إليها معاً. فالكثير منها معروفة الآن في إسرائيل، أمّا الأخرى، فأنا الذي أُعرِّفكم عليها، لأنّ شريعتي هي كمال الحبّ.
أعطوا الجياع ليأكلوا.
واجب العرفان والحبّ. واجب الاقتداء. الأولاد يَعتَرِفون بجميـل الأب مِن أجل الخبز الذي يُوفّره لهم، وعندما يُصبِحون رجالاً، يقتدون به بتوفير الخبز لأبنـائهم ولأبيهم الذي جَعَلَته سنّه غير قادر على العمل، يُوفّرون الخبز بعرق جبينهم، كَرَدّ عَطوف، تماماً كَرَدّ على الخير الذي تَلقّوه. الوصيّة الرابعة تقول ذلك: "أَكرِم أباكَ وأُمّكَ". وذلك هو أيضاً إكرام شيبهم بعدم الحطّ مِن قدرهم بطلبهم الخبز مِن آخرين.
ولكن قبل الوصيّة الرابعة توجد الأولى: "أَحبِب الربّ إلهكَ مِن كلّ قلبكَ وكلّ نفسكَ وكلّ قوّتكَ". والثانية: "أحبِب قريبكَ كنفسـكَ". محبّة الله لأجل ذاته، ومحبّته مِن خلال القريب، ذاك هو الكمال.
محبّته هي بتقديم الخبز للجائع، تِذكاراً للمرّات الكثيرة التي أشبع هو فيها الإنسان بأفعاله المعجزة. ولكن دون النَّظَر فقط إلى المنّ والسلوى، فلننظر إلى المعجزة المستمرّة للبِذرة التي تَنبُت بفعل صلاح الله، الذي مَنَحَ أرضاً صالحة للزراعة ونَظَّم الرياح والأمطار والحرارة والفصول كي تُصبح البِذرة سنبلة والسنبلة رغيفاً.
وهذا، ألم يكن معجزة مِن رحمته تعليم أبنائه الخطأة، بنور فائق الطبيعة، أنّ تلك الأعشاب الطويلة والناعمة التي تنتهي بسنبلة مِن الحَبّ الذهبيّ تحت أشعّة الشمس الـمُحرِقة، الـمُنغَلِقة في غلاف قاس مِن القشور الشائكة، كان غذاء ينبغي جنيه، نَزع حباته وتحويلها إلى طحين وعَجنها وخَبزها؟ الله عَلَّمَ كلّ هذا. وكيف يُجنى ويُفرَز ويُطحَن ويُعجَن ويُخبَز. لقد وَضَعَ الحجارة قرب السنابل والماء قرب الحجارة، وأَشعَلَ بفعل انعكاس الشمس على الماء أوّل نار على الأرض، والرياح جَلَبَت الحَبّ على النار حيث تمّ طهيها، ناشرةً رائحة زكية لتجعل الإنسان يدرك أنّها هكذا أفضل مِن لحظة خروجها مِن السنبلة كما تَستَهلِكها الطيور، أو مَعجونة بعد أن تُطحَن مُشكِّلة عجينة لَزِجَة تُطهى على النار. إنّكم لا تُفكِّرون بذلك أنتم يا مَن تأكلون الآن الخبز اللذيذ المخبوز في الفرن العائليّ، مِن أيّة رحمة هو هذا البرهان، هذا الحَدَث بأنّكم وصلتم إلى كمال الطهي ذاك، أيّ دَرب جُعِلَت المعرفة الإنسانيّة تَسلكه منذ أوّل سنبلة مَضَغها الإنسان كما الحصان، وصولاً إلى الرغيف الحاليّ؟ وبفضل مَن؟ لِمَن أعطى الخبز. وهكذا بالنسبة لكلّ أنواع الغذاء، حيث عَرف الإنسان، بفعل نور محسّن، التمييز بين النباتات والحيوانات التي ملأ الخالق بها الأرض، مكان القصاص الأبويّ للابن الخاطئ.
إذن، فإعطاء الجياع ليأكلوا، هي صلاة عِرفان للربّ والأب الذي يشبعنا، واقتداء بالآب الذي مَنَحَنا مجّاناً التشبّه به، والذي يجب علينا أن ننمّيه باستمرار باقتدائنا بتصرّفاته.
أعطوا العطاش ليشربوا.
هل فكّرتم يوماً ماذا يَحصُل لو أنّ الله حَبَسَ المطر؟ أو لو قال: "بسبب قسـوتكم تجاه العَطشان، سوف أمنع الغيوم مِن النّـزول إلى الأرض"؟ هل بإمكاننا أن نحتجّ وأن نَلعَن؟ والماء لله هو حتّى أكثر مِن حبّات القمح. ذلك أنّ حبّات القمح يَحصِدها الإنسان، بينما الله وحده هو الذي يَحصد حقول الغيوم التي تُنـزِل مطراً أو ندى، كالضباب والثلوج، ويُغذّي الحقول والمخازن، ويملأ الأنهار والبحيرات، مانحاً المأوى للأسماك التي تُشبِع الإنسـان مـع حيوانات أخرى. هل يمكنكم إذن القول لِمَن يقول لكم "أعطِني لأشـرب": لا. فهذا الماء يخصّني ولا أعطيكَ إيّاه؟ هراء! مَن مِنكم صَنَعَ ندفة ثلج واحدة أو قَطرة مَطر واحدة؟ مَن مِنكم بَخَّر نقطة ندى واحدة بحرارته الكوكبيّة؟ لا أحد. الله وحده هو الذي يفعل ذلك. وإذا كانت المياه تَنـزل مِن السماء وتعود لِتَصعد إليها، فهذا فقط لأنّ الله يُنظِّم هذا الجزء مِن الخَلق كما يُنظِّم الباقي.
