ج4 - ف120
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
120- (يسوع يَمضي إلى الكرمل مع يعقوب بن حلفى)
19 / 08 / 1945
«بَشِّروا في مرج بن عامر ريثما أعود إليكم» يُوصي يسوع رُسُله، في أثناء صبيحة صافية، على مشارف كيسان، بينما هُم يتناولون بعضاً مِن الزّاد: مِن خبز وفاكهة.
يبدو أنّ الرُّسُل ليسوا متحمِّسين كثيراً، ولكنّ يسوع يشجّعهم ويَرسم لهم خطّاً يَتبعونه في طريقة تصرّفهم، ويَختم قوله: «ومع ذلك فإنّ أُمّي معكم. ستكون لكم النّاصِح النَّصوح. أمضوا إلى فلّاحي جيوقانا، اعمَلوا على أن تتحدّثوا إلى فلّاحي دوراس أثناء السبت. قدِّموا لهم العَون، وشدِّدوا عزيمة جَدّ مارغزيام بنقلكم إليه آخر أخبار الوَلَد، وقولوا له إنّنا سوف نَجلبه إليه في عيد المظالّ. أعطوا كثيراً، كلّ ما لديكم، لكلّ أولئك المساكين، كلّ ما تَعرفون، كلّ العطف الذي في داخلكم، كلّ ما لدينا مِن مال. لا تخافوا. فكما يَخرُج يعود. لن نموت جوعاً أبداً، حتّى ولو لم نأكل سوى الخبز والفاكهة. وإذا ما رأيتم عُراة فأعطوهم الثياب، حتّى ثيابي، بل ثيابي في الطّليعة. لن نعرى أبداً. وبالأخصّ إذا ما رأيتم ويلات تبحث عنّي، فلا تحتقروهم. لا يحقّ لكم ذلك. وداعاً أُمّي. وليبارككم الله جميعاً بفمي. أمضوا بكلّ أمان. تعال يا يعقوب.»
«ألا تأخذ حتّى حقيبتكَ؟» يَسأَل توما وهو يرى المعلّم يَهمّ بالسير دون أخذها.
«لا حاجة إلى ذلك. هكذا أكون أكثر حرّيّة في المسير.»
وكذلك يعقوب يترك حقيبته، رغم استعجال أُمّه في مَلئها بالخبز والجبن والفاكهة. يَمضيان متتبِّعين مُرتَفع كيسان، لبعض الوقت، ثمّ حين يَصِلان إلى مشارف المنحدرات المؤدّية إلى الكرمل، يَغيبَان عن أنظار الباقين.
«أيّتها الأُمّ، نحن بين يديكِ. قُودينا لأنّنا... غير جديرين بشيء.» يقرّ بطرس بتواضع.
تبتسم مريم ابتسامة واثقة وتقول: «الأمر بسيط جدّاً، ليس لكم سوى أن تطيعوا أوامره، وكلّ شيء سيسير على ما يرام. هيّا بنا.»
يَصعَد يسوع مع ابن عمّه يعقوب ولا يتكلّم، وكذلك الآخر لا يتكلّم. يركّز يسوع تفكيره؛ أمّا يعقوب الذي يَشعُر بنفسه أنّه على عتبة تجلٍّ، وقد استولى عليه حُبّ جليل، خشية روحيّة، وينظر بين الحين والحين إلى يسوع الذي ترتسم ابتسامة نيّرة على محيّاه الـمَهيب. ينظر إليه كما إلى الله غير المتجسّد، والـمُشرق بكلّ عظمته، ووجهه الذي يشبه إلى حدّ بعيد وجه القدّيس يوسف، والأسمر بشكل لا يخلو مِن الحُمرّة على خدّيه، والذي يَشحب مِن شدّة تأثّره. ولكنّه ما يزال يحترم صمت يسوع.
لا يزالان يَصعَدان، عَبْر دروب مختصَرة، وكأنّهما لم يَكونا يُبصِران الرُّعاة الذين يَرعون قطعانهم في المراعي الخضراء تحت غابات السنديان الأخضر، والبلّوط والدردار وأشجار أخرى باسِقة، ومعطفاهما يُلامِسان أدغال العرعر الخضراء الضّاربة الى الزرقة، وأدغال الوزّال الذهبية، أو طاقات الآس بلون الزمرّد وقد نُثِرَت عليها اللآليء، أو حواجز زهر العسل المتحرّكة، أو ياسمين البرّ المزهر.
