ج6 - ف116

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الأول

 

116- (في قيصريّة الساحليّة)

 

30 / 04 / 1946

 

إنّ لقيصريّة الساحليّة أسواقاً رَحبة، حيث تَصُبّ أجود أنواع الأطعمة التي تنتهي على موائد الرّومان الفاخرة، وقريباً مِن ساحات تلك الأسواق، حيث تتنوَّع الوجوه (الملامح)، الألوان والأعرَاق، يُمكِن العثور على الأطعمة الأكثر شيوعاً. هناك متاجِر لأشهى أنواع الأطعمة وأكثرها إفادة، منها ما تمّ جَلبه مِن مختلف أرجاء الـمُستَعمرات الرومانيّة، ومنها ما تمّ استيراده مِن إيطاليا البعيدة، لجعل الابتعاد عن الوطن أقلّ إيلاماً. أمّا متاجِر الخمور والـمُشَهِّيات المستوردة مِن بلدان أُخرى، فهي متوضِّعة تحت أروقة مغطّاة، لأنّ الرومان لا يُحبِّذون أن تحرقهم أشعّة الشمس، ولا أن يُبلِّلهم المطر فيما هم يتبضّعون أجود الأطعمة لولائمهم.

 

وبالرغم مِن انشغالهم بإشباع نَهَم ذواتهم مثل الأبيقوريين، إلّا أنَّهم لا يُهملون بقيّة أعضاء أجسامهم... فتقودهم هذه الأروقة الظّليلة والمنعشة، وتلك الممرّات التي تحمي مِن المطر، مِن الحيّ الرومانيّ -المتجمّع بأغلبه حول قصر الوالي، بين الطريق الساحليّة وتجمُّع الثّكنات ومكتب الضرائب- إلى حيث المتاجر الرومانيّة القريبة مِن أسواق اليهود.

 

هناك الكثير مِن الناس تحت تلك الأروقة، التي وإن لم تكن جميلة في جزئها الأخير القريب مِن الأسواق، فهي مريحة إلى حدّ ما.

 

هناك أُناس مِن كلّ الأعراق. هناك عبيد ومُعتَقون، وها هو ذا مُتبَضِّع عَرَضيّ ميسور، وقد أحاط به العبيد، يتنقَّل بتؤدة بين متجر وآخر، بعدما تَرَكَ محفّته في الطريق، يقوم بشراء الحاجيّات التي يحملها العبيد إلى منزله.

 

أمّا عندما يلتقي رومانيّان ميسوران، فيمكن سماع الأحاديث الفارغة المعتادة: الطقس، السَّأَم في هذا البلد الذي لا يوفِّر ملذَّات إيطاليا البعيدة، التحسُّر على العروض العظيمة، التخطيط للولائم وأحاديث فاسقة.

 

ها هو رومانيّ آخَر، يَسبقه حوالي عشرة عبيد محمَّلين بالأكياس والرُّزَم، يلتقي بصديقَين له. يتبادلون التّحيات: «تحيّة يا إنّيوس!»

 

«تحيّة يا فلوريوس تولّيوس كورنيليوس! تحيّة يا ماركوس هركليوس فلافيوس!»

 

«متى عُدتَ؟»

 

«ما قَبلَ البارحة، عند الفجر، مُنهَكاً»

 

«أنتَ، مُنهَك؟ فَلَم يَحصُل مطلقاً أن تعرَّقتَ!» يقول الشاب المدعوّ فلوريوس كي يغيظه على سبيل المزاح.

 

«لا تسخَر منّي هكذا يا فلوريوس تولّيوس كورنيليوس، فها أنا ذا أُجهِد نفسي الآن مِن أجلكما!»

 

«مِن أجلنا؟ نحن لم نطلب منك أن تُجهِد نفسكَ» يعترض الصّديق الأكبر سنّاً المدعو ماركوس هركليوس فلافيوس.

 

«إنَّ محبتي لكما هي التي دفعتني لإجهاد نفسي. أيُّها الجَّاحِدان اللذان تَسخَران منّي، أتَريان موكب العبيد هذا الـمُحمَّل بالأكياس والرُّزَم؟ إضافة إلى آخرين كانوا قد سبقوهم بأكياس ورُزَم أُخرى. إنّ كلّ هذا هو في سبيل تكريمكما.»

 

«أهذا ما تُجهِد نفسكَ مِن أجله؟ وليمة؟»

 

«حقّاً؟» يَصيح الصّديقان بأعلى صوتهما.

