ج8 - ف12
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثامن
12- (الوصول إلى تخوم اليهودية)
02 / 01 / 1947
عند بزوغ فجر منعش وصافٍ، الحقول الّتي تحيط بمنزل نيقي هي اخضرار بِذار جديدة، ارتفاعها بضع سنتيمترات، خفيفة اللون مثل زمرد فاتح جدّاً. بأكثر قُرباً مِن المنزل، والبستان، الّذي لا يزال عارياً، يبدو أكثر عتامة وأكثر كُبراً مقارنة برهافة السُّوق وأثيريّة السماء فردوسيّة الصفاء. المنزل الأبيض تحت الشمس الأولى، يكلّله طيران الحمام.
نيقي مستيقظة، وبِـهِمّة، تحرص على أن يحصل المغادرون على كلّ ما يمنحهم القُدرة في الطريق. تبدأ بصرف خادمَي لعازر اللذَين استَبْقتهما تلك الليلة، حيث وقد تجدّدت قواهما، يمضيان مسرعَين بالأحصنة. ثمّ تعاود الدخول إلى المطبخ، حيث الخادمات يحضّرن حليباً وأطعمةً على نيران متّقدة. ومِن وعاء كبير تصبّ زيتاً في أوعية أصغر، وخمراً في قِرَب جلدية صغيرة. تستعجل خادمة تعدّ نوعاً مِن الخبز الرقيق كالفطائر، كي تحملها فوراً إلى الفرن الجاهز. تختار مِن على طاولات عريضة، حيث تجفّ أجبان في حرارة المطبخ، الأشكال الأجمل. تجلب عسلاً وتجعله يسيل في أوعية صغيرة بأغطية مُحكَمة. ثمّ تُشكّل رزماً تحتوي كلّ هذه الأطعمة، وإحداها تحتوي جدياً كاملاً أو حَمَلاً، الّذي تسحبه الخادمة مِن السيخ الّذي كان يُشوى عليه. رزمة أخرى تحتوي تفّاحاً أحمراً مثل مرجان. رزمة أخرى فيها زيتون جاهز للأكل. رزمة أخرى تحتوي على زبيب. واحدة على الشعير المقشّر. كانت تقفل الكيس الحاوي هذا حين يدخل يسوع إلى المطبخ ويحيّي كلّ الحاضرات.
«السلام لكَ يا معلّم. هل استيقظْتَ؟»
«كان ينبغي أن أنهض أبكر. إنّما تلاميذي كانوا شديدي التعب بحيث تركتُهم ينامون أكثر. ماذا تفعلين يا نيقي؟»
«أُحَضّر… لن تكون ثقيلة، أترى؟ اثنا عشر حِمْلاً، وقد حسبتُ قُدرة كلّ ممّن سيحملونها.»
«وأنا؟»
«آه! يا معلّم! إنّ لديكَ حِمْلك...» وتلمع دمعة في عينيّ نيقي.
«تعالي إلى الخارج يا نيقي. سوف نتكلّم بهدوء.»
يخرجان ويبتعدان عن المنزل.
«إنّ قلبي يبكي يا معلّم...»
«أعلم ذلك. إنّما ينبغي أن نكون أقوياء. أقوياء بالتفكير بأنّني لم أتعرّض للمعاناة...»
«آه! هذا أبداً! لكنّني تصوّرت إمكانيّة البقاء قريبة منكَ، لذلك جئتُ إلى أورشليم. وإلّا لكنتُ بقيتُ هنا، حيث لديَّ الريف مِلكي...»
«كذلك لعازر ومريم ومرثا كانوا يتصوّرون إمكانيّة البقاء معي. وأنتِ ترين!...»
«أرى ذلك، نعم، أراه. إلى أورشليم لن أعود أبداً، الآن وأنتَ لستَ هناك. سوف أكون دوماً أكثر قرباً منكَ بالبقاء هنا، وسوف أستطيع مساعدتكَ.»
«لقد أعطيتِ الكثير بالفعل...»
«لا يُعدُّ شيئاً ما أعطيتَه. أودّ لو تمكّنتُ مِن حَمل منزلي إلى حيث تذهب. إنّما سوف آتي، حتماً سوف آتي لأرى ما ينقصكَ. الآن أفعل بالضبط ما قلتَ لي أن أفعله. سوف أبقى هنا إلى أن يقتنعوا بأنّكَ لستَ هنا. إنّما بعدها...»