أَلبِسوا العُراة.
يَمرّ على طرقات الأرض عديمو القيمة عراة، بائِسين ومُثيرين للشـفقة. هناك العَجَزَة الـمُهمَلون، أولئك العاجزون بفعل الأمراض أو الحوادث؛ هناك البرص العائدون إلى الحياة بفضل صلاح الربّ؛ هناك الأرامل الحاملات عبء العائلة؛ وهناك مَن ضَرَبَتهم الويلات فانتَزَعَت منهم كلّ بحبوحة؛ وهناك الأيتام الأبرياء. وإذا ما نَظَرتُ إلى الأرض الواسعة، أرى في كلّ مكان أشخاصاً عُراة، أو تغطيهم أسمال لا تكاد تُحافِظ على الحِشـمة، ولا تحمي مِن البَرد، وهؤلاء الأشخاص يَنظُرون بعين ذَليلة إلى الأغنياء الذين يَمرّون بثياب باذخة ونِعال مُريحة. هوان وصلاح لدى الصالحين، وهوان وحقد لدى من هم أقلّ صلاحاً. ولكن لماذا لا تَهُبّون لمدّ يد العون لِهَوانهم، جاعلين إيّاهم في حال أفضل إذا كانوا صالحين، مدمّرين الحقد بحبّكم إذا كانوا أقلّ صلاحاً؟
لا تقولوا: "ليس لديَّ سوى كفايتي". فكما هي الحال بالنسبة للخبز، فهناك دوماً ما يفيض عن الحاجة على الموائد وفي الخزائن أكثر ممّا لدى أولئك المهملين نهائيّاً. ومِن بين الذين يستمعون إليَّ، هناك أكثر مِن واحد عَرِف أن يجعل مِن ثوب وُضِع جانباً بسبب تلفه، ثوباً صغيراً ليتيم أو لطفل فقير، ومِن شرشف عتيق، أقمطة لبريء ليس لديه، كما أنّ واحداً عَرِف، وهو المتسوّل، على مدى سنوات، أن يَقتَسِم القُوت الذي كان يحصل عليه بشقّ النَّفْس مِن الهِبات والإحسان، مع أبرص لم يكن بإمكانه مدّ يده على باب الأغنياء. والحقّ أقول لكم، إنّ هؤلاء الرَّحيمين، يجب عدم البحث عنهم وسط الـمُترَفين، بل إنّما في الصفوف المتواضعة للفقراء الذين يَعرِفون، نظراً لظروفهم، كَم الفقر مُضنٍ.
وهنا كذلك، كما بالنسبة إلى الماء والقُوت، فَكِّروا أنّ الصوف والكتّان اللذين ترتدونهما قد أُخِذا مِن الحيوانات والنباتات التي خَلَقَها الله، لم يَخلقها للأغنياء مِن الناس فقط، بل إنّما لكلّ الناس. فإنّ الله قد وَهَبَ ثروة واحدة للإنسان: ثروة نعمته والصحّة والفهم والذكاء، إنّما ليست الثروة الملطَّخة التي هي الذَّهَب. لقد رفعتموه مِن مصافّ المعدن الذي لا يتجاوز جماله جمال معدن آخر، وهو أقل فائدة كثيراً مِن الحديد الذي تُصنَع منه الـمَعاوِل والعربات، الأمشاط والمناجل، الأزاميل والمطارق، المنشار والمسحاج، والأدوات المقدّسة للعمل المقدّس، إلى مصافِّ معدن نبيل، ذي نُبل أجوف، كاذب، بتحريض مِن الشيطان الذي حَوَّلَكم مِن أبناء لله، إلى وحوش كالحيوانات البرّية. وثروة ما هو مقدّس قد وهبَتْكم ما يجعلكم ترتقون في سُلّم القداسة على الدوام! ليست تلك الثروة القاتلة التي تُريق الكثير مِن الدماء والدموع. وأعطوا مثلما أُعطيتم. أعطوا باسم الربّ، دون خشية أن تبقوا عُراة. فأفضل ألف مرّة أن يموت المرء مِن البرد، نازعاً ثيابه لصالح فقير يَستعطي، مِن أن يَدَع قلبه يتجلّد، حتّى تحت الثياب الوثيرة وهو يَفتَقِد للمحبّة.
إنّ حرارة الخير الذي تمّ فعله لهي أنعَم وألطَف مِن حرارة معطف مِن الصوف الصَّرف، وجسد الفقير الذي اكتسى يتحدّث إلى الله ويقول له: "بارِك الذين أَلبَسونا".
