ج2 - ف65
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
65- (يسوع في بيت عمّه حلفى، وثمّ في بيته)
07 / 02 / 1945
يسوع مع أتباعه وسط روابي الجليل الجميلة. ما تزال الشمس عالية في الأفق رغم حلول الغَسَق. ولتحاشيها يسير العابِرون تحت الأشجار التي هي غالباً أشجار زيتون.
«بعد هذه الطريق الصاعدة توجد الناصرة.» يقول يسوع. «أقول لكم، الآن، إنّنا لدى وصولنا سنفترق. يوضاس ويعقوب يمضيان فوراً إلى أبيهما كما يهوى قلباهما. بطرس ويوحنّا يوزّعان الصَّدَقَة على الفقراء الذين، بكلّ تأكيد، ينتظرون عند النبع. أمّا أنا والآخرون فنذهب إلى البيت لتناول الطعام، وبعدئذ نفكّر بالاستراحة.»
«نحن سنمضي إلى حلفى الطيّب. لقد وعدناه بذلك في المرّة السابقة، إنّما في هذه الآونة فسأذهب وحدي لأُلقي عليه التحيّة. إنّني أتنازل عن سريري لمتّى الذي لم يتعوّد بعد على قسوة الحياة.» يقول فليبّس.
«لا، ليس أنتَ وقد تقدَّمَ بكَ العُمر. لن أسمح بذلك. لقد كان لديّ سرير مريح حتّى الآن. إنّما أيّ نوم جهنّمي كنتُ أنامه! صدّقني. أمّا الآن فإنّ السلام الذي يتملّكني يجعلني أُحِسُّ وكأنّني أنام على ريش نَعَام، حتّى ولو تمدّدتُ على الحصى. آه! إنّه الضمير، هو الذي يمنحكَ، قبل كلّ شيء، نوماً هانئاً ومريحاً!» يُجيب متّى.
إنّها منافسة، بل مباراة في المحبّة تتأجّج بين التلاميذ توما وفليبّس وبرتلماوس ومتّى الذين، إذا كنتُ أفهمهُم جيّداً، هم أولئك الذين كانوا في المرّة السابقة في بيت حلفى الطيِّب هذا (وهو بالتأكيد ليس أبا يعقوب، إذ أنَّ يعقوب يتحدّث مع أندراوس ويقول له: "هناك مكان لكَ مثل المرّة السابقة، حتّى ولو كان الأب أكثر مَرَضاً.") ولكنّ توما هو الذي ينتَصِر: «أنا الأكثر شباباً بين الجميع. فأنا مَن سيتخلّى عن السرير. دعني أفعل يا متّى، وسوف تتعوّد بالتدريج. هل تظنّ ذلك يكلّفني؟ لا، فأنا مثل عاشِق يحلم… أنا سوف أكون على القاسي، إنّما قريباً جدّاً مِن حُبّي…" توما في حوالي الثامنة والثلاثين، بابتسامته الـمَرِحة، يستسلم متّى.
هي ذي طلائع منازل الناصرة على بُعد أمتار قليلة.
«يسوع... نحن ذاهبان.» يقول يوضاس.
«هيّا، هيّا.»
ويَمضي الأَخَوان بخطى سريعة تكاد تكون جَرياً.
«إيه! الأب هو الأب.» يُتمتِم بطرس. «حتّى لو فَرَضَ القطيعة، إنّه دائماً الدم، وهو يشدّكَ أكثر مِن حَبل. ثمّ إنّهما يعجبانني، ابنا عمكَ، إنّهما طيّبان جدّاً.»
«إنّهما طيبان جدّاً، نعم. إنّهما متواضعان لدرجة تكفي ليَنسيا معها مِن أيّ أصل هما. يَظُنّان نفسيهما دائماً على خطأ، لأنّ روحاهما يَرَيان الخير عند الجميع أكثر مما يَرَيانه عندهما. سيسافران كثيراً...»
يَصِلون إلى الناصرة. تَرَى نساء يسوع ويحيّينه، وكذلك رجال وأطفال. إنّما هنا لا تهاليل لمَسيّا كما في الأماكن الأخرى: هنا أصدقاء يُحيّون صديقاً عاد، بمشاعر أكثر أو أقلّ صدقاً. وأُلاحظ أيضاً فُضولاً تَهكّمياً، لدى الكثيرين، ما أن يَروا المجموعة غير المتجانسة التي تُرافِق يسوع. بالتأكيد هذا ليس بلاطاً للمقامات الـمَلَكيّة، ولا موكب كَهَنَة فخم. إنّهم يتصبّبون عَرَقاً، ويكسوهم الغبار، ولباسهم بسيط ما عدا يهوذا الاسخريوطيّ ومتّى وسمعان وبرثلماوس -أَذكُرهم بالترتيب حسب تسلسل درجة الأناقة- فهُم بالأحرى يبدون كمجموعة مِن أُناس على طريق سَفَر، التقوا في سوق وليس خلف أحد الملوك. فهذا الـمَلِك ليس لديه سوى نفوذ قامته ومَظهره.
