ج6 - ف136
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الثاني
136- (يسوع يتحدّث إلى الرُّسُل عن المحبّة)
30 / 05 / 1946
«أين تركتَ القاربين عندما أتيتَ إلى الناصرة يا سمعان؟» يَسأَل يسوع فيما يسير باتّجاه الشمال الشرقي، تاركاً خلفه مرج ابن عامر، ومتقدّماً باتّجاه جبل طابور.
«لقد أعدتُهما، بحيث يذهبان للصيد يا معلّم. لكنّني طلبتُ أن يكونا في تراقية كلّ ثلاثة أيّام... فأنا لا أعلم كم مِن الوقت قد أبقى معكَ.»
«حسناً جدّاً. مَن منكم يريد الذهاب وإخبار أُمّي ومريم التي لحلفى بأن تنضمّا إلينا في طبريّا؟ إنّ منزل يوسف سيكون مكان اللقاء.»
«يا معلّم... نحن جميعاً نودُّ ذلك. إنّما الأفضل هو أن تقول أنتَ مَن يجب أن يذهب.»
«إذن، ليذهب متّى، فيلبّس، أندراوس ويعقوب بن زَبْدي. وليأتِ الآخرون معي إلى تراقية. سوف تشرحون للمرأتين سبب التأخير. وقولوا لهما أن تُقفِلا المنزل وتأتيا. سوف نبقى معاً طوال الشهر. هيّا، ها هو مفترق الطرق. وليكن السلام معكم.» يُعانِق الأربعة الذين يغادرون، ويتابع طريقه ثانيةً مع الآخرين.
لكنّه يتوقّف بعد بضع خطوات، ويحدّق بمارغزيام الذي يتأخّر قليلاً عن المجموعة ويسير مُطأطئ الرأس. وعندما يدركه الصبيّ، يُمرّر يسوع يده تحت ذقنه مُرغِماً إيّاه على رفع رأسه. إنّ الدموع تسيل على وجه الصبيّ المائل للسُّمرة.
«أتودُّ أنتَ أيضاً الذهاب إلى الناصرة؟»
«نعم يا معلّم... إنّما افعل ما تشاء.»
«أريدكَ أن تتعزّى يا بنيّ... اذهب... الحق بهم. سوف تواسيكَ أُمّي.» يُقبّل الصبيّ ويدعه يذهب، ومارغزيام يأخذ في الركض، وسرعان ما يلحق بالرُّسُل الأربعة.
«لا يزال صبيّاً...» يُلاحظ بطرس.
«وهو يتألّم كثيراً... مساء البارحة، وبعدما وجدتُه يبكي في إحدى زوايا المنزل، قال لي: "إنّ الأمر كما لو أنّ أبي وأُمّي قد ماتا البارحة... إنّ موت جدّي العجوز قد جدّد كلّ الأحزان في قلبي..."» يقول يوحنّا.
«الابن المسكين!... إنّما كان أمراً جيّداً أنّه كان حاضراً عند تلك الوفاة...» يقول الغيور.
«لقد كان شديد التعلّق بفكرة أنّه قد يكون قادراً على مساعدة العجوز!... بورفيرا أخبرتني بأنّه قد بَذَلَ كلّ أنواع التضحيات في سبيل أن يتمكّن مِن ادّخار المال. لقد عَمِل في الحقول، جَمَع الحطب للخبّازين، اصطاد الأسماك، امتنع تماماً عن أكل الجبن والعسل، كي ما يتمكّن مِن بيعها... لقد تشبَّثَت تلك الفكرة بعقله وأراد أن يحظى بالعجوز معه... مَن كان ليتوقّع!» يقول بطرس.
«إنّه جادّ الفكر وقويّ الإرادة. التضحية والعمل لا يُثقِلان عليه. إنّها خِصال حميدة» يقول برتلماوس.
