ج3 - ف66

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

66- (مَثَل الابن الضالّ)

 

30 / 06 / 1945

 

«يا يوحنّا الذي مِن عين دور، تعال هنا إليَّ. لديَّ ما أقوله لكَ.» يقول يسوع وهو يَظهَر على العَتَبَة.

 

يَهرَع الرجل تاركاً الصبيّ الذي كان في صدد تعليمه أمراً ما. «ما الذي تبغي قوله لي يا معلّم؟» يَسأَل.

 

«تعال معي إلى فوق.»

 

يَصعَدان إلى الشُّرفة ويَجلسان في الجهة الأكثر حماية، إذ رغم أنّ الوقت ما زال صباحاً، فإنّ الشمس حادّة. يَلتَفِت يسوع إلى الحقل المزروع حيث تأخذ الحبوب الصبغة الذهبية، باطّراد، يوماً إثر يوم، وحيث يكبر كذلك حجم الثمّار على الأشجار. يبدو أنّه يشاء أن يَتبَع بِفِكره ذلك التحوّل النباتيّ.

 

«اسمع يا يوحنّا. أظنُّ أنّ إسحاق سيأتي اليوم لِيَجلب لي فلّاحي جيوقانا قبل رحيلهم. لقد طَلَبتُ مِن لعازر إعارة عربة لإسحاق لتسريع عودتهم. فيجب ألّا يَخشوا تأخيراً قد يُسبّب لهم عقاباً. ولقد أعاره لعازر العربة، ذلك أنّه يَفعَل كلّ ما أطلبه منه. ولكنّني أريد منكَ أمراً آخر، فهنا لديَّ مبلغ مِن المال، أُعطِيَ لي مِن أجل فقراء الربّ. عادَة، أحد رُسُلي هو الـمُكلَّف بالحسابات وإعطاء الِهبات. عادة هو يهوذا الاسخريوطيّ، وأحياناً هُم الآخرون. ويهوذا ليس هنا. ولا أريد أن يَعلَم الآخرون ما أبغي فِعله. حتّى يهوذا، هذه المرّة، لا يعرف. فأنتَ مَن ستقوم بذلك، باسمي...»

 

«أنا يا ربّ؟... أنا؟... آه! لستُ أهلاً لذلك!...»

 

«ينبغي لكَ الاعتياد على العمل باسمي. ألم تأتِ مِن أجل ذلك؟»

 

«نعم، ولكنّني كنتُ أُفكِّر أنّ عليَّ العمل مِن أجل إعادة بناء نفسي المسكينة.»

 

«وأنا أُقدِّم لكَ الوسيلة لذلك. بماذا أنتَ أخطأتَ؟ ضدّ الرحمة والحبّ. فالبُغض حَطَّمَ نفسكَ. وبالحبّ والرحمة سوف تعيد بناءها، وأنا أمنحكَ اللَّوازم لذلك. سأُكلِّفكَ، بشكل خاصّ، بأفعال الرحمة والحبّ. فأنتَ أهل للرعاية، وأنتَ أهل للتحدّث. بذلك تكون قادراً على معالجة الأسقام الجسديّة والمعنويّة، ولديكَ القُدرة على فِعل ذلك. سوف تُباشِر هذا العمل. خُذ المبلغ، وسوف تعطيه لميخا وأصدقائه. اجعَلها حصصاً متساوية، ولكن افعل كما أقول لكَ. اجعَلها عشرة حصص، ثمّ تُعطي أربعة منها لميخا: حصة له وواحدة لكل مِن شاول ويوئيل وإشَعياء. والحصص الست الأخرى تعطيها لميخا ليعطيها بدوره لجدّ يَعْبيص ورفاقه. بذلك يمكنهم الحصول على عزاء.»

 

«حسناً. ولكن ما المبرّر الذي أقوله لهم؟»

 

«ستقول: "هذا كي تتذكَّروا أن تُصلّوا مِن أجل نَفْس تُفتَدى".»