 

«اصمتا! نبيلان شريفان مثلكما لا ينبغي أن يَصدر عنها هكذا ضجيج مُزعِج! إنَّكما تبدوان كعامّة الشعّب في هذا البلد الذي لا نفعل فيه سوى...»

 

«العربَدَة والسَّأَم. لأنَّنا لا نفعل أيّ شيء آخر. أنا دائماً ما أتساءل: لماذا نحن هنا؟ أيّ انشغالات لدينا؟»

 

«الموت سَأماً هو أحد انشغالاتنا.»

 

«وتعليم المتعة للنساء النّائحات في هذا البلد هو انشغال آخر.»

 

«و... زرع بذور روما في الأرحام المقدَّسة للنساء العبريات هو انشغال أيضاً.»

 

«والتمتّع، سواء هنا أم في أيّ مكان آخر، بثرواتنا وسطوتنا، حيث كلّ شيء مسموح لنا، هو انشغال إضافيّ لنا.»

 

تتعاقب إجابات الثلاثة كما لو كانت تراتيل، ثمّ يضحكون. إلّا أنَّ الشاب فلوريوس يتوقَّف عن الضحك فجأة، إنَّه يغدو متجهّماً ويقول: «إنّما هناك غمامة تحجب الفرح عن بلاط بيلاطس منذ مدّة. فأجمل النسّاء قد أصبحن يَبدين كما الرّاهبات العفيفات، وأزواجهنّ يرضخون لانقلابهنّ المفاجىء. وهذا يُفسِد الولائم المعتادة بمقدار كبير...»

 

«بالتأكيد! إنَّها أهواء قد سبَّبها ذاك الجليليّ الفظّ... ولكنّها سرعان ما تزول...»

 

«إنَّكَ مُخطىء يا إنّيوس. فَعَلى حدّ عِلمي أنَّ كلاوديا أيضاً قد تأثَّرَت به، ولهذا... فإنَّ الأخلاق الحميدة قد وَجَدَت لنفسها مَنفَذاً وتسلَّلَت إلى قصرها. ويبدو أنّ النظام الصَّارم لروما الجمهوريّة ينهض في القصر مِن جديد...»

 

«واحسرتاه! يا لها مِن رائحة عَفِنة! (يا له مِن خبر سيّئ) إنَّما منذ متى؟»

 

«منذ نيسان (أبريل) العَذب، الملائم لإقامة العلاقات الغراميّة. أنتَ ليس لديكَ عِلم بذلك... فأنتَ لم تكن هنا. فأُناثنا قد عُدنَ حزينات كما النّائِحات على مِرمَدة جنائزية (جَرَّة يُحفَظ فيها الرومان رماد الموتى بعد حرقهم)، ونحن الرجال المساكين كان علينا البحث في مكان آخر عن بعض التسلية. فحتّى التسلية أصبحت مُحظَّرة علينا في حضور أولئك السيّدات الـمُحتَشِمات!»

 

«وهذا سبب آخر يضاف إلى قائمة ما أَجهَد به في سبيل نجدتكما. فهناك عشاء عظيم لهذا المساء... وعربدة بلا حدود، في منزلي. لقد كنتُ في سينتيوم، وقد عثرتُ هناك على الكثير مِن الأشياء الـمُبهِجة التي يعتبرها أولئك المقرفون نَجِسة: طواويس، طيور حجل، دجاج ماء مِن كلّ الأنواع، وخنانيص (صغار الخنازير) بريّة انتُزِعت حيّة مِن أُمّهاتها اللواتي تم قتلهنّ. وتمت تربيتها مِن أجل ولائمنا. وخمور... آه! خمور لذيدة ونفيسة مِن التلال الرومانيّة، مِن الشواطىء الدافئة قرب ليتيرنوم حيث أنحَدِر، ومِن شواطئكم المشمسة قرب أكيري!... وخمور كيوس المعطَّرة حيث سينتيوم هي لؤلؤتها. وخمور إيبيريا التي تَخلُب الألباب، والتي تُهيّيء الحواس للمتعة النهائيّة. آه! سوف يكون احتفالاً عظيماً، لتبديد السَّأَم في منفانا هذا، ولإقناع أنفسنا بأنَّنا ما نزال فُحولاً!...»

 

«هل سيكون هناك نساء أيضاً؟»

 

«بالتأكيد... وهنَّ أكثر جمالاً مِن ورود. سيكون هناك نساء مِن كلّ الألوان... والمذاقات. لقد أنفقتُ ثروة كي أشتري كلّ تلك الأشياء، بما فيها النساء... إنَّني في غاية السَّخاء تجاه أصدقائي!... وها أنا ذا هنا كي استكمل شراء ما ينقصني. تلك الحاجيات التي يمكن أن تَفسُد خلال السفر. وأيضاً كي نَهب لِذواتنا بعض الحُبّ بعد الوليمة!...»

