ج7 - ف210

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

210- (يسوع يتكلّم في عِمّاوس الجبل)

 

14 / 10 / 1946

 

إنّها ساحة عِمّاوس. هي مكتظّة بالناس، مكتظّة تماماً. وفي مركز الساحة هناك يسوع الّذي يجد صعوبة في الحركة لكثرة الّذين يحيطون به، وقد ضَيّق عليه الناس الّذين يحاصرونه. يسوع بين ابن رئيس المعبد والتلميذ الآخر، وحوله، بهدف حمايته الافتراضيّة، الرُّسُل والتلاميذ، وبين هؤلاء وأولئك، حيث يسهل عليهم التسلّل إلى أيّ مكان، مثل عظاءات بين تشابكات سياج سميك، أولاد وأولاد.

 

رائع هو الجذب الّذي كان يسوع يمارسه على الأطفال. فلم يكن أبداً مِن مكان، سواء كان فيه معروف أم غير معروف، لم يكن محاطاً على الفور بالأطفال، السعداء بالتعلّق بثيابه، والأكثر سعادة إذا ما مرّر يده في مداعبة لطيفة ملؤها محبّة، حتّى ولو، في الوقت ذاته، كان يقول أموراً صارمة للبالغين، والسعداء للغاية عندما كان يجلس على مقعد، على جدار واطئ، على حجر، على جذع محطّم، أو حتّى على العشب. حينئذ، كونه على مستوى قاماتهم، فكان بإمكانهم عناقه، إسناد رؤوسهم على كتفيه، على ركبتيه، الولوج تحت معطفه ليجدوا أنفسهم محاطين بذراعيه، مثل صيصان وجدوا أكثر الدفاعات محبّة وحماية. ويسوع يدافع عنهم على الدوام مِن عنجهية الكبار، الّذين بسبب احترامهم المنقوص له، والذي هو كذلك لأسباب كثيرة أكثر جدّيّة، فيريدون إظهار الحرص بإبعاد الأطفال عن المعلّم.

 

الآن أيضاً، يطلق عبارته الاعتياديّة في حماية أصدقائه الصغار: «دعوهم يفعلون! آه! إنّهم لا يزعجونني! فليس الأطفال هم الّذين يزعجونني ويؤلمونني!»

 

ينحني يسوع فوقهم، بابتسامة مشرقة تجعله أكثر شباباً، بإظهاره شبيهاً بأخ لهم كبير، شريك متعاطف في لعبة بريئة، ويهمس: «كونوا لطيفين، صامتين، صامتين، هكذا لا يبعدونكم ونبقى معاً أكثر.»

 

«وتروي لنا مَثَلاً جميلاً؟» يقول الأكثر... جرأة.

 

«نعم، مَثَل بأكمله لأجلكم. بعد ذلك أتحدّث إلى أهلكم. أنصتوا جميعكم، ما هو مفيد للصغار يفيد كذلك الرجال.

 

ذات يوم بلغ إلى سمع رجل أن مَلِكاً عظيماً يستدعيه ويقول له: "علمتُ أنّكَ تستحقّ مكافأة على حكمتكَ وإجلالكَ لمدينتكَ بعملكَ وعلمكَ. وبالتالي فأنا لن أمنحكَ هذا أو ذاك مِن الأمور، ولكنّني سأقودكَ إلى غرفة كنوزي؛ وستختار ما تريده وسأعطيكَ إيّاه. بهذه الطريقة أحكم كذلك إذا كنتَ كما تصفكَ سمعتكَ".

 

وفي الوقت ذاته، الـمَلِك الّذي كان قد اقترب مِن الشرفة الّتي كانت تحيط بردهته، نظر إلى الساحة الكائنة قرب القصر الملكيّ ورأى صبيّاً ثيابه رثّة يمرّ، صغير جدّاً، بالتأكيد مِن عائلة فقيرة جدّاً، وقد يكون يتيماً ومتسوّلاً. يتوجّه إلى خدّامه ليقول لهم: "امضوا واجلبوا هذا الولد إليّ".