يَصعَدان مُخلِّفين وراءهما الرُّعاة والحطّابين حتّى يَبلغا، بعد مسيرة لا تعرف التعب، قمّة الجبل، أو بالحريّ مسطّحاً صغيراً مُستَنِداً إلى قمّة مكلَّلة بأشجار البلّوط العملاق، يحدّه نَسَق مِن الأشجار الباسقة التي تتّكيء على قمم أشجار المنحَدَر الأخرى، بحيث يبدو المرج الصغير وكأنّه يَستَنِد إلى تلك الدعامة ذات الحفيف، معزولاً عن بقيّة الجبل الذي يَحجب الإيراق الذي في الأسفل رؤيته، وكذلك أنف الجبل مِن الخلف، الذي يُطلِق أشجاره نحو السماء، وفي الأعلى تنكشف السماء، وفي المقابل ينكشف الأُفق الـمُحمَرّ عند الغَسَق، والمتوقّد عند البحر الملتهِب. ثَلم في الأرض لا يتهدّم، فقط لأنّ جذور البلّوط العملاق التي تُمسِك به كما بين فكّي كمّاشة، تجعله يتماسك، وهو مفتوح في الـمَسلَك، بعرض يَسمَح فقط بمرور رجل غير بدين. دغل مُنتَفِش يبدو استمراراً له وهو يمتدّ أفقيّاً بدءاً مِن حرف الـمَسلَك.
يقول يسوع: «يعقوب، يا أخي، سنمكث هذه الليلة هنا، ورغم تعب الجسد المضني، أرجوكَ أن تُمضي الليل بالصلاة، الليل وطوال يوم غد حتّى مثل هذه الساعة. فيوم كامل ليس كثيراً مقابل تَلقّي ما أبغي إعطاءكَ إيّاه.»
«يا يسوع، ربّي ومعلّمي، إنّني أعمل ما تريده أنتَ على الدوام.» يُجيب يعقوب الذي يَشحَب أكثر عندما يَشرَع يسوع بالكلام.
«أعلَم. هيّا بنا الآن نقطف التوت والآس مِن أجل مَعِدتنا، ونقصد نبعاً سَمِعتُهُ في الأسفل. دع إذن معطفكَ في الكهف، فلن يأخذه أحد.»
ويدور مع ابن عمّه حول الـمَسلَك وهما يَقطفان الثمار البرّية مِن الدّغل أسفل الغابة، ثمّ، على بعد بضعة أمتار إلى الأسفل، في الجهة المقابلة للطريق التي سَلَكاها في الصعود، يملآن مَطَرتيهما، الشيء الوحيد الذي حَمَلاه معهما إلى النبع الثرثار الذي يصبّ في كَدس مِن الجذور، ويغتسلان لينتَعِشا ويُخفّفا مِن وطأة الحرّ التي ما تزال شديدة، رغم الارتفاع. ثمّ يُعاوِدان الصّعود إلى مسطّحهما، وبينما الجوّ أحمر بالكامل على القمّة المتسربِلة أشعّة الشمس التي ستختفي عند الغرب، يأكلان ما جَمَعاه ويَشرَبان أيضاً وهما يبتسمان لبعضهما كطفلين سعيدين أو كملاكين. القليل من الكلام: إستذكار الذين ظلّوا في السهل، صرخة إعجاب بجمال اليوم الفائق، ذِكر اسم الأٌمّين... لا شيء أكثر.
ثُمّ يشدّ يسوع ابن عمّه إليه، وهذا يأخذ وضعيّة يوحنّا الاعتياديّة، رأسه مُستَنِد إلى أعلى صدر يسوع، يد متروكة على ركبتيه والأخرى في يد ابن عمّه، ويظلّان هكذا بينما يَهبط المساء وسط زقزقة هائلة مِن العصافير العائدة إلى الأوراق، ورنين أجراس تبتعد وتصبح غير مميّزة، وصوت نسيم عليل يداعب القِمم ويُنعِشها باعثاً فيها الحياة بعد حرارة النهار الجهنّميّة، ممهِّداً للندى.
يَظلاّن هكذا طويلاً، وأظنّه ليس سوى صمت شِفاه، بينما الروحان فاعِلان أكثر من أيّ وقت آخر، وتتبادلان حوارات فائقة الطبيعة.