يَسيرون بضعة أمتار، يبتعد بعدها بطرس ويوحنّا يميناً، بينما يتقدّم يسوع مع الآخرين حتّى يبلغوا ساحة تعجّ بالأطفال الذين يصرخون حول فسقيّة مليئة بالماء، تَغرُف منها أُمّهاتهم.
أحد الرجال يُشاهِد يسوع، ويقوم بإشارة تَعَجُّب فَرِح. يَهرَع إليه ويحيّيه: «عَوداً حميداً! لم أكن أتوقّع عودتكَ سريعاً! هاك: قَبِّل وليدي الأخير. إنّه يوسف الصغير. لقد وُلِدَ أثناء غيابكَ.» ويقدِّم له رضيعاً بين يديه.
«هل أسميتَه يوسف؟»
«نعم، فإنّني لا أنساه، لقد كان قريبي مِن بعيد، ولكنّه كان أكثر مِن أهل. لقد كان صديقاً لي عظيماً. ولقد أَسمَيتُ أبنائي بأسماء مَن كانوا الأعزّ على قلبي: حنّة، صديقتي منذ الطفولة، ويواكيم، ثمّ مريم... آه! عندما وُلِدَت، أيّ عيد كان! أذكر أنّهم جعلوني أُقَبِّلها، وقالوا لي: "أترى قوس قزح هذا؟ إنّه الجسر الذي سَلَكَته لتنـزل مِن السماء. لقد كان درباً ملائكيّاً". وقد كانت تبدو بحقّ ملاكاً صغيراً، على قَدر ما كانت جميلة... والآن ها هو ذا يوسف. لو كنتُ أَعلَم أنّكَ تعود قريباً لكنتُ انتظرتكَ مِن أجل الختان.»
«أشكركَ عل حبّكَ لجديّ وأبي وأُمّي. إنّه طفل جميل. فليكن مستقيماً للأبد مثل يوسف الصدّيق.» يؤرجح يسوع الطفل الذي يبتسم له ابتسامات طفوليّة.
«إن انتظرتَني آتي معكَ. إنّني أنتظر امتلاء الجِّرار، فلا أريد أن تتعب ابنتي مريم. بل انظُر، سوف أدفع بالجِّرار لأتباعكَ إذا أرادوا أخذها وأتحدّث قليلاً معكَ على انفراد.»
«بالطبع نأخذها! فنحن لسنا مُلوكاً أشوريين.» يهتف توما، ويبدأ بحمل إحدى الجِّرار.
«إذن انتبهوا! مريم التي ليوسف ليست في البيت. إنّها عند سلفها، هل تَعلَم؟ ولكنّ المفتاح عندي. خذوه مِن أجل الدخول إلى البيت، أعني إلى الـمَشغَل.»
«نعم، نعم اذهبوا إلى البيت، وسوف أعود لاحقاً.»
يذهب الرُّسُل ويبقى يسوع مع حلفى.
«كنتُ أودُّ أن أقول لكَ... إنّني صديق حقيقيّ لكَ... وعندما يكون المرء صديقاً حقيقيّاً، وأكبر سنّاً، وابن بَلَد، يمكنه التحدّث. وأعتقد أنّ مِن واجبي التحدّث... أنا... ولكنّني لا أبغي نصحكَ، فأنتَ تعرف أكثر منّي. أودُّ فقط تنبيهكَ أنّ... آه! لا، لا أريد لعب دور الجاسوس، ولا أن أسيء إلى سمعة أهلكَ لديكَ. ولكنّني أؤمن بكَ، مَسيّا، و... هذا يؤلمني، أن يقولوا إنّكَ لستَ أنتَ، أعني مَسيّا. وأنّكَ مريض، وأنّكَ مريض، تفلس العائلة والأهل. المدينة... أنتَ تَعلَم أنّ لحلفى اعتباراً كبيراً فيها، وأهل المدينة يَسمَعون له، هُم أيضاً، والآن هو مريض ويُثير الشفقة... حتّى الشفقة تدفع أحياناً إلى القيام بأعمال جائِرة. انظر، لقد كنتُ ذاك المساء حيث دافَعَ عنكَ يوضاس ويعقوب، كما عن الحريّة في اختيار اتّباعكَ... آه! يا له مِن مشهد! لستُ أدري كيف تصمد أُمّكَ! ومريم التي لحلفى؟ إنّها كما النساء عادة في الكثير مِن الأوضاع العائليّة، دائماً الضحيّة.»
