ج2 - ف84

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

84- (يسوع عند لعازر قبل ذهابه إلى منطقة المياه الحلوة)

 

25 / 02 / 1945

 

يصعد يسوع عبر الممرّ شديد الانحدار المؤدّي إلى الهضبة التي بُنِيَت عليها بيت عنيا. وهذه المرّة لا يَسلك الطريق الرئيسيّة. لقد سَلَكَ الممرّ الأشدّ انحداراً والمباشر الذي يتّجه مِن الجنوب الغربي إلى الشرق، وهو الأقلّ استخداماً، وقد يكون ذلك بسبب شدّة انحداره. فلا يسلكه سوى المسافرين الذين هم في عَجَلَة مِن أمرهم، كذلك أولئك الذين يقودون القطعان ويتحاشون حركة الطريق الرئيسيّة؛ وكذلك أولئك الذين، مثل يسوع اليوم، لا يريدون أن يلحظهم أناس كثيرون. يَصعَد يسوع قُدُماً، ويتحدّث سرّاً إلى سمعان الغيور، وخلفهما المجموعة الأولى، ومنهم أبناء عمّه مع يوحنّا وأندراوس، ثمّ مجموعة أخرى مع يعقوب بن زَبْدي ومتّى وتوما وفليبّس، وفي الآخِر يبقى الـمُتخَلِّفون برتلماوس مع بطرس والاسخريوطيّ.

 

يَصِلون إلى الهضبة المرتفعة التي تنتصب عليها بيت عنيا. والشمس تضحك في يوم صافٍ مِن أيّام تشرين الثاني (نوفمبر). بالنَّظَر إلى جهة الشرق يَظهَر وادي الأردن والطريق القادمة مِن أريحا، ويَأمر يسوع يوحنّا بالذهاب إلى لعازر يُنبئه عن قدومه. وبينما يَجدّ يوحنّا مسرعاً جدّاً، يتقدّم يسوع ببطء مع أتباعه، وفي كلّ مكان، يُحيّيه أناس مِن القرية.

 

أوّل مَن تَصل مِن بيت لعازر، امرأة تسجد حتّى الأرض وهي تقول: «يوم سعيد لبيت معلّمتي. هلمّ يا معلّم. هو ذا مكسيمين، وها هو لعازر عند البوّابة.»

 

يَهرَع مكسيمين. لستُ أدري بالضبط مَن يكون. لديَّ انطباع أنّه أحد الأقرباء الأقلّ ثراء، وقد استضافه أبناء ثيوفيلوس، أو أنّه وكيل أملاكهم الهامّة، إلّا أنّه يُعامَل معاملة الصديق لمزاياه وطول مدّة خدماته في البيت. أو أنّه ابن وكيل الأب الذي عَقبه في هذه المهمّة عند أبناء ثيوفيلوس. إنّه يَكبر لعازر قليلاً، إنّه في حوالي الخامسة والثلاثين، أو ربّما أكثر قليلاً؛ ويقول: «لم نكن نتوقّع أن نحظى بكَ بهذه السرعة.»

 

«أتيتُ أَطلُب مأوى لهذه الليلة.»

 

«لو أنّ ذلك يدوم أبداً لكان مِن دواعي سرورنا.»

 

إنّهم عند العَتَبَة. لعازر يُقَبِّل يسوع ويُعانِقه ويُحيّي التلاميذ. ثمّ يُحيط خصر يسوع بذراعه ويَدخُل معه الحديقة. يتنحّيان عن الآخرين ويَسأَل بَغتَة: «إلامَ يعود الفضل في فرحي برؤيتكَ؟»

 

«إلى حِقد جماعة السنهدرين.»

 

«هل أساؤوا إليكَ مرّة أخرى؟»

 

«لا، ولكنّهم يريدون ذلك. ولم تأتِ الساعة بعد، وطالما لم أَفلَح فلسطين كلّها وأَبذُر البِذار فلا ينبغي أن أُصرَع.»

 

«بل عليكَ بعدُ أن تحصد أيّها المعلّم الصالح. فَمِنَ العدل أن يكون هكذا.»

 

«الحَصاد، أصدقائي ينجزونه. سوف يُعمِلون الـمِنجَل حيث بَذَرتُ أنا. لعازر، لقد قرّرتُ الابتعاد عن أورشليم. أَعلَم أنّ هذا ليس في صالحي شخصيّاً، أعرف ذلك مُسبَقاً. ولكنّ هذا يعطيني فرصة التبشير، لعدم وجود حلول أخرى. ففي صهيون قد أبوا عليَّ حتّى هذا.»