«الطريق طويلة وشاقّة بالنسبة إلى امرأة، وهي غير آمنة كفاية.»
«آه! لستُ خائفة. إنّني عجوز للغاية كي أكون محطّ إعجاب كامرأة، ولا أحمل كنوزاً كي أكون فريسة. إنّ اللصوص أفضل مِن كثيرين يظنّون بأنّهم قدّيسين وهم لصوص ويريدون أن يسرقوا منكَ السلام والحرّية...»
«لا تكرهيهم يا نيقي.»
«إنّ هذا شاقّ لي أكثر مِن أيّ شيء آخر. إنّما سأحاول ألّا أكره محبّة بكَ… لقد بكيتُ طوال الليل يا ربّ!»
«كنتُ أسمعكِ تروحين وتجيئين في المنزل، غير آبهة بالتعب مثل نحلة. كنتِ تبدين لي أُمّاً حزينة على ابنها الـمُضطَهَد… لا تبكي. المذنبون هم مَن يجب أن يبكوا، لا أنتِ. الله صالح مع مسيحه. ففي الساعات الأكثر حزناً هو دوماً يجعلني أجد قربي قلباً أُموميّاً...»
«وكيف ستتصرّف بشأن أُمّك؟ كنتَ قد قلتَ لي بأنّها تأتي قريباً...»
«ستأتي إلى أفرايم... لعازر تكفّل بإخطارها. ها هم سمعان بن يونا وأخواي...»
«أيعلمون؟»
«لا شيء بعد يا نيقي. سوف أقول لهم حين نكون قد ابتعدنا...»
«وأنا سوف أقول لكَ، عند مجيئي، كلّ ما يجري هنا وفي أورشليم.»
ينضمّان إلى الرُّسُل، الّذين يخرجون الواحد تلو الآخر مِن المنزل بحثاً عن يسوع.
«تعالوا يا إخوتي. تناولوا شيئاً قبل المغادرة. كلّ شيء معدّ.»
«نيقي لم تنم هذه الليلة بسببنا. اشكروا التلميذة الطيّبة.» يقول يسوع وهو يدخل المطبخ الواسع، حيث على طاولة تحسبها طاولة غرفة طعام لِدَير بقدر ما هي كبيرة، يتصاعد البخار مِن أوعية مملوءة حليباً، وتَنشر الفطائر التي أُخرِجت للتوّ مِن الفرن رائحتها الجالبة للشهيّة، وعليها تدهن نيقي زبدة وعسلاً بسخاء، قائلة بأنّها أغذية مُقوّية لِمَن عليهم المسير لمسافات طويلة في هذه الساعات الّتي لا تزال باردة.
سرعان ما تنتهي الوجبة. نيقي في غضون ذلك كانت قد حزمت الرزم الأخيرة بالخبز الهشّ والطيّب الرائحة الخارج مِن الفرن. كلّ رسول يأخذ حِمْله، مربوطاً بحيث يمكن حمله دون إزعاج مفرط.
حان وقت الرحيل. يسوع يحيّي ويبارك. الرُّسُل يحيّون. لكن نيقي تريد مرافقتهم حتّى حدود حقولها، ومِن ثمّ تعود أدراجها على مهل باكية تحت وشاحها، فيما يسوع وجماعته يبتعدون عبر طريق فرعية دَلّته إليها نيقي.
الأرياف لا تزال خاوية. الدرب تمرّ عبر حقول قمح جديد وكروم عارية، وبالتالي ليس هناك رُعاة أيضاً، لأنّهم لا يأتون بقطعانهم إلى الأراضي المزروعة. الشمس تُدفئ قليلاً الهواء الصباحيّ. الزهور الصغيرة الأولى تتلألأ على المنحدرات كالجواهر تحت حجاب الندى الذي تنيره الشمس. الطيور تغرّد أولى أناشيد الحبّ. الفصل الجميل يحلّ. كلّ شيء يتجمّل ويُولد مجدّداً. كلّ شيء يُحِبّ… ويسوع يمضي إلى المنفى الّذي يسبق الموت المبتغى بالكراهية.
الرُّسُل لا يتكلّمون. إنّهم مستغرقون بالتفكير، فالرحيل المفاجئ أربكهم. وقد كانوا على يقين بأنّهم على ما يرام مِن الآن فصاعداً! يتقدّمون منحنين أكثر ممّا يمكن للوزن النسبيّ لأكياسهم ومؤن نيقي أن يحنيهم. ما يحنيهم هي خيبة الأمل، إدراك ماهيّة العالم وماهيّة البشر.
