ج4 - ف107
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
107- (يوحنّا يُكرِّر خِطبة يسوع على جبل طابور)
05 / 08 / 1945
يَسيرون جميعاً إلى الناصرة، عَبْر طريق مُختَصَرة ومُنعِشة. مُنحَدرات روابي الجليل تبدو وكأنّها خُلِقَت لِتوّها في تلك الصبيحة، ذلك أنّ العاصفة التي سَبَقَ وهَبَّت قد غَسَلَتها، أمّا الندى، فيُحافِظ عليها مُشرِقة ورطبة. كلّ شيء يَبرُق مع أشعّة الشمس الأولى. والجوّ صاف لدرجة تَبرُز معها كلّ تفاصيل الجبال المجاوِرة.
عندما يَبلُغون قمّة إحدى الروابي، مَنظَر أحد أركان البحيرة الرائعة الجمال، تحت ذلك النور الصباحي، يَبعَث على النَّشوة. يَنظُر الجميع بإعجاب، كما يَفعَل يسوع. ولكنّ مريم المجدليّة تشيح بوجهها عن ذلك المشهد بسرعة، وهي تبحث عن شيء آخر في اتِّجاه آخَر. تُمعِن النَّظِر في القِمم الجبليّة إلى الشمال الغربي مِن الموضع الذي هو فيه، وتبدو وكأنّها لَم تَجِد مُبتَغاها.
سُوسَنّة الموجودة هناك كذلك تَسألَها: «عَمَّ تبحثين؟»
«أودُّ معرفة الجبل الذي فيه التقيتُ المعلّم.»
«اسأليه.»
«لا داعي لإزعاجه فهو يتحدّث إلى يهوذا الاسخريوطيّ.»
«يا لَه مِن رَجُل، هذا اليهوذا!» تُهمهِم سُوسَنّة، ليس أكثر، إنّما يمكن تخمين الباقي.
«ذاك الجبل، حتماً هو ليس على طريقنا. إنّما سوف آخذكِ إليه يا مرثا. كان فجر كهذا وزهور كثيرة... وأناس كثيرون... آه! مرثا! وقد تجرَّأَتُ أنا على الظُّهور أمام الجميع، بذاك الوضع الـمُستَنكَر، ومع أولئك الأصدقاء... لا، لا يمكن لِكلام يهوذا أن يُهينَني. فلقد استحققتُهُ. لقد استحقَقتُ كلّ ذلك. وهذا الألم الذي أَختَبِره هو كَفَّارتي. الكلّ يتذكّر، الجميع لهم الحقّ في أن يقولوا لي الحقيقة. وأنا، عليَّ أن أصمُت. آه! لو كان المرء يُفكِّر قبل ارتكاب الخطيئة! فالذي أهانني هو الآن أعظم صديق لي، لأنّه يُساعدني في التَّكفير.»
«ولكن لا يَمنَع أنّه أساء التصرُّف. أُمّاه. هل ابنكِ مَسرور حقّاً مِن ذاك الرجل؟»
«يجب أن نُصلّي كثيراً مِن أجله. هذا ما يقوله يسوع.»
يَترُك يوحنّا الرُّسُل ليأتي لمساعدة النساء في مَسلَك صَعب، تَنـزَلِق فيه الأحذية، لِكَثرة ما هو مغطّى بالحجارة الملساء التي تبدو كالألواح الصخريّة، وفيه عشب قصير، لامع وقاسٍ يَغُشّ الأقدام التي لم تتعوّد عليه. يَحذو الغيور حَذوَه، وتَعبُر النّسوة الـمَسلَك الخَطِر مُستَنِدات عليهما.
«هذا الدرب مُتعِب قليلاً. إنّما لا تراب فيه ولا جموع، وهو أقصَر.» يقول الغيور.
«أنا أَعرِفه يا سمعان. لقد أتيتُ إلى هذه البلدة، وسط المنحدر، مع أولاد أختي، عندما طُرِد يسوع مِن الناصرة.» تقول مريم الكلّيّة القداسة وهي تتنهَّد.