 

«هل كانت سَفَرُكَ مريحاً؟»

 

«مريحاً جدّاً. إنّ أفرودايت أناديومين (آلهة البحر) كانت وَدودة جدّاً معي. وأنا مُزمِع أن أقدّم طقوس هذه الليلة كقربان لها...»

 

الثلاثة يُقهقِهون (يضحكون بصوت عالٍ) مترقِّبين الملذّات الماجِنة التي تنتظرهم…

 

لكن فلوريوس يَسأَل: «إنَّما لماذا هذا الاحتفال الاستثنائي؟ ما هو السبب الكامن خلفه؟...»

 

«إنَّها ثلاثة أسباب: أوّلها أنَّ ابن أخي المحبوب سوف يرتدي الثوب الرجوليّ (يصبح بالغاً) خلال الأيّام المقبلة. ولا بدّ لي مِن الاحتفال بهذا الحَدَث. وثانياً الرضوخ لحقيقة أنّ القيصريّة تتحوّل إلى مكان كئيب للعيش، وأنّه للتغلّب على نذير الشؤم ذاك وتغيير القَدَر، كان لا بدّ مِن تقديم القرابين لفينوس. والسبب الثالث... سوف أهمس به لكما: إنَّني عَريس...»

 

«أنتَ عريس؟ إنَّكَ تمزح!»

 

«إنَّني عريس حقّاً. فكلّ مرّة نتذوَّق فيها الرشفة الأولى مِن قارورة مختومة هي "عُرس" وهذا ما سأفعله هذا المساء. لقد دفعتُ مقابلها عشرون ألف سيسترسيس (عملة رومانية قديمة)، أَو بالأحرى، مائتي قطعة ذهبية، لأنّه في الواقع هذا هو المبلغ الذي كان عليَّ أن أعطيه مقابلها. متضمِّناً ما دفعتُه للسماسرة وما شابه. إنَّما حتَّى ولو كانت فينوس هي مَن وَلَدَتها في فجر نيسانيّ (أبريل)، ولو كانت قد شَكَّلتها مِن رذاذ وحُزَم أشعّة ذهبية، ما كنتُ وجدتُّها أكثر جمالاً ونقاءً! إنَّها برعم، برعم مغلق... آه! وأنا سيّدها!»

 

«يا مُنتَهِك العذارى!» يقول ماركوس هركليوس مازحاً.

 

«لا تلعب دور النّاصِح. فحالكَ ليست أفضل مِن حالي... فبعد رحيل فاليريان... أصبحنا نموت سَأَماً هنا. إنَّما ها أنا ذا أقوم مقامه... إنَّما علينا الاستفادة مِن أخطاء أسلافنا. فأنا لن أكون أحمقاً كي أنتظر، كما فعل هو، أن تُفسِد الكآبة ونظريات الفلاسفة الـمَخصيّين الذين لا يُحسنون التَّمتع بملذّات الحياة، تلك الفتاة، التي هي أكثر حلاوة مِن العسل، والتي أسميتُها غالّا سيبرينا...»

 

«أحسنتَ!!! إنَّما... جارية (عشيقة) فاليريان كانت امرأة مثقَّفة و...»

 

«...وأَصبَحَت مخبولة بفعل قراءتها لكتابات الفلاسفة... النَّفْس! الحياة الثانية!... الفضيلة!!!... والكثير غيرها مِن الكلام الفارغ!... الحياة هي إمتاع الذَّات! ونحن نحيا هنا. لقد أحرقتُ أمس كلّ اللُّفافات التي قد تُسبِّب الكآبة، كما أعطيتُ أوامري للعبيد، تحت طائلة الموت، أن يمتنعوا عن الإتيان على ذِكر هراء الفلاسفة والجليليّين. فتلك الفتاة يجب ألّا تعرف عن أيّ شيء سِواي...»

 

«إنّما أين عثرتَ عليها؟»

 

«كالآتي! هناك شخص داهية. وقد جَلَبَ معه أسرى بعد حروب الغال، واستبقاهم فقط للتّوالُد، وقد أَحسَنَ معاملتهم، وأَلزَمَهم فقط بإنجاب مواليد جدد، لإنتاج زهور جمال جديدة... وغالّا هي إحدى تلك الزهور. لقد أَصبَحَت بالغة الآن، وقد باعها سيّدها... وأنا اشتريتها... ها! ها! ها!»

 

«يا لكَ مِن شهوانيّ!»