 

«ولكن قد يُفكِّرون بأنّني أنا! وهذا ليس عدلاً!»

 

«لماذا؟ ألا تريد أن تُفتَدى؟»

 

«ليس عدلاً أن يُفَكِّروا أنّني المانِح.»

 

«لا عليكَ. وافعَل كما أقول لكَ.»

 

«سمعاً وطاعة... إنّما اسمَح لي على الأقلّ إضافة شيء إليها. على كل الأحوال... لَم أعُد الآن في حاجة إلى شيء. الكُتُب، لن أشتري منها بعد الآن. ولَم يعد لدي دجاج أُقدِّم له العَلَف. وأنا يكفيني القليل... خُذ يا معلّم، لَم أحتَفِظ سوى بالقليل مِن أجل شراء نَعلَين...» ويُخرِج قِطَعاً نقديّة كثيرة، مِن صُرّة كانت في حزامه، ويَضمّها إلى التي كانت مع يسوع.

 

«ليبارككَ الله مِن أجل رحمتكَ... يا يوحنّا، سوف نفترق قريباً، ذلك أنّكَ ستذهب مع إسحاق.»

 

«إنّني حزين يا معلّم، إنّما سمعاً وطاعة.»

 

«أنا أيضاً أتألّم لإبعادكَ، ولكنّني في أَمَسّ الحاجة إلى تلاميذ جَوَّالين. لَم أعد وحدي كافياً لذلكَ. وسوف أُرسِل رُسُلي قريباً، ثمّ أُرسِل التلاميذ. وستفعل حسناً جدّاً. إنّني أَحتَفِظ لكَ بمهامّ خاصّة. في انتظار ذلك ستُعدّ نفسكَ مع إسحاق، ثمّ أُرسِل التلاميذ. إنّه طيّب للغاية، وقد هَيَّأه روح الله خلال فترة مرضه الطويلة. وهو الرجل الذي غَفَرَ كلّ شيء على الدوام... عدا ذلك، فإنّ افتراقنا لا يعني عدم رؤيتنا لبعضنا. سوف نلتقي كثيراً، وفي كلّ مرّة نلتقي، سيكون لي حديث خاصّ معكَ. تذكّر هذا...»

 

ينحني يوحنّا، يُخفي وجهه بين يديه وهو يبكي ويئنّ: «آه! إذن قل لي حالاً شيئاً يُقنِعني بأنّني قد نلتُ الغفران... وأنّ بإمكاني خدمة الله... لو كنتَ تَعلَم، الآن وقد تَبدَّدَ دخان الحقد... وكم... كم أُفكِّر بالله!...»

 

«أَعلَم. لا تبكِ. استمرّ في التواضع، إنّما مِن دون أن تحطّ مِن قَدر نفسكَ. ذلك أن الحطّ مِن قَدر نفسكَ هو مِن قبيل الكبرياء كذلك. فليكن لديكَ فقط، فقط التواضع. هيّا بنا. لا تبكِ...»

 

يَهدَأ يوحنّا الذي مِن عين دور رويداً رويداً…

 

عندما يراه قد هَدَأَ، يقول يسوع: «هيّا. فلنذهب إلى تحت أوراق أشجار التفّاح، ولنجمع الرفاق والنساء. سوف أتحدّث إلى الجميع، ولكنّني سوف أقول لكَ كيف أنّ الله يحبّكَ.»

 

يَهبطان وهما يَجمَعان الآخرين حولهما، على التوالي، حتّى وَصَلوا جميعاً وجَلَسوا، على شكل دائرة، في ظلّ أشجار التفّاح. وينضمّ كذلك إلى المجموعة لعازر الذي كان يتحدّث إلى الغيور. إنّهم، في مجملهم، عشرون شخصاً.

 

«اسمَعوا. إنّه مَثَل جميل، سيقودكم بنوره في حالات كثيرة.