«على كلّ حال، العالم مِن هنا جميل. ها هو ذا طابور وحرمون، وإلى الشمال جبال أربيلا، وهناك في العمق، حرمون الكبير. للأسف، لا يُرى البحر كما يُرى مِن طابور.» يقول يوحنّا.
«هل ذهبتَ إلى هناك؟»
«نعم، مع المعلّم.»
«يوحنّا، مع حُبّه اللامتناهي، حَصَلَ لنا على فَرَح كبير، إذ إنّ يسوع قد تحدَّثَ هناك عن الله، بِنَشوة لَم نَكُن نَلحَظها أبداً، ثُمّ، بعد حصولنا على الكثير، حَصَلنا على التوبة. سوف تَعرِفين ذلك أنتِ أيضاً يا مريم، وستُصبِح نفسكِ أقوى ممّا هي عليه الآن. لقد وَجَدْنا رجلاً تَصلَّبَ بالحقد، وأرهَقَهُ تأنيب الضمير، وقد جَعَلَ منه يسوع، لا أتردّد في القول، شخصاً سيُصبِح تلميذاً عظيماً، مثلكِ يا مريم. ثِقي، بالفعل، أنّ ما أقوله لكِ حقيقيّ. إنّنا، نحن الخَطَأَة، أكثر طواعية للخير عندما يُدرِكنا، لأنّنا نشعر بالحاجة إلى المغفرة، مِن ذواتنا، كذلك.» يقول الغيور.
«صحيح. ولكنّكَ طيّب جدّاً لتقول "نحن الخَطَأَة". فأنتَ كنتَ بائساً وليس خاطِئاً.»
«نحن جميعنا كذلك، البعض أكثر مِن البعض الآخر. ومَن يظنّ نفسه الأقلّ، هو الأكثر ميلاً لأن يُصبِح كذلك، إذا لم يكن قد صار فعلاً. نحن جميعنا كذلك، ولكنّ أعظم الخَطَأَة، عندما يتوبون، يَعرِفون أن يُصبِحوا الأعظم في الخير، كما كانوا في الشرّ.»
«تشجيعكَ يُخفِّف عنّي ويُعزِّيني. فأنتَ كنتَ على الدوام أباً لأبناء ثيوفيلوس.»
«وكأب أفرح لرؤيتكم، أنتم الثلاثة، أصدقاء ليسوع.»
«أين وجدتم ذاك التلميذ الخاطئ الكبير؟»
«في عين دور، يا مريم. يريد سمعان أن يمنح رغبتي برؤية البحر استحقاق الكثير مِن الأشياء الجميلة والصالحة. وإذا ما أَقبَلَ يوحنّا العجوز إلى يسوع، فلا فضل بذلك ليوحنّا السّاذَج. بل كان ذلك بفضل يهوذا بن سمعان.» يقول ابن زَبْدي مبتسماً.
«هَل هو مَن هَداه؟» تَسأَل مرثا وقد انتابَها الشكّ.
«لا، ولكنّه أراد الذهاب إلى عين دور لـ...»
«نعم.» يقول سمعان. «لرؤية كهف السَّاحِرة... إنّه لَرَجُل غريب الأطوار، يهوذا بن سمعان هذا... يجب تَقبُّله على حاله... بالطبع!... ويوحنّا الذي مِن عين دور قادَنَا إلى الكهف، ثمّ بقي معنا. إنّما، يا بنيّ، فالفضل دائماً يعود إليكَ. بالفعل، لولا رغبتكَ في اللامتناهي، لما سَلَكنا تلك الطريق، ولما رَغب يهوذا بن سمعان في العَمَل على ذلك البحث الغريب.»
«أودُّ معرفة ما قاله يسوع على جبل طابور... كما أودُّ التعرُّف إلى الجبل الذي رأيتُهُ عليه.» تتنهّد مريم المجدليّة.
