ج4 - ف131
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع
{تابع السنة الثانية في الحياة العلنية}
الكتاب الثاني / القسم الثاني
131- (الحبّ هو سرّ ووصيّة المجد السماويّ)
01 / 09 / 1945
يَخرُج يسوع، بصحبة مَنَاين، مِن بيت الأرملة وهو يقول: «السلام لكِ ولأولادكِ. سوف نلتقي مجدّداً بعد السبت. وداعاً يا يوسف الصغير، غداً استرح والعب، وبعد ذلك سوف تُساعِدني. لماذا تبكي؟»
«أخشى ألّا تعود...»
«أنا أقول الحقيقة دائماً. ولكن هل يزعجكَ رحيلي كثيراً؟»
ويُشير الوَلَد برأسه أن نعم.
يُلاطِفه يسوع ويقول: «يوم واحد يَمضي بسرعة. غداً تبقى مع أُمّكَ وإخوتكَ. وأنا أبقى مع رُسُلي وأتحدّث إليهم. لقد حدّثتُكَ خلال هذه الأيام لأعلّمكَ كيفيّة العمل. والآن أمضي لملاقاتهم لأجل تلقينهم التبشير وأن يكونوا صالحين. لن يكون وجودكَ معي مسليّاً لكَ، لأنّكَ ستكون الوَلَد الوحيد وسط رجال كثيرين.»
«آه! بل أكون على ما يرام لأنّني سأكون معكَ.»
«فهمتُ. يا امرأة! ابنكِ يَفعل مِثل كثيرين، وهُم الأفضل. لا يريد أن يتركني. هل تثقين بي فتتركينه معي حتّى بعد غد؟»
«آه! سيّدي! بل أمنحكَ إيّاهم جميعاً! فمعكَ يكونون في أمان كما في السماء... وهذا الصبيّ الذي كان الأكثر مكوثاً مع أبيه، قد تألّمَ كثيراً. والآن وَجَدَ نفسه... أترى؟... إنّه لا يفعل غير البكاء والسَّقَم. لا تبكِ يا بنيّ. اسأل السيّد عن صحّة ما أقول. يا معلّم، مِن أجل مؤاساته، أنا أقول له على الدوام إنّ أباه لم يُفقَد، بل هو قد ذَهَبَ بشكل مؤقّت بعيداً عنّا.»
«إنّها الحقيقة. بالضبط كما تقول لكَ أُمّكَ، يا يوسف الصغير.»
«ولكنّني لن ألتقي به حتّى أموت. وأنا صغير. وإذا ما أصبحتُ عجوزاً كما كان إسحاق، فكم ينبغي لي أن أنتظر؟»
«يا لكَ مِن وَلَد مسكين! ولكنّ الزمن يمرّ بسرعة.»
«لا يا سيّدي. ها إنّ أسابيع ثلاثة قد مَرَّت وأنا بدون أب، وهذا يبدو لي طويلاً جدّاً، طويلاً جدّاً!... أنا لا يمكنني الاستغناء عنه...» ويبكي دون صوت، إنّما بألم عميق.
«أتراه؟ إنّه دائماً هكذا. خاصّة عندما لا يكون مأخوذاً بأمر يسـتهويه. السبت هَمّ. أخشى خلاله عليه أن يموت...»
«لا. لديَّ صبي آخر دون أب ودون أُمّ. كان نحيلاً وحزيناً. وهو الآن لدى امرأة طيّبة مِن بيت صيدا، مطمئنّاً إنّه لن يَنفَصِل عن أهله، وقد عاد لينتعش جسـداً وروحاً. هكذا سيكون الأمر بالنسبة لوَلَدكِ، وبسبب ما سوف أقوله له، ولأنّ الزَّمن طبيب عظيم، وكذلك هو سيكون مطمئنّاً لأنّه سَيَراكِ أكثر اطمئناناً مِن جهة القُوت اليوميّ. وداعاً يا امرأة. الشمس تصبح أكثر سطوعاً وعليَّ الذهاب. تعال يا يوسف. أَلقِ التحيّة على أُمّكَ وإخوتكَ والجدّة والحق بي راكضاً.»
ويَمضي يسوع.
«والآن ماذا ستقول للرُّسُل؟»
«لديَّ تلميذ عتيق وتلميذ جديد.»