«نعم، إنّه ابن صالح، وسوف يكون واحداً مِن أفضل التلاميذ. يمكنكم أن تروا كيف يَضبط نفسه بصرامة حتّى في الظروف الأكثر إيلاماً... إنّ قلبه المكلوم كان يتوق إلى مريم، لكنّه لم يطلب الذهاب. كان قد أدرَكَ جيّداً أيّة قوّة للصلاة، بحيث أنّه تفوّق على الكثير مِن الراشدين» يقول يسوع.
«أتعتقد بأنّه يبذل التضحيات لهدف محدّد مسبقاً؟» يَسأَل توما.
«إنّني متأكّد مِن أنّه يفعل ذلك.»
«هذا صحيح. فالبارحة أعطى بعض الفاكهة لرجل عجوز قائلاً: "صَلِّ مِن أجل والد والدي، الذي مات حديثاً." وأنا ذَكَّرتُه: "إنّه في سلام يا مارغزيام. ألا تؤمن بأنّ مغفرة يسوع فاعلة؟" وقد أجابني: "أؤمن بأنّها فاعلة. إنّما وفيما أمنح التقدمات، فإنّني أُفكّر بتلك النُّفوس التي لا يصلّي لأجلها أحد، وأقول: إن لم يعد جدّي بحاجة لذلك، فلتكن تلك التقدمات كفّارة لأولئك الذين نسيهم الجميع." لقد ثَقَّفَني» يقول يعقوب بن حلفى.
«نعم» يقول بطرس. «لقد جاءني البارحة، وطوَّقَ عنقي بذراعيه، لأنّه، وفي النهاية، ما يزال صبيّاً، وقال لي: "الآن أنتَ حقّاً أبي... وأنا أُعيد لكَ ما سَمَحَ لي كرمكَ بأنّ أدّخره. إنّ جدّي العجوز ما عاد بحاجة لهذا المال... وأنتَ وبورفيرا تفعلان الكثير مِن أجلي..." وأنا، وقد واجهتُ صعوبة في حبس دموعي، أجبتُه: "لا يا بنيّ. سوف نتصدّق بذاك المال لعجائز فقراء أو لأيتام، والله سوف يستخدم صدقتكَ ليزيد مِن سلام جدّكَ العجوز." ومارغزيام قَبَّلني قبلتين قوّيتين لدرجة... حسناً... لدرجة أنّني لم أستطع حبس دموعي. وكم هو ممتنّ لكَ يا برتلماوس، لسداد النفقات. لقد قال لي: "بقدر ما أنا شديد الامتنان للتكريم الذي مُنِحَ لجدّي العجوز، فسوف أقول لبرتلماوس أن يبقيني كخادم له."»
«آه! الابن المسكين! لن أفعلها ولا حتّى لساعة واحدة! إنّه يَخدم الربّ ويثقّفنا كلّنا. لقد كَرَّمتُ بارّاً. لقد كنتُ قادراً على فِعل ذلك لأن اسمي معروف جيّداً، وكان مِن السهل عليَّ أن أجد أُناساً مستعدّين لإقراضي بعض المال. وعندما سأكون في بيت صيدا فسوف أعمل على سداد القرض البسيط، فالحقيقة هي أنّه قرض ضئيل...»
«نعم. كنقود كان قليلاً، لأنّ جماعة يزرعيل كانوا كرماء. لكنّ محبّتكَ لتلميذ زميل ليست بالشيء القليل. لأنّ لكلّ فِعل محبّة قيمة عظيمة.» يقول يسوع ويتابع: «ما تزالون تتثقّفون في محبّة القريب هذه، التي هي الشِّقّ الثاني مِن الوصية الأساس لشريعة الله، والتي قد أُهمِلت بشدّة في إسرائيل. فالأحكام الكثيرة، والتفاصيل التي أعقبت شريعة سيناء، القويمة والكاملة في بساطتها، قد شَوَّهَت الشِّقّ الأول مِن الوصية الأساسية، مُحوّلة إيّاه إلى كَومة مِن الطقوس الخارجيّة، والتي تفتقر إلى ما يعطيها القوّة، القيمة، المصداقية: أي أنّها تفتقر في مظاهر العبادة الخارجية إلى الاتّساق النّشط للجوهر، مع التطبيق العملي والتغلّب على التجارب.
