ج2 - ف44
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
44- (يسوع على جبل الصّوم وصخرة التجربة)
17 / 01 / 1945
فَجر رائع في مَوقِع قَفر. فجر يطلّ على قمّة منحدر جبليّ. بالكاد هي إشراقة اليوم الأولى. في السماء تبدو النجوم الأواخر المرئيّة، ومِن القمر هلال نحيل هو بقيّة تَناقُصه، بل فاصلة فضّية على مخمل السماء القاتم.
يبدو الجبل مستقلاًّ، غير مرتبط بسلاسل أخرى. ولكنّه جبل حقيقيّ وليس رابية. القمّة عالية كثيراً، ومع ذلك، في منتصف الـمُرتَفَع نكتشف أُفقاً واسعاً، ممّا يؤكّد أنّنا قد ارتَفَعنا كثيراً عن مستوى سطح الأرض. ومع نسمة الصباح الـمُنعِشَة، حيث يشقّ طريقه نور الفجر غير الواضح، الأبيض الـمُخضرّ، والذي يزداد وضوحاً باطّراد، يَتَكَشَّف الـجِوار والتفاصيل التي كان يخفيها، سابقاً، الضباب الذي يسبق النهار، والأكثر ظلاماً مِن الليل، إذ يتناقص نور النجوم أثناء عبور الليل إلى النهار، بل هو يُمحى. وهكذا أرى الجبل وقد تَشَكَّل مِن صخور عارية، تقطعها تجاويف لتؤلِّف الكهوف والملاجئ في الجبل. في الأمكنة الفريدة حيث تَجَمَّع قليل مِن التراب ليَجمَع كذلك ماء السماء ويحفظه، وطاقات خُضرة، هي نباتات بساق واحدة فقط وأشواك، بأوراق قليلة وأدغال مُخشَوشِبة، برؤوس نباتات أرض تبدو كعيدان خضراء لا أعرف لها أسماء.
في الأسفل هناك مُتَّسَع مُجدِب أكثر، مُسَطَّح كثير الحجارة، يزداد القَحل فيه كلّما اقتَرَبَ مِن نقطة مُظلِمَة، إنّه بالأحرى طويل أكثر منه عريض، ذلك أنّ طوله يعادل خمسة أضعاف عرضه على الأقلّ. أظنّها واحة وارِفَة أوجَدَتها مياه جوفيّة في تلك اللوحة الطبيعيّة الـمُقفِرة. حينذاك، وحينما يُصبِح النّور أكثر سطوعاً، أرى أنّها بِركة ماء. مياه راكدة، قاتمة ولا حياة فيها. بحيرة حزنها لا متناهٍ. في هذا النور غير الجَّليّ، ممّا يعيد إلى ذهني منظر العالم الميت، يبدو أنّ البحيرة تجذب إليها صورة السماء القاتمة، وكلّ حزن المشهد المحيط. تبدو وكأنّها تعكس في مياهها الساكنة، اللون الأخضر القاتم المميَّز للنباتات الشوكيّة والأعشاب المتصلّبة التي، عبر كيلومترات وكيلومترات، في السهول والمنحدرات، هي المظهر الوحيد للأرض، منه يُصنَع شراب الحبّ للحزن القاتم الذي يَنطَلِق ويَنتَشِر في كلّ الـجِوار. كم الفرق شاسع بينها وبين بحيرة جنّسارة المشرقة الضاحكة!
في الأعلى، بالنَّظَر إلى السماء ذات الصفاء الـمُطلَق، والتي تُصبِح أكثر وضوحاً باستمرار، بالنَّظَر إلى النور الذي يَنتَشِر مِن الشرق مثل مدّ نورانيّ، تعود النَّفْس إلى سعادتها. ولكن منظر هذه المساحة الكبيرة مِن المياه عديمة الحياة يعصر القلب. فلا تجد عصفوراً يُحلّق فوقها، ولا حيواناً على ضفافها، لا شيء.