يَجتَازان قورازين التي تعجّ بالناس. يستوقف يسوع جَمع مِن الرجال: «هل تمضي؟ ألن تبقى لقضاء السبت؟»
«لا. فأنا ذاهب إلى كفرناحوم.»
«دون كلمة طوال الأسبوع. أفلا نستحقّ سماع كلامكَ؟»
«ألم أمنحكم طوال الأيام الستّة أفضل كلمة؟»
«متى؟ ولِمَن؟»
«للجميع. مِن مَشغل النّجارة. طوال أيّام كنتُ أَكرز بوجوب محبّة القريب ومساعدته بشتّى السُّبُل، خاصّة عندما يكون ضعيفاً، كما هي حال الأرامل والأيتام. وداعاً يا أهالي قورازين. تأمّلوا خلال السبت بالعِبرة التي قدّمتُها لكم.» ويُعاوِد يسوع السير، تاركاً الأهالي منذهلين.
ولكنّ الصبيّ الذي لحق بيسوع وهو يركض يُوقِظ فضولهم، فيقولون ليسوع الذي يستوقِفونه مجدّداً: «أتأخذ ابن الأرملة؟ لماذا؟»
«لأعلّمه أنّ الله أب، أنّه سَيَجِد في الله الأب المفقود. وكذلك أنّه يوجد هنا مَن يؤمن بدل إسحاق العجوز.»
«وَسط تلاميذكَ ثلاثة مِن قورازين.»
«مع تلاميذي، وليس هنا. هذا سيكون هنا. وداعاً.» ويُمسِك بالصبيّ جاعلاً إيّاه بينه وبين مَنَاين.
يَصِلون كفرناحوم التي كان التلاميذ قد وَصَلوها قبلهم. وهُم إذ يَجلسون على الشُّرفة، في ظلّ التعريشة، حول متّى، يَقصّون على رفيقهم الذي لم يَبرأ بعد، ما قد فَعَلوه. ولدى سماعهم وَقع أقدام خفيف على السلّم، يلتفتون لِيَروا رأس يسوع الأشقر يَبرُز تدريجيّاً خلف جدار الشُّرفة. يَهرَعون إليه وهو يبتسم... ويتسمَّرون في مكانهم لدى رؤيتهم خلف يسوع صبيّاً مسكيناً. يَصعَد مَنَاين كذلك، وهو يبدو رائعاً بثوبه الكتّاني الأبيض الذي يُبرِز بهاء حزامه النَّفيس، ومعطفه الأحمر الناريّ مِن الكتّان المصبوغ، الذي يلمع لدرجة تَحسَـبه معها مِن الحرير، بالكاد مثبّت على الكتفين ليجرّ خلفه غطاء رأسه الذي يثبّته تاج ناعم مِن الذهب، نَصل منقوش يحيط بجبهته العريضة مِن منتصفها، مُضفياً عليه بشكل ما هيئة مَلِك مصريّ. حضوره أَوقَفَ سيلاً من الأسئلة تُعبِّر عنها العيون بشكل واضح.
ولكن، بعد التحيّات المتبادلة والجلوس إلى جانب يسوع، يَسأَل الرُّسُل: «وهو؟» وهُم يُشيرون إلى الطفل.
«إنّه مَغنَمي الأخير: يوسف الصغير، نجّار مثل يوسف الكبير الذي كان لي بمثابة الأب. فهو عزيز عليَّ جدّاً، كما أنا عزيز عليه جدّاً. أليس كذلك أيّها الصبيّ؟ تعال هنا، لأعرّفكَ على أصدقائي الذين سَمِعتَ عنهم كلاماً كثيراً. هذا هو سمعان بطرس: أفضل رجل بالنسبة للأطفال الموجودين. وهذا هو يوحنّا: طِفل كبير يُحدِّثكَ عن الله حتّى وهو يَلعب. وهذا الآخر هو يعقوب أخوه، جادّ وصالح كأنّه أَخ بِكر. وذاك هو أندراوس أخو سمعان بطرس: سوف تتفاهم معه على الفور لأنّه وديع كالحَمَل. وثمّ ها هو سمعان الغيور: إنّه يحب الأطفال فاقِدي الأب لدرجة أنّني أخاله يَدور حول العالم بحثاً عنهم، لو لم يكن معي. ثمّ ها هوذا يهوذا بن سمعان ومعه فليبّس من بيت صيدا ونثنائيل. أترى كيف يَنظُرون إليكَ؟ لديهم أولاد، هُم كذلك، ويُحبّون الأولاد. وهذان الاثنان هما أَخَواي، يعقوب ويوضاس: إنّهما يحبّان كلّ ما أُحِبّ، وبالتالي فسيحبّانكَ. أمّا الآن فهيّا بنا نذهب إلى متّى الذي يتألّم مِن قدمه ومع ذلك فهو لا يحقد ولا يكره الذين، بِلعبهم الأرعن، أصابوه بِحصاة ذات رأس. أليس كذلك يا متّى؟»
«آه! لا، يا معلّم. أهو ابن الأرملة؟»
« نعم. إنّه شجاع جدّاً، ولكنّه بقي حزيناً جدّاً.»