 

«كنتُ قد أرسلتُ أقول لكَ مع نيقوديموس بأن تذهب إلى إحدى ممتلكاتي، فلا أحد يجرؤ على اقتحامها. وهناك يمكنكَ ممارسة الخدمة الكهنوتيّة دونما مَتاعِب. ويا لداري الأكثر سعادة مِن كلّ بيوتي، لأنّها تكون قد تقدَّسَت بوجودكَ، وذلك لأنّ أنفاسكَ تكون فيها. هَبني فرح أن أكون ذا نَفع يا معلّمي.»

 

«أنتَ ترى أنّني أُعطِيكَهُ الآن، إنّما لا يمكنني المكوث في أورشليم. لن أكون منـزعجاً، أنا، ولكنّهم سوف يُضايِقون الذين يأتون إليها. سأذهب مِن جهة أفرايم، بين هذه القرية ونهر الأردن. وهناك سوف أُبَشِّر وأُعَمِّد مثل المعمدان.»

 

«في جِوار هذه القرية أَملك بيتاً صغيراً. ولكنّه لخزن أدوات العمال، وهم ينامون فيه بين الحين والحين، أثناء الحصاد، أو أثناء قِطاف العنب. إنّه وَضيع، مجرّد سقف على جدران أربعة. ولكنّه على أرض لي، والجميع يعرف ذلك. وهذا سيكون فَزَّاعة للثعالب. وافِق يا ربّ. وسأُرسِل خدّاماً لتوضيبه...»

 

«لا داعي. إذا كان فلّاحوكَ ينامون فيه، فسيكون جيّداً بالنسبة لنا.»

 

«لن أضع فيه أثاثاً فاخراً. إنّما سأُكمل عدد الأَسِرّة، آه! فقيرة كما تريدها؛ سوف أُرسِل أغطية وكراسي وجِراراً وكؤوساً، فلن تبقوا دون أكل أو غطاء أثناء أشهر الشتاء هذه. دعني أفعل. ولستُ أنا مَن سيهتمّ. هي ذي مرثا قادمة إلينا. فهي تمتلك موهبة التنظيم العمليّة والذكيّة. لقد خُلِقَت للبيت، ولكي تكون العزاء المادّيّ والروحيّ لساكنيه. تعالي يا مُضيفتي اللطيفة والطاهرة! هل ترى، أنا أيضاً ألجأ إلى حمايتها الأموميّة، في حصّتها مِن الإرث... وهكذا لا أعاني كثيراً مِن افتقادي لأُمّي. مرثا، يسوع يمضي إلى سهل المياه الحلوة. ومِن مَحاسِن الصُّدَف أن ليس هناك سوى الأرض الزكيّة، والبيت، وهو مجرد حظيرة. ولكنّه هو يريد بيت فقراء. ينبغي أن يُوضَع فيه الضروريّ. أَعطي أوامركِ أنتِ أيّتها البارعة جدّاً!» ويُقَبِّل لعازر يد أخته الجميلة التي ترفعها بعدئذ لِتُلاطِفه بحبّ أُموميّ حقيقيّ.

 

ثمّ تقول مرثا: «سأذهب إليه حالاً. سآخذ معي مكسيمين ومارسيل، وسيُساعِد رجال العربة في الترتيب. باركني يا معلّم. وهكذا يكون معي بعض ما هو منكَ.»

 

«نعم يا مُضيفتي اللطيفة. سأناديكِ مثلما ناداكِ لعازر. سوف أمنحكِ قلبي لتحمليه معكِ، في قلبكِ.»

 

«هل تَعلَم يا معلّم أنّ إسحاق موجود في هذا الوقت مع إيليا في تلك الأرياف؟ لقد طلبا منّي ذاك المرعى الذي في الأسفل، في السهل، ليكونا معاً، وقد وافقتُ. اليوم يُغيّران المرعى، وأنا أنتظرهما على الطعام.»

 

«سأكون سعيداً لذلك، وسوف أعطيهما تعليماتي...»

 

«نعم، للمحافظة على التّواصُل. ولكنّكَ سوف تأتي بين الحين والآخر، أليس كذلك؟»

 

«سأعود. لقد تحدّثتُ بهذا الشأن مع سمعان. وبما أنّه مِن غير الفِطنة أن أَستَحوِذ على البيت مع التلاميذ، فسأذهب إلى بيت سمعان...»

 

«لا يا معلّم، لماذا تُسبّب لي الألم؟»

 

«لا تُحاوِل، يا لعازر، أَعلَم أنّ هذا حَسَن.»

 

«ولكن إذن...»