 

كان لِرَجُل ابنان. وكان البِكر رصيناً، مُحبّاً لعمله، عطوفاً ومطيعاً. وكان الثاني ذكيّاً أكثر مِن أخيه، الذي كان في الحقيقة محدود الذكاء قليلاً ويَنقاد لأنّه لَم يَكُن يتكلّف عناء اتّخاذ القرار بنفسه، ولكنّه كان بالمقابل طائشاً ومتمرّداً وملازماً الفُجور والمتعة ومُبَذِّراً وكسولاً. فالذكاء نعمة مِن الله عظيمة، ولكنّها نعمة ينبغي استخدامها بحكمة. وإلّا فهي مثل بعض الأدوية التي، إذا ما استُخدِمَت في غير محلّها، لا تُشفي، بل تَقتُل. وكان الأب يُمارِس حقّه وواجبه، مُذكِّراً إيّاه بأن يعيش بِتَعَقُّل أكثر، ولكن دون جدوى، سِوى تَلَقّي الإجابات الخبيثة، ورؤية ابنه يَتصَلَّب في أفكاره السيّئة.

 

أخيراً، ذات يوم، بعد مُشاجَرة أكثر حِدَّة، يقول الأصغر: "أَعطِني نصيبي مِن المال. وهكذا لن أَسمَع تأنيبكَ ولا شكاوى أخي. لكلّ نصيبه وينتهي كلّ شيء". "انتبه واحرَص". يقول الأب. "سَتُفلس عمّا قريب. فماذا ستفعل حينذاك؟ ضَع في حسبانكَ بأنَّه إن حَدَثَ ذلك فلن أكون غير مُنصِف بسببكَ، ولن آخذ أيّ شيء مِن حصة أخيكَ لأعطيكَ إيّاه".

 

"لن أطلب منكَ شيئاً. كُن مطمئنّاً. أَعطِني نَصيبي وحسب".

 

فَقَدَّر الأب قيمة الأرض والأشياء الثمّينة، وبعد أن تَبَيَّن له أنّ قيمة الأموال كانت تساوي قيمة الأراضي، فأعطى البِكر الحقول والكروم والقطعان والزيتون، والصغير الدراهم والحلي التي باعها في الحال ليُحوِّلها جميعها إلى سيولة نقديّة. وبعد بضعة أيام، مضى إلى بلد بعيد، حيث عاش كسيّد عظيم، مُبذِّراً ما كان يملكه على اللّهو مِن كلّ نوع، جاعِلاً مِن نفسه أميراً، ابن مَلِك، لأنّه كان يَخجَل مِن القول: "أنا قرويّ". ناكِراً كذلك أباه. وَلائِم وأصدقاء وصديقات وثياب وخمور وألعاب... حياة مُنحَلَّة خَليعة... ورأى مُدَّخراته تَنفق بسرعة كبيرة، ويَصِل حدّ البؤس. ومع البؤس يَثقل حِمله، إذ أصابت ذلك البلد مجاعة شديدة بَدَّدَت بقيّة ما لديه. فأراد الذهاب إلى أبيه، ولكنّه كان متكبّراً، فلم يشأ ذلك. حينذاك ذَهَبَ إلى رَجُل غنيّ مِن أهل ذلك البَلَد، كان صديقاً له أيّام البحبوحة، ورجاه قائلاً: "اجعَلني كأحد أُجرائِكَ، بحقّ ما وَفَّرتُه لكَ مِن الـمَنافِع". انظروا كم الإنسان أبله! إنّه يُفضِّل الخضوع لعبوديّة معلّم بَدَل اللّجوء إلى أبيه قائلاً: "اغفر لي! لقد أخطأتُ!" كان هذا الشاب قد تَعَلَّم أشياء تافهة، رغم كلّ ذكائه المتفتّح، ولكنّه لم يكن يشاء تَعَلُّم مقولة يشوع بن سيراخ: "كم هو مُعيب الذي يترك أباه، وكَم الله يَلعَن الذي يُعذِّب أُمّه!" لقد كان ذكيّاً ولكنّه لم يكن حكيماً.

