ج6 - ف152
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الثاني
152- (السبت في كفرناحوم)
18 / 07 / 1946
«ألن تعيد الصبيّ لأُمّه؟» برتلماوس يَسأَل يسوع، عندما يراه على الشرفة مستغرقاً في صلاة عميقة.
«لا. سوف أنتظر حتّى تعود مِن المعبد...»
«هل تأمل أن يتحدّث إليها الربّ هناك... وأنّها... سوف تُدرك واجبها؟ إنّكَ تفكّر بحكمة. إنّما هي ليست حكيمة. أيّة أُمّ أخرى كانت قد هرعت إلى هنا مساء الأمس كي تستعيد ابنها. في النهاية... نحن أبحرنا في بحر عاصف... وهي لم تكن تَعلَم مِن أين أتينا... ألم تكن حريصة على التأكّد ممّا إذا كان ابنها قد عانى؟ ألعلّها تأتي هذا الصباح؟ انظر كم مِن الأُمّهات مستيقظات، رغم أنّ النهار قد انبلج منذ قليل، مهتمّات بنشر ثياب العيد لتنشيفها تماماً، كي تكون نظيفة وجاهزة كي يرتديها الأولاد في يوم الربّ. قد يقول فرّيسيّ إنّهنّ يقمن بعمل مُنتَهِك للسبت بنشر هذه الثياب الصغيرة. وأنا أقول بأنّهنّ يقمن بفعل محبّة، نحو الله ونحو أولادهنّ. إنّهنّ بمعظمهنّ نساء فقيرات. انظر، هناك مريم التي لبنيامين ورفقة التي لميخا. وعلى تلك الشرفة المتواضعة هناك يُوَنّا تُسوِّي، بطول أناة، أهداب ثوب ابنها الفقير، بحيث يبدو أقلّ فقراً لدى الذهاب إلى الحفل المقدّس. وهناك أيضاً، على الضفّة التي قريباً ستغمرها الشمس تماماً، تنشر سليدا القماش الذي ما يزال خاماً، حتّى إنّ القماش الذي ما يزال خشناً يبدو ناعماً، والجميل فقط بسبب التضحية التي تكبَّدَتها: الكثير مِن فتات الخبز، التي حَرَمَت منه معدتها الجائعة، كي تستبدلها بخيوط قنّب. وأليست تلك أدينا التي تفرك ثوب ابنتها الباهت كي يبدو أكثر اخضراراً؟ أمّا هي، فلا نراها...»
«ليبدّل الربّ قلبها! ما مِن شيء آخر يُقال...»
يظلاّن مستندَين إلى جدار الشرفة المنخفض، ينظران إلى الطبيعة التي أنعشتها العاصفة التي نَقَّت الجوّ وغسلت الخُضرة. البحيرة ما تزال معكّرة بعض الشيء وأقل زُرقة مِن المعتاد، فمياه السيول، التي فاضت لبضع ساعات، قد جرفت أتربة مجاريها الجافّة، ولكنّها جميلة رغم هذا المزيج المعكّر. إنّها تبدو كلازورد ضخم مخطّط بالدُرَر، وتبتسم تحت الشمس الصافية التي تتجاوز الآن مِن وراء جبال غربيّة، وتُنير القطرات التي ما زالت عالقة على الغصينات. طيور السنونو والحَمام تجوب بفرح الهواء المنقّى، وكلّ أنواع الطيور تغرّد وتزقزق في الأغصان الـمُورقة.
«الفصل الحارّ مضى، هذا الفصل جميل، غنيّ وجميل. كما سنّ الرشد، أليس كذلك يا معلّم؟»
«نعم... جميل...» إنّما مِن الواضح أنّ يسوع مستغرق في التفكير بأمر آخر.
برتلماوس ينظر إليه... ثمّ يَسأَل: «بماذا تفكّر؟ بما ستقوله في المعبد؟»
«لا. كنتُ أفكّر بأنّ المرضى ينتظرون. لنذهب كِلانا ونشفيهم.»
«فقط نحن؟»
«إنّ سمعان، أندراوس، يعقوب ويوحنّا، قد ذهبوا كي يسحبوا سِلال الصيد التي ألقاها توما تحسّباً لعودتنا. الآخرون نيام. لنذهب نحن الاثنان.»
