ج5 - ف15

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

15- (التبشير في تخوم فينيقيا)

 

(بدون تاريخ)

 

الطريق المؤدّية مِن فينيقيا إلى بتولمايس [عَكّا]، جميلة، وهي تقطع السهل بين البحر والجبال بخطّ مستقيم تماماً. مُعتنى بها جيّداً، ومأهولة كثيراً. وغالباً ما تقطعها دروب فرعيّة أصغر تَصِل قُرى الداخل بالساحل. ففيها تقاطعات كثيرة يوجد بقربها عادة بيت، وبئر، ومحلّ بيطار بدائي مِن أجل ذوات الأربع التي قد تكون في حاجة إلى حديد.

 

يسوع، مع الستّة الباقين معه، يقطع حوالي الكيلومترين أو يزيد، والمشهد ما يزال ذاته. أخيراً يتوقّف قرب أحد تلك البيوت ذي البئر والبيطرة، عند مفترق طرق قريب مِن سَيل فوقه جسر متين، ولكنّه لا يَسمَح إلّا بمرور عربة واحدة عليه، مما يضطرّ الذاهب والراجع إلى التوقّف، ذلك أنّهما لا يستطيعان المرور معاً، ممّا يفسح المجال أمام المارّة مِن جنسيّات مختلفة، الفينيفيّين والإسرائيليّين بالتحديد، الذين يكرهون بعضهم بعضاً، لأن يتّفقوا على نقطة واحدة: أن يَلعَنوا روما، هذا ما توصَّلتُ إلى إدراكه... ومع ذلك، لولا روما لما حَصَلوا على هذا الجسر، ومع هذا السيل أثناء الفيضان، لستُ أدري كيف كانوا سيتوصّلون إلى العبور. إنّما الأمر هكذا! الباغي مَكروه دائماً حتّى ولو فَعَلَ ما هو مفيد ونافع!

 

يتوقّف يسوع قرب الجسر، في الركن المشمس، حيث البيت الذي فيه، مِن جهة السيل، البيطرة كريهة الرائحة، حيث يَجري تصنيع الحديد لأحد الجياد وحِمارين وقد فُقِدَت نعالهم الحديديّة. الجَواد مربوط إلى عربة رومانيّة عليها جنود يَتسلّون بالعبوس في وجه اليهود الذين يستنـزِلون عليهم اللّعنات. ويَرمون عجوزاً ذا أنف طويل، أكثر عِدائيّة مِن الآخرين، وفمه كفم أفعى حقيقيّ لا أظنّه يتوانى مِن لَدغ الرومان لتسميمهم، يَرمونه بقبضة مِن الروث... تصوّروا ما الذي يَحدُث! يفرّ العجوز اليهوديّ وهو يَصرُخ وكأنّ بَرَصاً أصابه، ويُشارِكه اليهود الآخرون في ما يُشبِه الكورس. أمّا الفينيقيّون فيصيحون ساخرين: «هل تُحِبّون الـمَنَّ الجديد؟ كُلوا، كُلوا، هذا يمنحكم نَفَساً لِتَصرخوا في وجه الذين هُم طيّبون جدّاً معكم، أيّها الأفاعي الـمُراؤون.» يَضحَك الجنود مستهزئين... أمّا يسوع فيصمت.

 

أخيراً تمضي العربة الرومانيّة مع تحيّة البيطار صانع الحديد بهتاف: «السلام يا تيتو، وإقامة طيّبة!» الرجل القويّ، المسنّ، ذو الرقبة التي تُشبه رقبة الثور، والوجه الحليق، والعينين السوداوين المحيطتين بأنف قويّ، تحت جبهة عريضة وبارزة، والأصلع إلى حدّ ما، والشعر، حيث يوجد شعر، قصير ومجعّد قليلاً، هذا الرجل يرفع مطرقته الثقيلة في حركة وداع، ثمّ ينحني مِن جديد على السندان الذي وَضَعَ عليه أحد عُمّاله حديداً قد احمرّ في النار، بينما صبيّ آخر يَحرق حافر حمار ليهيّئ مكان نَعل الحديد.

 

«كلّ البياطرة هنا تقريباً، على مدى الطُّرُقات، هُم رومانيّون. إنّهم جنود مكثوا هنا بعد انتهاء خدمتهم. ويَكسَبون جيّداً... لا شيء يمنعهم مِن الاعتناء بالحيوانات... وقد يَفقد حمار نعل الحديد حتّى قبيل غروب السبت، أو أثناء عيد الأنوار...» يقول متّى.

 

«الذي رَكَّبَ النعل الحديديّ لأنطوان كان متزوّجاً مِن يهوديّة» يقول يوحنّا.

 

«المجنونات أكثر مِن الحكيمات» يقول يعقوب بن زَبْدي بأسلوب الحِكَم.

 

«والأولاد لِمَن هم؟ لله أَم للوثنيّة؟» يَسأَل أندراوس.