 

«لو لم أكن أنا، فسيكون هناك شخص آخر... وإلّا... ما كان عليها أن تُولَد كأنثى...»

 

«إنَّما لو هو سَمِع ما تقول... آه! ها هو!»

 

«مَن؟»

 

«النّاصريّ الذي سَحَرَ أُناثنا. إنَّه خلفكَ...»

 

إنّيوس يستدير منتفضاً كما لو كانت هناك أفعى خلفه. إنَّه يَنظُر إلى يسوع، الذي كان يتقدَّم على مهل وسط الناس الذين يحتشدون حوله، أشخاص فقراء مِن العامّة، بالإضافة إلى البعض مِن عبيد الرومان. ويقول ساخراً: «هذا الـمُعدَم؟! ساحِر النساء. لنهرب بعيداً، قبل أن يُلقي بتعاويذه علينا نحن أيضاً!» ثُمَّ يتوجّه إلى عبيده المساكين، الذين كانوا متسمِّرين طوال الوقت مع أحمالهم، كما لو أنَّهم تماثيل غير جديرة بالرحمة، ويأمرهم قائلاً: «اذهبوا إلى المنزل بسرعة، أنتم هنا تضيّعون الوقت، وأولئك الذين يقومون بالتحضيرات هُم بانتظار التوابل والـمُعطِّرات. هيّا! بسرعة! وتذكّروا بأنَّكم سوف تُجلَدون إن لم يكن كلّ شي جاهزاً عند الغروب.» العبيد يمضون راكضين، والرومانيّ مع صديقيه يتبعونهم ببطء…

 

يسوع ما يزال يتقدَّم. إنّه حزين، لأنّه سَمِع نهاية حديث إنّيوس، وينظر بقامته الممشوقة بكلّ شفقة إلى العبيد الذين يركضون مُثقَلين بأحمالهم. إنَّه يتلفَّت، باحثاً عن وجوه المزيد مِن عبيد الرومان... يرى بعضهم، إنَّهم يرتعدون خوفاً مِن أن يَكتَشِف الوكلاء أمرهم، أو أن يُطردوا مِن قِبَل اليهود، فيختلطون بالمحتشدين حوله. إنّه يتوقف ويَسأَل: «أيوجد أحد بينكم مِن ذاك المنزل؟»

 

«لا يا سيّد. ولكنَّنا نعرفهم» يُجيب العبيد الحاضرون.

 

«متّى، أعطهم صَدَقَة وافرة، وهم سوف يقتسمونها مع رفاقهم، ليَعلَموا بأنَّ هناك مَن يحبّهم. وتذكّروا، وقولوا للآخرين بأنَّ الألم سوف ينتهي بحياة، إنّما فقط لأولئك الذين كانوا صالحين ونزيهين في عبوديّتهم. وبنهاية الألم سوف تنتهي أيضاً الفوارق بين الأغنياء والفقراء، بين الأحرار والعبيد، فعندئذ سوف يكون هناك إله عادل واحد للجميع، وسوف يكافئ الصالحين ويدين الأشرار، دون إعطاء أيّ اعتبار للغنى أو للعبوديّة، تذكَّروا ذلك على الدوام.»

 

«نعم يا سيّد. نحن، العبيد التابعين لمنزل كلاوديا وأفلاطونيا، نُعامَل الآن معاملة حسنة، مثل أولئك التابعين لكل مِن ليفيا وفاليريا، وكلّنا نبارككَ لأنَّكَ تفضَّلتَ بتحسين مصيرنا.» يقول عَبد عجوز بينما يُنصت إليه الجميع كما لو كان قائدهم.

 

«لِتُظهِروا لي عرفانكم بالجميل، كونوا صالحين على الدوام، وسوف تحظون بالإله الحقّ صديقاً أبدياً.»

 

يسوع يرفع يده كما كي يباركهم ويصرفهم، ثُمَّ يستند إلى عمود، ويبدأ الكلام وسط صمت الحشد المتهيّئ للإصغاء. العبيد لا ينصرفون، إنَّما يبقون لسماع الكلمات التي ستنطق بها الشّفاه الإلهيّة.