«أبناء العَمّ حالياً عند أبيهم...»
«عند أبيهم؟ آه! إنّني أرثي لهم! فالعجوز حقيقة لا يَعي لنفسه، وهذا بالتأكيد بفعل السنّ والمرض. ولكنّه يتصرّف كالمجنون. لو لم يكن مجنوناً لأشفقتُ عليه أكثر، إذ... إنّه يُدمّر نفسه.»
«هل تظنّه سيُعامِل أبناءه بشكل سيّئ؟»
«أنا أكيد. لذلك أرثي لحالهم وحال النساء... إلى أين أنتَ ذاهب؟»
«إلى بيت حلفى.»
«لا يا يسوع! لا تفقد هيبتكَ واحترامكَ!»
«أولاد العَمّ يحبّونني أكثر مِن أنفسهم، ومِن العدل أن أكافئهم بحبّ مماثل... هناك توجد امرأتان عزيزتان جدّاً على قلبي... أنا ماضٍ إلى هناك. لا تمسك بي.» ويسرع يسوع إلى بيت حلفى، بينما يبقى الآخر مستغرقاً في أفكاره وسط الطريق.
يسير يسوع بسرعة. أراه عند حديقة حلفى. يَسمَع بكاء امرأة وصياح رجل مُبالَغ فيه. يسرع يسوع أكثر في الأمتار الأخيرة التي تفصله عن البيت، عبر الحديقة المخضوضرة. يَصِل إلى عتبة البيت في اللحظة التي تتقدّم صوب الباب الأُمّ التي رأت ابنها.
«أمّي!»
«يسوع!»
صيحَتا حبّ.
يهمّ يسوع بالدخول، ولكن مريم تقول له: «لا يا بني.» وتقف عند العتبة فاتحة ذراعيها، ضاغطة يديها على دعامات الباب: حاجز مِن لحم وحبّ، وتُكرّر: «لا يا بنيّ، لا تفعل.»
«دعكِ يا أُمّي، فلن يحصل أيّ شيء.» يسوع هادئ تماماً، بالرغم مِن أنّ شحوب مريم يُقلِقه بالتأكيد. يُمسِك قبضتها الناعمة، يزيح اليد عن الدعامة، ويَمرّ.
في المطبخ تَنتَثِر الحاجيات على الأرض في حالة "خبيصة" لَزِجة، البيض وعناقيد العنب و"قطرميز" العسل التي جُلِبَت كلّها مِن قانا. ومِن غرفة أخرى يُسمَع صوت مشاجَرة صادر عن عجوز يتوعَّد ويتَّهِم، وهو يَنتَحِب، في واحدة مِن غَضَبات شيخوخته الجائرة جدّاً، والعاجزة، الـمُحزِنة رؤيتها، والمؤلم تَلقّيها. «... ها بيتي قد خَرِب، وقد أصبَحَ سخرية الناصرة كلّها، وأنا هنا وحدي دونما عَون، مجروح القلب والاحترام، وفي عَوَز!... هذا ما بقي مِن حلفى بعد سلوكه كمؤمن حقيقيّ! ولماذا؟ لماذا؟ مِن أجل مجنون، مجنون يجعل أبنائي الأغبياء مجانين. آه!آه! يا لهذا الألم!»
وصوت مريم التي لحلفى الباكية وهي تتوسّل: «كُن طيّباً يا حلفى، كُن طيّباً! ألا ترى أنّكَ تؤذي نفسكَ؟ هيّا أُساعدكَ لتنام... صالحاً كنتُ على الدوام، مستقيماً وعادلاً كنتَ دائماً... فلماذا أنتَ الآن هكذا مع نفسكَ ومعي ومع هؤلاء الأولاد المساكين؟»
«لا شيء! لا شيء! لا تلمسيني! لا أريد! الأولاد صالحون؟ آه! نعم، في الحقيقة هاذان جاحِدان! يَجلبان لي العسل بعد أن سَقَياني الـمُرّ. يَجلبان لي البيض والفاكهة بعد أن التَهَمَا قلبي! اذهبي عنّي، أقول لكِ، اذهبي! لم أعد أريد منكِ شيئاً، أريد مريم، فهي تُحسِن التصرّف. أين هي الآن، تلك المرأة الضعيفة التي لا تعرف أن تجعل ابنها يطيعها؟»
مريم التي لحلفى، المطرودة، تَدخُل إلى المطبخ في اللحظة التي يهمّ فيها يسوع بالدخول إلى غرفة حلفى. تتشبّث به وهي تبكي، يائسة، بينما مريم العذراء، مُتواضِعة وصابرة، تدنو مِن العجوز الغاضب.