يَنزلان ويتوجّهان صوب الريف، إلى المنازل المتناثرة بين البساتين، أو حتّى بين الحقول، بحثاً عن مرضى قد تمّ إيواؤهم في منازل الفقراء، التي هي مضيافة على الدوام. إنّما بعض الأشخاص يتقدّمونه، وقد حَزروا إلى أين هو ذاهب، ويقول له أحدهم: «انتظر هنا، في بستاني. سوف نأتيكَ بهم إلى هنا...»
وسريعاً، ومثل مياه جداول صغيرة تتجمّع في بركة واحدة، فإنّ المرضى يأتون مِن كلّ حدب وصوب، أو يتمّ جلبهم إلى مَن يُشفي.
لقد تمّ اجتراح المعجزات. يسوع يصرف الذين شفاهم قائلاً: «إذا ما تمّ سؤالكم، فلا تقولوا بأنّني شفيتُكم. عودوا إلى المنازل حيث كنتم. تلميذي سوف يجلب الإعانات لِمَن هُم أكثر احتياجاً قبل المغيب.»
«نعم، لا تتكلّموا، لأنّكم سوف تؤذونه. تذكّروا بأنّ اليوم هو السبت، وبأنّ الكثيرين يكرهونه» يؤكّد برتلماوس.
«لن نؤذي مَن فَعَلَ الخير لنا، سوف نتحدّث عن ذلك في بلداتنا، دون ذكر اليوم الذي شُفينا فيه» يقول رجل كان مشلولاً قبلاً.
«لا بل أقول بأنّ علينا أن نتوزّع في الريف بانتظار المغيب. الفرّيسيّون يعلمون أين تمّت استضافتنا، وقد يأتون كي يروا...» يقول شخص قد شُفيت عيناه المريضتان.
«معكَ حقّ يا إسحاق. البارحة كانوا يُكثِرون السؤال وعن أمور كثيرة... سوف يعتقدون بأنّنا، وقد تعبنا مِن الانتظار، فقد رحلنا قبل المغيب.»
«إنّما هل رآنا الرسول مساء البارحة؟» يَسأَل شخص كان أعمى. «ألم يكن هو الذي كان يتكلّم؟»
«لا. لقد كان أحد إخوة الربّ. هو لن يشي بنا.»
«فقط قولوا لي إلى أين تذهبون كي أجدكم عندما أعود» يقول برتلماوس.
يتشاور المرضى فيما بينهم. البعض يودّون الذهاب نحو كورازين، والبعض نحو مجدلا، يتركون الأمر ليسوع كي يقرّر. ويسوع يقول: «اذهبوا إلى الحقول التي على طول الطريق المؤدّية إلى مجدلا. اتّبعوا مجرى السيل الثاني وسرعان ما ستجدون منزلاً. توجّهوا إليه وقولوا: "يسوع قد أرسَلَنا." وسوف يستقبلونكم كإخوة. اذهبوا وليكن الله معكم وأنتم مع الله، متجنّبين ارتكاب أيّة خطيئة في المستقبل.»
وينطلق يسوع مجدّداً، لكنّه لا يعود مباشرة إلى البلدة مِن ذات الطريق التي أتى منها. بل ينعطف وسط البساتين، إلى حيث النبع المجاور للبحيرة. الذي غزته النسوة أملاً بالحصول على مؤونتهنّ مِن الماء بينما لا يزال الطقس منعشاً، والشمس لم ترتفع عالياً جدّاً.
«الرابّي! الرابّي!»
تندفع النسوة، الأطفال وأيضاً الرجال، أغلبهم مسنّون، والذين لا يفعلون شيئاً لأنّه السبت.
«كلمة، يا معلّم، لجعل هذا اليوم يوماً فَرِحاً» يقول رجل عجوز، وهو يمسك طفلاً مِن يده، ربّما ابن حفيد، لأنّه بالتأكيد إذا كان الرجل يبلغ حوالي المائة عام، فإنّ عمر الصغير لا يتجاوز الستّة أعوام.
«نعم، أَسْعِد العجوز لاوي، وأَسْعِدنا معه.»
«اليوم سوف تستمعون إلى شرح يائير. أنا هنا كي أستمع إليه. لديكم رئيس معبد حكيم...»
«لماذا تقول ذلك يا معلّم؟ أنتَ رئيسهم جميعاً، أنتَ معلّم إسرائيل. نحن لا نعرف إلّاكَ.»