ما قيمة التبجّح بالعبادة في عينيّ الله، فيما إذا كان القلب في صميمه لا يحبّ الله، عندما لا يتلاشى في حبّ مُجِلٍّ لله، عندما لا يُسبّح القلب ولا يَحمَد الله بمحبّة صنائعه. وقبل كلّ شيء بمحبّته للإنسان، الذي هو تحفة الخَلق الأرضيّ؟
هل أدركتم كيف ارتُكِبَ الخطأ في إسرائيل؟ لقد حدث أوّلاً بسبب أنّهم جَعَلوا مِن الوصية الواحدة وصيّتين، ومِن ثمّ، ومع انطفاء الأرواح، فقد فصلوا الثانية عن الأولى تماماً، كما لو أنّها كانت غصناً بلا فائدة. إنّها لم تكن غصناً بلا فائدة، ولم يكن هناك أصلاً غُصنان. لقد كانت جذع واحد فقط، جذع كان قد ازدان مِن أساس قاعدته بفضائل كِلا المحبّتين. انظروا إلى شجرة التين الضخمة تلك التي قد نمت هناك، على تلك الرابية. لقد نمت عفوياً، وتقريباً بدءاً مِن جذورها، أي، حالما انبثقت مِن الأرض، فقد انقسمت إلى غصنين، المتّحدين لدرجة أن لحائيهما قد اتّحدا معاً. لكنّ كلّ غصن قد أَنبَتَ أوراقه الخاصّة على الجوانب، بطريقة شديدة الغرابة، بحيث أنّ القرية الصغيرة الواقعة على الرابية قد سُمّيت بعد ذلك بـ: "بيت شجرة التين التوأم". الآن، إذا كان يتوجّب علينا الفصل بين الجذعين، اللّذين هما في الحقيقة جذع واحد، فينبغي علينا استخدام الفأس أو المنشار. إنّما ما الذي علينا أنّ نفعله؟ فقد نتسبّب بموت الشجرة، أو، وفيما إذا كنّا ماهرين جدّاً بمسك الفأس أو المنشار بحيث لا نؤذي سوى واحداً مِن الجذعين، فإنّ أحدهما سوف ينجو، فيما سوف يموت الآخر لا محالة، والذي نجا، وعلى الرغم مِن أنّه سيظلّ حيّاً، فسوف يعيش هزيلاً، وسوف يذبل على الأرجح، مِن دون أن يعطي ثماراً، أو يعطي القليل جدّاً.
الأمر ذاته حصل في إسرائيل. أرادوا أن يقسموا، أن يفصلوا الجزأين، اللّذين كانا متّحدين لدرجة كما لو أنّهما كانا واحداً فقط. أرادوا العبث بما كان كاملاً، لأنّ كلّ عمل، كلّ فِكرة وصنيع لله هو كامل. وتبعاً لذلك، وإذا كان الله هو الذي أوصى البشر مِن على جبل سيناء أن يحبّوا الله القدّوس ومعه القريب بوصية واحدة فقط، فَمِن الواضح أنّهما ليستا وصيّتين يمكن تطبيق كلّ واحدة منهما بشكل مستقلّ عن الأخرى، وإنّما هما وصيّة واحدة فقط.
وحيث أنّني لن أكتفي مطلقاً مِن تدريبكم على إتقان العمل بهذه الفضيلة السامية. الأعظم مِن كلّ الفضائل، تلك التي ترتقي مع الروح إلى السماء، إذ إنّها الوحيدة التي تبقى في السماء، وإنّني أؤكّد عليها، فهي نَفْس كلّ حياة الروح، الذي يموت إذا ما فَقَدَ المحبّة، لأنّه يفقد الله.