وإذا كان الإشباع والإرواء والإلباس، بحرمان الذات لمنح الآخرين، يوحِّد القناعة المقدّسة بالمحبّة الفائقة القداسة، وإذا كانت العدالة المغبوطة توحّدكم كذلك، بما يبدّل بقداسة مصير إخوة بؤساء، بإعطاء ممّا نملك بوفرة، بإذن الله، لصالح الذين، بسبب شرّ الناس أو بسبب الأمراض، قد حرموا منه، فإنّ الضيافة الممنوحة للمسافرين توحّد المحبّة بالثقة واحترام القريب. هل تعلمون أنّ تلك أيضاً هي فضيلة؟ فضيلة تَنمّ، لدى مالكيها، عن نَزاهة واستقامة، علاوة على المحبّة. بالفعل، مَن كان نزيهاً يتصرّف بشكل حسن، وبما أنّ المرء يعتقد أنّ الآخرين يتصرّفون كما يتصرّف هو عادة، فها هي الثِّقة والبساطة اللذان يَنموان في صدق كلام الآخر تنمّان عن أنّ مَن يَسمع الكلام هو إنسان يقول الحقيقة في الكبائر والصغائر، فلا يَصِل به الأمر إلى الارتياب بروايات الآخر.
لماذا التفكير، بحضور المسافر الذي يطلب الضيافة: "وثمّ مَن يدري أنّه ليس لصّاً أو قاتلاً؟" هل تتمسّكون كثيراً بثرواتكم التي تجعلكم ترتَعِدون لمجرّد حضور أيّ غريب؟ هل تتمسّكون كثيراً بحياتكم التي تشعرون بأنّكم تَرتَعِدون هلعاً لمجرّد التفكير بإمكانيّة فقدانها؟ وماذا؟ أتظنّون أنّ الله لا يمكنه أن يحميكم مِن اللصوص؟ وماذا؟ تَخشون أن يكون العابر لِصّاً، ولا تخافون مِن ضيف الظلمات الذي يَختَلِس منكم ما لا يمكن تعويضه؟ كَم يُقيم الشيطان في قلوبهم؟ يمكنني القول: الجميع تسكنهم الخطيئة الأصليّة، ومع ذلك لا أحد يَرتَعِد بسببها. إذن أما مِن شيء ثمين سوى خيرات وثروات الوجود؟ أوليست أثمن هي الأبدية التي تَدَعونها تُسـلَب منكم وتَدَعون الخطيئة تقتلكم؟ مسكينة هي النّفوس وقد انتُزِع منها كنـزها ووقعت في أيدي القتلة، كما لو كانت شيئاً تافهاً لا قيمة له، بينما هي تُوصِد الأبواب وتضع المزلاج والكلّاب والصناديق الحديدية لحماية أشياء لا أحد يحملها معه إلى الحياة الأخرى!
لماذا تُريدون أن تروا في كلّ مسافر لصّاً؟ نحن إخوة. والبيت يُفتَح للإخوة العابرين. أليس المسافر مِن دَمنا؟ آه! بلى! إنّه مِن دَم آدم وحواء. أليس أخانا؟ وكيف لا؟! فلا يوجد سوى أب واحد: الله الذي وَهَبَنا النَّفْس ذاتها، مثل الأب الذي يمنح أولاد السرير الواحد الدم ذاته. أهو فقير؟ فاعمَلوا على ألّا يكون روحكم أكثر منه فقراً، محروماً مِن صداقة الربّ. أثيابه ممزقة؟ فاعمَلوا على ألّا تكون نفسكم أكثر تمزّقاً منها بالخطيئة. أَقَدماه موحِلتان ويكسوهما الغبار؟ فاعمَلوا على ألّا تكون الأنا فيكم قد أتلَفَتها الرذائل أكثر مِن حذائه الوسخ بسبب كثرة الدروب والمهترئ بسبب طول السفر. هل مظهره غير مقبول؟ فاعمَلوا على ألّا يكون مظهركم غير مقبول أكثر منه في عينيّ الله. هل يتكلّم لغة غريبة؟ فاعمَلوا على ألّا تكون لغة قلوبكم غير مفهومة في حاضِرة الله.
فَلتَروا في الـمُسافِر أخاً لكم. إنّنا جميعنا مُسافِرون على طريق السماء، وجميعنا نقرع الأبواب المتواجدة على طول الطريق المؤدّية إلى السماء. الأبواب هُم الأحبار والمستقيمون، الملائكة ورؤساء الملائكة، الذي نلتجئ إليهم للحصول على العون والحماية للوصول إلى الهدف، دون الوقوع مِن الإنهاك في ظُلمة الليل، في شدّة البرد، فريسة شِراك ذئاب وأبناء آوى الشهوات الفاسدة والشياطين. وكما نريد أن يَفتَح الملائكة لنا حُبّهم لإيوائنا ومنحنا القوى مِن جديد لمتابعة الطريق، فلنتصرّف نحن بالطريقة ذاتها مع مُسافِري الأرض. وكلّ مرّة نفتح فيها بيتنا وذراعينا ونحن نلقي التحيّة على مجهول باسم الأخ اللطيف، ونحن نُفكّر بالله الذي يَعرِفه، أقول لكم بأنّكم تكونون قد قطعتم أميالاً كثيرة على الطريق المؤدّية إلى السماوات.
عودوا (زوروا) المرضى.