 

«أَنصِتوا:

 

كان لرجل أبناء كُثُر، وعندما بَلَغوا سنّ الرشد، أعطى كلّ واحد منهم قطعتي نقد ثمينتين جدّاً وقال لهم: "ما عدتُ أريد أن أعمل مِن أجلكم. فقد كبرتم بما فيه الكفاية كي تكسبوا معيشتكم بأنفسكم. لذلك سوف أعطي لكلّ واحد منكم ذات المقدار مِن المال، بحيث تستثمرونه وفقاً لما يحلو لكم، ولما يلائم مصالحكم. وأنا سوف أبقى هنا منتظراً، مستعدّاً كي أقدِّم المشورة لكم، وأيضاً كي أساعدكم، فيما إذا تسبَّب طارىء ما بخسارتكم كلّياً أو جزئيّاً للمال الذي سوف أعطيكم إيّاه. إنّما تذكّروا بأنّني سوف أكون صارماً تجاه أولئك الذين ينفقونه باستهتار، وسأكون صارماً أيضاً تجاه الـمُهمِلين الذين قد يبدّدونه، أو الذين لا يستثمرونه بسبب كسلهم أو تقاعسهم. لقد عَلَّمتُ كلّ واحد منكم التمييز بين الخير والشرّ. وبالتالي فلن يسعفكم القول بأنَّكم مضيتم لمواجهة الحياة دون معرفة ماهيّتها. كما أنّني كنتُ لكلّ واحد منكم مثالاً في الحكمة والعدالة الفاعلة والعيش بنزاهة. لذلك لا يمكنكم أن تقولوا بأنَّني كنتُ قد أفسدتُ نُفوسكم بمثالي السيّئ. لقد أدَّيتُ واجبي تجاهكم. والآن جاء دوركم لتأدية واجبكم. فأنتم لستم بأغبياء، ولا غير مهيَّئين، ولا جاهلين. فهيّا اذهبوا" ثُمَّ قام الأب بصرفهم، وبقي وحده، ينتظر، في منزله.

 

وانتشر أبناؤه عبر العالم. كلّهم كانوا يملكون ذات الأشياء: قطعتي نقد ثمينتين جدّاً يمكنهم فِعل ما يشاؤون بهما، وكنزاً أثمن مِن صحة، حيويّة، معرفة ومثال والدهم الحَسَن. وكان مِن المفترض أن يكون النجاح نصيب كلّ واحد منهم على حدّ سواء. إنَّما ما الذي حصل؟

 

بعض الأبناء استثمروا أموالهم بحكمة، وبفضل عملهم الصادق والدؤوب، وحياتهم البسيطة والنزيهة، القائمة على تعاليم والدهم، فسرعان ما كوَّنوا ثروات ضخمة نزيهة.

 

والبعض جَمَعوا ثروات نزيهة في البداية، لكنَّهم بدَّدوها بعد ذلك بسبب الكسل والإسراف.

 

وآخرين جَمَعوا الأموال بالرّبا والصفقات التجاريّة المشبوهة.

 

وبعضهم لم يفعلوا شيئاً بسبب تقاعسهم، كسلهم، تردّدهم، وصرفوا قطعتي النقد الثّمينتين اللتين كانتا بحوزتهم حتّى قبل أن يستثمروها.

 

بعد مضيّ الوقت، أَرسَلَ ربّ العائلة خُدّامه إلى كلّ الأمكنة التي يَعلَم بأنّ أبناءه قد يتواجدون فيها، وكان قد قال للخُدّام: "قولوا لأبنائي أن يجتمعوا في منزلي. أريدهم أن يقدِّموا لي تقريراً بما أنجزوه خلال هذه المدّة، لأنَّني أريد أن أتبيّن أوضاعهم بنفسي."

 

ومضى الخُدّام إلى تلك الأمكنة، والتقوا مع أبناء سيّدهم، وأوصلوا لهم الرسالة، وعاد كلّ واحد منهم برفقة الابن الذي التقاه.

 

واستقبلهم الأب باحتفال عظيم، كأب، إنّماً أيضاً كَدَيّان. وكان حاضراً كلّ الأقارب، المعارف، الخُدّام، سكّان القرية وسكّان القرى المجاورة. لقد كان اجتماعاً حافلاً. جلس الأب في مكانه على المقعد المخصّص لربّ العائلة، وجلس حوله كلٌّ مِن الأقارب والمعارف والخُدّام وسكّان القرية وسكّان القرى المجاورة بشكل نصف دائرة. وكان أولاده قد اصطفّوا بمواجهته. وبدون حتّى أن يُسألوا، كانت ملامحهم المتفاوتة تكشف عن حقيقتهم.

 

فأولئك الذين كانوا نشيطين، شرفاء، ذوي أخلاق حميدة وجمعوا ثروة نزيهة، بدت على وجوههم النّضارة، الاطمئنان واليُسر، حالهم حال أولئك الناس الأثرياء الذين يتمتّعون بالصحة الجيّدة وراحة الضمير. وكانوا ينظرون إلى والدهم بابتسامة ملؤها الطّيبة، الامتنان، التواضع، إنَّما الظّافرة في الوقت ذاته. كانوا يشعّون فرحاً بتشريفهم لوالدهم وعائلتهم، وأنَّهم كانوا أبناء مَرضيّين ومواطنين صالحين ومؤمنين مُخلِصين.