أمّا يسوع، على العكس، بالرغم مِن أنّه ليس مبتسماً، فهو ليس حزيناً ولا منهكاً. إنّه يسير رافع الرأس، متقدّماً الجميع، دونما تَصنُّع، إنّما أيضاً دونما خوف. إنّه يمضي كَمَن يعلم جيّداً إلى أين يجب أن يمضي وما الّذي عليه فِعله. إنّه يسير واثقاً، بطلاً لا يكدّره أو يرعبه شيء.
الطريق الثانوية تُفضي إلى طريق رئيسيّة. يسوع يمضي على طول الطريق الرئيسيّة دوماً صوب الشمال. والرُّسُل يتبعونه، مِن دون كلام. إنّها الطريق الّتي تأتي مِن الجليل وتتّجه عبر المدن العشر والسامرة نحو اليهوديّة، فهناك مسافرون يسلكونها، وخصوصاً قوافل تجّار.
الوقت يمضي والشمس تَحمى أكثر فأكثر، عندما يترك يسوع الطريق الرئيسيّة ليسلك درباً أخرى، تمضي عبر حقول قمح نحو التلال الأولى.
الرُّسُل ينظرون إلى بعضهم البعض. ربّما بدأوا يدركون بأنّهم لا يمضون صوب الجليل عبر الطريق الّتي تتبع وادي الأردن، إنّما يمضون صوب السامرة. ولكنّهم لا يتكلّمون بعد.
يسوع، وقد وصل إلى أوائل الأحراج على التلال، يقول: «لنتوقّف ونرتَح بينما نأكل. الشمس تشير إلى منتصف النهار.»
إنّهم عند سيل صغير به ماء قليل، لأنّها لم تمطر منذ بعض الوقت، إنّما ماؤه صافٍ فوق القاع الحجري، وضفّتاه تغطيهما حجارة كبيرة تصلح لأن تكون طاولة ومقاعد. يجلسون، بعدما بارك يسوع الطعام وقدّمه، ويأكلون بصمت وكأنّهم تائهون في أفكارهم.
يسوع يهزّهم بقوله: «ألا تسألوني إلى أين نذهب؟ هل القلق مِن الغد يجعلكم بُكماً؟ أم أنّني لم أعد أبدو معلّمكم؟»
الاثنا عشر يرفعون رؤوسهم. إنّهم اثنا عشر وجهاً مغموماً، أو على الأقل قَلِقاً، يستديرون نحو الوجه الهادئ ليسوع، «آه!» وحيدة تخرج مِن الاثني عشر فماً. والتّعجب الصادر عن الجميع تتبعه إجابة بطرس، الّذي يتكلّم باسم الجميع: «يا معلّم، أنتَ تعلم بأنّكَ معلّمنا على الدوام. إنّما الأمر أنّنا منذ الأمس كَمَن تلقّى ضربة شديدة على الرأس. كلّ شيء يبدو لنا وكأنّه حلم. وأنتَ، نرى ونعلم بأنّكَ أنتَ حقّاً، إنّما تبدو لنا… كما لو أنّكَ قد غدوت بعيداً. بقي لدينا قليلاً هذا الانطباع مذ تحدّثتَ إلى أبيكَ قبل أن تنادي لعازر، ومنذ أخرجتَه مِن هناك، مربوطاً كما كان عليه، بواسطة مشيئتكَ وحدها، وأعدتَه إلى الحياة بواسطة قوّة سلطانكَ وحدها. إنّكَ تكاد تخيفنا. أتكلّم عن نفسي… ولكنّني أظنّ أنّ الأمر هو هكذا بالنسبة للجميع… والآن… نحن… هذا الرحيل… السريع جدّاً والغامض جدّاً!»
«ألديكم خوف مُضاعَف؟ أتشعرون بالخطر وشيكاً أكثر؟ ليس كذلك، أتشعرون بأنّكم لا تملكون القوّة لمواجهة واجتياز التجارب الأخيرة؟ أَفصِحوا عن ذلك بمطلق الحرّية. إنّنا لا نزال في اليهوديّة. إنّنا لا نزال في محيط الطرق الواطئة المؤدّية إلى الجليل. يمكن لِمَن يشاء أن يرحل، إن أراد، الرحيل في الوقت المناسب كي لا يكون محطّ كراهية السنهدرين...»