«لا تبكي يا امرأة عمي، إنّني ذاهب إليه الآن.»
«آه! لا تجلب لنفسكَ الإهانة! إنّه يبدو كالمجنون! ومعه عصاه. لا يا يسوع، لا. لقد ضَرَبَ حتّى أولاده.»
«لن يفعل لي شيئاً.» ويسوع، بثبات وبكلّ لطف، يُنَحِّي امرأة عمه جانباً ويَدخُل.
«السلام لكَ، يا حلفى.»
يهمّ العجوز بالنوم وهو يُلقي بألف لائمة على مريم: لأنّها لا تعرف كيف تتصرّف (على الرغم مِن أنّه هو الذي كان يقول قبل قليل إنّها وحدها تُحسِن التصرّف). يلتفت فجأة: «هنا؟ أتأتي إلى هنا لتهزأ بي؟ حتّى هذا؟»
«لا، بل لأحمل لكَ السلام. لماذا أنتَ مضطرب إلى هذا الحدّ؟ إنّكَ تؤذي نفسكَ! دعي عنكِ يا أُمّي، فأنا مَن سيرفعه. لن تُلحِقي بنفسكِ الضَّرَر ولن تَتعَبي. أُمّاه، ارفعي الأغطية.» ويأخذ يسوع بين ذراعيه، بكلّ رقة، هذا "الكومة مِن العظام" الذي يتأفَّف، مَعدوم القوى، الشرّير، الباكي والبائس، ويُمَدِّده على السرير، كما لو أنّه رضيع حديث الولادة. «هكذا مثلما كنتُ أفعل لأبي. هذا المسند إلى الأعلى أكثر، يجعل وضعيّته أعلى فيتنفّس بشكل أفضل. أُمّي، ضعي له هذا المسند تحت خاصرتيه، هذا المسند الصغير. سيكون أكثر رقّة ونعومة. والآن النور هكذا لكي لا يُبهِر عينيه، وفي الوقت نفسه يجعل الهواء يَدخُل نقيّاً. ها قد انتهى كلّ شيء. لقد رأيتُ على النار أعشاباً مغليّة. اجلبيها يا أُمّي، إنّها طيّبة جدّاً. إنّكَ تتصبّب عرقاً وجسمكَ بدأ يبرد. هذا مفيد لكَ.»
تَخرُج مريم طائِعة.
«ولكن أنا... ولكن أنا... لماذا أنتَ طيّب معي؟»
«لأنّني أحبّكَ. وأنتَ تعرف ذلك.»
«أنا كنتُ أحقد عليكَ... أمّا الآن...»
«الآن لم تعد تحقد عليَّ. أعلم. ولكنّني أنا أحبّكَ كثيراً، وهذا يكفيني. فيما بعد سوف تحبّني...»
«وإذن... آه!... آه!... يا للألم! وإذا كنتَ حقّاً تحبّني، فلماذا تُهين شَيبَتي؟»
«أنا لا أهينكَ يا حلفى، ولا بأيّ شكل. إنّني أُجِلُّكَ.»
«تُجِلّني؟ ها قد صرتُ سخرية الناصرة.»
«لماذا تقول هذا يا حلفى؟ بأيّ شيء جعلتُكَ سخرية الناصرة؟»
«بوَلَديّ. لماذا هما متمرّدان؟ لأجلكَ. لماذا السخريات؟ بسببكَ.»