 

أمّا أولئك الذين بدَّدوا أموالهم بسبب كسلهم وإسرافهم، فقد كانوا أذلّاء، مُحبَطين، شاحبين وسيّئي المظهر، وكانت علامات الهزال والجوع بادية عليهم بشكل واضح.

 

فيما أولئك الذين جَمَعوا الأموال بوسائل مشبوهة، فقد بدت عليهم ملامح القسوة والعدوانيّة، مع نظرة مهتاجة ومتصلّبة، كتلك التي للحيوانات المفترسة الخائفة مِن الـمُروِّض، والمتأهِّبة للمواجهة…

 

وبدأ الأب باستجواب أولئك الأخيرين: "لقد كنتم تبدون في غاية الصّفاء عندما غادرتم، فما الذي جرى لكم حتّى أصبحتم تبدون الآن كالحيوانات المفترسة المستعدّة كي تمزِّق الناس إلى أشلاء؟ مِن أين اكتسبتم كلّ هذه الوحشيّة؟"

 

"الحياة، وقسوتكَ بإرسالنا بعيداً عن المنزل، هما ما جَعَلَنا هكذا، أنتَ مَن جعلَنا نحتكّ بالعالم."

 

"فإذن. ما الذي أنجزتموه في ذلك العالم؟"

 

"فعلنا ما باستطاعتنا لإطاعة أوامركَ بكسب معيشتنا بذاك الكمّ الضئيل مِن المال الذي أعطيتنا إيّاه."

 

"حسناً. قفوا في تلك الزاوية…

 

والآن حان دوركم أيّها الهزيلون والشاحبون كالمرضى. ما الذي فعلتموه حتّى وصلتم إلى هذه الحالة؟ لقد كنتم بصحّة ممتازة ومظهر متأنِّق عندما غادرتم."

 

"الملابس بَلِيَت في عشرة أعوام..." يعترض الكسالى.

 

"إنَّما ألم يعد هناك خيَّاطون في العالم كي يخيطوا ثياباً للبشر؟"

 

"صحيح... إنّما يلزم المال لشرائها..."

 

"لقد كان لديكم المال."

 

"خلال عشرة أعوام... لقد نفذ تماماً. فلكلّ شيء يبتدئ نهاية."

 

"هذا صحيح في حال كنتم تأخذون منه دون أن تعوّضوا ما أخذتموه. إنّما لماذا كنتم فقط تأخذون منه؟ فلو كنتم قد عملتم، لكنتم قد استطعتم أن تعوّضوا ما كنتم تأخذونه، ولتمكّنتم مِن أن تأخذوا منه، وما كان لينتهي، بل ولكنتم قد تمكّنتم مِن زيادته. هل يا ترى كان قد أصابكم المرض؟"

 

"لا يا أبتاه."

 

"إذن، ما الذي حصل؟"

 

"لقد شعرنا بالضّياع... لم نكن نعرف كيف نتصرّف، لم نعرف ما كان يجدر فِعله... لقد كنّا خائفين مِن أن نسيء التَّصرف. كنّا خائفين مِن أن نُخطئ. فلم نفعل أيّ شيء."

 

"أولم يكن لديكم أب تلتجئون إليه طلباً للنصيحة؟ هل حصل يوماً أن كنتُ أباً قاسياً ومستبدّاً؟"

 

"آه! لا! لكنّنا كنّا خَجِلين مِن أن نقول لكَ: 'لم تكن لدينا الكفاءة لأخذ زمام المبادرة'. فلطالما كنتَ أنتَ مفعماً بالحيوية... فاختبأنا خجلاً."

 

"حسناً. قفوا في منتصف الغرفة…

 

والآن حان دوركم! ما الذي سوف تقولونه لي؟ مِن مظهركم الخارجيّ تبدون بأنَّكم عانيتم، ليس فقط مِن الجوع، وإنَّما مِن المرض كذلك. هل يا ترى أنّكم أصبتم بالمرض بسبب إفراطكم في بذل الجهد؟ كونوا صريحين معي ولن أوبّخكم."