الرُّسُل ينتفضون بفعل هذه الكلمات. مَن كان ممدّداً تقريباً على العشب الّذي دفّأته الشمس يجلس. مَن كان جالساً مِن الآخرين يقف منتصباً.
يسوع يتابع: «فبدءاً مِن هذا اليوم أنا الـمُضطَهَد شرعيّاً. اعلَموا هذا. ففي هذه الساعة يُوشَك أن يُقرأ في معابد أورشليم الخمسمائة وأكثر، وفي معابد المدن الّتي أمكنها تلقّي الإخطار الّذي صدر أمس عند الساعة السادسة، بأنّني الخاطئ الكبير، وعلى كلّ مَن يعلم مكان تواجدي واجب إعلام السنهدرين كي يقبض عليَّ...»
الرُّسُل يصيحون كما لو كانوا يرونه مقبوضاً عليه بالفعل. يوحنّا يتشبّث برقبته وهو يئنّ: «آه! لقد توقّعتُ هذا دوماً!» وينتحب بقوّة. البعض يستشيطون غضباً مِن السنهدرين، البعض يناشدون العدالة الإلهيّة، البعض يبكون، البعض يلبثون كالتماثيل.
«اصمتوا. أَنصِتوا. أنا لم أخدعكم أبداً. لطالما قلتُ لكم الحقيقة. وقد دافعتُ عنكم وحميتُكم حينما أمكنني ذلك. إنّ وجودكم بقربي كان مُفرِحاً لي مثل وجود الأبناء. ولم أُخفِ عنكم ساعتي الأخيرة… مخاطري… آلامي. إنّما هي كانت أموراً تخصّني حصراً. الآن مخاطركم، أمنكم، أمن عائلاتكم هي ما ينبغي أن تكون موضع مراعاة. أرجوكم أن تفعلوا ذلك. بحرّية مطلقة. لا تراعوها بحسب محبّتكم لي، عبر اختياري لكم. وعليه افترضوا، حيث أنّني أحلّكم مِن كلّ التزام تجاه الله ومسيحه، افترضوا بأنّنا التقينا هنا، للتوّ، لأوّل مرّة، وأنّكم، بعدما استمعتم لي، قمتم بتقدير فيما إذا كان يناسبكم أم لا اتّباع المجهول الّذي أَثّر فيكم كلامه. افترضوا بأنّكم تسمعونني وترونني للمرّة الأولى، وبأنّني أقول لكم: "انتبهوا إلى أنّني مُضطَهَد ومكروه، وأنّ مَن يحبّني ويتبعني هو مُضطَهَد ومكروه مثلي، في شخصه، في مصالحه، في مشاعره. انتبهوا إلى أنّ الاضطهاد يمكن أن يُفضِي كذلك إلى الموت وإلى مصادرة الأملاك العائليّة". فكّروا، قرّروا. وأنا سوف أحبّكم على حدّ سواء، حتّى لو قلتم لي: "يا معلّم، أنا لم أعد أستطيع أن آتي معكَ بعد". أتغتمّون؟ لا. ليس عليكم ذلك. إنّنا أصدقاء طيّبون يقرّرون بسلام ومحبّة ما يتوجّب فِعله، بتعاطف متبادل. أنا لا يمكنني ترككم تمضون نحو المستقبل مِن دون أن أجعلكم تفكّرون. لستُ أستخفّ بكم. إنّني أحبّكم كلّكم، لكنّني المعلّم. مِن البديهيّ أنّ المعلّم يعرف تلاميذه. إنّني الراعي، ومِن البديهي أنّ الراعي يعرف حِملانه. إنّني أعلم أنّ تلاميذي -وقد اقتيدوا إلى اختبار دون أن يكونوا معدّين كفاية له، ليس فقط بالحكمة المتأتّية مِن المعلّم، والّتي هي بالتالي صالحة وكاملة، إنّما أيضاً بالتفكير الّذي يجب أن يتأتّى منهم- يمكن أن يفشلوا أو أقلّه ألّا ينتصروا مثل رياضيّين في ملعب. أن نزن أنفسنا وأن نزن الأمور هو تدبير حكيم، على الدوام. في الأمور الصغيرة وفي الأمور الكبيرة. أنا، الراعي، يجب أن أقول لحملاني: "هوذا، إنّني الآن أتقدّم في أرض ذئاب وعقبان، فهل تملكون أنتم الشجاعة كي تذهبوا وسطها؟". بإمكاني أيضاً