«آه! يا للولد المسكين! سوف أنادي "جاكو" وسوف تلعب معه.» ويداعبه متّى ساحباً إيّاه بيده إلى جانبه.
يُنهِي يسوع التعارف بتوما الذي، كرجل عمليّ، يُتِمّه بأن يُقدِّم للصغير عنقود عنب يقطفه مِن التعريشة.
«الآن أنتم أصدقاء.» يَختَتِم يسوع وهو يُعاوِد الجلوس، بينما يأكل الصبيّ العنب وهو يُجيب على أسئلة متّى الذي أبقاه إلى جانبه.
«ولكن أين بقيتَ وحيداً طوال الأسبوع؟»
«في قورازين، يا سمعان بن يونا.»
«هذا أعرفه. ولكن ماذا فعلتَ هناك؟ هل ذهبتَ إلى إسحاق؟»
«إسحاق الكبير قد مات.»
«وإذن؟»
«أما قال لكَ متّى؟»
«لا. بل قال فقط إنّكَ كنتَ في قورازين منذ اليوم التالي لرحيلنا.»
«متّى أَقدَر منكَ. إنّه يعرف أن يصمت، وأنتَ لا تعرف كبح فضولكَ.»
«ليس فضولي أنا، بل هو فضول الجميع.»
«لقد ذهبتُ إلى قورازين لِأُبشّر بالمحبّة بالفِعل.»
«المحبّة بالفِعل؟ ما الذي ترمي إليه؟» يَسأَل البعض.
«في قورازين أرملة لها خمسة أولاد، ولديها عجوز مريضة. مات الرجل فجأة قرب مَشغله، مُخلّفاً وراءه البؤس وأعمالاً لم تَكتَمِل. لم تَعرِف قورازين إيجاد ولو القليل مِن الرحمة تجاه هذه العائلة البائسة. فمضيتُ لإتمام الأعمال و...»
حَصَلَت جَلَبَة. فهناك مَن يَسأَل، وهناك مَن يحتجّ، وهناك مَن يَنهَر متّى لسماحه بذلك، وهناك مَن يُقدِّر، وهناك مَن يَنتَقِد. على كلّ حال فالـمُنتَقِدون والمحتجّون هُم الأكثريّة.
يَترك يسوع العاصفة تهدأ كما تَشكَّلَت ويقول مُجيباً: «سأعود بعد غد وسأفعل كذلك حتّى أُنهي العمل. وآمُل أن تُدرِكوا أنتم على الأقلّ. فإنّ قورازين نواة كثيفة وخالية مِن البُذور. فلتكونوا، أنتم على الأقلّ، نوى فيها بذور. أنتَ، أيّها الصبيّ، أعطني الجوزة التي أعطاكَ إيّاها سمعان، واستمع إليَّ أنتَ كذلك.