وبينما أنا أنظُر إلى هذا الأسى، أتاني صوت يسوع ليهزّني: «ها إنّنا قد وَصَلنا إلى حيث كنتُ أريد.» فَأَلتَفِت لأراه خلفي يتوسّط يوحنّا وسمعان ويهوذا، قُرب منحدر الجبل المليء بالصخور، حيث يَصِل عرقوب (مَعبَر وَعِر)... وكان الأجدر بنا القول: حيث عَمَل المياه الطويل، في موسم الأمطار، قد حَتَّ الأحجار الكلسيّة، مُحدِثاً أُخدوداً عبر العصور على شكل شبه قناة بالكاد واضحة، تُستَخدَم أثناء سيل المياه الـمُنحَدِرة من القِمَم، أمّا الآن فهي طريق للماعز المتوحّشة أكثر منها للبشر.
يَنظر يسوع حوله ويُكرِّر: «نعم، إنّه المكان الذي كنتُ أودُّ جلبكم إليه. فهنا قد تهيّأ المسيح لرسالته.»
«ولكن، لا يوجد شيء هنا!»
«أنتَ قُلتَها، لا يوجد شيء.»
«مع مَن كنتَ؟»
«مع روحي ومع الآب.»
«آه! لقد كانت وقفة لبضعة ساعات!»
«لا يا يهوذا، لم تكن لبضعة ساعات، بل لأيّام عدّة...»
«ولكن مَن كان يخدمكَ؟ أين كنتَ تنام؟»
«كان خُدَّامي حمير وحشيّة تأتي ليلاً لتنام في مأواها... حيث كنتُ ألجأ أنا كذلك. وكانت النُّسور في خدمتي، فقد كانت تقول لي: "طَلَعَ النهار"، بصوتها الوحشيّ عندما تذهب للصيد. وقد كانت الأرانب البريّة الصغيرة أصدقائي، وهي التي كانت تقضم العشب البرّيّ عند قدميّ... أمّا مَأكَلي ومَشرَبي فقد كانا مَأكَل ومَشرَب الزهور البريّة: ندى الليل ونور الشمس، ولا شيء سوى ذلك.»
«ولكن لماذا؟»
«لأستعدّ جيّداً لرسالتي، لأنّه، كما تقول أنتَ، الأمور المهيّأة جيّداً تنجح بشكل جيّد. هكذا قُلتَ. ولم يكن شأني ضئيلاً لا ينفع لأن يكون في دائرة النور، فأنا خادم الربّ، إنّما لكي يُدرِك العالم ماهيّة الربّ، وبواسطة هذا الإدراك أجعلهم يحبّونه بروح الحقّ؛ وبِئس خادم الربّ الذي يفكّر في نصر له وليس في النصر لله! الذي يبحث عن فائدة خاصة له، الذي يَحلُم بالارتقاء إلى عرش مصنوع... آه! مصنوع باسم مصالح الله، إنَّما التي حَطَّ مِن قَدرها حتى لامَسَت الأرض، وهي التي كانت مصالح سماويّة. فهذا ليس بخادم، حتّى ولو كان له مظهره الخارجيّ. إنّه بائع، تاجر، كائن مزيّف يغشّ نفسه، ويغشّ العالم، ويريد أن يغشّ الله ذاته... إنّه بائس، يعتَبِر نفسه أميراً، وهو لا يتعدّى كونه عبداً... عبداً للشيطان، مَلِكه ومُعَلِّمه في الكذب. هنا، في هذا المأوى، قضى المسيح أيّاماً كثيرة في الإماتات والتضحيات والصلاة ليتهيّأ لرسالته. تُرى، أين كنتَ تريدني أن أذهب لأستعدّ وأتهيّأ يا يهوذا؟»
يهوذا حائر تائه؛ أخيراً يُجيب: «ولكن لستُ أدري... كنتُ أفكّر... عند أحد الرابّيين... لدى الأسينيّين... لستُ أدري.»