 

البعض مِن الأبناء الذين كانوا يُستَجوَبون ارتموا على ركبهم قارعين صدورهم، قائلين: "اغفر لنا يا أبتاه. لقد سبق أن عاقبنا الله ونحن استحققنا ذلك. أمّا أنتَ، فإنَّكَ والدنا، فاغفر لنا!... لقد كنّا قد بدأنا بداية حسنة، ولكنّنا لم نثابر. فبعد أن أصبحنا أغنياء بسهولة قلنا لأنفسنا: 'حسناً، لنمتّع أنفسنا قليلاً، كما يقترح علينا أصدقاؤنا، وبعد ذلك سوف نُعاود العمل لتعويض ما صرفناه.' وقد كنّا بالفعل عازمين على فِعل ذلك: أي أن نُعاوِد استثمار القطعتين النقديّتين، كي تُنتجا مجدَّداً، كما المقامرة. ونجحنا مرتين (يقول اثنان مِن الأبناء)، نجحنا ثلاث مرات (يقول ابن آخر). لكن الحظّ السعيد تخلّى عنا بعد ذلك... وأنفقنا كلّ أموالنا."

 

"إنَّما لماذا لم تعودوا إلى رشدكم بعد المرَّة الأولى؟"

 

"لأنَّ الخبز الـمُنكَّه بطعم الرذيلة يُفسِد المذاق، ولا يعود المرء قادراً على الاستغناء عنه..."

 

"كان لديكم أبوكم..."

 

"هذا صحيح. وكنا نتوق إليكَ بتأسُّف وحنين. فقد كنّا قد أسأنا إليكَ... وكنّا نناشد السماء أن تلهمكَ كي تُرسِل في طلبنا، علَّنا ننال نصحكَ ومغفرتكَ، هذا ما كنّا نريده، وهذا ما نأمل به الآن، أكثر مِن الثروات التي لم نعد نريدها بعد الآن، لأنَّها قادتنا إلى الضَّلال."

 

"حسناً. قفوا في منتصف الغرفة قرب أولئك الذين سُئِلوا قبلكم…

 

والآن أنتم أيّها المرضى والبائسين كما أولئك، إنَّما الذين تصمتون ولا تُظهِرون أيَّة علامة مِن علامات الألم، ما هو الذي تزمعون قوله؟"

 

"ما قاله الأوائل. أي أنَّنا كرهناكَ، لأنَّ طريقتكَ المتهوّرة في التصرف هي التي سبَّبت دمارنا. فأنتَ أدرى بحالنا، ولم يكن ينبغي لكَ أن تتركنا عرضة للتجارب. لقد كرهتَنا، ونحن بدرونا كرهناكَ. فأنتَ الذي نَصَبَ لنا ذلك الفخّ كي تتخلّص منّا. فلتكن ملعوناً."

 

"فإذن. ابقوا مع أولئك الأوائل في تلك الزاوية.

 

والآن جاء دوركم، يا أولادي النَّضِرين، المشرقين والأغنياء. قولوا لي. كيف تمكّنتم مِن فِعل ذلك؟"

 

"بتطبيق تعاليمكَ، باتّباع نموذجكَ، بتنفيذ أوامركَ والأخذ بنصائحكَ، بكلّ ذلك. لقد قاومنا التجارب متسلّحين بمحبّتنا تجاهكَ، أيّها الأب المبارك الذي وهبتنا الحياة والحكمة."

 

"عظيم جدّاً. تعالوا إلى هنا عن يميني.

 

والآن أنصتوا جميعكم إلى حكمي ودفاعي. لقد أعطيتُ كلّ واحد منكم ذات المقدار مِن المال، المثال الحَسَن والحكمة. وأنتم قد تفاعلتم بطرق مختلفة. فَمِن أب فاعل، نزيه وليّن، خَرَجَ أبناء بنماذج مختلفة: بعضهم كانوا يشبهونه، بعضهم كسالى، بعضهم سقطوا بسهولة في التجربة، والبعض كانوا قساة جدّاً بحيث كرهوا والدهم، ومارسوا الربا، وارتكبوا الجرائم بحقّ الإخوة والقريب، وأنا أعلم أنَّهم فعلوا ذلك حتّى لو لم يقولوه. ومِن بين الكسالى والضعفاء، هناك مَن هو نادم، وهناك مَن هو ليس كذلك. وهاكُم حُكمي. ها قد وضعتُ مُسبقاً الكامِلِين الذين حذوا حذوي عن يميني، مساوين لي في المجد. أمّا أولئك النادمون، فسوف يعودون تحت سلطتي مجدَّداً، مثل القاصِرين، لإعادة تأهيلهم، إلى أن يَصلوا إلى درجة مِن الكفاءة، يمكن معها القول أنَّهم عادوا راشدين مجدَّداً. أمّا غير النَّادمين والمذنبون، فسوف يُطرحون خارج أملاكي، مطارَدين بلعنة ذاك الذي لم يعد والدهم، لأنَّ الكراهية التي يحملونها تجاهي قد ألغت روابط الأبوّة والبنوّة. وأريد تذكيركم بأنَّ كلّ واحد منكم كان قد صنع قَدَرَه بنفسه، لأنَّني أعطيتُ الجميع الأشياء ذاتها، إنَّما على الرغم مِن ذلك، فقد أَحدَثَت أربع حالات مختلفة في أولئك الذين تلقّوها، وليس بالإمكان اتّهامي بأنَّني أنا مَن كان راغباً بالأذيّة.