«قل لي: لو امتَدَحَكَ كلّ أهل الناصرة لمصير وَلَدَيكَ، فهل تشعر بالألم ذاته؟»
«حينذاك لا! ولكنّ أهل الناصرة لا يمتدحونني. هم يمتدحونني لو كنتَ أنتَ حقيقة مِن أصحاب الفتوحات. إنّما أن يتركاني مِن أجل واحد شِبه مجنون، ينخرط في العالم، جالباً لنفسه الأحقاد والتهكّمات، فقيراً وسط الفقراء. آه! مَن ذا الذي لا يضحك؟ آه! يا لبيتي المسكين! يا لنهاية بيتٍ لداود! وأنا مَن ينبغي أن أحيا بعد لأرى هذا البؤس؟ لأراكَ، آخر عنقود الأصل المجيد، أراكَ تَغرَق في ظلمة الجنون بكثير مِن الخُنوع والذلّ! آه! بئس مصيرنا منذ اليوم الذي استسلم فيه أخي الضعيف للاقتران بهذه المرأة التافهة، وهي مع ذلك متسلّطة، وقد كانت لها عليه سيطرة مُطلَقَة. كنتُ قد قُلتُها آنذاك: "يوسف ليس أهلاً للزواج. سوف يكون تعيساً بائساً! وهو كذلك. لقد كان يَعلَم كيف هي ولم يُرِد أن يعرف شيئاً عن الزواج. اللعنة على قانون اليتيمة الوَارِثة! اللعنة على القَدَر، واللعنة على هذا الزواج.»
تعود "العذراء الوَارِثة" مع الأعشاب المغليّة في اللحظة المناسبة لتَسمَع نُواح سلفها... ما تزال أكثر شحوباً، ولكنّها بطبعها الصَّبور لم تضطرب لهذا. تدنو مِن حلفى وتساعده على الشرب مع ابتسامة لطيفة.
«أنتَ جائِر يا حلفى، ولكنّكَ تتألّم كثيراً، ومِن أجل ذلك نسامحكَ.» يقول يسوع ذلك بينما يَرفَع له رأسه.
«آه! نعم، ألماً كثيراً! تقول إنّكَ مَسيّا! وتَجتَرِح المعجزات، هذا ما يُقال. فعلى الأقلّ، لكي تُجزيني مقابل أولاد لي أخذتَهم منّي، اشفني، اشفني... وأنا أسامحكَ.»
«أنتَ سامح وَلَدَيكَ، واستَوعِب روحيهما وأنا أعالجكَ. أمّا إذا كان للحقد مكان في قلبكَ فلن أستطيع فِعل شيء.»
«أُسامِح؟» ويقفز العجوز قفزة، مِن الطبيعي أنّها زادت مِن حدّة ألمه. وهذا ما جَعَله هائجاً مِن جديد. «أُسامِح؟ مطلقاً! اذهب عنّي! اذهب عنّي إذا كنتَ تريد قول ذلك! اذهب عنّي! أريد أن أموت دونما زيادة في اضطرابي.»
يقوم يسوع بحركة إذعان. «الوداع يا حلفى. أنا ذاهب... هل ينبغي لي حقيقة أن أذهب؟ عَمّي... هل عليَّ حقيقة أن أذهب؟»
«إذا لم تقم بما يرضيني، نعم، اذهب وقل لهذين الثعبانين إنّ العجوز يموت وهو حاقِد.»
«لا. هذا لا. لا تَخسَر نفسكَ. لا تحبّني، إذا أردتَ. لا تؤمن بأنّني مَسيّا. إنّما يجب ألّا تَبغُض. ينبغي لكَ ألّا تَكرَه. حلفى، اسخر منّي، قُل إنّني مجنون، إنّما لا تحقد.»
«ولكن لماذا تحبّني ما دُمتُ أهينكَ؟»
«لأنّني الذي لا تريد أن تتعرّف عليه. أنا الحبّ. أُمّي، أنا ماضٍ إلى البيت.»
«نعم يا بنيّ، وسوف آتي بعد قليل.»
«أترك لكَ سلامي يا حلفى. إذا ما أردتَني، أَرسِل في طلبي، وسوف أَحضُر في أيّ وقت.»
يَخرُج يسوع هادئاً وكأنّ شيئاً لم يكن، إنّما أكثر شحوباً.
«آه! يسوع، يسوع اغفر له.» تقولها مريم التي لحلفى بأنين.
«بكلّ تأكيد يا مريم. لا داعي حتّى لفعل ذلك، فكلّ أفعال المتألّم مغفورة له. وهو الآن أكثر سكوناً. فالنعمة تعمل حتّى بدون عِلم القلوب. وثمّ هناك دموعكِ، وبالتأكيد معاناة يوضاس ويعقوب والوفاء لدعوتهما. السلام لقلبكِ القَلِق، يا امرأة عَمّي.» يُقَبِّلها ويَخرُج إلى الحديقة ليمضي إلى البيت.