«هل كنتُ لأتمكّن مِن إيجاد رابّي يقول لي أكثر مّما كان سلطان الله وحكمته يقولانه لي؟ هل كنتُ لِأَستطيع أنا -أنا كَلِمَة الآب الأزليّ التي كانت عندما خَلَقَ الآب الإنسان، وتَعرف بأيّ روح غير مائت هو يُحيـى، وأيّة قُدرة على الأحكام الحُرّة قد حَبَاه الخالِق- هل كنتُ أستطيع طَلَب العلم والفهم لدى أناس يُنكِرون خلود النَّفْس بنكران القيامة الأخيرة، الذين يُنكِرون حريّة إرادة الإنسان، غير عابئين بالفضائل والرذائل، بأفعال التقديس والأفعال السيّئة المضبوطة بالقَدَر الذي يقولون عنه إنّه حتميّ لا يمكن التغلّب عليه. آه! لا. لكم قَدَر، نعم، لكم قَدَر. ففي روح الله الذي خَلَقَكم، هناك قَدَركم. الآب يَرغَبه لكم، وهو قَدَر حُبّ وسلام ومجد: "القداسة التي تجعلكم أبناءه". كذا هو المصير الذي، بفعل حضوره في الفِكر الإلهيّ في لحظة خَلق آدم مِن تراب، سيكون حاضراً حتّى خَلق آخر نَفْس بشريّة.
ولكنّ الآب لا يرغمكم في ظَرفكم الـمَلَكيّ (إرادتكم الحرّة). فلو كان الـمَلِك سجيناً لا يعود مَلِكاً، بل هو يَسقُط. إنّكم مُلوك لأنّكم أحرار في مملكتكم الشخصيّة الصغيرة، في أناكم. فيها تستطيعون فِعل ما تشاؤون وكما تَبغُون. وفي المقابل، على حدود مملكتكم الصغيرة، لديكم مَلِك صديق وقُوَّتان عَدوَّتان. الصديق يبني لكم القواعد التي وَضَعَها ليجعل الموالين له سعداء. إنّه يُبرِزها لكم. يقول لكم: "ها هي، معها يتحقّق النصر الأزليّ". يُظهِرها لكم، وهو الحكيم والقدّوس، لكي تستطيعوا، إذا شئتم، أن تضعوها مَوضِع التطبيق، وتستفيدوا منها بمجد أزليّ. والقُوَّتان العَدوَّتان هما الشيطان والجسد. تحت اسم الجسد أُدرِجَ جسدكم وجسد العالم، أيْ بذخ وغوايات العالم، يعني الغِنى والاحتفالات والتشريفات والسُّلطات المتأتّية مِن العالم والموجودة فيه، والتي لا نحصل عليها دائماً بشكل شريف، والتي نعرف كيفيّة استغلالها دائماً بأقلّ نزاهة، إذا ما تَوَصَّل إليها الإنسان بالتالي بفضل مجموعة ظروف. الشيطان، سيّد الجسد والعالم، يتصدّى لنا بذاته وبالجسد. وهو كذلك له قواعده... آه! إن كان لديه!... وبما أنّ الأنا مُحاطَة بالجسد، وبما أنّ الجسد يبحث عن الجسد كما أجزاء الحديد تتّجه نحو المغناطيس، وبما أنّ أغنية الـمُغوي أرقّ مِن كَرَّة العندليب الوَالِه في ضوء القمر في عَبَق حديقة الورد، والاتّجاه صوب هذه القواعد أسهل كثيراً، وكذلك الخضوع لقُدراتها، والقول لها: "أتَّخِذكِ صديقات لي. ادخلي".