 

ذهب الخدّام ليعودوا مع الولد الصغير، المرتجف لوجوده في حضرة الـمَلِك. ورغم إلحاح حاشية البلاط الملكي، الّذين كانوا يقولون له: "إنحنِ، ألقِ التحيّة وقل: 'العزّة والمجد لكَ يا مَلِكي. أثني ركبتيّ أمامكَ، أنتَ القادر الذي تشيد بكَ الأرض كالكائن الأعظم في الوجود'"، لم يكن الولد يريد الانحناء وقول هذا الكلام، وحاشية البلاط، المصدومين، كانوا يهزّونه بقسوة ويقولون: "أيّها الـمَلِك، هذا الولد الفظ والقذر قد دنّس مسكنكَ. إسمح لنا أن نطرده مِن هنا ونرميه في الشارع. إذا ما رغبتَ بولد إلى جانبكَ، فسنذهب للبحث عنه لدى أغنياء المدينة، إذا كنتَ تعباً مِن أولادنا، وسنجلبه لكَ. إنّما ليس هذا الفظّ الّذي لا يعرف حتّى إلقاء التحيّة!..."

 

الرجل الغنيّ والحكيم، الّذي كان قد خشع سابقاً بمائة انحناءة متذلّلة، عميقة كما لو أنّه كان أمام هيكل، يقول: "إنّ حاشية بلاطكَ قد أجادوا القول، لعَظَمَة تاجكَ، ينبغي لكَ منع عدم التقديم لشخصكَ المقدّس الإكرام المناسب". وأثناء قوله هذا الكلام كان يسجد إلى حدّ تقبيل قدميّ الـمَلِك.

 

ولكنّ الـمَلِك قال: "لا، أريد هذا الولد. ليس هذا فقط، ولكنّني أريد أن آخذه هو كذلك إلى غرفة كنوزي ليختار ما يريد وسأعطيه له. أليس مسموحاً لي، بما أنّني الـمَلِك، أن أجعل ولداً فقيراً سعيداً؟ أليس هو مِن رعاياي مثلكم جميعاً؟ هل الذنب ذنبه في أن يكون تعيساً؟ لا، التسبيح لله، أريد أن أجعله سعيداً مرّة واحدة على الأقلّ! تعال أيّها الولد، ولا تخف منّي". ويمدّ له اليد الّتي التقطها الولد بكلّ بساطة مُقبّلاً إيّاها عفويّاً. يبتسم الـمَلِك. ويتوجّه إلى غرفة الكنوز بين صفّين مِن الحاشية الـمُنحين إكراماً له، على السجّاد الأحمر بالزهور الذهبيّة، وإلى يمينه الرجل الغنيّ والحكيم، وإلى يساره الولد الجاهل والفقير. والمعطف الملكيّ يتناقض بشدّة مع ثوب الولد الفقير الصغير البالي وقدميه الحافيتين.

 

دَخَلوا إلى غرفة الكنوز الّتي كان قد فتح بابها إثنان مِن حاشية القصر كبيران. كانت غرفة عالية، مستديرة، ودون نوافذ. ولكنّ النور يسقط مِن السقف، الّذي لم يكن سوى شريحة ضخمة مِن الميكا: نور خفيف ومع ذلك كان يجعل لامعةً المسامير الذهبيّة للخزائن الحديديّة والشرائط الأرجوانية للّفائف الكثيرة الموضوعة على حوامل عالية ومزيّنة. لفائف فاخرة، بقضبان ثمينة، بمشابك وزخارف مزيّنة بحجارة ساطعة: أعمال نادرة كان يمكن فقط لِـمَلِك أن يمتلكها. ثمّ، بلا عناية، على حامل جلف، عاتم، قليل الارتفاع، لفافة صغيرة ملفوفة على عود مِن خشب أبيض، مربوطة بخيط غليظ، مغبّر مثل شيء مهمل.

 

يقول الـمَلِك مشيراً إلى الجدران: "هوذا، هنا كلّ كنوز الأرض، وأخرى أعظم أيضاً مِن كنوز الأرض، إذ هنا توجد كلّ أعمال العبقريّة البشريّة، وكذلك أعمال تتأتّى مِن مصادر فوق بشريّة. هيّا، خذا ما تشاءان". ويقف في وسط الغرفة، وذراعاه متصالبتان، ليراقب.