آه! في الحقيقة، كما أنّ الناس مُسافِرون، كذلك هُم جميعاً مرضى. والأمراض الأكثر خطورة هي أمراض الروح، الأمراض الخفيّة والأكثر فتكاً، ومع ذلك فهي لا تُثير الاشمئزاز. الجرح الوجدانيّ لا يوحي بالنُّفور. نتانة الرذيلة لا تُسبّب الغثيان. الجنون الشيطانيّ لا يُخيف. غنغرينا أبرص روحيّ لا تُنفر. القبر الممتلئ بالأقذار لإنسان ماتت نفسه وتفسّخت لا يجعل المرء يهرب. فالاقتراب مِن إحدى تلك القذارات ليس لعنة. يا لِفكر الإنسان المسكين والضيّق! إنّما قولوا: هل القيمة الأكبر للروح هي أم للّحم والدم؟ وهل ما هو مادّيّ يمتلك القدرة على إفساد ما هو لامادّيّ بفعل المجاورة؟ لا. أقول لكم لا. فقيمة الروح لا مُتناهية مقارنة باللّحم والدم، هذا نعم؛ إنّما الجسد لا قدرة له تفوق قدرة الروح. ويمكن للروح أن يَفسد، إنّما ليس بأشياء مادّيّة، بل بأشياء روحيّة. فحتّى ولو كان أحدكم يُعالِج أبرصاً، فروحه لا تُصبِح مجذومة، بل بالعكس، فبسبب المحبّة التي يمارسها ببطولة حتّى العزلة في وادي الموت، رحمة بالأخ، تسقط عنه كلّ وصمة لخطيئة. ذلك أنّ المحبّة هي حـلّ مِن الخطيئة وأُولى الـمُطهِّرات.
انطلقوا دائماً مِن فكرة: "ماذا أريد أن يفعلوا بي لو كنتُ مثل هذا؟" وافعلوا ما تريدون أن يَفعلوه هُم بكم. الآن ما زال إسرائيل يحتفظ بشرائعه القديمة، ولكن سيأتي يوم، وفجره ليس بالبعيد، حيث نُكرِّم، كرمز للجمال الـمُطلَق، صورة مَن يتجدّد فيه مادّيّاً رجل آلام إشَعياء ومعذَّب مزامير داود، والذي، لكي يجعل نفسه شبيهاً بأبرص، يُصبِح فادي جنس البشر، وصوب جراحه يَهرَع، كالأيائل إلى ينابيع المياه، كلّ العِطاش، المرضى والمتعبين، كلّ الذين يبكون على الأرض، وسوف يَرويهم، يُشفيهم، يُريحهم ويُواسيهم روحاً وجسداً، والأفضل مرتبة منهم يَطمَحون لأن يُصبحوا شبيهين به، مُثخَنين بالجّراح، مُراقة دماؤهم، وقد جُلِدوا وتكلّلوا بأكليل الشوك وصُلِبوا، حبّاً بالناس الواجب افتداؤهم، مُكمِّلين عمل مَن هو مَلِك الملوك وفادي العالم.
أنتم الذين ما تزالون إسرائيليّين، ولكنّكم شَرَّعتُم أجنحتكم لِتُحلِّقوا باتّجاه ملكوت السماوات، ابدأوا منذ الآن إدراك تلك القيمة الجديدة للعاهات، وبمباركتكم الله الذي يحفظكم بصحّة جيّدة، تَحنُون على الذين يتألّمون ويموتون. قال أحد رُسُلي يوماً لأحد إخوته: "لا تخشَ أن تَلمس البرص، فبمشيئة الله لن يمسّنا سوء". لقد أَحسَنَ القول. فالله يَحفَظ خُدّامه. ولكن حتّى ولو أصابتكم العدوى وأنتم تَعتنون بالمرضى، فسوف تُسجَّل أسماؤكم في الحياة الأخرى في قائمة شهداء الحبّ.
زوروا السجناء.
هل تظنّون أنّه لا يوجد في القوادس (سفن حربية كان يعمل المحكومون بالأشغال الشاقة في التجذيف فيها) سوى مُجرِمين؟ أن العدالة البشريّة لديها عين عمياء والأخرى الرؤية فيها مُضطَرِبة. ترى جمالاً حيث تكون الغيوم، وتعتَبِر الحيّة غُصناً مُزهِراً. تُخطئ الحُكم. وتُخطئ أكثر لأنّ المتصدِّر يَخلق بإرادته غيوماً مِن الدخان كي تُرى بشكل أسوأ. ولكن حتّى ولو كان المساجين جميعهم لصوصاً ومجرمين، فليس مِن العدل أن نجعل أنفسنا سارقين وقاتلين بانتزاعنا منهم الرّجاء بالغفران، باحتقارنا إيّاهم.