ادخلي... هل رأيتم حليفاً يبقى نزيها على الدوام، دون طلب مائة ضعف مقابل الخدمة التي يقدّمها؟ هكذا تفعل. تَدخُل... تَسود... تَسود؟ لا، بل تَستَبدّ. تُقَيّدكم أيّها الناس في قفص العبيد، تقيّدكم فيه بالسلاسل، فلا تترككم لتُحَرِّروا أعناقكم مِن نِيرها، وسُوطها يترك عليكم آثاره الدامية إذا ما حاولتم الفرار منها. آه! أن يُقارِع الفرد ذاته حتّى يصبح كتلة مِن الجَّسَد الـمُنسَحِق، وقد أضحى غير نافع لدرجة أن تَلفظه قدمها الشرسة، أو يموت تحت وطأة الضربات. فإذا عرفتم أن تُصبِحوا هذا الشهيد، حينئذ تمرّ الرحمة، الوحيدة التي لا تزال تستطيع الرأفة بهذا البؤس الـمَقيت، الذي حياله يُظهِر العالم، أحد السيّدين، اشمئزازه، والسيّد الآخر: الشيطان، يُسَلِّط عليه سهام انتقامه. أمّا الرحمة فهي الوحيدة التي تمرّ به، فتنحني، تلتقطه، تعتني به، تشفيه وتقول له: "هلمّ، لا تخف. لا تنظر إلى ذاتكَ. فجراحكَ لم تَعُد سِوى ندبات، لكنّها كثيرة لدرجة أنّها تصيبكَ بالهلع، فهي تُشوّهكَ بشكل فظيع، إنّما أنا، فلستُ أنظُر إليها، بل إلى إرادتكَ. وبسبب هذه الإرادة الطيّبة فقد وُسِمتَ أنتَ بعلامة. وبفضل هذه العلامة أقول لكَ: "أحبّكَ، تعال معي"، وتَحمله إلى مملكتها. حينئذ تُدرِكون أنّ الرحمة والصداقة الـمَلَكيّة هما شخص واحد. فتَجِدون مِن جديد القواعد التي كان قد أَظهَرَها لكم ولم تكونوا تريدون اتّباعها. فالآن لديكم الإرادة... وتتوصّلون إلى سلام الضمير أوّلاً، وسلام الله بعدئذ.
قولوا لي إذاً، هل هذا القَدَر قد فُرِضَ مِن قِبَل واحد فقط على الجميع، أو قد ارتضاه لذاته كلّ بمفرده وبشكل شخصيّ؟»
«لقد ابتغاها كلّ بمفرده.»
«أحكامكَ سليمة يا سمعان. فهل كنتُ أستطيع، أنا، الذهاب إلى أولئكَ الذين يُنكِرون القيامة المجيدة وَهِبَة الله كي أَتَتَلمذ على أيديهم؟ لقد أتيتُ إلى هنا. أَخَذتُ نفسي كابن الإنسان، وعَمِلتُ اللَّمسات الأخيرة، مُنهياً عمل ثلاثين سنة في الخفاء للتهيئة، لأَبلُغ إلى إتمام مهمّتي بكمال. الآن، أطلب منكم البقاء معي، بضعة أيّام، في هذا الملجأ. سيكون الانتظار أقلّ انعزاليّة، إذ سنكون أربعة أصدقاء، نتصدّى معاً للأحزان والمخاوف والتجارب ومتطلّبات الجسد. أنا، كنتُ وقتها وحيداً. والآن سيكون هذا أقلّ عناء، فالآن صيف، وهنا، في هذا العلوّ، هواء القِمَم يُلَطِّف الحرارة. أنا أتيتُ في نهاية قمر شباط (فبراير) وقد كان الهواء رياح صقيع آتية مِن ثلوج القمّة. سيكون الانتظار أقلّ إرهاقاً لأنّه أَقصَر، ولأنّ لدينا الآن هذا الحدّ الأدنى مِن الغذاء يُخَفِّف جوعنا، وفي الـمَطَرات، التي جَعَلتُ الرُّعاة يعطونكم إيّاها، ماء كاف لهذه الإقامة القصيرة. فأنا.. أنا، أحتاج إلى انتزاع نَفسَين مِن إبليس. وليس هناك سوى أعمال التوبة تستطيع الوصول بها إلى نهاية المطاف. وأَطلُب منكم العَون. وسيفيد ذلك في تهيئتكم كذلك. سوف تتعلّمون كيفيّة انتزاع الضحايا مِن مامون (الشيطان). وهذا غير ممكن بالكلام كما هو ممكن بالتضحية... فالكلام!... الضوضاء الشيطانيّة تُعيق سماعه... والنُّفوس التي هي ضحيّة العدو محمولة على دوّامة مِن الأصوات الجهنّمية... هل تريدون المكوث معي؟ أمّا إذا كنتم لا تريدون، فاذهبوا. أنا باق. وسوف نلتقي في تِكوا Tecua قرب السوق.»
«لا يا معلّم، لن أترككَ.» يقولها يوحنّا، بينما يصرخ سمعان في الوقت ذاته: «أنتَ تريدنا أن نبقى معكَ في عمل الفِداء هذا لتسمو بنا.» ويهوذا... لا يبدو لي متحمّساً جدّاً، لكنّه يُظهِر بشاشة لـ... المصير ويقول: «أنا أبقى.»