 

والرَّجُل الذي قَصَدَهُ، مقابل كلّ ما حَصَلَ عليه مِن النَّفع على حساب الشاب الأحمق، جَعَلَ ذلك الأبله حارساً للخنازير. بالفِعل هو كان في بَلَد وثنيّ حيث الخنازير وفيرة. وأَرسَلَه يَرعى قُطعان الخنازير في حقوله. بدا وضيعاً وهو يَلبس الأسمال، وكان ذا رائحة كريهة وجائعاً -إذ إنّ الطعام كان يُعطى بحساب لكلّ الخُّدام، وخاصّة الأدنى مرتبة، وهو الغريب راعي الخنازير والمحتَقَر، فقد كان مِن ضمن تلك الفئة- وكان يَرى الخنازير تَشبَع مِن الخرنوب ويتحسّر: "لو أنّني أستطيع أن أملأ بطني مِن تلك الثَّمَرة! ولكنّها كثيرة المرارة! وحتّى الجوع ذاته لن يجعلني أستسيغها". وكان يبكي وهو يُفكِّر بولائم الـمُجون الباذخة التي كان يُقيمها قبل ذاك الوقت بقليل، وسط الضحك والغناء والرقص... ثمّ كان يُفكِّر بالوجبات الكافية والوافرة التي كانت في بيته البعيد، وما كان الأب يقدّمه للجميع وبغير حساب، غير مُحتَفِظ لنفسه إلّا بالحصّة الأصغر، سعيداً برؤية عافية وقابليّة وَلَديه... وكان يفكّر كذلك بما كان يُقدِّمه لخُدّامه، وكان يتحسّر: إنّ أُجَراء أبي، حتّى الأدنى مرتبة منهم، يَفضُل عنهم الخبز... وأنا هنا أَهلك جوعاً..."

 

أَعمَلَ الفِكر طويلاً، وصارَعَ كثيراً ليُحطِّم كبرياءه... أخيراً أتى اليوم الذي عاد فيه إلى التواضع والحكمة، فَنَهَض وقال: "أَمضي إلى أبي! فإنّ هذا الكبرياء ضَرب مِن البَلاهة يُبقيني أسيراً. وعَلامَ؟ لماذا أتألّم بالجسد، وبالقلب أكثر، بينما يمكنني الحصول على المسامحة والفَرَج؟ سوف أمضي إلى أبي. وماذا سأقول له؟ ولكن ها أنا ذا أَقبَع في هذه الحقارة وفي هذه القذارة. ويعضّني الجوع! سوف أقول له: ”يا أَبَتِ، إنّي خَطِئتُ إلى السماء وإليكَ، ولستُ أهلاً لأن أُدعى لكَ بعد ابناً؛ اجعَلني كأحد أُجرائِكَ، إنّما آوِني تحت سقفكَ. ولأَرَكَ تمرّ...“ لن أستطيع القول: “لأنّني أحبّكَ”. فلا يُصدِّق. ولكنّ حياتي ستقولها له، وهو يُدرِكها، وقبل أن يموت، سوف يباركني مرّة أخرى... آه! آمُل ذلك، لأنّ أبي يحبّني". ولدى عودته مساءً إلى البلدة، يستأذن معلّمه في إجازة، ويعود إلى بيته وهو يَتسوَّل طوال الطريق. هي ذي حقول أبيه... والبيت... والأب الذي يدير العمال، وقد أَصبَحَ عجوزاً، وهَزَلَ مِن الألم، إنّما ما زال طيّباً وصالحاً... والمخطئ، لدى رؤيته ذلك الأذى الذي سَبَّبَه، تَوَقَّف خَجِلاً... ولكن الأب، وبينما هو يَتلفَّت، رآه، وأَسرَعَ إليه، إذ كان ما يزال بعيداً. ولدى وصوله إليه، ألقى بذراعيه حول عُنقه وعانَقَه. كان الأب هو الوحيد الذي تَعَرَّف على ابنه في شكل الـمُتسوِّل الوضيع ذاك، وهو الوحيد الذي بادَرَه بِبَادِرة حُبّ.