أن أقول لكم منذ الآن مَنْ لن يملك قوّة احتمال التجربة، ومع ذلك أستطيع أن أطمئنكم وأن أؤكّد لكم بأنّ ما مِن أحد منكم سيقع بين يديّ الجلّادين الّذين سيضحّون بحمل الله. إنّ القبض عليَّ سيكون قيّماً بحيث سيكون كافياً لهم… ومع ذلك أقول لكم: "فكّروا". سابقاً كنتُ أقول لكم: "لا تخافوا ممَّن يَقتلون". كنتُ أقول لكم: "مَن يلتفت، وقد وضع يده على المحراث، للنظر إلى الماضي وبما يمكن أن يخسره أو يكسبه، فهو ليس جديراً برسالتي." إنّما هي كانت قواعد كي أعطيكم مقياساً لما يعنيه أن تكونوا تلاميذ، وقواعد للمستقبل الّذي سيأتي عندما لا أعود بعد المعلّم، بل سيكون الأوفياء لي هم المعلّمين. قد أُعطيَت لكم لتمنحكم نَفْساً قويّةً. إنّما حتّى هذه القوّة، الّتي لا يمكن إنكار أنّكم بلغتموها مقارنة باللاشيء الّذي كنتم عليه -أتحدّث عن روحكم- لا تزال قليلة جدّاً مقارنة بضخامة الاختبار. آه! لا تفكّروا في قلوبكم: "إنّ المعلّم خَجِل منّا!" إنّني لستُ خَجِلاً. لا بل أقول لكم أنّه لا ينبغي ولن ينبغي لكم أن تخجلوا مِن ضعفكم. ففي كلّ الأزمنة الآتية، ووسط أعضاء كنيستي، حِملاناً ورعاة على حدّ سواء، سيكون هناك أشخاص دون حجم رسالتهم. ستكون هناك عصور يكون فيها رُعاة عبدة أوثان ومؤمنون عبدة أوثان أكثر ممّن هم رُعاة حقيقيّون ومؤمنون حقيقيّون. عصور كسوف لروح الإيمان في العالم. ولكنّ الكسوف ليس موت نجم. إنّه فقط إظلام مؤقّت وجزئيّ إلى حدّ ما للنجم. بعد ذلك، جماله يعاود الظهور ويبدو بأكثر تألّقاً. هكذا سيكون عليه أمر حظيرتي. أقول لكم: "فكّروا". أقول لكم ذلك باعتباري معلّماً، راعياً وصديقاً. إنّني أترككم لتتناقشوا فيما بينكم بمطلق الحرّية. سوف أذهب إلى هناك، إلى ذاك الدغل، لأصلّي. سوف تأتون إليَّ واحداً فواحداً لتبوحوا لي بأفكاركم. وأنا سوف أبارك استقامتكم الصادقة، مهما تكن. وسوف أحبّكم لأجل ما منحتموني إيّاه حتّى الآن. وداعاً.» ينهض ويمضي.
الرُّسُل مندهشون، مرتبكون، مضطربون. في البدء لا يقدرون حتّى على الكلام. ثمّ يقول بطرس أوّلاً: «فلتبتلعني جهنّم إن أنا رغبتُ بتركه! إنّني واثق مِن نفسي. وحتّى لو هاجمتني كلّ الشياطين الّتي في جهنّم، ولوياثان على رأسها، فأنا لن أبتعد عنه بدافع خوف!»
«ولا أنا كذلك. أأكون أدنى مِن بناتي، أنا؟» يقول فيلبّس.
«أنا متأكّد مِن أنّهم لن يفعلوا له شيئاً. إنّ السنهدرين يهدّد، لكنّه يفعل ذلك كي يُقنع نفسه بأنّه لا يزال له وجود. إنّه أوّل مَن يعلم بأنّه لا شيء إن لم تتوفّر الإرادة لدى روما. إداناته! إنّ روما هي الّتي تدين!» يقول الإسخريوطيّ بوقاحة.
«إنّما بالنسبة للأمور الدينيّة فهو لا يزال السنهدرين.» يلاحظ أندراوس.
«أربّما أنتَ خائف يا أخي؟ انتبه بأنّه لم يكن هناك في العائلة جبناء على الإطلاق.» يُحذّر بطرس مُهدّداً، حيث يشعر بأنّ في قلبه روحاً ميّالاً للخصام.
«لستُ خائفاً وأتمنّى أن أتمكّن مِن إثبات ذلك. إنّما أُبدي رأيي ليهوذا.»