«الجبل هو ذاك الذي يَظهَر في هذا الحين وكأنّ شمساً تَحتَرِق عليه، بسبب بِركة تَجمَع فيها مياه النبع وتُستَخدم للقُطعان. بل كُنّا أعلى، حيث تَظهَر القمّة متشعّبة مثل مِذراة كبيرة تبغي طَعن الغيوم وتوجيهها إلى جهة أُخرى. بالنسبة إلى خِطبة يسوع، فأظنُّ يوحنّا قادراً على سَردِها لكِ.»
«آه! يا سمعان! هل يمكن لصبيّ إعادة كلام الله؟»
«صبيّ، لا. أَمّا أنتَ، فَبَلى. حاوِل، لإرضاء الأخوات وإرضائي، أنا الذي أُحبّكَ كثيراً.»
يَعلو يوحنّا احمرار شديد، عندما يَشرَع في سَرد خِطبة يسوع.
«هو قال: "هي ذي الصَّفحة التي بغير حدود، والتي كَتَبَت عليها التيّارات كلمة ‘‘أٌؤمِن’’. فَكِّروا في خَوَاء الكون قبل أن يَشاء الخالق ترتيب العناصر وتنظيمها بشكل رائع، ومَنح البشر الأرض وما عليها، والسماء النجوم والكواكب. كلّ ذلك كان في السابق معدوماً، مثل خَوَاء عديم الشكل، وكشيء مُتعضٍّ.
صَنَعَ الله كلّ شيء. وإذن، قد بَدَأَ بِصُنع العناصر، فهي ضروريّة حتّى ولو بَدَت أحياناً ضَارَّة. إنّما فَكِّروا بذلك على الدوام: لا توجد نقطة ندى، حتّى أصغرها، ليس لها مبرّر قويّ لوجودها. ولا حشرة، مهما كانت صغيرة ومزعجة، ليس لها مبرّر قويّ لكينونتها. وليس هناك كذلك جبال عملاقة تتقيّأ النار والحجارة المتوهّجة، ليس لها مبرّر قويّ لوجودها. وليست هناك زوبعة بلا مبرّر. وبالتحوّل مِن الأشياء إلى الأشخاص، فلا حَدَث ولا دموع ولا فَرَح ولا ولادة ولا موت، ولا عُقْم أو كثرة أولاد، ولا حياة مشتركة طويلة أو ترمُّل سريع، ولا مصائب متأتّية مِن بؤس أو مرض، كما لا صحّة ولا توفيق ليس له مبرّر قويّ لوجوده، حتّى ولو لَم يَظهَر ذلك بسبب قِصَر النَّظَر أو الكبرياء البشريّ الذي يَنظُر ويدين كلّ أنواع الـمَساقِط والسُّحُب الخاصّة بالأشياء المنقوصة. بينما عَين الله، وبينما فِكر الله غير المحدود، يَرى ويَعرِف. والسرّ الكامن كي يعيش المرء في مَعزَل عن الشكوك العقيمة التي تُرهِق الأعصاب وتُنهِك القوى، وتُسمِّم الأيّام على الأرض، السرّ يَكمُن في معرفة أنّ الله يَصنَع كلّ شيء بمبرّر ذكيّ وصالح، أنّ الله يَصنَع ما يَصنَع بحبّ، وليس بنيّة بلهاء بأن يُسبّب الألم مِن أجل الألم.
خَلَقَ الله الملائكة. ولَم يَشَأ بعضهم الإيمان بأنّ مستوى المجد الذي وَضَعَهم الله فيه كان جيّداً، وتمرَّدوا بِنَفْس تَحرقها قلّة الإيمان بربّهم، وحاوَلوا اغتصاب عرش الله الذي لا يُدنى منه. والملائكة المؤمنون، بعقولهم الـمُفعَمة تناغماً، قاوَموا نِزاعهم وفكرهم الظالم والمتشائم، حيث التشاؤم الذي هو قلّة إيمان، قد جعل الذين تمرّدوا أرواح الظُّلُمات، وهُم الذين كانوا أرواح النور.