«يجب ألّا تفعلوا ذلك. إنّ رؤساء المعابد قد أُعِدّوا ليكونوا معلّمين لكم، كي يُقيموا الشعائر وسطكم، فيكونوا مثالاً لكم، كي يَجعَلوا منكم إسرائيليّين مُخلِصين. سوف يبقون هنا حين لن أكون موجوداً بعد. سوف يكون لهم أسماء أخرى، وطقوس أخرى، لكنّهم سوف يظلّون المسؤولين عن إقامة الشعائر. عليكم أن تحبّوهم وأن تصلّوا مِن أجلهم. لأنّه حيث يكون رئيس صالح، يكون مؤمنون صالحون، وبالتالي، يكون الله.»
«سنفعل ذلك. إنّما تحدّث إلينا الآن. لقد قيل لنا بأنّكَ على وشك أن تغادرنا...»
«لديَّ الكثير مِن الخٍراف المنتشرة في جميع أنحاء فلسطين. إنّها كلّها بانتظار راعيها. إنّما لديكم تلاميذي، الذين يصبحون أكثر فأكثر عدداً وحكمة...»
«نعم، إنّما ما تقوله أنتَ يبقى طيّباً على الدوام وسهل الفهم بالنسبة لعقولنا الجاهلة.»
«ما الذي سأقوله لكم؟...»
«يا يسوع، لقد بحثنا عنكَ في كلّ مكان!» يصيح يوسف بن حلفى، الذي وصل للتوّ مع أخيه سمعان ومجموعة مِن الفرّيسيّين.
«وأين يمكن أن يكون ابن الإنسان إن لم يكن وسط الناس المتواضعين وبسيطي القلوب؟ أكنتم تريدونني؟ ها أنا ذا. إنّما دعوني أوّلاً أقول كلمة لهؤلاء الناس…
أَنصِتوا. لقد قيل لكم بأنّني على وشك أن أغادركم. هذا صحيح. لم أُنكر ذلك. إنّما قبل أن أغادركم فإنّني أعطيكم هذه الوصية: اسهروا كثيراً على أنفسكم كي تعرفوها بشكل جيّد، واقتربوا أكثر فأكثر مِن النور كي تستطيعوا أن تروا بشكل واضح. إنّ كلمتي نور هي. احفظوها في قلوبكم، وعندما تكتشفون، مِن خلال نورها، بُقَعاً أو ظلالاً، فقوموا بطردها مِن قلوبكم. يجب ألّا تظلّوا بعد على ما كنتم عليه قبل أن أعرفكم. يجب أن تكونوا أفضل بكثير، لأنّكم الآن تَعلَمون أكثر بكثير.
قبلاً كنتم كَمَن في غسق، أمّا الآن فلديكم النور في داخلكم. فعليكم إذن أن تكونوا أبناء النور. انظروا إلى السماء في الصباح عندما تنجلي عند الفجر: قد تبدو صافية فقط لأنّها ليست مكسوّة تماماً بغيوم عاصفة، إنّما كلّما يزداد النور وتَظهَر الشمس الساطعة مِن الشرق، فعندها تَرى العين المتفاجئة بقعاً زهريّة في زُرقة السماء. ما هي؟ آه! سُحُب صغيرة خفيفة، خفيفة بحيث لم تكن تَظهَر عندما كان النور خافتاً، إنّما الآن، وقد أنارتها الشمس، فإنّها تَظهَر كالزّبد الخفيف في قبّة السماء. وهي تبقى هناك حتّى تذيبها الشمس، مبدّدة إيّاها بسطوعها.
افعلوا الشيء ذاته مع نفوسكم. قَرِّبوها أكثر فأكثر مِن النور كي تَكتَشِفوا كلّ غشاوة، حتّى أدناها، ومِن ثمّ أَبقُوها تحت الشمس العظيمة للمحبّة. وهي ستُبدّد نقائصكم كما تُبخِّر الشمس الرطوبة الخفيفة المتكثّفة في تلك السُّحُب الصغيرة الرقيقة، والتي تُغيِّبها الشمس عند الفجر. وإذا ما لبثتم ثابتين في المحبّة، فالمحبّة سوف تفعل عجائب مستمرّة فيكم. اذهبوا الآن وكونوا صالحين...»
إنّه يصرفهم ويذهب إلى ابنيّ عمّه، حيث يعانقهما بعد انحناءات كبيرة للفرّيسيّين الحاضرين، ومن بينهم سمعان، الفرّيسيّ مِن كفرناحوم. الآخرون وجوه جديدة.
«لقد كنّا نبحث عنكَ مِن أجل هؤلاء الناس أكثر منه لأجلنا. لقد أتوا إلى الناصرة بحثاً عنكَ، حينئذ...»