«معكَ حقّ. إنّما خطأ السنهدرين هو الرغبة باستخدام سلاح السياسة، لأنّهم لا يريدون أن يقولوا ولا أن يقال بأنّهم رفعوا اليد على المسيح. إنّني أعلم ذلك يقيناً. إنّهم يرغبون، أو بالأحرى، كانوا ليرغبوا بجعل المسيح يقع في الخطيئة لجعله محلّ ازدراء الجمع. إنّما قتله! هم! إيه! لا! إنّهم يخافون! هو خوف لا يمكن مقارنته بخوف بشريّ، لأنّه خوف نفسيّ. يعلمون ذلك جيّداً، هم، بأنّه هو مَسيّا! يعلمون ذلك. إنّهم يعلمون ذلك جيّداً لدرجة أنّهم يدركون أنّ الأمر قد انتهى بالنسبة إليهم، لأنّ الزمن الجديد يحلّ. ويريدون قتله. إنّما يقتلوه هم؟! لا. لذلك يبحثون عن حجّة سياسيّة كي يكون الحاكم، كي تكون روما هي مَن يقتله. لكنّ المسيح لا يؤذي روما، وروما لن تؤذيه. والسنهدرين ينبح عبثاً.»
«إذن أنتَ تبقى معه؟»
«ولكن بالتأكيد. أكثر مِن الجميع!»
«أنا ليس لديَّ ما أخسره أو ما أكسبه بالبقاء أو بالرحيل. عليَّ فقط واجب أن أحبّه. وسأفعل ذلك.» يقول الغيور.
«أنا أعترف بأنّه المسيح وبالتالي أتبعه.» يقول نثنائيل.
«أنا كذلك. إنّني أؤمن به هكذا منذ اللحظة الّتي دَلّني عليه فيها يوحنّا المعمدان على أنّه هو.» يقول يعقوب بن زَبْدي.
«نحن أَخَواه. نجمع إلى الإيمان محبّة الدم (القربى). أليس كذلك يا يعقوب؟» يقول تدّاوس.
«هو شمسي منذ أعوام. إنّني أتبع مسيره. وإن هو سقط في الحفرة الّتي حفرها أعداؤه، فسوف ألحق به.» يجيب يعقوب بن حلفى.
«وأنا؟ أيمكنني أن أنسى أنّه افتداني؟» يَسأَل متّى.
«سيلعنني أبي سبعاً وسبع مرّات إن أنا تركتُه. وعلاوة على ذلك، أقلّه محبّة بمريم، أنا لن أنفصل أبداً عن يسوع.» يقول توما.
يوحنّا لا يتكلّم. يلبث خافض الرأس، حزيناً. الآخرون يعتبرون سلوكه ضُعفاً، وكُثُر يسألونه: «وأنتَ؟ أأنتَ وحدكَ تريد الرحيل؟»
يوحنّا يرفع وجهه، الشديد النقاء أيضاً في المظهر والنظرات، ومحدّقاً بأولئك الّذين يسألونه بعينيه الزرقاوين الفاتحتين الصافيتين، يقول: «كنتُ أصلّي لأجلنا كلّنا، لأنّنا نريد أن نفعل ونقول ونعوّل على أنفسنا، ولا ندرك أنّنا بفعلنا ذلك نشكّك بكلام المعلّم. فإن هو قال بأنّنا غير مُعَدّين، فتلك علامة على أنّنا كذلك. وإن لم نكن قد غدونا مُعَدّين بعد ثلاث سنوات، فلن نكون كذلك خلال بضعة أشهر...»
«ما الذي تقوله؟ خلال بضعة أشهر؟ وماذا تعرف أنتَ؟ أربّما تكون نبيّاً؟» يهاجمونه كما ليلوموه.
«أنا لا أعرف شيئاً.»
«فإذن؟ ماذا تعلم؟ أربّما هو قال لكَ ذلك؟ إنّكَ دوماً تعرف أسراره...» يقول بحسد يهوذا الاسخريوطيّ.
«لا تكرهني يا صديقي، إذا ما كنتُ أُحسِن إدراك أنّ زمن السكينة قد انتهى. متى سيكون ذلك؟ لا أعلم. أعلم بأنّ ذلك سيكون. هو يقول ذلك. كمّ مرّة قد قال ذلك! نحن لا نريد أن نصدّق. إنّما كراهية الآخرين هي تأكيد لكلامه… فإذن أنا أصلّي. لأنّه ما مِن شيء آخر يمكن فِعله. الصلاة إلى الله كي يجعلنا أقوياء. ألا تذكر، يا يهوذا، أنّه قال لنا بأنّه صلّى للآب لامتلاك القوّة في التجارب؟ كلّ قوّة تأتي مِن الله. إنّني أقتدي بمعلّمي، لأنّه مِن الصواب فِعل ذلك...»