ها هو بطرس، لحظة يَخرُج يسوع إلى الشارع، يَدخُل وخلفه يوحنّا يَلهَثان مِن الجَّري. «آه! يا معلّم! ولكن ما الذي جرى؟ لقد قال لي يعقوب: "أَسرِع إلى بيتي، مَن يدري كيف يُعامَل يسوع". ولكن لا. إنّني مخطئ. حلفى الذي كان عند النبع دخل وقال ليوضاس: "يسوع في بيتكَ". لذلك قال يعقوب ما قال... وقد ذُهِلَ ابنا عَمّك. وأنا لم أفهم مِن ذلك شيئاً، لكنّني أراكَ... وأطمئن.»
«لا شيء يا بطرس. مريض مسكين جَعَلَته الآلام عصبيّاً. أمّا الآن فقد انتهى كلّ شيء.»
«آه! إنّني مسرور لذلك! وأنتَ لماذا هنا؟» يتوجّه بطرس إلى الاسخريوطيّ الذي هَرَعَ أيضاً، إنّما اللَّهجَة لم تكن لطيفة كفاية.
«وأنتَ هنا أيضاً كما يبدو لي.»
«رَجوني المجيء إلى هنا فأتيتُ.»
«وأنا أيضاً أتيتُ، لأنّه لو كان المعلّم في خَطَر في موطنه، فأنا الذي دافَعتُ عنه في اليهوديّة أستطيع الدفاع عنه كذلك في الجليل.»
«مِن أجل ذلك يُوجَد منّا الكفاية. إنّما لا ضرورة لذلك في الجليل.»
«آه! آه! آه! موطنه يرفضه مثل طعام عَسِرَ الهضم. حسناً. أنا مسرور مِن ذلك، لأجلكَ أنتَ الذي صُدِمتَ لحادث صغير وَقَعَ في اليهوديّة حيث كان هو مجهولاً. هنا، على العكس!...» ويُنهي يهوذا كلامه وهو يُصَفِّر بشكل ساخر.
«اسمع يا وَلَد. ليس لي مزاج لأتحمّلكَ. توقّف إذن إذا كنتَ مُزمِعاً على... أَمر ما. يا معلّم، هل أساؤوا إليكَ؟»
«لا يا عزيزي بطرس. أؤكّد لكَ. فلنسرع لنطيّب خاطر ابنَي العَمّ.»
يَمضون. يَدخُلون إلى الـمَشغَل الكبير. يعقوب ويوضاس إلى جانب طاولة النجارة الكبيرة. يعقوب واقف ويوضاس جالس على كرسيّ صغير مُسنِداً مِرفَقه على المقعد، ورأسه على يده. يتوجّه يسوع إليهما مبتسماً، ليُبرهِن لهما مباشرة عن مشاعره الطيّبة. «حلفى الآن أكثر سكوناً. الآلام تَسكُن، والسلام يعود كاملاً. كونا مطمئنَّين أنتما أيضاً.»
«هل رأيتَه؟ وأُمّي؟»
«رأيتُ الجميع.»
ويسأل يوضاس: «حتّى أَخَويّ؟»
«لا، لم يكونا هناك.»
«لقد كانا هناك ولم يُريدا الظُّهور أمامكَ. أمّا نحن! فلو كنّا ارتَكَبنا جُرماً لما كانا عامَلانا هكذا. ونحن اللذان كنا قادِمَين مِن قانا طائِرَين مِن الفَرَح لِجَلبنا له أشياء تُرضيه! إنّنا نحبّه و... ولم يعد يفهمنا... لم يعد يثق بنا.» يُنـزِل يوضاس ذراعه ويبكي، رأسه على المقعد. يعقوب أَصلَب، ولكنّ وجهه يوحي باستشهاد داخليّ حقيقيّ.
«لا تبكِ يا يوضاس. وأنتَ لا تستسلم للألم.»
«آه! يا يسوع! نحن أبناء و... لقد لَعَنَنا. ولكن رغم تمزُّقنا، لا، لن نعود إلى الوراء! نحن لكَ. ومعكَ سنبقى. حتّى ولو تَعَرَّضنا للموت لأجل انفصالنا.» يهتف يعقوب.
«وكنتَ تقول إنّكَ لستَ أهلاً للبطولة؟ كنتُ أَعلَم ذلك أنا. أمّا أنتَ فتقول ما تقول عن نفسكَ. ستكون بحقّ وفياً حتّى في مواجهة الموت. وأنتَ كذلك.» ويلاطفهما يسوع، ولكنّهما يتألّمان. بكاء يوضاس يرن تحت القوس الحجري. وهنا أجد الفرصة لرؤية نَفْس التلاميذ بجلاء.