هل تَرَون ثمرّة الجوز هذه؟ إنّني أَعتَمِدها لأنّ لا نوى غيرها في مُتناول يدي، ولكن، لكي تَفهَموا الـمَثَل، تخيّلوا نوى الصنوبر أو التمر، الأكثر صلابة، أو نوى الزيتون مثلاً. إنّها أغلِفة مُغلَقَة، بِلا شقّ، قاسية جدّاً، مِن خشب كثيف. تبدو كَعُلَب حليّ سحريّة لا يمكن فتحها بغير العنف. ومع ذلك فلو تَصادَف وَضع إحداها في الأرض، مجرّد وضعها على الأرض، ومَرَّ فوقها أحد العابرين فَغَرَسها في العمق، تماماً بالقَدر الكافي لزرعها في الأرض، فماذا يجري؟ تَفتَح العُلبة وتُنتِج جذوراً وأوراقاً. كيف يمكنها ذلك بذاتها؟ نحن، علينا الضرب قويّاً بالمطرقة لننجح في ذلك، والنواة، بالعكس تَفتَح وحدها. هل هذا البذار سحريّ إذن؟ لا. ففي داخله لُبّ. آه! شيء ضعيف، بالمقارنة مع القِشرة القاسية! ومع ذلك تُغذّي شيئاً أكثر صُغراً: البُذيرة، وهذه تكون الركيزة، فتَثقُب وتَفتَح وتُعطي نبتة ذات جذور وأوراق. حاوِلوا وضع نوى في الأرض، ثمّ انتظروا. وسترون أن البعض ينمو والبعض الآخر لا. أخرِجوا نواتين لم تَنمُوا. افتحوهما بالمطرقة، وسترون إنّهما مِن البِذار الفارغة. فليسـت إذن رطوبة الأرض والحرارة هما اللذان يَفتَحان النواة، لكنّه اللبّ أو بالأحرى روح اللبّ: البذيرة التي، بانتفاخها، تفعل فعل العَتَلَة وتَفتَح.
إنّه الـمَثَل، ولكن فلنطبقه علينا.
ماذا فعلتُ ممّا لم يكن عليَّ فِعله؟ ونحن ألم نفهم أنفسنا بعد جيّداً، حتّى لا نُدرِك أنّ الرياء خطيئة، وأنّ الكلام ليس سوى ريح، إن لم يستمدّ القوّة مِن الفِعل؟ ما الذي قُلتُه لكم مراراً وتكراراً أنا؟ "أحبّوا بعضكم بعضاً. فالحبّ هو وصيّة وسرّ المجد السماويّ". وأنا، الذي يُبشِّر، هل ينبغي لي أن أكون بغير محبّة؟ أم أعطيكم مَثَل المعلّم الكذّاب؟ لا، أبداً!
آه! يا أصدقائي. إنّ جسدنا هو النواة القاسية. هذه النواة القاسية تَنغَلِق على اللبّ: النَّفْس، وفيها توجد البُذيرة الوديعة، وهي مؤلّفة مِن عناصر متعدّدة، إنّما العنصر الأساسيّ: المحبّة. فهي التي تفعل فِعل العتلة لِتَفتح النواة وتُحرّر الروح مِن قيود المادّة بالاتّحاد بالله الذي هو محبّة. والمحبّة لا تَقوم على الكلام أو المال (الصَّدَقة). المحبّة تقوم على المحبّة ولا شيء سواها. ولا يكن ذلك مما يبدو لكم أنّه تلاعب ألفاظ. فأنا لم يكن لديَّ مال، والكلام لم يكن ليكفي في تلك الحالة. كان هنا سبعة أشخاص على حافّة الجوع والضّيق. واليأس يُنشِـب مخالبه السوداء للاستيلاء عليهم وإغراقهم. العالم كان يبتعد أمام ذلك البؤس بقسوة وأنانيّة. كان يبدو لي أنّ العالم لم يكن يُدرِك كلام المعلّم. فَبَشَّر المعلّم بواسطة الأفعال. كانت لديَّ إمكانيّة وحرّيّة الفِعل. وكان عليَّ واجب الحبّ، مِن أجل الجميع، مِن أجل أولئك الصغار الذين تَرَكَهم العالم بغير حبّ. هذا كلّه فَعلتُه. هل يمكنكم الاستمرار في انتقادي؟ أو بالأحرى، هل ينبغي لي -بوجود تلميذ لم يشكّ، وقد جاء وسط النشارة وشظايا الخشب لكي لا يترك المعلّم، وهو، وأنا متيقّن مِن ذلك، سوف يتعلّق بي، لدى رؤيته إيّاي منكبّاً على الخشب، أكثر مما لو رآني على عرش؛ وبوجود صبيّ عَرفني على ما أنا عليه، رغم جَهله، والأسى الذي يُنهِكه، ومعرفته البدائيّة جدّاً لـمَسيّا، كما هو في حقيقته، هل ينبغي لي أنا أن أنتقدكم؟