«السلام لكم. ماذا تحتاجون؟»
«آه! لا شيء. لقد أردنا فقط أن نراكَ، لنصغي إليكَ ونسمع حكمة كلامكَ...»
«فقط لأجل ذلك؟»
«في الواقع، كي نقدّم لكَ بعض النصائح كذلك... أنتَ صالح جدّاً والناس يستغلّون ذلك. والناس ليسوا صالحين. وأنتَ تَعلَم ذلك. لماذا لا تَلعَن الخطأة؟»
«لأنّ الآب يأَمَرَني أن أخلّصهم، لا أن أخسرهم.»
«سوف تُسبّب لنفسكَ المشاكل...»
«لا يهمّ. لا يمكنني أن أخالف أمر العليّ لأيّ مصلحة بشريّة.»
«وفيما إذا... أنتَ تَعلَم... يُشاع أنّكَ تُمالِق الجموع كي تستغلّهم مِن أجل تحريضهم على العصيان. وقد أتينا كي نسألكَ فيما إذا كان ذلك صحيحاً.»
«هل أتيتم أم أنّه تمّ إرسالكم؟»
«الأمر سيّان.»
«لا. لكنّني أجيبكم وأجيب أولئك الذين أرسلوكم بأنّ الماء الذي يفيض مِن دلوي هو ماء سلام، وبأنّ البِذار الذي أنثره هو بِذار تجرُّد. إنّني أُشذِّب الأغصان المتكبّرة. إنّني مستعد لاقتلاع النباتات السيّئة، بحيث لا تؤذي الصالحة فيما إذا لم تتأقلم مع التطعيم. إنّما ما أدعوه "صلاحاً" هو ليس ما تقولون عنه بأنّه صلاح. بالفعل أدعو صلاحاً الطاعة، الفقر، التجرّد، التواضع، والمحبّة التي تتضمّن كلّ حالات التواضع والشفقة. ولا تخافوا أحداً. فابن الإنسان لا ينصب المكائد للسلطات البشريّة، وإنّما جاء كي يُرسِّخ القوّة في الأرواح. اذهبوا وأَخبِروا بأنّ الحَمَل لن يكون أبداً ذئباً.»
«ما الذي تقصده؟ أنّكَ تُسيء فهمنا ونحن نسيء فهمكَ.»
«لا. إنّنا نفهم بعضنا جيّداً جدّاً...»
«إذن، أَتَعلَم لماذا أتينا؟»
«نعم، كي تقولوا لي بأنّه ينبغي عليَّ ألّا أتحدّث إلى الجموع. دون أن تأخذوا بعين الاعتبار بأنّكم لا تستطيعون منعي مِن الذهاب، مثل أيّ إسرائيليّ، إلى حيث تُقرأ الكتابات المقدّسة وتُفَسّر، وحيث لكلّ مختون الحقّ بالكلام.»
«مَن قال لكَ ذلك؟ يائير، أليس كذلك؟ سوف نُبلّغ عن ذلك.»
«لم أرَ يائير بعد.»
«أنتَ تكذب.»
«أنا الحقّ.»
رَجُل مِن وسط الجمع الذي احتشد يقول: «هو لا يكذب. فيائير قد غادر أمس قبل المغيب مع زوجته وابنته، لقد رافَقَهُما تاركاً الـمُساعِد هنا، لقد أخذهما لرؤية أُمّه التي تحتضر، ولن يعود إلّا بعد التطهّر.»
الفرّيسيّون لا يحظون بمتعة إثبات أنّ يسوع يكذب، لكنّهم يفرحون لمعرفتهم أنّه بلا صديقه الأكثر قوّة في كفرناحوم. يتبادلون النظرات: إنّها نظرات ذات معنى.
يوسف بن حلفى، الابن البِكر في العائلة، يشعر أنّ مِن واجبه الدفاع عن يسوع، فيلتفت إلى سمعان الفرّيسيّ قائلاً: «لقد كَرَّمتَني بمشاركتي الخبز والملح، والعليّ سوف يأخذ في الحسبان هذا التكريم الذي مُنِحَ لذريّة داود. لقد أظهرتَ نفسكَ لي بارّاً. إنّ أخي قد اتُّهِم مِن قِبَل هؤلاء الفرّيسيّين. البارحة قالوا لي، أنا ربّ العائلة، أنّ ألمهم الوحيد هو أنّ يسوع قد أَهمَلَ اليهوديّة، لأنّه، وكونه مسيح إسرائيل، فقد كان مِن واجبه أن يحبّ ويبشّر كلّ إسرائيل بالطريقة ذاتها. وقد وجدتُ أنّهم على صواب، وكنتُ مزمعاً أن أُخبِر أخي. إنّما لماذا يتكلّمون بشكل مختلف اليوم؟ عليهم على الأقلّ أن يقولوا لماذا عليه ألّا يتكلّم. يبدو لي أنّه لا يقول شيئاً ضدّ الشريعة والكُتُب. أَخبِروني بالسبب الحقيقيّ، وأنا سوف أُقنِع يسوع بأن يتكلّم بشكل مختلف.»