يا للمساجين المساكين! إنّهم لا يَجرُؤون على أن يَرفَعوا، صوب الله، عُيونهم الـمُثقَلة كما هي حالهم بسبب خطاياهم. فالسلاسِل، في الحقيقة، تَربط أرواحهم أكثر مِن أقدامهم. ولكن الويل لو يَئِسوا مِن رحمة الله! إنّهم يُضيفون إلى الجريمة تجاه القَريب جُرم اليأس مِن الغُفران. فالقادس تَكفير كما هو الموت على الـمِشنقة. إنّما لا يكفي دَفع ما هو مفروض إلى المجتمع البشريّ مِن أجل الجريمة المقترفة. بل يَجِب بالأخصّ دفع الحصّة المترتّبة لله مِن أجل التكفير، للحصول على الحياة الأبديّة. والذي يثور وييأس لا يُكفِّر إلّا فيما يترتب عليه تجاه المجتمع البشريّ. فليتوجّه حُبّ الأخوة صوب المحكومين والمساجين. وسيكون نُوراً في الظُّلُمات، سيكون صوتاً، سيكون يداً تشير إلى الأعالي بينما الصـوت يقول: "فليقل لكَ حُبّي إنّ الله أيضاً يحبّكَ. فإنّه هو الذي وَضَعَ في قلبي هذا الحُبّ تجاهكَ، أيّها الأخ مَنكود الحظ"، والنور يَسمَح باستشفاف الله، الأب الـمُفعَم رحمة.
فلتَمض محبتكم، بأكثر عقلانيّة، لمواساة شُهداء الظُّلم البشريّ. سواء أولئكَ الذين هُم ليسوا مُذنِبين أبداً، أو أولئك الذين دَفَعَتهم قوّة قاهرة للقتل. لا تُدينـوا أنتم كذلك حيث تمّت الإدانة. أنتم لا تعرفون لماذا يمكن لإنسان أن يَقتُل. أنتم لا تَعلَمون أنّ الذي يَقتُل هو في أغلب الأحيان ليس سِوى شخص ميت، شخص مُسيَّر ومَسلوب التفكير لأنّه، وحتى مِن دون إراقة دَم، كان أحد القَتَلة قد انتَزَعَ منه تفكيره بِخسّة خيانة مريرة. الله يَعلَم. وهذا يكفي. في الحياة الأُخرى، سوف يَرى المرء في السماء الكثيرين مِن المحكومين بالأشغال الشاقّة، والكثيرين ممّن سَرقوا وقَتلوا، وسوف يَرى في جهنّم الكثيرين ممّن كان يَبدو عليهم أنّهم سُرِقوا وقُتِلوا، لأنّهم في الحقيقة هُم الذين كانوا السَّارِقين الحقيقيّين لسـلام الآخـر، للنـزاهة، للثقة، القَتَلَة الحقيقيّين لِقلب: الضَّحايا الزائفين. ضحايا، لأنّهم في النهاية تَلقّوا ضربة، إنّما بعد أن ضَرَبوا هم أنفسهم بِصَمت وعلى مدى سنوات. القتل والسرقة هُما مِن الخَطايا، ولكن بين الذي قَتَلَ وسَرَقَ لأنّ آخرين حَمَلوه على ذلك ثمّ نَدِم، والذي حَمَلَ آخرين على الخطيئة ولم يَندَم، فإنّ مَن يَحمِل آخرين على الخطيئة دون وازع مِن ضمير، سـتكون دينونته أشدّ.
بالنتيجة، فلتكونوا مُفعَمين رحمة تجاه المساجين دون إدانتهم أبداً. فَكِّروا على الدوام أنّه لو عوقِبَت جرائم القتل والسرقات كلّها، لما بَقِيَ سِوى القليل مِن النساء والرجال لم يَموتوا في القَوادِس أو على المشانِق. تلك الأُمّهات اللواتي يَحمِلن ولا يُرِدن أن تَرى ثَمَرات أحشـائهن النور، ماذا يمكن تسميتهنّ؟ آه! لا نتلاعبنّ بالألفاظ! فلنقل لهنّ تسـميتهنّ بكلّ صراحة: "سَفَّاحات". أولئك الرجال الذين يَسلبون الأعراض والمراكز، فبماذا يمكن تسميتهم؟ ولكن بكلّ بساطة ما يكونون: "لصوص". أولئك الرجال والنساء الفاسقين الفاجرين أو الذين إذ يُعذِّبون أزواجهم، يَدفَعونهم للقتل أو الانتحار، وكذلك الأمر بالنسبة للذين، كَونهم عُظماء الأرض، يَدفَعون الذين تحت سلطتهم إلى اليأس، وباليأس إلى العُنف، ماذا يكون اسمهم؟ هوذا: "قَتَلَة". وإذن؟ لا أحد يُفلِت؟ تَرَون أنّنا نعيش وسط أولئك المستحقّين للأحكام الشديدة، والذين قد أفلَتوا مِن العدالة، وهُم مِلء البيوت والمدن، ويحتكّون بنا على الطرقات، وينامون معنا في الفنادق، ويقاسموننا الطعام، ولا نفكّر في ذلك. فإذن، مَن ذا الذي بِغَير خطيئة؟ لو كانت يد الله تَكتُب على جدران الغرفة حيث تلتئم أفكار الإنسان: على الجبين، عبارات الاتّهام عمّا كنتم عليه، وما أنتم الآن، وما سوف تكونون، لكانت الجِّباه التي تَحمل عبارة: "بريء" بأحرف مِن نُور قليلة. أمّا الجِّباه الأخرى فإنّها تَحمل بحروف خضراء كالشهوة، أو حمراء كالجريمة، أو سوداء كالخيانة، كلمات: "فاجِرين" "سَفّاحين" "لصوص" "قَتَلَة".