أَنصِتوا إليَّ. افترِضوا أن يأتي ويقرع باب بيتكم يوماً ما زوجان ثريّان طالبين استضافتهما لمدى الحياة. فهل يمكنكم القول: "نقبل بالزوج، ولكنّنا لا نريد الزوجة" دون أن تسمعوا الزوج يجيبكم: "هذا غير ممكن، لأنّني لا أستطيع الانفصال عن لحم لحمي. إذا كنتم لا تريدون قبولها، فأنا لا أستطيع البقاء عندكم، وسوف أرحل مع كلّ كنوزي التي كنتُ سأشارككم إيّاها."؟
الله متّحد بالمحبّة. والمحبّة هي حقّاً روح روحه، وعلى نحو أكثر حميميّة، وهو اتّحاد حقيقي أكثر مِن الذي لزوجين يتحابّان بقوّة. الله ذاته هو المحبّة. والمحبّة ما هي إلّا السمة الأكثر وضوحاً وجلاءً لله. ومِن بين كلّ سماته التي تجعلها أكثر في النور، فهي السمة السياديّة والسمة الأساس، لأنّ جميع سمات الله الأخرى تتولّد مِن المحبّة. فما هي القُدرة، سوى المحبّة الفاعلة؟ ما هي الحكمة، سوى المحبّة التي تُعلّم؟ ما هي الرحمة، سوى المحبّة التي تغفر؟ ما هو العدل، سوى المحبّة التي تحكم؟ وبإمكاني أن أتابع على هذا النحو فيما يتعلق بجميع سمات الله التي لا تُعدّ ولا تُحصى. الآن، وبعد ما قد قلتُهُ، هل تعتقدون بأنّ مَن لا ينعم بالمحبّة ينعم بالله؟ لا، إنّه لا ينعم به. هل تتخيّلون بأنّ يُستَقبَل فقط الله، إنّما ليس المحبّة؟ هناك محبّة واحدة فقط، وهي تحتضن الخالق والمخلوقات، ولا يمكن أن نمتلك فقط نصف واحد منها: أي محبّة الخالق، دون أن نمتلك النصف الآخر: أي محبّة القريب. إنّ الله يَسكن في مخلوقاته. إنّه يسكنهم بعلامته التي لا تمحى، بحقوقه كأب، كعريس ومَلِك. النَّفْس هي عرشه، الجسد هو هيكله. إذاً فَمَن لا يحبّ أخاه، يحتقره ويزدريه، فهو يُحزِن ويقلّل مِن شأن ربّ بيت أخيه، الـمَلِك، الأب، عروس أخيه. ومن الطبيعي أنّ يَعتَبِر هذا الكائن العظيم -الذي هو كلّ شيء، والحاضر في أخٍ، في كلّ الإخوة- الإساءة الموجّهة إلى الكائن الأصغر، الجزء المخلوق مِن الكلّ، أي إلى شخص واحد، كما لو كانت موجّهة إليه. لهذا السبب عَلَّمتُكم الأعمال الجسديّة والروحيّة للرحمة، لهذا السبب علّمتكم بألّا تُشَهّروا بإخوتكم، لهذا السبب علّمتكم ألّا تدينوا، ألّا تحتقروا أو تصدّوا إخوتكم، سواء أكانوا صالحين أم لم يكونوا كذلك، مؤمنين أم وثنيّين، أصدقاء أم أعداء، أغنياء أم فقراء.
عندما يحصل حَبَل على فراش زوجيّ، فإنّه يحصل عبر الآليّة ذاتها، سواء حصل على فراش ذهبيّ أو على قشّ في حظيرة. والجنين الذي يتشكّل في أحشاءٍ مَلَكيّة لا يختلف عن ذاك الذي يتشكّل في أحشاءِ مُتسوّلة. إنّ الحَبَل، وتَكَوُّن كائن جديد، هو ذاته في كلّ بقعة مِن بقاع الأرض، بغضّ النّظر عن دين الأبوين. كلّ المخلوقات وُلِدت كما وُلِدَ قايين وهابيل مِن أحشاء حوّاء.