 

والابن، وقد ضَمَّه بشدّة بين ذراعيه، يُلقي برأسه على كتف أبيه، ويُتمتِم وسط بكائه ودموعه: "أَبَتِ، اسمح لي أن أرتمي على قدميكَ". "لا يا بني! ليس على قدميَّ، بل على قلبي الذي تألَّمَ كثيراً لغيابكَ، وهو في حاجة إلى أن يعود إلى الحياة، شاعِراً بحرارتكَ على صدري". والابن، وقد اشتدَّ بكاؤه، يقول له: "آه! يا أبتِ!  لقد خَطِئتُ إلى السماء وإليكَ، ولستُ أهلاً لأن أُدعى بعد لكَ ابناً، ولكن اسمح لي أن أعيش وسط غُلمانكَ، تحت سقفكَ، لكي أراكَ وآكُل خبزكَ وأَخدمكَ وأَنهَل مِن تَنَفُّسكَ. وبكلّ لقمة خبز، وبكلّ نَفَس مِن أنفاسكَ يَصطَلِح قلبي الـمُفسَد كثيراً ويصبح نزيهاً..."

 

ولكنّ الأب الذي ما زال يُعانِقه، يأخذه إلى خُدّامه الذين كانوا قد تَجَمهروا عن بُعد وكانوا يُراقِبون، ويقول لهم: "أَسرِعوا، هاتوا أجمل ثوب وأواني مياه مُعَطَّرَة وحَمِّموه وعَطّرِوه وأَلبِسوه واجعَلوا في قدميه نَعلَين جديدين وفي إصبعه خاتماً. وآتوا بالعِجل المسمَّن واذبَحوه، ولِتُعَدَّ الوليمة، لأنّ ابني كان ميتاً فعاش وكان ضالّاً فوُجِد. أريد أن يستعيد هو كذلك مجرّد حبّه كابن صغير. يجب أن أَهِبه حبّي وأن يحتفل البيت بعودته. ينبغي له أن يُدرِك أنّه ما زال بالنسبة إليَّ الابن الأصغر، كما كان في طفولته البعيدة، عندما كان يسير إلى جانبي مُوَفِّراً لي السعادة بابتسامته ومُناغاته". ونَفَّذ الخُدّام كلّ ذلك.

 

وكان الابن الأكبر في الحقل، ولم يَدرِ بشيء حتّى عودته. ففي المساء، وبينما هو عائد إلى البيت، رآه مُشَعشِعاً، وسَمِعَ صوت الآلات الموسيقيّة وصَخَب الرقص آتيين مِن الداخل. فَدَعا أحد الغلمان الذي كان يَجري مُنهَمِكاً، وقال له: "ما الخَبَر؟" فأجابه الغلام: "لقد عاد أخوكَ! وذَبَحَ له أبوكَ العِجل المسمَّن، لأنّه لَقِيَ ابنه سالماً، مُعافى مِن مَرَضه العظيم. وقد أَمَر بإعداد الوليمة. ونحن لا ننتظر غيركَ للبدء". ولكنّ الابن الأكبر غَضِبَ، لأنّه كان يبدو له الاحتفال بالابن الأصغر إلى هذا الحدّ ظلماً. فهو علاوة على كونه الأصغر، كان سيّئاً. وأَبَى الدخول، بل كان مُزمِعاً على الابتعاد عن البيت.

 

ولكن الأب، ما أن أُعلِم بالأمر حتّى خَرَجَ إليه مسرعاً، مُحاولاً إقناعه وراجياً إيّاه عدم تعكير صَفو فرحته. فأجاب الابن الأكبر أباه: "أوَتريدني ألّا أغضب؟ وأنتَ ظالِم ومُحتَقِر ابنكَ البِكر. فأنا أخدمكَ مُذ أصبَحتُ قادراً على العمل، أي منذ سنوات طويلة. ولَم أعصَ لكَ أمراً، ولا أهملتُ رغباتكَ. لقد مَكَثتُ إلى جواركَ على الدوام، وأحببتكَ حبّاً مضاعفاً، كي يَبرأ جرحكَ الذي سَبَّبَه لكَ أخي. وما أعطَيتَني يوماً جَدياً أتنعّم به مع أصدقائي. وهو مَن تَرَكَكَ وأساء إليكَ، ومَن كان كسولاً ومُبذِّراً، وقد عاد يَدفَعه الجوع، فتُكَرِّمه أنتَ وتَذبَح له العِجل المسمّن. وبذلك، هل تحسب أنّه يَجدُر بعد أن يكون المرء محبّاً للعمل وبغير رذيلة؟ ما كان ينبغي لكَ أن تفعل ذلك!" فقال له أبوه آنذاك، بعد أن ضَمَّه بشدّة إلى صدره: "آه! يا بنيّ! أَوَيمكنكَ الاعتقاد بأنّني لا أحبّكَ لأنّني لا أَنشُر وِشاح الاحتفال على أفعالكَ؟ إنّ أفعالكَ مقدَّسة بذاتها، والعالم يمجّدكَ بسببها، ولكنّ أخاكَ، على العكس، يحتاج إلى أن نُعيد له الاعتبار، في احترام العالم له وفي احترامه لنفسه. هل تظنّ أنّني لا أحبّكَ لأنّني لا أعطيكَ مكافأة ملحوظة؟ ولكنّكَ حاضِر في قلبي صُبحاً وعَشيّة، وفي كلّ نَفَس مِن أنفاسي وفِكر مِن أفكاري، وفي كلّ لحظة أبارككَ. فأنتَ لديكَ المكافأة المستمرّة بأنّكَ معي على الدوام، وكلّ ما هو لي هو لكَ. إنّما وَجَبَ علينا أن نُقيم الوليمة ونَنعَم ونَفرَح بأخيكَ الذي كان ميتاً فعاش في الخير، وكان ضالّاً فعاد إلى حبّنا". ولاقتناعه بتلك الأسباب دَخَلَ الابن البِكر.

 

هذا ما يَحدُث، يا أصدقائي في بيت الآب. ومَن يعتبر نفسه في موقع الابن الأصغر في الـمَثَل، فليُفكِّر كذلك أنّه لو اقتدى به في العودة إلى الآب، فالآب يقول له: "ليس على قدميَّ، بَل على قلبي الذي تألَّمَ لغيابكَ، وهو الآن سعيد لعودتكَ". ومَن يَجِد نفسه في موقع الابن الأكبر وبلا خطيئة تجاه الآب، فلا يكن حسوداً مِن الفَرَح الأبويّ، بل إنّما فليشاركه في ذلك بمنحه حبّه لأخيه الـمُفتَدَى.

 

ابقَ أنتَ يا يوحنّا الذي مِن عين دور، وأنتَ يا لعازر، وليَذهَب الآخرون لإعداد الطاولات. سنأتي قريباً.»

 

يَنسَحِب الجميع. وعندما يبقى يسوع ولعازر ويوحنّا وحدهم، يقول يسوع للعازر ويوحنّا: «هكذا سيكون بالنسبة إلى النَّفْس العزيزة التي تنتظر يا لعازر، وكذلك بالنسبة إلى نفسكَ يا يوحنّا، فصلاح الله يتجاوز كلّ قياس.»…

 

...يَذهَب الرُّسُل برفقة الأُمّ والنساء، يسبقهم مارغزيام الذي يَقفِز وهو يجري أمامهم. ولكنّه يعود مسرعاً ويمسك بيد مريم ويقول لها: «تعالي معي. ينبغي لي أن أقول لكِ شيئاً على انفراد.» وتُسايرِه مريم. يعودان إلى البئر الكائنة في إحدى زوايا الدار الصغيرة، وهو مغطّى بتعريشة كثيفة تَبلُغ السطح مِن الأرض، مُشَكِّلة قوساً. وخلفها يَقبَع الاسخريوطيّ.