كونوا إذن بغير كبرياء، رُحَماء تجاه إخوتكم الأقلّ سعادة بشريّاً، والذين في القوادس، مُكفِّرين بما لم تُكفِّروا أنتم به مِن أجل الخطيئة ذاتها. وسوف تستفيدون مِن ذلك من أجل تواضعكم.
ادفنوا الموتى.
التأمّل في الموت هو مدرسـة الحياة. أودُّ التمكّن مِن حَملكم جميعاً إلى مواجهة الموت، والقول لكم: "اعرفوا أن تعيشوا كقدّيسـين كيلا تكون لكم سوى هذه الميتة: الانفصال المؤقّت بين الجسد والروح، للقيامة فيما بعد مظفّرين للأبديّة، متَّحِدين ومغبوطين".
جميعنا نولد عُراة. جميعنا سنموت جثثاً آيلة للتفسُّخ. مُلوكاً كنّا أَم صعاليك، نموت كما نأتي إلى هذه الحياة. وإذا كانت فخامة الملوك تسـمح بالاحتفاظ بالجثث لمدّة أطول، فإنّ التفسُّخ هو على الدوام مصير الجسد الميت. حتّى المومياء ذاتها، ماذا تكون؟ جسداً؟ لا. بل مادّة متحجّرة بفعل الريزينات (الراتنج)، مُتخشِّبة. ليست فريسة الديدان لأنّها مُفرَّغة ومحروقة بالخُلاصات، ولكنّها فريسة ديدان قارضة مثل الخشب العتيق.
ولكن التراب يعود تراباً كما قال الله. ومع ذلك، فلمجرّد أنّ هذا التراب قد غَلَّفَ الروح وأُحيِيَ به، فإنّه كشيء لَمَسَ مَجد الله -كذا هي نَفْس الإنسان– يجب التفكير أنّه تراب مقدّس بشكل لا يختلف عن الأشياء التي لامست تابوت العهد. هناك لحظة على الأقلّ كانت النَّفْس فيها كاملة: في اللحظة التي كان الله يخلقها. وإذا ما لَطَّخَتها الخطيئة فيما بعد، نازعة منها كمالها، فَبِأصلها فقط تَصِل الجمال بالمادّة، وبسبب هذا الجمال الذي يأتي مِن الله يتجمّل الجسد ويستحقّ الاحترام. نحن هياكل، وبذلك نستحقّ الإكرام، كما كانت تُكرَّم على الدوام الأماكن التي كان يستقرّ فيها تابوت العهد.
فاجعلوا إذن للموتى المحبّة، باستراحة مُكرَّمة في انتظار القيامة، وأنتم تَرَون في التناغم الرائع للجسد الآدمي، الروح ويد الله الذي فكّر به وأبدعه بكمال، مكرّمين ذاك الجسد الذي عمله الربّ حتّى في جثمانه.
ولكن الإنسان ليس فقط لحماً ودماً. بل هو كذلك نَفْس وفِكر. وهما يتألّمان كذلك، ويجب العمل على تأمين احتياجاتهما برحمة.
هناك جَهَلَة يصنعون الشـرّ لأنّهم لا يعرفـون الخير. فكم من الناس لا يعرفون أو إنّ معرفتهم سيّئة بأمور الله وحتّى بالشـرائع الخُلقيّة! إنّهم يَذوون كالجياع لأنّ لا أحد يمنحهم الغذاء، ويَقَعون في الوَهَن لقلة الحقائق التي تغذّيهم. امضوا إليهم وعَلِّمـوهم، إذ إنّني لأجل ذلك أجمعكم وأُرسِلكم. امنحوا خُبز الروح لجوع الأرواح. تَعليم الجَّهَلة يُعادِل، في النظام الروحيّ، إشباع الجّياع، وإذا كان هناك أجر يُمنَح مِن أجل رغيف أُعطِيَ لجسد يذوي لكي لا يموت في ذلك اليوم، فأيّ أجر سيُمنَح لِمَن يُشبِع روحاً بالحقائق الأبديّة، بمنحه الحياة الأبديّة؟ لا تَبخَلوا بما تَعرفون. فإنّ ذلك قد أُعطِيَ لكم مجّاناً وبغير قياس. فأعطوه دون بُخل، لأنّه مِن أمور الله كماء السماء، ويجب أن يُعطَى كما أُعطِيَ.
لا تَكونوا بُخَلاء ومتكبِّرين في الأمور التي تَعرِفون، لكن أعطوا بِكَرَم مُتواضِع. وأعطوا إنعاش الصلاة الصافي والخَيِّر للأحياء والأموات المتعطّشين للنِّعَم. يَنبَغي عدم حَبس الماء عن الحُلوق التي جَفَّت. فماذا يَجِب إذن أن يُعطى لقلوب الأحياء القَلقَة ولأرواح الأموات المتألِّمة؟ صلوات، صلوات خصيبة لأنّها مشبعة بالحب وروح التضحية.