 

الـمَثَل انتهى. والآن سوف أشرحه لكم يا مَن استمعتم إليه.

 

إنّ والد تلك الأسرة الكبيرة يرمز إلى الآب السماويّ. أمّا القطعتان النقديّتان اللتان أعطاهما الأب لكلّ واحد مِن أبنائه قبل أن يرسلهم إلى العالم، فترمزان إلى الوقت والإرادة الحرّة، اللذين يعطيهما الله لكلّ إنسان كي يستخدمهما كما يشاء، بعد أن يكون قد تَثقَّفَ وتَهذَّبَ بالشريعة، وبالمثال الحَسَن  للناس الأبرار.

 

إنَّ الجميع يُمنحون النِّعم ذاتها. إنَّما لكلّ إنسان الحريّة في كيفيّة استخدامها. البعض يُسخِّرون الوقت، القدرات، الثقافة، الثروة، وكلّ ما لديهم في سبيل الخير، فيَبقون معافين وقدّيسين، ويزدادون ثراءً فوق ثرائهم. والبعض يبدؤون بشكل جيّد، ثمّ يتعبون ويخسرون كلّ شيء. والبعض لا يفعلون شيئاً، منتظرين الآخرين كي يفعلوا بدلاً عنهم. البعض ينسبون إلى الأب المسؤوليّة عن أخطائهم. البعض يندمون ويبدون استعدادهم للتعويض. البعض لا يُظهِرون ندماً، بل يَتَّهِمون ويَلعَنون كما لو أنَّ الآخرين هُم مَن تَسبَّبَ بهلاكهم. والله يكافئ الأبرار على الفور، كما يمنح الرحمة لأولئك الذين يندمون، ويمنحهم كذلك الوقت للتَكفير، كي يتمكّنوا هم أيضاً مِن كسب المكافأة بتوبتهم وتكفيرهم، أمّا الذين يدوسون على الحبّ بتمرّدهم، فلهم اللعنات والعقاب، كجزاء لهم على آثامهم. فالله يمنح كلّ إنسان ما استحقّه.

 

لذلك، لا تبدِّدوا قطعتي النقد هاتين: الوقت والإرادة الحرّة، بل استخدموهما بالطريقة الأمثل، كي تكونوا عن يمين الآب، وفيما إذا فشلتم، فتوبوا وآمِنوا بالحبّ الرّحيم.

 

اذهبوا الآن. وليكن السلام معكم!»

 

يباركهم وينظر إليهم فيما هم يبتعدون تحت الشمس التي تغمر الساحة والشوارع. لكنّ العبيد لا يزالون هناك…

 

«أما تزالون هنا يا أصدقائي المساكين؟ ألن تُعاقَبوا؟»

 

«لا يا سيّد، لن نُعاقب إذا قلنا أنّنا كنّا نستمع إليكَ. فمعلّماتنا يجلّنّكَ. إلى أين أنتَ مزمع الذهاب الآن يا سيّد؟ فهنَّ يتُقن لرؤيتكَ منذ زمن طويل...»

 

«إنّني ذاهب لعند صانع الحِبال، قرب المرفأ. لكنّني سأرحل هذا المساء، ومعلّماتكم سوف يكنَّ وقتها في الحفلة...»

 

«سوف ننقل لهنّ كل ما قلتَه. فمنذ أشهر كنَّ قد طلبن منّا أن نُعلِمهنّ في كلّ مرّة تأتي فيها إلى هنا.»

 

«حسناً إذن. اذهبوا الآن. وأَحسِنوا استخدام وقتكم وفكركم، فالفكر هو حُرّ على الدوام، حتّى ولو كان الإنسان مقيّداً بالسلاسل.»

 

العبيد ينحنون حتّى يُلامسوا الأرض، ثُمَّ يمضون باتّجاه الأحياء الرومانيّة. ويتوجّه يسوع ورُسُله صوب المرفأ عبر شارع ضيّق.