وبالتوازي مع الحَبَل، مع تَكوُّن الأطفال وولادتهم بفعل أب وأُمّ على الأرض. يكون هناك مُقابِل مساوٍ له في السماء: خَلْق نَفْس كي تُبثّ في الجنين، كي تكون نَفْس إنسان لا حيوان، وكي ترافقه مِن لحظة خلقه وحتّى الموت. وتبقى في انتظار القيامة الكونيّة، حيث تتّحد بالجسد القائم وتشاركه الثواب أو العقاب. الثواب أو العقاب وفقاً للأعمال التي عَمِلَها في الحياة الأرضيّة. بالفعل لا تظنّوا أنّه يمكن للمحبّة أن تكون ظالمة، وبأنّ الكثير مِن البشر، وفقط لأنّهم لا ينتمون إلى إسرائيل أو المسيح، فيما يمارسون الفضيلة في الدين الذي يتبعونه وهم مقتنعون بأنّه الدين الصحيح، بأنّهم سوف يظلّون للأبد بلا مكافأة. بعد نهاية العالم ما مِن فضيلة ستُمارس سوى المحبّة، أي، الاتّحاد بخالق كلّ المخلوقات التي عاشت باستقامة. لن يكون هناك سموات متعدّدة: واحدة لإسرائيل، واحدة للمسيحيّين، واحدة لأفراد الكنيسة الجامعة، واحدة للوثنيين، واحدة للملحدين. لن تكون سماوات عديدة، بل سماء واحدة فقط. وكذلك ستكون هناك مكافأة واحدة فقط: الله، الخالق الذي سوف يتّحد مع مخلوقاته التي عاشت باستقامة، والتي، وبسبب جمال تلك النُّفوس والأجساد القدّيسة، سوف يكون مزهوّاً ببهجة كونه أباً وإلهاً. سوف يكون هناك ربّ واحد فقط. لا ربّ لإسرائيل، وواحد لأفراد الكنيسة الجامعة، وواحد لكلّ مِن الديانات الأخرى.
سوف أكشف لكم الآن عن حقيقة كبرى. تذكّروها. انقلوها لخلفائكم. لا تنتظروا دوماً الروح القدس كي ينير الحقائق، بعد أعوام أو قرون مِن الظلام. أَنصِتوا. قد تقولون: "فإذن، أيّة عدالة ستكون في الانتماء إلى الدين المقدّس، فيما إذا كنّا سنُعامَل عند نهاية العالم تماماً كالوثنيين؟" وأنا أُجيبكم: ذات العدالة التي ستكون -وهي عدالة حقّة- لأجل أولئك، والذين على الرغم مِن أنهم ينتمون إلى الدين المقدّس، فهم لن يكونوا مغبوطين، لأنّهم لم يعيشوا حياة قداسة. إنّ وثنيّاً فاضلاً، وفقط لأنّه عاش فضيلة كان قد اختارها طواعية، مقتنعاً بأن دينه كان صحيحاً، سوف يحظى بالسماء في النهاية. متى؟ في نهاية العالم، عندما لن يبقى مِن مساكن الأموات الأربعة سوى إثنين فقط: أيّ، الفردوس والجحيم. لأنّ العدالة، في ذاك الوقت، لن يمكنها سوى الحفاظ ومنح المملكتين الأبديّتين حسب الاستحقاق لأولئك الذين، ومِن شجرة الاختيار الحرّ، قد اختاروا الثمار الجيّدة أو لأولئك الذين أرادوا الثمار الفاسدة. إنّما يا له مِن انتظار طويل قبل أن يحصل الوثنيّ الفاضل على تلك المكافأة!... ألا تظنّون ذلك؟ وذاك الانتظار، وخصوصاً مِن اللحظة التي يتمّ فيها الفداء مع كلّ آثاره الإعجازية، وإتمام نشر البشرى الحسنة في العالم أجمع، سوف يكون تطهيراً للنُّفوس التي عاشت باستقامة في الأديان الأخرى، والتي لم تقدر على دخول الإيمان الحقّ، بعدما أَصبَحَت على دراية بوجوده وقد وُجِد الدليل على صحّته. إنّ اليمبس سوف يكون مسكنهم لقرون وقرون، حتّى نهاية العالم. أمّا المؤمنين بالله الحقّ، الذين لم يكونوا أبطالاً في القداسة، فسوف يكون مطهرهم طويلاً، والذي قد يدوم أيضاً حتّى نهاية العالم بالنسبة للبعض منهم. إنّما بعد التكفير والانتظار، فإنّ الصالحين، بصرف النَّظر عن تبعيتهم، سوف يجلسون جميعهم عن يمين الله، أمّا الأشرار، أيّاً تكن تبعيتهم، فسيكونون عن يسار الله، ومِن ثمّ في الجحيم الرهيبة، فيما يَدخُل الـمُخلِّص مع النُّفوس الصالحة إلى المملكة الأزلية.»