 

«ينتمون عادة للشريك الأقوى» يُجيب متّى. «ويكفي ألّا تكون المرأة مُرتدَّة كي يكونوا يهوداً. ذلك أنّ الرجل، هؤلاء الرجال، يسمحون بذلك. فهم ليسوا شديدي التعصّب... حتّى لإلههم أولمب. أظنُّهم أَصبَحوا لا يؤمنون بغير المال. لديهم أولاد كثيرون.»

 

«مع ذلك، هي زيجات مُحتَقَرة. دون إيمان، دون وطن حقيقيّ... ممقوتة مِن جميع الناس...» يقول تدّاوس.

 

«لا. إنّكَ تُخطئ. روما لا تحتقرهم، بل على العكس، هي تستمرّ في إعانتهم. فهكذا هُم أنفَع لها مما لو كانوا يَحمِلون السلاح. يَندَسّون فيما بيننا بإفساد الدم أكثر منه بالعنف. والذين يُعانون، هُم غالباً الجيل الأوّل. ثمّ يتوزّعون... وينسى الناس...» يقول متّى الذي يبدو أنّه على إطّلاع.

 

«نعم. هُم الأطفال الذين يعانون. إنّما كذلك النساء اليهوديّات المتزوّجات في مثل تلك الظروف... مِن أجلهنّ بالذات ومِن أجل أولادهنّ. أُشفِق عليهنّ. لم يَعُد أحد يُحدّثهنّ عن الله. ولكن هذا لن يدوم في المستقبل. فحينذاك لن يكون هذا الفصل بين الناس والدُّوَل، ذلك أنّ النُّفوس سوف تتّحد في وطن واحد: وطني أنا.» يقول يسوع الذي ظلَّ حتّى ذاك الحين صامتاً.

 

«ولكنهنّ سوف يكنّ آنذاك في عداد الأموات!...» يهتف يوحنّا.

 

«لا. بل سوف يتجمّعن باسمي. فلا يعود رومانيّون ولا ليبيّون ولا يونانيّون ولا إيبيريّون ولا غوليّون، ولا مصريّون ولا عبرانيّون، بل إنّما نفوس المسيح. والويل لِمَن يبغون تفرقة النُّفوس، وكلّها لها عندي المحبّة ذاتها، ومِن أجلها كذلك تألّمتُ، بمختلف مواطنها الأرضيّة. ومَن يتصرّف على هذا الشكل يبرهن على أنّه لم يفهم المحبّة، المحبّة الشاملة.»

 

يتنبّه الرُّسُل إلى اللوم المغطّى، ويَخفضون الرأس بصمت…

 

يتوقّف صوت طَرق الحديد على السندان، وها هو الطَّرق على الحافر الأخير للحمار يتباطأ. يَغتَنِم يسوع الفرصة ويرفع صوته ليَسمَعه الجمع. يبدو وكأنّه يُكمِل حديثه لرُسُله. في الحقيقة، هو يتحدّث إلى المارّة، وقد يكون كذلك للذين في البيت، بالتأكيد هُنَّ مِن النساء، ذلك أنّ أصوات نداء أنثويّة تُسمَع عَبْر الهواء الدافئ.

 

«حتّى ولو بدا أنّ لا وجود له، فإنّ رابط قُربى بين الناس أجمع موجود على الدوام. رابط كون مَصدر تحدُّرهم مِن خالِق واحد. وكون أبناء الأب الواحد قد تفرّقوا، فهذا لا يُبدِّل رابط الأصل في شيء، كما لا يتغيّر دم وَلَد إذا تنكَّرَ للبيت الأبويّ. وفي أوردة قايين ظلَّ يسري دم آدم على الدوام، حتّى بعد جريمته التي جَعَلَته يَهيم في العالم الفسيح. وفي أوردة الأطفال المولودين إثر ألم حواء، الباكية فوق جثمان ابنها، كان الدم ذاته الذي كان يَغلي في أوردة قايين البعيد.

 

ويكون الأمر ذاته، مع مُبرّر أكثر طُهراً، ألا وهو المساواة بين أبناء الخالق. أتائهون هُم؟ نعم. منفيّون هُم؟ نعم. مُرتدّون هُم؟ نعم. مُذنبون هُم؟ نعم. يتحدّثون بلغات مختلفة ويدينون بأديان مختلفة نَمقُتُها؟ نعم. أُفسِدوا باقترانهم بوثنيّين؟ نعم. ولكنّ النَّفْس جاءتهم مِن واحد أحد، وهي ستبقى هكذا حتّى ولو كانت ممزّقة، تائهة، منفيّة وفاسدة... حتّى ولو أنّها مصدر ألم لله الآب، ولكنّها تبقى نَفْساً هو خَلَقَها.

 

على أبناء الأب الصالح الطيّبين أن تكون لديهم مشاعر حَسَنَة. حَسَنَة تجاه الأب، وحَسَنَة تجاه الإخوة، مهما كان وضعهم الآن، لأنّهم أبناء الأب ذاته. حَسَنَة تجاه الأب مع العمل على مواساته بجلب أبنائه المسبّبين الألم له، إمّا لأنّهم خطأة أو لأنّهم مُرتدّون أو لأنّهم وثنيّون. حَسَنَة تجاههم لأنّ لديهم نَفْساً آتية مِن الآب، يُغلِّفها جسد خاطئ، مُلطَّخة، بَلهَاء بسبب ديانة مغلوطة، ولكنّها تظلّ على الدوام نَفْساً مِن الربّ، وهي شبيهة بنَفْسنا.