 

«يهوذا، ماذا تريد؟ اذهب أنتَ يا مارغزيام... قُل ماذا تريد؟»

 

«لقد ارتكبتُ خطأً... ولستُ أجرؤ على الذهاب إلى المعلّم ولا مقابلة الرفاق... فساعِدِيني...»

 

«سأساعدكَ. ولكن ألا تُفكِّر بالألم الذي تُسبِّبه؟ فلقد بكى ابني بسببكَ، وتألَّمَ الرفاق لذلك. ولكن تعال. فلن يقول لكَ أحد شيئاً. وإن استطعتَ فلا تَعُد تَرتَكِب تلك الأخطاء. إنّها لا تليق برجل، وهذا انتهاك لحُرمة كلمة الله.»

 

«وأنتِ أيّتها الأُمّ هل تسامحينني؟»

 

«أنا؟ لا أُعَدّ شيئاً أمامكَ، أنتَ الذي تَعتَبِر نفسكَ عظيماً جدّاً. فأنا الأصغر بين خادمات الربّ. فكيف يمكنكَ أن تَشغل بالكَ بي إذا لم تَرحَم ابني؟»

 

«هذا لأنّ لي أُمّاً كذلك. وإذا حزتُ على مسامحتكِ، يبدو لي أنّني سوف أحصل على مسامَحَتها هي.»

 

«هي ليست على عِلم بهذه الخطيئة.»

 

«ولكنّها كانت قد جَعَلَتني أُقسِم على أن أكون صالحاً مع المعلّم. ولقد حَنَثتُ بالقَسَم. وأُحِسُّ بملامة نَفْس أُمّي.»

 

«أَتُحِسّ بها؟ وحُزن وملامة الآب وكَلِمَته ألا تُحِسّ بهما؟ إنّكَ تَعيس يا يهوذا! فأنتَ تَزرَع الألم فيكَ وفيمن يحبّونكَ.»

 

مريم صَارِمة جدّاً وحزينة. تتحدّث دون مرارة، إنّما بكثير مِن الصَّرامة. يهوذا يبكي.

 

«لا تبكِ. بَل عليكَ أن تُصبح أفضل. تعال.» وتأخذه مِن يده وتَدخُل هكذا إلى المطبخ. مِمّا سَبَّبَ للجميع ذهولاً هائلاً. ولكنّ مريم تُحَذِّر مِن أي خروج عن المحبّة وتقول: «يهوذا عاد. تَصَرَّفوا كالابن البِكر بَعد حِواره مع الأب. اذهب يا يوحنّا وأَنبِئ يسوع.»

 

يمضي يوحنّا بن زَبْدي مسرعاً. ويُخيِّم الصمت على المطبخ... ثمّ يقول يهوذا: «سامحوني. وأنتَ في رأس القائمة يا سمعان. فإنّ لديكَ قلباً أبوياً للغاية. وأنا كذلك يتيم.»

 

«نعم، نعم، أسامحكَ. أرجوكَ لا تَعُد تتحدّث بالأمر. نحن إخوة... أمّا نِشدان الغُفران ومُعاوَدَة الزَّلَل فلا يروق لي. فذلك مِن قبيل الدناءة لِمَن يتلقَّاها ومَن يَمنَحها. ها هو ذا يسوع. امضِ إليه وهذا يكفي.»

 

يمضي يهوذا إليه بينما بطرس، وهو غير قادر على فِعل شيء آخر، يَشرَع بتكسير الحطب الجافّ بِحَميّة.