ألا تتكلّمون؟ لا تكتفوا بالتَّصاغُر حينما أرفع الصوت لِأُقوّم الأفكار الخاطئة. فأنا إنّما أفعل ذلك بدافع الحبّ. بل ضَعوا فيكم البُذيرة التي تُقدِّس وتَفتَح النواة. أو إنّكم ستظلّون كائنات لا جدوى منها ولا نفع. ما قمتُ به، عليكم أن تكونوا على استعداد لأن تَفعلوه. مِن أجل حُبّ القريب، ولِتَقودوا نَفْساً إلى الله، ينبغي ألّا يُثقِل عليكم أيّ عمل. فالعمل، مهما يكن، لا يدعو إلى الذلّ أبداً، بل مُخزية هي الأفعال الدنيئة والرياء والبلاغات الكاذبة وقسوة القلوب والظلم والربى والافتراءات والفجور. فذاك هو الذي يَذلّ الإنسان. ومع ذلك يفعله الإنسان دون خَجَل، خاصّة أولئك الذين يَدَّعون الكمال والذين، بكلّ تأكيد، صُدِموا لرؤيتهم إيّاي أعمل بالمنشار والمطرقة. آه! آه! المطرقة! المطرقة التي لا قيمة لها، لو استُخدِمَت لغرس المسامير في الخشب مِن أجل صُنع شيء يوفّر الطعام لليتامى، كم تصبح نبيلة! المطرقة غير النبيلة، لو كانت في يدي مِن أجل غاية مقدّسة، فهي لا تعود كذلك، وكم يريد الحصول عليها أولئك الذين يَصرُخون الآن بسببها: يا للفضيحة!
آه! أيّها الإنسان الذي ينبغي لكَ أن تكون نوراً وحقّاً، كم أنتَ ظلام ونِفاق! إنّما أنتم، أنتم على الأقلّ، أَدرِكوا ما هو الخير، ما هي المحبّة، وما هي الطاعة! الحقّ أقول لكم: كثيرون هم الفرّيسيّون، وهم موجودون وسط الذين يحيطون بي.»
«لا يا معلّم. لا تقل هذا! فنحن... لأنّنا نحبّكَ لا نريد بعض الأشياء!...»
«هذا لأنّكم لم تَفهَموا شيئاً بعد. لقد حَدَّثتُكم عن الإيمان والرجاء، وكنتُ أعتقد أنّ لا حاجة بعد لكلام جديد أحدّثكم به عن المحبّة، لأنّني أُطلِقها لدرجة أنّه ينبغي أن تكونوا قد أُشـبِعتم بها. ولكنّني أرى أنّكم لا تَعرفون منها إلّا الاسـم، دون معرفة طبيعتها وشكلها. بالطريقة ذاتها التي تَعرفون بها القمر.
هَل تَذكُرون يوم قُلتُ لكم إنّ الرجاء كالذراع المعترِضة للنّير اللطيف الذي يدعم الإيمان والمحبّة، وإنّه مِشنقة الإنسانية وعَرش الخلاص؟ نعم؟ ولكنّكم لم تُدرِكوا معنى كلامي. ولماذا لم تَطلبوا منّي شرحاً له؟ أنا أُقدِّم لكم هذا الشرح. إنّه نِير، لأنّه يُكرِه الإنسان على خفض كبريائه الأحمق تحت ثِقل الحقائق الأزليّة، وهو مِشنَقة الكبرياء. فالإنسان الذي يرجو الله ربّه، يَضع بالضرورة كبرياءه الذي يُريد إعلان ذاته "إلهاً"، ويَعلَم أنّه لا شيء، وأنّ الله كلّ شيء، وأنّه لا يستطيع عَمَل شيء، وأنّ الله يستطيع كلّ شيء، وأنّه، هو الإنسان، غُبار عابر، وأنّ الله خلود يرفع الغبار إلى درجة أسمى، بمنحه إيّاه الأبديّة كمكافأة. يتسمّر الإنسان على صليبه المقدّس ليلقى الحياة ويجد نفسه مُسمَّراً بِشُعلات الإيمان والمحبّة، ولكنّه يسمو إلى السـماء بالرجاء الذي بينهما. إنّما احفظوا هذه العِبرة: إذا المحبّة ارتَكَبَت خطيئة، يُصبِح العرش بغير نور، والجسد، وقد أُفلِت المسمار من جهة، يميل صوب الحمأة، لأنّه لا يعود يرى السماء. إنّه يلغي بذلك تأثيرات الرجاء الخلاصيّة، وينتهي بأن يجعل الإيمان عقيماً بذاته، لأنّه إذ يُفلِت مِن اثنتين مِن الفضائل اللاهوتيّة الثلاث، يَقع في الفتور وفي برودة مميتة.