لِيَعِش إلى الأبد أولئك الذين، في السماء كما على الأرض، يَعرِفون أن يَضَعوا، كأساس لتفكيرهم، تفاؤلاً مُفعَماً نوراً! فهؤلاء لَن يُخطِئوا مُطلَقاً خَطَأً كاملاً، حتّى ولو خَيَّبَت الأحداث آمالهم، أقلّه فيما يخصّ روحهم الذي يستمرّ في الإيمان، وفي الرجاء وفي حبّ الله والقريب، فوق كلّ شيء، ماكِثين، بالنتيجة، في الله إلى دهر الدهور!
وكان الفردوس قد تَخلَّصَ مِن أولئك المتشائِمِين المتكبِّرين الذين يَغشَى نظرهم اضطراب حتّى في أكثر أعمال الله إشراقاً، كذا هو الحال على الأرض، فيَغشَى الاضطراب نَظَر المتشائِمِين، حتّى في أعمال البشر الأكثر صراحة وإشراقاً؛ راغِبين وَضع أنفسهم في برج عاجيّ، ظانِّين في أنفسهم كمالات فريدة، فيَحكُمون على ذواتهم بسجن مُظلِم ينتهي بهم إلى ظُلُمات مملكة الجحيم، مملكة العَدَم، ذلك أنّ المتشائم عَدَم هُو كذلك.
إذاً فالله قد صَنَعَ الخليقة. ولإدراك السرّ المجيد للكائن الواحد والثالوث، يجب معرفة الإيمان ورؤية أنّ في البدء كان الكلمة، والكلمة كان مع الله، متَّحِدَين معاً بالحبّ الكامل، ومنهما فقط يمكن أن ينبثق كائنان إلهان مع كونهما إله واحد فقط، كذلك هي الحال إذا أراد المرء رؤية الخَلق كما هو، على حقيقته، فيجب النَّظَر إليه بعينيّ المؤمن، ذلك أنّه يحمل في كيانه الذي لا يُمحَى سِمات لِخَالِقه، كما يَحمِل الابن سمات لأبيه لا تُمحَى. وسوف نَرى إذن أنّه في البدء كانت السماء والأرض، وبَعد ذلك كان النور الذي يُشبِه الحبّ. إذ إنّ النور فَرَح، كما هو الحُبّ. والنور هو بيئة الفردوس. والكائن اللامادّيّ الذي هو الله، هو نور، وأب لكلّ نور فكريّ وعاطفيّ، ماديّ وروحيّ، في السماء كما على الأرض.
في البدء كانت السماء والأرض، ومِن أجلهما جُعِلَ النور، ومِن النور صُنِع كلّ شيء. وكما في السماوات العليا انفَصَلَت أرواح النور عن أرواح الظُّلُمات، كذلك في الخَلق فُصِل النور عن الظلام، وجُعِلَ النهار والليل. أوّل يوم في الخليقة كان له صُبحه ومُساؤه، ظهيرته ومنتصف ليله. وعندما عادت ابتسامة الله: النور، بعد الليل، امتدّت يده، إرادته ذات السلطان، على الأرض الفارغة وغير المتشكِّلة، امتدّت إلى السماء التي تجري فيها المياه، أحد عناصر الخَواء، وشاء أن تكون القُبّة الزرقاء حدّاً فاصلاً لجريان المياه غير المنتظم بين السماء والأرض، لتكون وشاحاً للأنوار الفردوسيّة، وحدوداً للمياه العليا، لتمنع الطوفانات مِن النـزول إلى غليان المعادن والذرّات، بغية تَجويف وتفكيك ما كان الله قد جَمَعَه ووحّده.