«ما تقوله صحيح. أجيبوا الرجل...» يقول سمعان الفرّيسيّ. «هل قال أيّ شيء... تدنيسيّ؟»
«لا. لكنّ السنهدرين يتّهمه بالتفرقة، بمحاولة تقسيم الأُمّة. فعلى الـمَلِك أن يكون مَلِك إسرائيل، لا الجليل فقط.»
«عزيز هو كلّ الوطن، وعزيز أكثر، في الوطن، مسقط الرأس. محبّته هذه للجليل ليست سبباً وجيهاً يستحقّ عليها العقاب. وعلى كلّ حال، فنحن ننحدر مِن داود، وبالتالي...»
«فليأتِ إذن إلى اليهوديّة. وقل له بألّا يزدرينا.»
«هل سمعتَهم؟ إنّه تكريم لكَ وللعائلة!» يقول يوسف متهكّماً.
«لقد سمعتُ.»
«أنصحكَ بتلبية رغبتهم. إنّها صالحة ومُشرِّفة. تقول بأنّكَ تريد السلام. فضع حدّاً إذن، باعتبار أنّكَ محبوب في المنطقتين، للخلاف الذي يفرّقهم. سوف تفعل ذلك بالتأكيد. آه! سيفعل ذلك بالتأكيد. بوسعي أن أكفله، حيث أنّه يطيع الذين يكبرونه.»
«مكتوب: "ما مِن أحد أعظم منّي. ما مِن إله آخر غيري يتجاوزني." سوف أطيع دوماً ما يشاؤه الله.»
«هل سمعتموه؟ فإذن، امضوا بسلام.»
«لقد سمعناه. لكن يا يوسف، قبل المضيّ، نريد أن نعرف ما الذي يعنيه بـ: "ما يشاؤه الله."»
«ما يشاؤه الله أي أن أعمل مشيئته.»
«أيّة مشيئة؟ قُل لنا.»
«أي أن أجمع خِراف إسرائيل وأن أوّحدها في قطيع واحد فقط. وسأفعل ذلك.»
«سوف نضع كلامكَ في اعتبارنا.»
«حسناً. ليكن الله معكم» ويدير يسوع ظهره لمجموعة الفرّيسيّين ويمضي إلى المنزل.
ابن عمّه يوسف يرافقه، نصف راضٍ، وبمظهر النّصير يوضح له أنّه إذا عرف المرء كيف يتعامل معهم (كما يفعل هو)، معتمداً على الأقارب (كما لحسن الحظّ حصل اليوم)، وإذا ما ذَكَّرَ بحقّه بالعرش (كونه مِن ذريّة داود)، وهكذا دواليك، فالفرّيسيّون أنفسهم يصبحون أصدقاء جيّدين.
يسوع يقاطعه قائلاً: «أتصدّقهم؟ أتصدّق كلامهم؟ حقاً إنّ الكبرياء والمديح الزائف كافيان لجعل النَّظَر الأكثر حدّة مُغلّفاً بالغشاوة.»
«وأنا مع ذلك... أُرضِيهم. لا يمكنكَ أن تتوقّع منهم أن يحملوك كمنتصر مُطلقين الهوشعنا، هكذا فجأة... عليكَ أن تستميلهم، يا يسوع، بقليل مِن التواضع، قليل مِن الصبر. فالمجد يستحقّ كلّ التضحيات...»
«كفى! إنّكَ تتحدّث بمنطق بشريّ، بل وأسوأ. ليَغفر لكَ الله، ويمنحكَ النور يا أخي. إنّما ابتعد، لأنّكَ تُحزنني. ولا تأتِ على ذكر هكذا نصيحة تافهة أمام أُمّكَ وأمام أخويكَ، وأمام أُمّي.»
«تريد أن تَضِلّ! إنّكَ سبب هلاكنا وهلاككَ!»
«لماذا أتيتَ إن كنتَ ما تزال كما أنتَ؟ فأنا لم أتألّم بعد مِن أجلكَ. إنّما سوف أفعل، وعندها...»