«إنّما في الخلاصة، أتبقى؟» يَسأَل بطرس.
«وإلى أين تريدني أن أذهب إن لم أبق معه وهو حياتي وكنزي؟ وبما أنّني طفل مسكين، الأكثر بؤساً مِن الجميع، فإنّني أسأل الله، أبا يسوع وأبانا، كلّ شيء.»
«قد قضي الأمر. نبقى كلّنا إذن! لنذهب إليه. إنّه حتماً حزين. إنّ وفاءنا سوف يجعله سعيداً.» يقول بطرس.
يسوع ساجد يصلّي. وجهه إلى الأرض، بين الأعشاب، أظنّ بأنّه يتوسّل الآب. لكنّه ينهض لدى سماعه وقع الخطى، وينظر إلى خاصّته الاثني عشر. ينظر إليهم برزانة حزينة بعض الشيء.
«كُن مسروراً يا معلّم. لا أحد منا يتخلّى عنكَ.» يقول بطرس.
«لقد قرّرتم سريعاً جدّاً، و...»
«الساعات أو القرون لن تُبدّل فكرنا.» يقول بطرس.
«ولا التهديدات مِن محبّتنا.» يصرّح الاسخريوطيّ.
يسوع يكفّ عن النظر إليهم جماعةً ويحدّق فيهم واحداً واحداً. نظرة طويلة يحتملها الجميع دون خوف. نظره يطول خصوصاً على الاسخريوطيّ الذي ينظر إليه بأكثر ثقة مِن الجميع. ويفتح ذراعيه بحركة إذعان ويقول: «هيّا بنا. أنتم، كلّكم، قد حدّدتم مصيركم.» يعود إلى حيث كان قبلاً، يلتقط كيسه. يأمر: «لنسلك الطريق الّتي تمضي إلى أفرايم، تلك الّتي دلّونا عليها.»
«إلى السامرة؟!!» الاندهاش على أشدّه.
«إلى السامرة. أقلّه عند حدودها. كذلك يوحنّا قصد تلك المواضع ليعيش حتّى الساعة المحدّدة لتبشيره بالمسيح.»
«إنّما هو لم يخلّص نفسه بهذه الطريقة!» يعترض يعقوب بن زَبْدي.
«أنا لا أسعى لتخليص نفسي. بل أن أُخلِّص. وسوف أُخلَّص حتّى الساعة المحدّدة. فإلى النّعاج الأكثر بؤساً يمضي الراعي الـمُضطَهَد. كي تنال، هي المهملة، نصيبها مِن الحكمة لتهيئتها للزمن الجديد.»
يسوع يمضي بخطىً سريعة، بعد التوقّف الّذي أفاد للاستراحة واحترام السبت، لأنّه يريد الوصول قبل أن يجعل الليل المسالك غير عمليّة.
عندما يصلون إلى السيل الّذي يأتي مِن أفرايم ويمضي إلى الأردن، ينادي يسوع بطرس ونثنائيل ويعطيهما كيس مال قائلاً: «امضيا قُدُماً. وابحثا عن مريم الّتي ليعقوب. أذكر أن ملاخي قد قال لي بأنّها أفقر مَن في المنطقة، على الرغم مِن منزلها الكبير، الآن حيث لم يعد فيه أبناؤها وبناتها. سنمكث عندها. أعطياها مالاً كثيراً، كي تستقبلنا في الحال دونما ثرثرة. أنتما تعرفان المنزل. ذاك المنزل الكبير، الّذي تظلّله أربع أشجار رمّان، الّذي يكاد يكون قريباً مِن الجسر فوق السيل.»
«إنّنا نعرفه يا معلّم. سنفعل كما تقول.» يغادران مسرعين، ويسوع يتبعهما مع الآخرين على مهل.