 

الرجل الغنيّ والحكيم يتوجّه أوّلاً صوب الخزائن الحديديّة وينزع الأغطية بلهفة متزايدة باطراد. سبائك مِن الذهب، مصاغ مِن الذهب، فضة، لآلئ، سفير، ياقوت، زمرّد، أحجار كريمة كثيرة الألوان... تلمع في كلّ الخزائن الحديديّة. وفي كلّ مرة يفتح فيها كانت صرخات الإعجاب... ثمّ توجّه إلى الـمَقارئ ، ولدى قراءته عناوين اللفائف، صرخات إعجاب مِن جديد كانت تخرج مِن بين شفتيه، وأخيراً يلتفت الرجل متحمّساً صوب الـمَلِك ويقول له: "ولكنّكَ تملكَ كنزاً لا مثيل له، والحجارة أكثر قيمة مِن اللفائف وبالعكس! وهل حقّاً يمكنني الاختيار بحرّيّة؟"

 

"لقد قلتُ ذلك: كما لو أنّ كلّ شيء يعود إليكَ".

 

يرتمي الرجل ووجهه إلى الأرض وهو يقول: "أعبدكَ، أيّها الـمَلِك العظيم" وينهض، راكضاً أوّلاً صوب الخزائن، ثمّ إلى الـمَقارئ، آخذاً مِن هذه ومِن تلك ما كان يراه الأفضل.

 

الـمَلِك، الذي كان قد ابتسم في سرّه مرّة أولى وهو يرى الحُمّى الّتي كان الرجل يركض بها مِن خزانة حديديّة إلى أخرى، ومرّة ثانية عندما رآه يرتمي أرضاً ليعبده، والذي ابتسم للمرة الثالثة لدى رؤيته بأيّ جشع، بأيّة قاعدة وتفضيل كان يختار الجواهر والأسفار؛ يلتفت صوب الولد الّذي كان لا يزال إلى جانبه ليقول له: "وأنتَ، ألا تريد أن تختار الأحجار الجميلة واللفائف القيّمة؟"

 

يهزّ الولد رأسه ليقول لا.

 

"ولماذا؟"

 

"لأنّه بالنسبة إلى اللفائف، أنا لا أعرف القراءة، وبالنسبة إلى الأحجار... لا أعرف قيمتها. بالنسبة لي، هي حصى، وليس أكثر".

 

"ولكنّها ستجعلكَ غنيّاً..."

 

"ليس لي أب، ولا أُمّ، ولا إخوة. فبماذا يفيدني الذهاب إلى ملجأي وفي صدري كنز؟"

 

"ولكن بها يمكنكَ شراء منزل لكَ..."

 

"أسكن فيه وحيداً دائماً".

 

"ألبسة".

 

"سأشعر دائماً بالبرد إذ إنّني أفتقد إلى محبّة الأهل".

 

"أطعمة".

 

"لن أستطيع سَدّ جوعي لقبلات أمّي، ولا شرائها بأيّ ثمن".

 

"أساتذة، وتتعلّم القراءة...".

 

"هذا يُرضيني كثيراً. ولكن، بعد ذلك، ماذا أقرأ؟".

 

"أعمال الشعراء، الفلاسفة، الحكماء والكلام القديم وتاريخ الشعوب".

 

"هي أمور لا طائل منها، بلا جدوى أو قد مضت... وهذا لا يُحرز التعب".

 

"يا له مِن ولد غبيّ!" يصيح الرجل الّذي أضحى الآن شاغل الذراعين باللفافات، والحزام والجلباب بدا منتفخين مِن الجواهر.

 

يبتسم الـمَلِك أيضاً في سرّه، آخذاً الولد بين ذراعيه، يقوده إلى الخزائن الحديديّة. يغرس يده في الّلآلئ، الياقوت، الزبرجد، الجَمَز (نوع مِن الأحجار الكريمة) ليجعلها تسقط كما مطر متلألئ، وكان يدفعه للأخذ منها.

 

"لا، أيّها الـمَلِك، لا أريد منها. أريد شيئاً آخر..."

 

قاده الـمَلِك إلى الـمَقارئ وقرأ له مقاطع مِن الشعراء، قصص أبطال، أوصاف بلدان.

 

"آه! القراءة أجمل. إنّما ليس هذا ما أريد..."

 

"وماذا إذاً؟ قل وسأعطيكَ إيّاه أيّها الولد".

 

"آه! لا أظنّ أيّها الـمَلِك، أنّكَ تستطيع ذلك رغم سلطانكَ. فهو ليس مِن أمور هذه الدنيا...".