يبتعد يوسف... مستاء.
«لقد جعلتَ عزيمتَه تثبط... أنّه مثل والدنا، أنتَ تَعلَم. إنّه إسرائيليّ عتيق...» يُتمتم سمعان.
«حينما يدرك، سوف يرى أنّ سلوكي، الذي يُربِكه الآن، كان مقدّساً...»
إنّهما على عتبة المنزل. يَدخُلان. يسوع يأمر بطرس: «ليكن القارب جاهزاً عند المغيب. سوف نصطحب المريـمَتَين إلى طبريّا، وسمعان سوف يرافقهما إلى المنزل. متّى سوف يذهب معكَ، بالإضافة إلى رفاقكَ الصيّادين. الآخرون سوف يبقون هنا في انتظارنا.»
بطرس يَسحَب يسوع جانباً: «وإذا ما عاد الرجل الذي مِن أنطاكية؟ إنّني أسألكَ بسبب يهوذا الإسخريوطيّ...»
«معلّمكَ يقول لكَ بأنّنا سنلتقيه عند رصيف مرفأ طبريّا.»
«آه! حسناً!» وبصوت عالٍ يقول: «سيكون القارب جاهزاً.»
«يا أُمّي، اصعدي معي. سوف نكون معاً خلال هذه الساعات.»
تتبعه مريم دون كلام. يَدخُلان الغرفة العلويّة، غرفة مُنعِشة وظليلة لأنّها مغطّاة بالكرمة التي تظلّلها، وهي محميّة بستائر.
«أأنتَ راحل يا يسوعي!؟» مريم شاحبة جدّاً.
«نعم. لقد آن الأوان.»
«وأنا، ألن يكون عليَّ أن آتي مِن أجل عيد المظالّ؟ يا بنيّ!...» تقول مريم منتحبة.
«أُمّي! لماذا؟ إنّها ليست المرّة الأولى التي نفترق فيها!»
«لا، هذا صحيح. إنّما... آه! إنّني أتذكّر ما قلتَه لي في الحِرج قرب جَمَلا...بنيّ! اغفر لامرأة مسكينة. سوف أطيعكَ... وأنا، بِعون مِن الله سوف أكون قويّة... ولكنّني أريد منكَ وعداً...»
«ما هو يا أُمّاه؟»
«بأنّكَ لن تخفي عنّي الساعة الرهيبة. ليس على سبيل الشفقة، ولا على سبيل الحذر منّي... سيكون مؤلماً للغاية... وسيكون عذاباً عظيماً... سيكون مؤلماً أنّني... قد أعلم به فجأة عن طريق مَن لا يحبّني كما أنتَ تحبّ هذه الأُمّ المسكينة... وسيكون عذاباً فيما إذا كان عليَّ أن أفكّر بأنّني وبينما أغزل، أو أحيك، أو أعتني بطيور الحَمام، فإنّكَ، فلذة كبدي، تكون قد قُتِلتَ...»
«لا تخافي يا أُمّي. سوف تَعلَمين... إنّما هذا ليس وداعنا الأخير. سوف نلتقي مجدّداً...»
«حقّاً؟»
«نعم. سوف نلتقي مجدّداً.»
«وهل ستقول لي: "أنا ماضٍ كي أُتِمَّ الفداء."؟ آه!...»
«لن أقول ذلك. لكنّكِ سوف تُدركين... ومِن ثمّ سوف يكون السلام. كَم مِن السلام... فقط ضعي في اعتباركِ: أن نُتمّ كلّ ما أراده الله منّا، نحن ابنيه، مِن أجل خير كلّ أبنائه الآخرين. السلام بالغ العظمة... سلام المحبّة المطلقة...»
يضمّها إلى صدره، ممسكاً إيّاها بشدّة في عِناق بنويّ: هو الأطول والأقوى، وهي المرهَفَة، اليافعة في جسدها ومحيّاها الـمُنزّهيَن، وهي التي تُغلِّف الشباب الأزليّ لروحها الطاهر. وتُكرّر بشجاعة، بشجاعة كبيرة: «نعم. ما يشاؤه الله...»
ما مِن كلام آخر. الاثنان الكاملان قد بدءا بالفعل بإتمام تضحية طاعتهما الأصعب. ما مِن دموع تُذرَف. ما مِن قُبلات تُمنَح. هناك فقط اثنان يحبّان محبّة مطلقة، ويضعان محبّتهما عند قدميّ الله.