 

«ولكن إذن، سأظلّ دائماً ضمن نطاق أملاككَ. والذي ما يزال سمعان يَجهَله، أعرفه أنا. فَمَن هو ذاك الذي كان يريد الاقتناء دون الظهور، وبِلا مُفاوضة، فقط للبقاء قريباً مِن لعازر بيت عنيا؟ كان ابن ثيوفيلوس، الصديق الوفيّ لسمعان الغيور، والصديق العظيم ليسوع الناصريّ. والذي ضاعَفَ القيمة مِن أجل يونا، ولم يَقتَطِع مِن ممتلكات سمعان ليَمنح هذا الأخير فرح استطاعة فِعل الكثير مِن أجل المعلّم الفقير ومِن أجل فقراء المعلّم؟ إنّه مَن يحمل اسم لعازر. ذاك الذي، بِحَذَر وتَيَقُّظ، يضع مَوضِع التنفيذ، ويوجّه ويدعم المجهودات الطيّبة ليمنحني العون والعزاء وكذلك الحماية، إنّه لعازر بيت عنيا. أنا أعرف ذلك.»

 

«آه! لا تقل ذلك! كنتُ قد اعتقدتُ أنّني أَفعَل حسناً هكذا، وفي السرّ!»

 

«بالنسبة للناس هو سرّ. ولكن ليس بالنسبة لي أنا. فأنا أقرأ ما في القلوب. أتريد أن أقول لكَ لماذا الصَّلاح الذي اتَّخَذَ لديكَ الشكل الطبيعيّ يصطَبِغ بكمال فائق الطبيعة؟ ذلك لأنّكَ تطلب نعمة فائقة الطبيعة: إنّكَ تطلب الخلاص لِنَفْس، وفي الوقت ذاته التقديس لكَ ولمرثا. إنّكَ تُدرِك أنّه لا يكفي المرء أن يكون صالحاً حسب تفكير العالم، إنّما أن يكون صالحاً حسب شريعة الروح، لنيل نعمة الله. إنّكَ لم تَسمَع أقوالي، ولكنّني قُلتُ: "إذا ما فعلتم الخير فافعلوه في السرّ، والآب سيكافئكم بسخاء". وأنتَ قد تصرّفتَ بدافع طبيعيّ للتَّواضُع. والحقّ أقول لكَ إنّ الآب يهيّئ لكَ مكافأة لا يمكنكَ حتّى تَصَوّرها.»

 

«افتداء مريم؟...»

 

«بالضبط، وأكثر أكثر أيضاً.»

 

«ماذا إذن يا معلّم؟ ما هو الأكثر استحالة مِن هذه؟»

 

يَنظر إليه يسوع ويبتسم. ثمّ يقول بنغمة المزامير:

 

«يَملك الربّ ومعه قدّيسوه.

 

يَضفُر مِن أشعته إكليلاً يَضَعه على جبين قدّيسيه حيث يتلألأ إلى الأزل في عينيّ الله والعالم.

 

مِن أيّ معدن صُنِع، وبأيّة حجارة رُصِّع؟ مِن الذهب، والذهب الخالص، والإطار مصنوع فيه بنار مزدوجة، نار الحبّ الإلهيّ والحبّ البشريّ، وقد نُقِش بالإرادة التي تَطرُق، تَبرُد، تُشَذِّب وتُنعِّم.

 

الجواهر فيه وَافِرة، زمرّد أكثر اخضراراً مِن العشب الذي ينبت في نيسان (أبريل)، فيروز بلون السماء، عيون الهرّ بلون القمر، جمزات نقيّة مثل زهر البنفسج، يصب (يَشْب) وزفير وياقوت وزبرجد. هذه كلّها أحجار رُكِّبَت مِن أجل الحياة. وثمّ لإنجاز العمل، إطار مِن الياقوت الأحمر، إطار كبير على الجبين الممجَّد.

 

بما أن الذي نالَ البركة يمتلك الإيمان والرجاء، النعومة والعفاف، القناعة والشجاعة والعدل والفطنة والرحمة بلا قياس، وفي أعماق قلبه كَتَبَ بدمه اسمي والإيمان بي والحبّ الذي يكنّه لي، فاسمه سيكون في السماء.

 

ابتَهِجوا أيّها الصدّيقون بالربّ. الإنسان يَجهَل والله يرى.

 

إنّه يُسَجِّل في الكتب الأزليّة وُعودي وأعمالكم، ومعها أسماءكم، أمراء الدهر الآتي، المنتصرون الأزليّون مع مسيح الربّ.»

 

يَنظُر إليه لعازر مندهشاً. ثمّ يُتَمتِم: «آه!... أنا... لن أكون أهلاً...»

 

«هل تظنّ ذلك؟» ويَقطف يسوع مِن على الدرب غصناً طريّاً مِن الصفصاف المتدلّي ويقول: «انظر: كما أنّ يدي تَثني هذا الغصن بسهولة، كذلك الحبّ يثني روحكَ ويجعل منها إكليلاً أزليّاً. الحبّ هو مُفتَدي المرء. مَن يحبّ يبدأ افتداء نفسه، وابن الإنسان يُنجِزه.»