 

"آه! تريد أعمالاً ليست مِن هذه الأرض! هاك إذن: هنا أعمال أملاها الله على خدّامه، إسمع". وقرأ صفحات موحى بها.

 

"هذا أجمل بكثير، إنّما لفهمها، يجب أوّلاً فهم لغة الله. أيوجد كتاب يعلّمها ويُفهِم ما هو الله؟"

 

تبدر مِن الـمَلِك حركة دهشة ويكفّ عن الضحك، إنّما يضمّ الولد إلى قلبه.

 

الرجل، على العكس، يضحك ضحكة استهزاء ليقول: "حتّى الأكثر حكمة لا يعرفون ما هو الله، وأنتَ، الولد الجاهل، تريد أن تعرف ذلك؟ إذا أردت أن تصبح غنيّاً بهذا!..."

 

ينظر إليه الـمَلِك بصرامة، بينما كان الولد يجيب: "أنا لا أبحث عن الغنى، أبحث عن المحبّة، وقد قيل لي ذات يوم إنّ الله محبّة".

 

قاده الـمَلِك إلى الـمِقرأ الكالح الّذي كانت عليه اللفافة الصغيرة، المربوطة بحبل صغير ومغبرّ. أخذها، فتحها وقرأ السطور الأولى: "مَن كان صغيراً فليأتِ إليّ، وأنا، الله، سأُعلّمه عِلم المحبّة. وهي موجودة في هذا السفر، وأنا..."

 

"آه! هو هذا الّذي أريد! وسأعرف الله، وسأحصل على كلّ شيء بامتلاكه. أعطني هذه اللفافة أيّها الـمَلِك، وسأكون سعيداً".

 

"ولكن لا قيمة نقديّة لها! هذا الولد هو حقّاً غبيّ! لا يعرف القراءة ويأخذ كتاباً! ليس حكيماً ولا يريد أن يتعلّم. هو بائس ولا يأخذ مِن الكنوز".

 

"سأجهد في الحصول على المحبّة، وهذا الكتاب سيعلّمني إيّاها. لتكن مباركاً أيّها الـمَلِك، لإعطائي ما يجعلني لا أعود أشعر بأنّني يتيم وفقير!"

 

"على الأقلّ إعبده، كما فعلتُ أنا، إذا ما آمنتَ أنّكَ بواسطته أصبحت سعيداً!"

 

"أنا لا أعبد الإنسان، بل إنّما الله الّذي جعله طيّباً للغاية".

 

"هذا الولد هو الحكيم الحقيقيّ في مملكتي، أيّها الرجل الّذي اغتصب صيت الحكيم. الكبرياء والجشع جعلاكَ تَسكَر لدرجة أن تُقدّم العبادة للخليقة بدل تقديمها للخالق، وهذا لأنّ الخليقة أعطتكَ أحجاراً وأعمالاً بشريّة. ولم تفكّر أنّ لديكَ الجواهر، وأنها قد كانت لديّ، لأنّ الله خلقها، وأنّ لديكَ اللفافات النادرة حيث فِكر الإنسان، لأنّ الله أعطى الإنسان الذكاء. هذا الصغير الجائع والبردان، الوحيد، والّذي ضربته كلّ الآلام، الّذي كان سيصبح معذوراً ومبرّراً إذا ما سكر أمام الثروات، وها هو يعرف باستقامة أن يشكر الله الّذي منح الطيبة لقلبي، وهو لا يبحث إلاّ على الأمر الوحيد الضروريّ: محبّة الله، معرفة المحبّة لامتلاك الكنوز الحقيقيّة هنا في الأسفل وفيما بعد. أيّها الرجل، لقد وعدتُ أن أعطيكَ ما تختاره. إنّ كلمة الـمَلِك مقدّسة. اذهب إذاً مع أحجاركَ ولفافاتكَ، حصى متعدّدة الألوان و... قَشّ الفِكر البشريّ. وعِش في الخوف مِن اللصوص والعثّ، الأوّلون أعداء الجواهر، والآخرون أعداء القرطاس. وانبهر بالبريق المزيّف لهذا الهراء، واختبر اشمئزاز طعم العلوم البشريّة الملطّفة الّتي ليست سوى طعم ولا تغذّي. إذهب! سوف يبقى هذا الولد إلى جانبي، ومعاً سوف نجهد في قراءة الكتاب الّذي هو محبّة، أي الله. ولن يكون لنا بريق الجواهر الباردة التافه، ولا الطعم المائل للحلاوة لقشّ أعمال المعرفة البشريّة. ولكنّ نيران الروح الأزلي ستمنحنا منذ الآن هنا، نشوة الفردوس وسنحصل على الحكمة، الأكثر إنعاشاً مِن الخمر، الأكثر تغذية مِن العسل. تعال أيّها الولد، يا مَن أظهَرَتْ لكَ الحكمة وجهها كي تشتهيها كعروس حقيقيّة".