ينبغي أن تكون الصلاة حقيقيّة، وليست آليّة مِثل صَوت عَجَلَة على الدرب. هل هو الصوت أَم العَجَلَة هي التي تَجعل العَرَبة تتقدّم؟ إنّها العَجَلَة هي المستخدمة في جعل العَرَبة تتقدّم. الأمر ذاته بالنسبة للصلاة الشفويّة الآليّة والصلاة الفاعِلة. الأولى: ضجّة ليس إلّا. والثانية: عمل تُسـتَهلَك فيه القوى وينمو الألم، إنّما يتحقّق معه الوصـول إلى الهدف. صلّوا بتضحياتكم أكثر ممّا تَفعَلون بشفاهكم وستَمنَحون الراحة للأحياء والأموات بقيامكم بفعل الرحمة الروحيّة الثاني. سوف يَخلص العالم بواسطة صلوات الذين يَعرفون أن يُصلّوا، وليس بالحُروب الصاخِبة، عديمة النفع والمعارك الطاحنة.
أناس كثيرون في العالم يعرفون. ولكنّهم لا يعرفون أن يؤمنوا بثبات. كما لو أنّهم بين معسكَرَين متناقِضَين، فيتردّدون، يتردّدون دون أن يتقدّموا خطوة واحدة، ويُنهِكون قُواهم دون التوصّل لأيّ شيء. أولئك هُم المتردّدون. أناس الـــ "لكن" والـــ "إذا" والـــ "وثمّ". الذين يَسألون: "وبعد ذلك، هل سيحصل هكذا؟"، "وإذا لم يكن هكذا؟" "هل سأستطيع؟"، "وإذا لم أنجح؟" وهكذا دواليك. إنّهم ضعيفو الإرادة الذين، إذا لم يَجِدوا ما يتعلّقون به، لا يَصعَدون، وحتّى لو وَجَدوا، فإنّهم يتمسّكون هنا وهناك، وما يجب ليس فقط دعمهم، إنّما جعلهم يَصعَدون في كلّ طالع يوم جديد.
آه! في الحقيقة إنّهم يُمارسون الصبر والمحبّة أكثر مِن طفل معاق! ولكن، باسم الربّ، لا تُهمِلوهم! أعطوا كلّ إيمانكم المنير وكلّ قوّتكم المتأجّجة لأولئك الناس الأسرى لذواتهم ولمرضهم الغامض. قودوهم إلى الشمس والأعالي. كونوا معلِّمين وآباء لأولئك المتردّدين، مِن غير أن تَتعَبوا أو تَفقدوا صبركم. هل يجعلونكم تُنـزِلون ذراعيكم؟ حسناً. أنتم كذلك جَعَلتُموني، مرّات كثيرة، أُنزِل ذراعيَّ، أنا ذاتي، وحتّى الآب الذي في السماوات، الذي عليه أن يُفكِّر غالباً أنه يبدو أنّ تجسد الكلمة لا طائل منه، بما أنّ الإنسـان ما زال متردّداً، حتّى الآن وهو يَسمَع كلمة الله يتكلّم.
يجب ألّا تعتبروا أنفسكم أكثر من الله ومنّي! افتحوا إذن السجون لأولئك الأسرى للــ "لكن" والـــ "إذا". حرِّروهم مِن سَلاسل "هل يمكنني؟" و "إذا لم أنجح؟". أَقنِعوهم أنّه يكفي أن يَصنَع المرء كلّ شيء بأفضل ما يمكنه حتّى يكون الله مسروراً. وإذا ما رأيتموهم يَسقُطون مِن مرتكزاتهم، فلا تتركوهم، بل أَنهِضوهم مرّة أخرى. كما تفعل الأُمّهات اللواتي لا يَجتزن إذا ما سقط صغيرهن، بل يتوقّفن، يُنهِضنَه مِن جديد، يُنظِّفنَه، يُواسينَه، ويَدعمنَه حتّى لا يعود يَخشى سَقطة جديدة. ويتصرّفن هكذا على مدى أشهر وسنوات إذا ما كانت ساقا الولد ضعيفتين.
ألبِسوا عُراة الروح غافِرين للمسيئين إليكم.
الإساءة فِعل مُناف للمحبّة. والفعل المنافي للمحبّة يَسلَخ عن الله. كذلك مَن يرتكب الإساءة يتعرّى، ولا يُعيد إلباس هذا العُريّ إلّا غفران الذي أساء إليه، لأنّه يُعيد الله إليه. الله، لكي يَغفر، ينتظر الـمُساء إليه أن يَغفر. يَغفر للإنسان الذي أُسيء إليه، مثلما يَغفر للذي أساء للإنسان والله. لأنّه ما مِن إنسان لم يُسِئ إلى ربّه. ولكنّ الله يَغفر لنا نحن إذا ما غَفَرنا نحن للقريب، ويَغفر للقريب إذا ما غَفَر الذي أُسيء إليه. كما فعلتم سوف يُفعَل بكم (بالكيل الذي تُكيلون يُكال لكم). بالنتيجة اغفروا إذا ما أردتم أن يُغفَر لكم، وسوف تَسعَدون في السماء بسـبب المحبّة التي مَنَحتُموها، كما لو كان يُوضَع مِعطف مِن النجوم على منكَبيكُم المقدَّسَين.
كونوا رُحَماء تجاه الباكين.
إنّهم أولئك الذين أدمتهم الحياة، أولئك الذين قد تحطَّم قلبهم في مشاعره.
لا تُغلِقوا على أنفسكم في سكينتكم كما في قلعة. بل اعرفوا أن تَبكوا مع الباكين، أن تُواسوا المحزونين، وأن تملأوا فراغ مَن حُرِمَ مِن أحد أبويه بالموت. آباء مع اليتامى، أبناء مع الآباء، إخوة بعضكم لبعض.