مِن الحوض، الّذي يقسمه السيل إلى نصفين، يمكن رؤية البلدة الّتي تَبْيضّ في أنوار النهار الأخيرة وأنوار القمر الأولى. ليس هناك نَفْس حيّة عندما يصلون إلى المنزل الّذي بَيّضه القمر تماماً. وحده صوت السيل يُسمَع في صمت المساء. وبالالتفات إلى الخلف والنّظر إلى الأفق، يمكن رؤية مساحة شاسعة مِن السماء المرصّعة بالنجوم تنحني فوق مساحة كبيرة مِن الأراضي الّتي تنحدر نحو السهل الخاوي الّذي يهبط إلى الأردن. سلام عميق يسود الأرض.
يطرقون على الباب. يفتح بطرس: «كلّ شيء قد تمّ يا ربّ. المرأة العجوز بكت وقد رأت أنّها تُعطى مالاً. فلم يكن قد بقي معها ولا قطعة نقد واحدة. وأنا قلتُ لها: "لا تبكي يا امرأة. حيث يكون يسوع الناصريّ لا يعود هناك ألم". فأجابتني: "أعلم ذلك. لقد عانيتُ طوال حياتي، والآن كنتُ حقّاً عند أقصى حدود المعاناة. إنّما السماء قد انفتحت لي في خريف عمري وجلبت لي نجمة يعقوب كي تمنحني السلام". والآن هي هناك تجهّز الغرف المقفلة منذ وقت طويل. هوم! ليس هناك الكثير. لكنّ المرأة تبدو طيّبة جدّاً. ها هي! يا امرأة! إنّ الرابّي هنا!»
تتقدّم امرأة عجوز هزيلة، ذات عينين وادعتين حزينتين. تتوقّف مرتبكة على بعد خطوات مِن يسوع. إنّها خَجِلة.
«السلام لكِ يا امرأة. لن أُثقل عليكِ كثيراً.»
«أنا… أودّ… أودّ لو تسير على قلبي كي أجعل دخولكَ إلى منزلي البائس أكثر عذوبة. ادخل يا ربّ، وليدخل الله معكَ.» لقد استردّت أنفاسها ورباطة جأشها تحت نور نظر يسوع.
يدخلون كلّهم. يُقفِلون الباب. المنزل واسع كما فندق وخاوٍ مثل موضع مهجور. وحده المطبخ بهيج بفعل نار تتوهّج في الموقد وسط الغرفة. برتلماوس، الّذي كان يغذّي النار، يلتفت ويبتسم قائلاً: «عَزِّ المرأة يا معلّم. إنّها مغمومة لعدم قدرتها على تكريمكَ.»
«يكفيني قلبكِ يا امرأة. لا تقلقي بشأن أيّ شيء. غداً سوف نتدبّر الأمر. إنّني فقير أنا أيضاً. أَحضِروا لها المؤن. بين الفقراء يتمّ تقاسم الخبز والملح دونما خجل وبمحبّة أخويّة. بالنسبة لكِ يا امرأة هي محبّة بنويّة. لأنّكِ يمكن أن تكوني لي أُمّاً. وأنا أكرّمكِ بهذه الصفة...»
المرأة تذرف دموعاً صامتة لعجوز مغمومة، وماسحة عينيها بحجابها، تهمس: «كان لي ثلاثة صبيان وسبع بنات. صبيّ جرفه السيل، وواحد أخذته الحمّى. الثالث تخلّى عنّي. خمس بنات أصبن بمرض الأب ومُتن، السادسة ماتت وهي تلد، والسابعة… ما لم يفعله الموت فعلته الخطيئة. إنّني لم أُكرَّم في شيخوختي مِن قبل أبنائي، وذلك يسبّب لي… إنّهم طيّبون في القرية… إنّما تجاه المرأة الفقيرة. أنتَ، طيّب تجاه الأُمّ...»
«لي أُمّ أنا أيضاً. وفي كلّ امرأة أُمّ أُكرِّم أُمّي. إنّما لا تبكي. إنّ الله صالح. آمني، والولدان الباقيان يمكن أن يعودا إليكِ مجدّداً. الآخرون هم في سلام...»
«أنا أعتقد بأنّه عقاب، لأنّهم مِن هذا المكان...»
«آمِني. إنّ الله أكثر عدلاً مِن البشر...»
يعود الرُّسُل الّذين كانوا قد ذهبوا إلى الغرف مع بطرس. يجلبون المؤن. يُسخّنون على النار الحَمَل الذي شَوَته نيقي. يجلبونه إلى المائدة. يسوع يقدّم ويبارك، ويريد أن تكون المرأة العجوز معهم، لا في زاويتها لتأكل هندباء عشائها…
إنّ النفي عند تخوم اليهودية قد بدأ...