يصيح بطرس، بوجهه النّـزيه الحزين: «بالطبع هو ألم ومعاناة... يا للحزن! ولكن، يا أولادي (ويهزّهما بمودّة) لم يُعطَ الجميع استحقاق سماع هذه الكلمات... أنا... أعتبر نفسي محظوظاً لدعوة يسوع لي. وتلك المرأة الطيّبة، زوجتي، لا تكفّ عن القول لي: "وكأنّني مُطَلَّقة، طالما أنّكَ لم تعد لي". ولكنّني أقول: "يا لسعادة هذا الطلاق!" فقُولا هكذا أنتما أيضاً. إنّكما تَخسَران أباً ولكنّكما تَربَحان الله.» يوسف الرَّاعي مُندَهِش في مصيره كيتيم، لجهله إمكانيّة أن يكون الأب مصدر ألم، ويقول: «كنتُ أظنّ نفسي الأتعس، لأنّني بدون أب. ولكنّني أرى أنّه مِن الأفضل لي أن أبكيه ميتاً مِن أن يكون لي عدوّاً.» أمّا يوحنّا فيقتصر على تقبيل وملاطفة رفيقَيه. أندراوس يتنهّد ويصمت. يتحرّق للحديث، ولكنّ خجله يخنقه. توما وفليبّس ونثنائيل يتحدّثون بهدوء في إحدى الزوايا، بكلّ الاحترام الذي يمكن اختباره حيال هذا الألم الحقيقيّ. يعقوب بن زَبْدي يصلّي بصوت منخفض ليُرسِل الله سلامه. سمعان الغيور، آه! كم يروق لي مظهره! يترك زاويته ويأتي إلى جانب التلميذَين المتألّمَين. يضع يده على رأس يوضاس، ويُحيط بذراعه الأخرى قامة يعقوب ويقول: «لا تبكِ يا بنيّ. فلقد قالها لنا، لكَ ولي: "أوحّدكما: أنتَ الذي فَقَدتَ أباً بسببي وأنتَ يا مَن لكَ قلب أب دون أبناء". ولم نكن نُدرِك كم كانت هذه الكلمات نَبَويّة. إنّما هو فقد كان يَعلَم ذلك. ها أنذا أرجوكما. لقد تَقدَّمَت بي السنون، وكنتُ دائماً أحلم بأن يناديني أحد: "أبي". فاقبَلا بي على هذه الصورة، وأنا، كأب، سأبارككما صباحاً ومساء. أرجوكما اقبَلا بي أباً.» يُوافِق الإثنان وهما يبكيان بأكثر حدّة.
تَدخُل مريم وتَهرَع إلى جانب الـمَحزونَين. تُداعِب شعر يوضاس الحَالِك السَّواد، وخَدّ يعقوب. إنّها بيضاء مثل زنبقة. يُمسِك يوضاس بيدها ويُقبّلها ويَسأل: «ماذا يَفعَل؟»
«إنّه نائم يا بنيّ. وأُمّكَ ترسل لكما قُبلاتها.» وتُقبّلهما.
ويُدوّي صوت بطرس الأَجشّ: «هيّا، تعال هنا لحظة، أريد أن أقول لكَ شيئاً.» وأرى بطرس يُمسِك بذراع الاسخريوطيّ بقبضته القويّة ويأخذه خارجاً إلى الشارع. ثمّ يعود وحده.
ويَسأَل يسوع: «أين أرسلتَه؟»
«أين؟ ليشمّ الهواء. لأنّه إن لم يجعله الهواء يهدأ، كنتُ سأمنحه إيّاه بطريقة أخرى... وليس سوى بسببكَ لم أفعل ذلك. آه! الآن أفضل. إنّ مَن يضحك أمام الألم هو ثعبان سامّ، وأنا أطرد الثعابين... نعم، لحُسن الحظّ أنّكَ هنا... لقد أرسلتُه فقط إلى ضوء القمر. يمكن ذلك... ولكن أنا قد أُصبِح بالأحرى مِن الكَتَبَة، الشيء الذي وحده الله قادر أن يجعله منّي، أنا الذي لديه ضمير حيّ، أمّا هو، فحتّى بمساعدة الله، أشكّ بأنّه يُصبِح صالحاً. سمعان بن يونا يؤكّد لكَ ذلك، ولستُ أُخطئ. لا! لا تهتمّ! لقد كان مسروراً لخروجه مِن هنا وعدم مشاركته الحزن. إنّه أكثر جفافاً مِن حصاة تحت شمس آب (أغسطس). هيّا أيّها الأولاد! فهنا موجودة أُمّ أَلطَف مِن أيّة أُمّ يمكن أن تُوجَد في السماء. وهنا يوجد معلّم أطيب مِن كلّ أهل الجنّة. وهنا توجد قلوب كثيرة نزيهة تحبّكما بصدق. هَطلُ المطر يفيد: إنّه يَذهَب بالغبار. وغداً تصبحون أكثر انتعاشاً مِن الورد، وأخف مِن العصافير لاتّباع يسوعنا.