«يا ربّ، إغفر لي إن لم أفهم. ما تقوله صعب جدّاً... على الأقلّ بالنسبة لي... إنّكَ دائماً تقول بأنّكَ المخلّص وبأنّكَ ستفتدي أولئك الذين يؤمنون بكَ. إنّما أولئك الذين لا يؤمنون بكَ، إمّا لأنّهم لا يعرفونكَ، حيث أنّهم قد عاشوا قبلكَ، وإمّا بسبب -كون العالم كبير جدّاً- أنّهم لم يسمعوا عنكَ، فكيف سيخلصون؟» يَسأَل برتلماوس.
«لقد قلتُ لكم: بفعل عيشهم باستقامة، بفعل أعمالهم الصالحة، ومِن خلال إيمانهم الذي هُم على ثقة بأنّه الإيمان الصحيح.»
«لكنّهم لم يلتجئوا للمخلّص...»
«لكنّ المخلّص سوف يتألّم أيضاً مِن أجلهم. ألا تتصوّر يا برتلماوس، كم ستكون قيّمة هي استحقاقاتي كإنسان-إله؟»
«يا ربّي، سوف تكون دوماً أدنى مِن استحقاقات الله، ومن تلك التي لديكَ على الدوام.»
«جوابكَ صحيح وغير صحيح. إنّ إستحقاقات الله لا متناهية، هذا ما تقوله. إنّ كلّ شيئ هو لا متناه في الله. إنّما ليس لله إستحقاقات، بمعنى أنّه ليس محلّ استحقاق. لله سمات، فضائل خاصّة به. إنّه هو الذي هو: الكامل، الأزلي، القادر. إنّ الإستحقاق يتطلّب عملاً، بجهد، يفوق طبيعتنا. ففعل الأكل مثلاً ليس استحقاقاً، أمّا الأكل بتقشّف فيمكن أن يصبح استحقاقاً، إذا ما بذلنا تضحية حقيقية، مِن أجل إعطاء الفقراء ما نوّفره. ليس استحقاقاً أن نبقى صامتين. لكنّه يصبح استحقاقاً أن نبقى صامتين بدلاً مِن الردّ على إهانة. وهلمّ جرّاً.
الآن، أنتَ تَعلَم بأنّ الله ليس بحاجة إلى بذل الجهد، لأنّه كامل، أزليّ. لكنّ الإنسان-الإله يمكنه بذل الجهد بأن يتّضع بطبيعته الإلهية الأزلية حتّى الحدود البشرية، بأن يَغلب الطبيعة البشرية غير الغائبة ولا الـمَجازية فيه، بل الحقيقية، فيه، بكلّ حواسها ومشاعرها، بقابليّتها للتألّم والموت، بإرادتها الحرّة.