«خُذوا إذاً الـمَطَرات والأكياس، وأَدخِلوها، وقبل أن تُصبِح الشمس مُحرِقَة، اكسُروا حطباً واجمَعوه عند الفتحة. الليل بارد هنا، حتّى في الصيف، وليسَت كلّ الحيوانات غير مؤذية. أَوقِدوا هنا مباشرة غصناً مِن الأكاسيا الصمغية. إنّها تَشتَعِل جيّداً. سوف نُمرّرها عَبرَ الصّدوع لنَطرُد بالنار الثعابين والعقارب. هيا.»…
تتوقف الرؤيا.
...تُعاوِد الرؤيا على الموقع ذاته مِن الجَّبَل. إنّما فقط، الآن ليل، ليل مليء بالنجوم. جمال ليليّ للسماء، كما أَظُنُّ، لا يمكن الشعور بالسعادة إلّا في هذه البلدان المداريّة. حجم النجوم وبريقها رائعان. كواكب تبدو مثل عناقيد أَلَق، أنوار زبرجد، حبّات زفير باهتة، أحجار عين الهرّ لطيفة، ياقوتات حانية. إنّها ترتَجِف، تَشتَعِل، تَنطَفِئ، مثل النَّظَرات عندما تغشاها الجفون لحظة، وتستعيد بريقها بأكثر روعة. ومِن وقت لآخر، يُسَطِّر نيزك في السماء خطّ نار ثمّ يغيب عَبر لستُ أدري أيّ أُفُق. خطّ ضوئيّ يبدو كصرخة فَرَح مِن نجمة مفتونة بطيرانها هكذا في هذه الحقول التي لا حدود لها.
يسوع جالس عند مدخل المغارة ويتحدّث إلى الثلاثة الذين تَحَلَّقوا حوله على شكل دائرة، يجب أن تكون هناك نار، ذلك أنّ وسط الدائرة التي يُشَكِّلونها هُم الأربعة كَومة مِن الجَّمر ما زالت تحتفظ بوميض تَأجُّجها وتجعل الوجوه الأربعة تعكس احمرارها.
«نعم، لقد انتَهَت الإقامة. في المرّة الماضية دامَت أربعين يوماً... وأُكرّر لكم: لقد كان الطقس ما يزال شتاء على تلك المنحدرات... ولم يكن لديَّ طعام، فهي أكثر صعوبة قليلاً مِن هذه المرّة. أليس كذلك؟ أَعلَم أنّكم عانيتم الآن أيضاً. فالقليل الذي كان لدينا والذي كنتُ أُعطيكم إيّاه لم يكن شيئاً يُذكر، خاصّة بالنسبة لجوع الشباب. لقد كان بالقَدر الكافي فقط ليمنع سقوطكم مِن الوَهَن. وكان مِن الماء قَدر أقلّ مع قَيظ النهار اللاهب. وسوف تقولون إنّ الأمر لم يكن هكذا في الشتاء. إنّما آنذاك كان الهواء الجافّ القادم مِن القمّة يحرق الرئتين، وكان يرتَفِع مِن السهل مُحَمَّلاً بغبار الصحراء، وكان يُسَبِّب جفافاً أكثر حتّى مِن هذه الحرارة الصيفيّة التي يمكن تلطيفها برشف عصير هذه الفواكه قليلة الحموضة وهي شبه ناضجة. حينئذ لم يكن الجبل يُقَدِّم سوى الريح والأعشاب المحتَرِقة بالجليد حول الأكاسيا العارية. لم أُعطِكم كلّ شيء، بل قد احتَفَظتُ بالخبزات الأخيرات وقُرص الجُّبن الأخير مع الـمَطَرَة الأخيرة لطريق العودة... فلقد خَبِرتُ العودة، مُنهَكاً كما كنتُ في عُزلة الصحراء... فلنجمع حوائجنا ولنرحل. فالمساء ما زال أكثر نوراً مما كان عليه يوم قدومنا. لا قمر، إنّما السماء تُمطِر نوراً. لنرحل. احتَفِظوا بذكرى هذا المكان. اعرفوا أن تتذكّروا الطريقة التي انعَزَلَ فيها المسيح والتي يتهيّأ بها الرُّسُل. فكما عَلَّمتُ، كذلك يتهيّأ الرُّسُل.»