أحِبّوا. لماذا المحبة فقط للمغبوطين؟ فهؤلاء قد حَصَلوا على حصّتهم مِن الشمس. أحِبّوا الباكين. إنّهم الأقلّ حظّاً في محبّة العالم، ولكن العالم لا يَعرف قيمة الدموع. أمّا أنتم فتعرفونها. فأحِبّوا إذن الباكين. أحبّوهم إذا كانوا في حزنهم مُستَسلِمين لمشيئة الله. وأَحبّوهم أكثر إذا ما جَعَلَهم ألمهم يَثورون. فلا ملامات، بل لُطف لإقناعهم في ألمهم بفائدة الألم. إنّهم يستطيعون، عبر وشاح الألم، أن يروا بشكل مشوّه وجه الله الذي يختزلونه للغاية في عبارة انتقام متسلّطة. لا. لا تشكّكوا ذواتكم! لا، فذاك ليس سوى هلوسة بسبب حرارة الألم. مدّوا لهم يد العون لتجعلوا حرارتهم تهبط.
فليكن إيمانكم المنعش كالثلج الذي يوضـع على الذي يَهذي. ثمّ، عندما تهبط الحرارة الأكثر ارتفـاعاً، ويحين وقت انحطاط القوى والخَبَل والذُّهول لِمَن أُصيبَ بصدمة، حينذاك، وكما لأطفال أعاقَهَم الـمَرَض، أعيدوا الكلام عن الله، كما لو كان الأمر جديداً، على مهل وبِصَبر وأَناة ورَويّة... آه! رِواية جميلة تُقال لتسلية الطفل الأزليّ الذي هو الإنسان! ثمّ اصمتوا. لا تَلحّوا... فإنّ النَّفْس تعمل بذاتها. ساعِدوها بالملاطفات وبالصلاة. وعندما تقول: "إذن، ألم يكن الله؟" تقولون: "لا، هو لم يكن يريد لكَ الأذى، لأنّه يحبكَ". وعندما تقول النَّفْس: ولكنّني قد تحاملتُ عليه" قولوا: هو قد نَسِيَ لأنّها كانت الحُمّى". وحينما تقول: "إذن أنا أريده"، قولوا: "ها هو ذا! إنّه على باب قلبكَ ينتَظِر أن تفتح له".
تحمَّلوا الـمُضايِقين.
يأتون فَيَزعجون بيت الأنا الصغير، كالمسافرين يأتون فيزعجون البيت الذي نَقطُن. ولكن كما أوصيتكم أن تستقبلوا هؤلاء، أوصيكم أن تستقبلوا أولئك.
هل هُم مُزعِجون؟ ولكن إذا كنتم أنتم لا تحبّونهم بسبب المضايقة التي يسبّبونها لكم، فإنّهم، هُم، يحبّونكم قليلاً أو كثيراً. استقبلوهم بسبب هذا الحبّ. حتّى ولو كانوا قد أتوا ليطرحوا عليكم أسئلة لا رزانة فيها، لِيُفصِحوا لكم عن حقدهم ويشتموكم، مارِسوا الصبر والمحبّة. بإمكانكم جعلهم يُصبِحون أفضل بصبركم، وبإمكانكم أن تكونوا سبب شكّ بافتقاركم إلى المحبّة. تتألّمون لرؤيتهم يَقتَرِفون الخطايا مِن تلقاء أنفسهم؛ ولكنّكم تتألّمون أكثر بجعلهم يُخطِئون، وبأن تُخطِئوا أنتم أنفسكم. اقبلوهم باسمي إذا كنتم لا تستطيعون قبولهم بمحبتكم. والله سيكافئكم بمجيئه هو فيما بعد لزيارتكم وإزالة الذكرى غير المستحبّة بملاطفاته فائقة الطبيعة.
أخيراً اجتهدوا في أن تَغمـروا الخَطَأة لتهيّئوا عودتهم إلى حياة النّعمة. هل تَعلَمون متى تفعلون ذلك؟ عندما تؤنّبونهم بإلحاح أبويّ، صَبور وعطوف. فكأنّكم تُكفِّنون رويداً رويداً قَباحات الجسد قبل إيداعها القبر في انتظار أمر الله: "انهض وتعال إليَّ".
ألسنا نُطهِّر الجسد، نحن العبرانيّين، احتراماً للجسد الذي ينبغي له أن يقوم؟ توبيخ الخَطَأة، يُشبه تطهير أعضائهم قبل التكفين. أمّا ما تبقّى، فإنّ نعمة الربّ هي التي تفعله. طَهِّروهم بالمحبّة والدموع والتضحيات. كونوا أبطالاً لتنتشلوا روحاً مِن الفساد . كونوا أبطالاً.
لن يبقى ذلك دون مكافـأة. ذلك أنّ كأس ماء يَروي غليل عطش مادّيّ يسـتحقّ المكافأة، فما بالكم بانتشال روح مِن العطش الجهنّميّ؟
لقد تكلّمتُ. تلك هي أعمـال الرحمة للجسد والروح التي تجعل الحبّ ينمو. اذهبوا ومارِسوها. وليكن سلام الله وسلامي معكم الآن وعلى الدوام.»