 

وبعد طرد الرجل، يأخذ الولد معه ويثقّفه في الحكمة الإلهيّة كي يصبح باراً ومَلِكاً أهلاً للمسح المقدّس على الأرض، وفيما بعد الحياة مواطناً لملكوت الله.

 

هذا هو الـمَثَل الموعود للصغار والـمُقتَرَح للكبار.

 

هل تذكرون باروخ؟ إنّه يقول: "لأيّ سبب، أيا إسرائيل، أنتَ في أرض عدوّة، وتشيخ في بلد غريب، هل أصابتكَ العدوى وسط الأموات وغدوتَ محسوباً مِن عداد الّذين يسقطون في الهوّة؟" ويجيب: "هذا لأنّكَ هجرتَ نبع الحكمة. فلو كنتَ تسير على درب الله، لكنتَ ستعيش طويلاً، بسلام وعلى الدوام".

 

إسمعوا، أنتم الّذين غالباً ما تشتكون مِن كونكم في المنفى، رغم كونكم في الوطن، طالما الوطن لم يعد لنا، بل هو للسائد علينا؛ أنتم تتشكّون ولا تعلمون أنّ بالنسبة لما ينتظركم في المستقبل، هذا نقطة خلّ مخلوط بماء مقارنة بالكأس الـمُسكِرة الّتي تُعطى للمحكومين، والّتي، تعلمون ذلك، هي أكثر مرارة مِن أيّ مشروب آخر. شعب الله يعاني لأنّه هجر الحكمة. كيف يمكنكم أن تملكوا الفطنة، القوّة، الذكاء، كيف يمكنكم حتّى معرفة أين توجد، لتعرفوا بالنتيجة الأمور الأقل أهمّيّة، إذا لم ترتوا مِن نبع الحكمة؟

 

إنّ مملكتها ليست مِن هذه الأرض، ولكنّ رحمة الله تمنح النبع. هي في الله. هي الله ذاته. ولكنّ الله يفتح صدره كي تنزل إليكم. فإذاً، هل إسرائيل، الّذي عنده، أو الّذي كان عنده –ويظنّ أنّه ما زال يملكها، في الكبرياء الغبيّ للمبذّرين الذين فقدوها، والذين ما زالوا يظنّون أنفسهم أغنياء، ويطالبون بالطاعة لظنّهم أنّهم هكذا، بينما لا ينالون سوى الشفقة والسخرية- إسرائيل الّذي له أو الذي كان له ثروات، فتوحات، أمجاد، أما زال يمتلك الكنز الوحيد؟ لا. ويخسر حتّى ما تبقّى، ذلك أنّ مَن يفقد الحكمة يفقد إمكانيّة أن يكون عظيماً. فَمَن لا يملك الحكمة يقع في الخطأ تلو الخطأ. وإسرائيل يعلم أموراً كثيرة، كثيرة، ولكنّه لا يعرف الحكمة.

 

باروخ يقول حسناً: "شباب هذا الشعب رأوا النور، سكنوا الأرض، ولكنّهم لم يعرفوا درب الحكمة ولا سُبُلها، وأولادهم لم يستقبلوها، وهي ابتعدت عنهم".