لا أحد يحبّ الموت، خصوصاً إذا كان مؤلماً، سابقاً لأوانه وغير مستحقّ. لا أحد يحبّه. ومع ذلك، فكلّ إنسان يجب أن يموت. فإذن يجب على الإنسان أن ينظر إلى الموت بذات الهدوء الذي يرى به نهاية كلّ كائن حيّ. فإذن، إنّني أُرغِم إنسانيّتي كي تحبّ الموت. وليس ذلك فقط. فأنا قد اخترتُ الحياة كي أتمكّن مِن الموت. مِن أجل البشرية. وبالتالي، بصفتي كإنسان-إله، فأنا أكسب هذه الاستحقاقات التي لن يكون بمقدوري اكتسابها فيما لو بقيتُ الله. ومن خلال تلك الاستحقاقات، التي هي أزلية، بفعل طريقة اكتسابي لها، أي بسبب الطبيعة الإلهية التي اتّحدت بالطبيعة البشرية، وبسبب فضيلتَيّ المحبّة والطاعة، اللتين وضعتُ نفسي بشكل يمكّنني مِن أن أستحقّهما، وبسبب الثبات، العدل، الزّهد، الحكمة، بسبب كلّ الفضائل التي زرعتُها في قلبي كي يكون مقبولاً لدى الله، أبي. فسوف أمتلك قدرات لا متناهية، ليس فقط كإله، إنّما أيضاً كإنسان، كإنسان يضحّي بنفسه مِن أجل الجميع، أي، الذي يبلغ الحدود القصوى للمحبّة. إنّها التضحية التي تمنح الإستحقاق. وكلّما كانت التضحية أكبر، كان الاستحقاق أعظم. إستحقاق كامل لتضحية كاملة. استحقاق تامّ لتضحية تامّة. والتي ستُستَخدَم وفقاً للمشيئة المقدّسة للضحيّة، التي يقول لها الآب: "ليكن كما تشائين!"، لأنّ الضحية قد أحّبت الله والقريب بلا حدود. وأقول لكم. يمكن لأفقر إنسان أن يصير الأغنى ويفيد عدد لا يحصى مِن الإخوة. إذا أَحسَنَ المحبّة حتى حدود التضحية. وأقول لكم: وحتّى إن لم يكن لديكم كِسرة خبز، كأس ماء، مِزقة ثوب، فإنّكم دوماً تستطيعون تقديم المساعدة. كيف؟ بالصلاة والتألّم لأجل إخوتكم. مساعدة مَن؟ الجميع. بأيّة طريقة؟ بآلاف الطرق المقدّسة، لأنّكم إذا استطعتم أن تحبّوا، فسيكون بمقدوركم أنّ تتصرّفوا، تُعلّموا، تَغفروا، أن تحكموا كما الله، وأن تُخلِّصوا، كما يُخلّص الإنسان الإله.»
«أيا ربّ، هَبنا تلك المحبّة!»
«الله يهبكم إيّاها، لأنّه يهب نفسه لكم. إنّما عليكم تقبّلها وممارستها على نحو أكثر فأكثر كمالاً. ما مِن حَدَث يجب أن يكون بالنسبة إليكم منفصلاً عن المحبّة. سواء بالنسبة للأحداث المادية أم الروحية. يجب فِعل كلّ شيئ بمحبّة ولأجل المحبّة. قَدِّسوا أعمالكم، أيامكم، أضيفوا الملح لصلواتكم، والنور لأفعالكم. فالنور والنكهة والتقديس هي محبّة. فَمِن دونها الطقوس بلا قيمة، الصلوات عقيمة، التقدمات شكلية. الحقّ أقول لكم بأنّ الابتسامة التي يُحيّيكم بها فقير تحيّة أخويّة، هي ذات قيمة أعظم مِن كيس نقود يلقيه أحدهم عند أقدامكم فقط كي يلفت الانتباه. والمحبّة، والله سوف يكونان دوماً معكم.»
«علّمنا كيف نحبّ هكذا يا ربّ.»
«منذ عامين وأنا أُعلّمكم. إفعلوا ما ترونني أفعله، وسوف تكونون في المحبّة، والمحبّة سوف تكون فيكم، وعليكم سوف يكون الختم، التكريس (الميرون)، الإكليل، والتي ستجعلكم بحقّ معروفين كرُسُل الله-المحبّة. لنوقّف الآن في هذا المكان الظليل. العشب كثيف وطويل، والأشجار تُخفِّف الحرّ. سوف نُتابع في المساء...»