 

تذكّروا، يا أبناء إسرائيل، أنّ ما مِن أحد، مهما يكن، إن يكن عابد أصنام الأكثر بُعداً عن الله بسبب ديانته الوثنيّة، وإن يكن الأكثر كُفراً بين الكافِرين، أو الأكثر إلحاداً بين الملحِدين، يكون خالياً تماماً مِن أيّ أثر لأصله. تذكّروا، أنتم يا مَن أخطأتم بابتعادكم عن الديانة الحقيقيّة، بتدنّيكم إلى الاختلاط بأجناس تُدينها ديانتنا، أنّه حتّى ولو بدا لكم أنّ كلّ ما يمتّ إلى إسرائيل بِصِلة قد مات فيكم، خُنِقَ بسبب حبّ رجل له إيمان وأصل مختَلِفَين، تذكّروا أنّه لم يمت كلّ شيء فيكم. ما زال فيكم ما هو حيّ، إنّه إسرائيل. ومِن واجبكم النفخ على هذه الجذوة التي تخبو، تغذية الشرارة التي إن دامت فبإرادة الله، لتجعلوها تنمو وتسمو فوق الحبّ الشهوانيّ. فهذا يتوقّف بالموت، ولكنّ نَفْسكم لا تنتهي بالموت. تذكّروا هذا. وأنتم، أيّاً كنتم، يا مَن تَرَون، وقد أخطأتم كثيراً، تذكّروا أنّكم مُجبَرون، وعليكم واجب مساعدة الأخت الضالّة في زواجات بنات إسرائيل الهجينة بِمَن له إيمان وأصل مختَلِفَين، لكي تعود إلى طرق الآب.

 

تِلكُم هي الشريعة الجديدة، المقدّسة والمقبولة لدى الربّ: على الذين يتبعون الفادي أن يَفتدوا مَن هو في حاجة إلى الافتداء حيثما وُجِدَ، كي يُسَرَّ الله بالنفوس العائدة إلى البيت الأبويّ، وكيلا تُصبح تضحية الفادي عقيمة وتافهة جدّاً.

 

مِن أجل أن تتخمّر كمّية كبيرة مِن الطحين، تأخذ ربّة المنـزل قطعة صغيرة مِن العجينة المجهّزة في الأسبوع الماضي. آه! كمّية ضئيلة مِن الكتلة الكبيرة! وتمزجها بكمّية مِن الطحين وتَعزل الكلّ عن الرياح الضارّة، في دفء البيت الملائم.

 

تصرّفوا هكذا أنتم، أيّها المؤيّدون الحقيقيّون للخير، وكذلك أنتم، أيّها الأبناء الذين ابتعدتم عن الآب وملكوته. أنتم، أيّها الأوّلون، أعطوا قليلاً مِن خميرتكم لِتُضاف إلى الآخرين وتُقوّيهم؛ فهي تُوحِّدهم بجزيء الاستقامة الكامنة فيهم. وهؤلاء مثل أولئك، اجعلوا الخميرة الجديدة في مَعزل عن قُوى الشرّ العدائيّة، في دفء المحبّة -حسبما تكونون: إمّا أسياد أنفسكم أو ليس فيكم سوى بقيّة مقاوِمَة حتّى وإن كانت واهية-. رُصّوا جدران البيت، الديانة المشتركة، حول ما يتخمّر في قلب أخ في الدين ضالّ، كي يَشعُر أنّه ما يزال محبّوباً مِن إسرائيل، كابن لصهيون وأخ لكم، كي تَجيش كلّ الإرادات الطيّبة، وكي يحلّ ملكوت السماوات في النُّفوس كلّها.»

 

«ولكن مَن يكون؟ ولكن مَن يكون؟» يتساءل الناس الذين لم يَعودوا يَشعُرون بالعَجَلة للعبور رغم كون الجسر قد أَصبَحَ خالياً مِن كلّ العوائق، أو إكمال المسير إذا كانوا قد اجتازوه.

 

«رابّي.»

 

«رابّي مِن إسرائيل.»

 

«هنا؟ في تخوم فينيقيا؟ هذه المرّة الأولى التي يَحدُث فيها أمر كهذا!»

 

«ومع ذلك، هو هكذا. لقد قال لي عازر عنه إنّه هو الذي يَدعونه القدّيس.»

 

«إذن فقد يُصبِح لاجئاً فيما بيننا لأنّهم يَضطَهِدونه هناك.»

 

«إنّهم مِن السَّفَلة!»

 

«حَسَن أن يأتي إلينا! سوف يَجتَرِح مُعجزات...»

 

في تلك الأثناء يبتعد يسوع سالكاً درباً في الحقول، ويَمضي...