يَنهَضون. يُحَرِّك سمعان الجَّمرات بغصن، يؤجّجها قبل أن يُطفِئها بالأقدام، بأعشاب جافة، ويُشعِل شعبة (غصن) أكاسيا ويمسك بها عالياً عند مَدخَل المغارة، بينما يجمع يهوذا ويوحنّا المعاطف والأكياس والـمَطَرات التي ما تزال واحدة منها فقط ممتلئة. ثمّ يُطفئ الشعبة بتحريكها وهو يَرُصّها على الصخور، يحمل كيسه، ومثل الآخرين يضع معطفه رابطاً إيّاه على قامته كي لا يُعيق المسير.
يَنحَدِرون دون كلام، الواحد خلف الآخر، عَبر عرقوب (مَعبَر وَعِر)، بمشية سريعة جدّاً، جاعلين الحيوانات الصغيرة، التي تقضم القليل مِن العشب المتبقّي مقاوماً للشمس، تهرب. الطريق طويلة وصعبة. أخيراً يَصِلون إلى السهل. المسير ليس سهلاً هو الآخر، فهنا الأرض التي أضحَت رمليّة تُخفي حجارة وشظايا حجارة تتدحرج بِغَدر تحت القدم وتجرحه، ولا يمكن تحاشيها، وكذلك أدغال شوكيّة أحرَقَتها الشمس، تَخدُش الأرجُل وتُضايِق المسير، بتعلّقها في أسفل الثياب. ولكن الطريق أكثر استقامة.
تبقى النجوم في الأعلى أكثر بهاءً.
يسيرون، يسيرون ويسيرون خلال ساعات. وتبقى الأرض قاحلة أكثر وأكثر حزناً، شظايا وَهَّاجة تَلمَع في أخاديد الأرض الصغيرة، في حُفَر وسط وُعورة الأرض. إنّها شظايا ذات تَوَهُّج باهِت. ينحني يوحنّا ليَنظُر إليها. «ذلك هو ملح ما تحت الأرض. لقد أُشبِعَت به. وهو يَظهَر مع فيضانات الربيع ثمّ يجفّ. لهذا السبب لا مقاومة للحياة هنا. البحر الشرقيّ يَنشُر الموت في عدّة أماكن مجاورة، بواسطة عروق عميقة. فقط حيث تُوجَد ينابيع ماء عذب تُقاوِم فِعله، يمكننا إيجاد أشجار نحتمي بها.» يَشرَح يسوع.
ما زالوا يسـيرون. ثمّ يقف يسـوع جانب المغـارة حيث رأيتُ الشيطان يجرّبه. «فلنتوقّف هنا. اجلسوا. بعد قليل سيصيح الديك. إنّنا نسير منذ ست ساعات، ومِن المفروض أنّكم تَشعُرون بالجوع والعطش، وأن تكونوا قد تعبتم. خذوا. كلوا واشربوا هنا وأنتم تجلسون حولي، بينما أقول لكم شيئاً آخر سوف تقولونه للأصدقاء وللعالم.» يفتح يسوع كيسه ويُخرِج خبزاً وجبناً يَقسِمها ويُوزّعها ويَسكُب ماء مِن مَطَرَته في طاسة ويوزّعه.
«ألا تأكل يا معلّم؟»
«لا. إنّني أتحدّث إليكم. اسمعوا. ذات مرّة سألني إنسان إذا ما كنتُ قد جُرِّبت. سألني إذا ما كنتُ قد اقترفتُ خطيئة يوماً. سألني إذا ما كنتُ، أثناء التجربة، قد رَضَختُ. وقد دُهِشَ مِن أنّني، أنا مَسيّا، لكي أُقاوِم، طَلَبتُ معونة الآب بقولي: "أيّها الآب لا تُدخِلني1 في تجربة".»
يتحدّث يسوع على مهل، كما لو كان يروي حَدَثَاً يجهله الجميع... يخفض يهوذا رأسه كما لو كان قد انزَعَجَ. إنّما الآخرون فَهُم شديدو التركيز بنظرهم إلى يسوع لدرجة أنّهم لا يُلاحِظون بعضهم.