لا تَستَبعِدوا الله، حتّى في الأمور الأكثر صُغراً، ورفض مساعدة القريب بسبب كبرياء وثنيّ هو استبعاد لله.
مَذهبي نِير يَلوي الإنسانيّة الخاطئة، وهو مطرقة تُحطِّم القشرة الصلبة لِتُحرِّر الروح منها. إنّه نِير ومِطرقة، نعم. ومع ذلك فمن يَقبَله لا يَشعُر بالإعياء الناجم عن المذاهب الإنسانيّة الأخرى وكلّ الأمور الإنسانيّة الأخرى. ولكن مع ذلك فَمَن يَدَع نفسه يتلقّى ضرباته، لا يشعر بألم تحطّم الأنا البشـريّة فيه، ولكنّه يَختَبِر إحسـاس التحرّر. فلماذا تَعمَلون على الانعتاق منه لاستبداله بكلّ ما هو رصاص وألم؟ كلّكم لديكم آلامكم ومتاعبكم. لدى البشريّة كلّها آلام ومتاعب تفوق أحياناً القُدرات البشريّة. مِن الطفولة، مِثل هذا الذي بات يَحمِل على كاهليه الصغيرين حملاً عظيماً يجعله ينوء تحته، ويَنـزَع مِن شَفَتيه الابتسامة الطفوليّة واللامسؤوليّة مِن روحه التي، مِن وِجهة نظر بشريّة، لا تعود طفوليّة أبداً، وحتّى العجوز الذي ينحني صوب القبر بكلّ خيبات الأمل ومتاعب وأثقال وجراحات حياته الطويلة. إنّما في مذهبي وفي الإيمان بي هناك علاج لهذه الأثقال الساحقة. لأجل ذلك يُسمّى "البُشرى الحَسَنة". ومَن يَقبَله ويُطِعه يُصبِح مغبوطاً منذ حيـاته على الأرض، لأنّه يَحصَل على الله لعلاجه، والفضائل لِتَجعل له الدرب سهلاً ومُنيراً، كما لو أنّ له أخوات عَطوفات، إذ يمسكنه بيده، مع مصابيح مضيئة تنير طريقه وحياته، ويُنشِدن له وعود الله الأزليّة حتّى اللحظة التي، إذ يَترك فيها الجسد المتعب يسقط على الأرض بسلام، يستيقظ في الجنّة.
لماذا تريدون، أيّها الناس، أن تكونوا مُتعَبين، مَعزولين، مُنهَكين، مُشمَئزّين، يائسـين، عندما يكون بإمكانكم أن تكونوا مُعزّين ومؤاسين؟ ولماذا أنتم أيضاً، أيا رُسُـلي، تريدون الإحساس بإعياء الرسـالة وصعوبتها وصرامتها، بينما، لو كانت لديكم ثقة طفل، لكان بإمكانكم ألّا يكون لديكم سوى اندفاع مُفرِح، وسهولة مُشرِقة لتطبيقه وإدراك وإحساس أنّه ليس صارماً إلّا لغير التائبين الذين لا يعرفون الله، ولكنّه بالنسبة للمؤمنين كأُمّ تَحفَظ الدّرب، وتدلّ أرجل صغيرها الحائرة على الحصى والعلّيق وجحور الأفاعي والحُفَر، لكي يتعرّف عليها ولا يَهلك فيها؟
الآن أنتم مُتكدِّرون، وبداية كَدَركم تعيسة جدّاً! بادئ ذي بدء، تكدّرتم مِن تَواضُعي وكأنّه جريمة ضدّ ذاتي. بعدئذ تكدّرتم لأنّكم أدركتم أنّكم آلمتموني وأنّكم بذلك تكونون ما زلتم بعيدين عن الكمال. ولكن، لدى القليلين منكم، هذا الكَدَر ناجم عن الكبرياء. الكبرياء المجروح بالتحقّق مِن أنّهم ما يزالون لا شيء، بينما تريدون بكبريائكم أن تكونوا كاملين. فليكن لديكم فقط التواضع لقبول اللوم ومعـرفة أنّكم قد أخطـأتم، بأن عَلَّلتم النَّفْس بإرادة الكمال مِن أجل هدف يتجاوز ما هو بشريّ. وثمّ تعالوا إليَّ. وأنا أُقوِّمكم، ولكنّني أفهمكم وأُشفِق عليكم.