وعلى كلمات بطرس البسيطة والرائعة ينتهي كلّ شيء.
بعدئذ يقول يسوع:
«بَعدَ هذه الرؤيا تُثَبِّتين تلك التي منحتُكِ إيّاها في ربيع 1944، تلك التي طَلَبتُ فيها أنا مِن أُمّي أن تَذكُر انطباعاتها عن الرُّسُل. فإنّ الأضواء قد تَسَلَّطَت على ملامحهم الأخلاقيّة بما فيه الكفاية، فتأخذ هذه الرؤيا مكانها هنا دون أن تَصدِم أحداً. لم أكن في حاجة إلى نَصائِح، ولكن عندما كنّا وحدنا، بينما كان التلاميذ مُنتَشِرين لدى عائلات صديقة، أو في القرى المجاورة، أثناء فترات إقامتي في الناصرة، كم كان يطيب لي التحدّث إلى صديقتي اللطيفة، وطَلَب النُّصح مِن أُمّي لأرى تأكيداً مِن فمها الممتلئ نعمة وحكمة، على ما كنتُ رأيتُ حتّى ذلك الحين. معها، لم أكن سوى "الابن". ولم يكن، بين بنات النساء قاطبة، أُمّ أكثر منها "أُمومة". في كلّ فضائل الأمومة البشريّة والأخلاقيّة؛ ولم يكن ابن أكثر بنوّة منّي في ما يخصّ الاحترام والثقة والحبّ.
الآن وقد أصبَحَ لديكِ الحدّ الأدنى مِن المعلومات عن الإثني عشر، عن فضائلهم وعيوبهم، وشخصيّاتهم وجهودهم، فهل هناك مَن يَدَّعي أنّه كان سهلاً عَليَّ توحيدهم والارتقاء بهم وتأهيلهم؟ هل هناك مَن يظنّ أن حياة الرَّسول سهلة، وأنّه ، كي يكون المرء رسولاً، أي كي يظنّ أنه كذلك، يمكن لأحد الحكم بأنّ له الحقّ بحياة سهلة، دون آلام ودون مواجهات ودون إخفاقات؟ وهل يُطالِب أحد بعد، لمجرّد أنّه خَدَمَني، بأن أُصبِح خادماً له وأن أَجتَرِح المعجزات بصورة مستمرّة إكراماً له، وأن أجعل مِن حياته سجّادة مُزهِرة وممتعة وذات مجد بشريّ؟ إنّ طريقي وعملي وخدمتي، هي الصليب والألم ونكران الذات والتضحية. لقد مَرَرتُ أنا بهذا. وعلى مَن يَدَّعون أنّهم "أتباعي"أن يَتَّبِعوه.
أمّا هذا، فليس لكلّ مَن هو "يوحنّا"، بل إنّما هو للفقهاء والساخِطين والـمُلِحّين. وكذلك لـمُثيري المشاكل المشاغبين، أقول إنّني استَخدَمتُ عبارات "عَمّ" و "امرأة العَمّ" الغير موجودة في لغات فلسطين، لأُسلّط الأضواء، وأَضَع حداً لمسألة خالية مِن كلّ احترام تخصّ سلوكي كابن وحيد لمريم، وتخصّ بتوليّة أُمّي قبل وبعد الولادة، والطبيعة الروحيّة والإلهيّة للاقتران الذي نلتُ منه الحياة. أقولُها مرّة أخرى، أُمّي لم تعرف اتّصالاً آخر، ولم يكن لها أبناء آخرون. إنّ جسدها لم يُمسّ، حتّى أنا لم أُمزّقه، وهو مغلق على سرّ الأحشاء، بيت القربان، وعرش الثالوث والكلمة المتجسّد.»