 

ابتعدت عنهم! الأولاد لم يستقبلوها! كلام نبويّ! أنا، الحكمة الّذي أكلّمكم، وثلاثة أرباع إسرائيل لا يستقبلني. والحكمة تبتعد وستبتعد أكثر تاركةً إياهم وحدهم... وماذا سيفعل حينئذ أولئك الّذين يظنّون أنفسهم عمالقة، وبالتالي قادرين على إجبار الربّ على مساعدتهم، على خدمتهم؟ أعمالقة يفيدون الله في تأسيس ملكوته؟ لا. أنا، أقول هذا مع باروخ: "لتأسيس ملكوت الله الحقيقيّ، الله لن يختار هؤلاء المتكبّرين، وسيتركهم ينفقون في غبائهم" بعيداً عن سُبُله. ذلك أنّ الصعود إلى السماء بالروح وإدراك دروس الحكمة، يتطلّب روحاً متواضعاً، مطيعاً وبشكل خاصّ كلّه محبّة، لأنّ الحكمة تتكلّم لغتها، أي تتكلّم لغة المحبّة، كونها هي محبّة. ولمعرفة سُبُلها، يتوجب نظراً صافياً ومتواضعاً، متحرّراً مِن الشهوة الثلاثيّة. لامتلاك الحكمة، يجب شراؤها بالعملة الحيّة: الفضائل.

 

هذا لم يكن لدى إسرائيل [امتلاك الحكمة]، وأنا قد أتيتُ لأشرح الحكمة، لأقودكم إلى سبيلها، لأبذر في قلوبكم الفضائل. ذلك أنّي عالم بكلّ شيء وعارف كلّ شيء، وأتيتُ لأعلّمه ليعقوب خادمي، ولإسرائيل محبوبي. أتيتُ إلى الأرض كي أتحدّث إلى الناس، أنا، كلمة الآب، كي أصطحب باليد أولاد الإنسان، أنا، ابن الله والإنسان، أنا طريق الحياة. أتيتُ لأُدخلكم في غرفة الكنوز الأزليّة، أنا، مَن أُعطِيَ كلّ شيء من قِبَل الآب. لقد أتيتُ، أنا، العاشق الأزليّ، لآخذ عروسي، الإنسانيّة، الّتي أريد رفعها إلى عرشي وغرفة عُرسي لتكون معي في السماء، لأُدخِلها في قبو الخمور لتَسكَر مِن الكروم الحقيقيّة الّتي منها تستمدّ الأغصان الحياة. ولكنّ إسرائيل هي العروس الكسولة ولا تنهض مِن السرير لتفتح لِمَن أتى. والعريس يذهب. سوف يمرّ. إنّه يشرع بالمرور. وبعد ذلك عبثاً تبحث عنه إسرائيل، وستجد لا المحبّة الرحيمة لمخلّصها، إنّما عربات حرب مَن يسودونها، وستُسحَق فاقدة كبرياءها وحياتها بعد أن أرادت سحق حتّى مشيئة الله الرحيمة.

 

آه! إسرائيل، إسرائيل، يا مَن يفقد الحياة الحقيقيّة للمحافظة على وهم كاذب للسلطة! آه! يا إسرائيل الّذي تظنّ خلاصكَ وتريد خلاصك بطرق هي ليست طرق الحكمة، وتخسر نفسك ببيعها للكذب والجريمة، إسرائيل الغارق الذي لا تتمسّك بحبل المركب المتين الّذي قُذِف لكَ لتخليصكَ، ولكن ببقايا ماضيك المحطّم، والعاصفة تحملكَ إلى مكان آخر، إلى العَرض، في بحر مخيف ودون نور، أيا إسرائيل، بما يفيدكَ خلاص حياتكَ، أو اعتبار أنّكَ تخلّصها لساعة، لسنة، لعشرين، لثلاثين سنة، على حساب جريمة وبعدها الفناء للأبد. الحياة، المجد، السلطة، ما تكون؟ فقاعة ماء وسخة تطفو على سطح حوض لغسيل الثياب، تعكس قوس قزح، ليس لأنّها مصنوعة مِن جواهر، إنّما مِن شحوم قذرة، الّتي تنتفخ بفعل الأملاح إلى فقاعات فارغة مصيرها الانفجار دون بقاء أثر لها، سوى دائرة على الماء الموحل مِن العَرَق البشريّ. أمر واحد هو الضروريّ أيا إسرائيل: امتلاك الحكمة، حتّى على حساب الحياة. فالحياة ليست أثمن شيء، والأفضل فقدان مائة حياة مِن خسارة النّفس.»

 

ينتهي يسوع وسط صمت مفعم بالإعجاب. يحاول شقّ طريق والذهاب... ولكن الأولاد يطلبون قُبلته، والكبار بركته. وفقط بعد ذلك، بالاستئذان بالابتعاد مِن كِلْيوباس وهَرْماس الذي مِن عِمّاوس، يستطيع المضي.