كان النظام في السماء قد استتبَّ. والنظام وُجِد على الأرض بأمر الله الذي أصدره إلى المياه المنتشرة على وجه الأرض. وجُعِل البحر، وقد كُتِبَ عليه، كما على القبّة الزرقاء: "الله موجود". ومهما يكن ذكاء الإنسان وإيمانه أو عدم إيمانه، فقد أقام تلك الصفحة التي تَسطَع فيها شرارة مِن اللانهاية، التي هي الله، والتي هي شاهِد على سلطانه، فكلّ إنسان مُجبر على الإيمان، لأنّ لا قُدرة الإنسان ولا التنظيم الطبيعي للعناصر يمكنه أن يُكرِّر مُعجِزة مُشابِهة، ولا حتّى في حدّها الأدنى. الإيمان، ليس فقط بسلطان الربّ، بل بصلاحه كذلك، الذي، بواسطة ذلك البحر، يَمنَح الإنسان الغذاء والسُّبُل، وأملاحاً مفيدة، كما يُخفِّف مِن حِدّة الشمس، ويَمنَح الرياح مجالات حرّة، وهو يعطي البذور للأراضي، البعيدة بعضها عن البعض الآخر، ويُسمِع صوت العواصف ليذكِّر النملة التي هي الإنسان باللامتناهي، فاللامتناهي الذي هو أبوه، يَهِب وسيلة للارتقاء، بتأمّل مَشاهِد أكثر سموّاً، صوب مجالات أكثر علوّاً.
أشياء ثلاثة تحدّثنا أكثر مِن غيرها عن الله في عمليّة الخَلق، التي هي بمجملها شهادة له: النور والقُبَّة الزرقاء والبحر. نظام الكواكب وتَعاقُب الفُصول، انعكاس للنظام الإلهيّ؛ النور الذي وَحدَه الله كان يُمكِنه إيجاده، البحر، السلطان، الذي، وَحدَه الله، بعد خَلقِه، كان بإمكانه وَضعَهُ ضِمن أُطُر محدَّدَة، مانحاً إيّاه الحركة والصوت، دون أن يتسبّب بذلك، كعنصر يتحرّك بغير انتظام، بضرر وأذيّة الأرض التي تحمله على سطحها.
انفذوا إلى سرّ النور الذي لا يَنضب أبداً. ارفعوا عيونكم إلى القُبَّة الزرقاء، حيث تضحك النجوم والكواكب، أَخفِضوها صوب البحر. انظروا إليه لِتُشاهِدوه على حقيقته، ليس كَحائِل، بل إنّما كجسر بين الشعوب الذين على الضفاف الأخرى غير المرئيّة، والتي ما تزال مجهولة، إنّما التي يجب الإيمان بوجودها، فَلِأجل ذلك وُجِد البحر. إنّ الله لا يَصنَع شيئاً بغير جدوى. لَم يكن إذاً ليصنع هذا المدى اللانهائيّ لو لم يكن له حدود، هناك، خَلف الأفق الذي يَحجب عنّا أراضٍ أخرى، يَسكُنها أُناس آخرون، ومصدر الجميع إله واحد، وقد اقتِيدوا إلى هناك بإرادة الله، بواسطة العواصف والتيّارات، لجعل القارّات والمناطق مأهولة. وهذا البحر، يحمل مع أمواجه، وفي أصوات مياهه، وفي مَدّه وجزره، نِداءات بعيدة. إنّه وسيط وليس مُفرّقاً. وهذه اللهفة العذبة التي تحرّك عواطف يوحنّا تتأتّى مِن نِداءات الإخوة البعيدين. وكلَّما سيطَرَ الروح على الجسد، كلّما أَصبَحَ قادراً على سماع أصوات الأرواح المتّحدة، حتّى ولو كانت متباعِدَة، كما الأغصان المنبثِقة مِن جَذر واحد هي متّحدة، حتّى ولو لم يكن غُصن يرى الآخر، لأنّ عائقاً تَوَضَّعَ بينهما. انظروا إلى البحر بعينيّ نُور، وسترون الكثير الكثير مِن الأراضي، ومنها جميعها يَصِل هتاف: "تعالوا! احملوا لنا النور الذي تمتلكون. احملوا لنا الحياة التي أُعطِيَت لكم. قولوا لِقلبنا الكلمة التي نَجهَل، إنّما التي نَعلَم أنّها أساس الكون: الحبّ. عَلِّمونا قراءة الكلمة التي نراها مكتوبة على الصفحات اللامتناهية مِن القُبّة الزرقاء والبحر: الله. أنيرونا، لأنّنا نحسّ بوجود نور حقيقيّ أكثر مِن ذاك الذي يجعل السماوات حمراء، ويحوِّل البحر إلى جواهر متلألئة. امنَحُوا ظُلماتنا النور الذي مَنَحَكم إيّاه الله، فبعد أن أَنجَبَه بحبّه، أعطاكُم إيّاه، ولكن مِن أجل الجميع، كما أعطاه للنجوم، إنّما لكي تُعطيه للأرض. أنتم النجوم ونحن التراب. إنّما شَكِّلونا بالطريقة ذاتها التي خَلَقَ بها الخالق الأرض بالتراب، لِيَسكُنها البشر، عابِدين إيّاه الآن وعلى الدوام، حتّى تأتي الساعة التي لا يعود فيها أرض، إنّما التي يأتي فيها الملكوت، ملكوت النور والحبّ والسلام، كما قال لكم الله الحيّ أنْ سيكون؛ لأنّنا، نحن كذلك، أبناء هذا الله ونَطلُب أن نَعرِف ‘أبانا’".
واعرفوا الـمُضيّ على طُرُقات اللانهاية، دون خوف، ودونما احتقار لأحد، لدى لقائكم أولئك الذين يُنادون ويَبكون، وأولئك الذين يُسبِّبون لكم الألم كذلك لأنّهم يُحِسّون بوجود الله، ولكنّهم لا يَعرفون عبادة الله؛ إنّما الذين، مع ذلك، سوف يُوفِّرون لكم المجد، لأنّكم سَتُصبِحون أعظم، بِقَدر ما سَتعرفون مَنح الحُبّ الذي تمتلكون، جالِبين الأُمم التي تنتظر، إلى الحقّ".
هكذا تَكلَّمَ يسوع، بشكل أفضل كثيراً مما فعلتُ، إنّما، على الأقلّ، تلك هي فكرته.»
«يا يوحنّا، لقد كَرَّرتَ بالضبط ما قاله المعلّم. أَهمَلتَ فقط ما قاله عن قدرتكَ على إدراك الله بِفَضل كَرَمَكَ في بَذل ذاتكَ. إنّكَ طيّب وصالح يا يوحنّا. إنّكَ أَفضَلنا! لقد قَطَعنا الطريق كلّها دون التنبّه لذلك. تلك هي الناصرة على روابيها. المعلّم يَنظُر إلينا ويبتسم. فلنلحق به بسرعة لِنَدخُل البلدة جماعة.»
«أشكركَ يا يوحنّا.» تقول السيّدة العذراء. «لقد أَهدَيتَ الأُمّ هديّة عظيمة.»
«وأنا كذلك. فلقد فَتَحتَ لمريم أيضاً آفاقاً لا نهائيّة...»
«عمَّ كنتم تتحدّثون كلّ هذا؟» يَسأَل يسوع الواصلين للتوّ.
«لقد كَرَّرَ لنا يوحنّا خطبتكَ على جبل طابور، بالتمام. ولقد كنّا سعداء بذلك.»
«إنّني مسرور لأنّ أُمّي سَمِعَتها، وهي التي تحمل اسماً ليس غريباً عن البحر، والتي تمتَلِك محبّة واسعة مثل بحر.»
«ابني، أنتَ تمتلكها كإنسان، وهي لا تقاس بمحبّتكَ اللامتناهية ككلمة الله. يا يسوعي العذب!»
«تعالي يا أُمّي إلى جانبي، كما كنا لدى عودتنا مِن قانا، أو مِن أورشليم، عندما كنتُ صغيراً، وكنتِ تُمسِكين بيدي.»
ويَنظُر واحِدهُما إلى الآخَر نَظرَتهما الـمُفعَمَة حُبّاً.