تعالوا إليَّ، أنتم أيّها الرُّسُل، وتعالوا إليَّ أنتم جميعكم، أيّها الناس الذين تتألّمون آلاماً مادّيّة، وآلاماً معنويّة، وآلاماً روحيّة. تلك الأخيرة وقد سَبَّبَتها لكم آلام عدم معرفتكم تقديس أنفسكم كما تَبغون، حبّاً بالله، وباندفاع وبغير عودة إلى الشرّ. درب التقديس طويل وغامض، ويتحقّق أحياناً بالخفية عَن مسافر، يتقدّم في العتمة، وطَعم السمّ في فمه، ويظنّ أنّه لا يتقدّم ولا يشرب الشراب السماويّ، ولا يَعلَم كذلك أنّ هذا العمى الروحيّ هو أحد عناصر الكمال.
مَغبوطون، بل هُم مثلّثو الغبطة، أولئك الذين يُتابِعون التقدّم دون الاسـتمتاع بالنور والعذوبة، والذين لا يستسلمون لأنّهم لا يَرَون ولا يَشعُرون بشيء ولا يتوقّفون قائلين: "لا أتقدّم طالما الله لا يمنحني بهجة". أقول لكم: الدرب الأكثر عتمة يُصبِح فجأة مُنيراً جدّاً، مُنفَتِحاً على لوحات سماويّة. والسمّ بعد إزالته كلّ طعم للأشياء البشريّة، يتحوّل إلى مُتعة مِن الجنّة لأولئك الشجعان الذين سوف يقولون مندهشين: "كيف ذلك؟ لماذا مثل هذه المتعة وهذا الفرح لي؟" هذا لأنّهم ثابَروا، والله سـوف يجعلهم يَنعَمون، منذ وجودهم على هذه الأرض، بما في السماء.
إنّما في انتظار ذلك، مِن أجل الصـمود، تعالوا إليَّ أيّها المتعبون والمنهكون، أنتم أيها الرُّسُل، ومعكم كلّ الناس الباحثين عن الله، الباكين بسبب الألم الذي يواجِهون على الأرض، المرهَقين في الوحدة، وأنا أنعش قواكم. احملوا نيري. فهو ليس عِبئاً. إنّه عَون حافِظ. عانِقوا مَذهَبي كما لو أنّه عروس محبوبة. اقتدوا بمعلّمكم الذي لا يَقِف عند حدّ مباركته، بل يفعل ما يعلّمه. تعلّموا منّي أنا الوديع والمتواضع القلب، فتجدوا راحة نفوسـكم، لأنّ الوداعة والتواضع يَجلبان الملكوت على الأرض وفي السماوات. لقد قُلتُ لكم سابقاً إنّ الظافرين الحقيقيّين بين الناس هم أولئك الذين يفوزون به بالحبّ، والحبّ على الدوام وديع ومتواضع. أبداً لن أكلفكم بما يتجـاوز قدراتكم، لأنّني أحبّكم وأريدكم معي في مملكتي. اتّخذوا إذن شعاري وزيّي، وحاولوا أن تكونوا شبيهين بي وكما تعلّمتم مِن مذهبي. لا تخافوا، فإنّ نِيري لَيّن وحِملي خفيف، بينما المجد الذي ستتمتّعون به إذا كنتم أوفياء، مُقتَدِر إلى ما لا نهاية. لامتناه وأزليّ…
سوف أترككم للحظة. أَذهَب مع الصبيّ قُرب البحيرة. سَيَجِد أصدقاء له... بعدئذ سوف نَكسر الخبز معاً. تعال يا يوسف. سأجعلكَ تتعرّف إلى الصغار الذين يحبّونني.»