يُتابع يسوع: «الآن، أنتم، يا أصدقائي، سوف تعرفون ماذا تَعَلَّم هذا الإنسان بشكل بسيط جدّاً. بعد العِماد -كنتُ طاهراً، ولكنّنا لا نكون كذلك بالقدر الكافي، مقارنة بالله تعالى. والقول الـمُتواضِع: "إنّني إنسان خاطئ" هو عِماد يُطَهِّر القلب.- بعد العِماد، جئتُ إلى هنا. كنتُ قد دُعيتُ بـ "حَمَل الله" مِن قِبَل الذي، بقداسته، ونبوّته، كان يرى الحقّ وقد رأى الروح هابطاً على الكلمة وجاعلاً إيّاه المسيح بزيت حبّه، بينما صوت الآب يملأ السماوات بصوت كلماته وهو يقول: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ". أنتَ يا يوحنا كنتَ حاضراً عندما رَدَّدَ المعمدان الكلمات... بعد العِماد، رغم طهارتي بالطبيعة وطهارتي بشخصي، أردتُ أن "أتهيّأ". نعم، يا يهوذا. انظُر إليَّ يا يهوذا. انظُر إلى معلّمكَ الذي لم يرضَ أن يتعالى على البشر لكونه مَسيّا، والذي، حتّى مع عِلمِه أنّه ابن الإنسان، أراد أن يَكونَه بكلّ شيء، ما عدا الانحدار إلى الشرّ. هاكَ: إنّه هكذا.»
يَرفَع يهوذا الآن وجهه ويَنظُر إلى يسوع الذي يواجِههُ. نور النجوم جَعَل عينيّ يسوع تُشِعَّان كما لو أنّهما نجمتان، مع إنارة وجهه الشاحب.
«للتهيّؤ إلى درجة المعلّم، ينبغي المرور بالتلمذة. كنتُ أعرف كلّ شيء مثل الله. لقد كان عقلي قادراً أن يجعلني أُدرِك ماهية معارك الإنسان بذكائي وبشكل ذهنيّ. إنّما ذات يوم، قد يتمكّن صديق لي مسـكين، ابن لي مسـكين، مِن القـول، والقـول لي أنـا: "أنتَ لا تعرف ما معنى أن تكون إنساناً وأن تكون عندكَ أحاسيس ورغبات". وقد يكون آنذاك اتِّهاماً صحيحاً. لذا جئتُ إلى هنا، وهنا بالذات، على هذا الجبل، لأتهيّأ... ليس فقط للرسالة... إنّما للتجربة. أترون؟ هنا، حيث أنتم تجلسون، أنا جُرِّبتُ. مِن قِبَل مَن؟ أَمِن قِبَل أحد قابل للموت؟ لا. وإلّا لكانت قُدرته ضعيفة جدّاً. لقد جُرِّبتُ مِن قِبَل الشيطان مباشرة.
كنتُ مُنهَكاً. لم أكن قد ذُقتُ الزَّاد منذ أربعين يوماً... إنّما بقدر ما كنتُ مستغرِقاً في الدعاء، كان كلّ شيء يتلاشى في فَرَح الكلام مع الله، بل أكثر مِن التَّلاشي: أن يُصبِح مُحتَمَلاً. كنتُ أحسّ به مثل انتقاص مادّيّ، يقف عند حدود المادّة فقط... ثمّ، عُدتُ إلى العالم... وعُدتُ لأشعر باحتياجات مَن يَحيَى في هذا العالم. أحسستُ بالجُّوع. ظَمِئتُ. شَعَرتُ ببرد ليل الصحراء القارس. أحسستُ بجسدي الخائر القوى بسبب نقص الغذاء، نقص النوم، والطريق الطويلة التي قَطَعتُ في مثل شروط الإنهاك تلك التي كانت تمنعني مِن الذهاب أبعد مِن ذلك…
كلّ ذلك لأنّ لي جسداً، أنا أيضاً، أيّها الأصدقاء، جسداً حقيقيّاً. وهو يحمل كلّ الأوهان التي يَختَبِرها كلّ جسد. وإضافة إلى الجسد، لديَّ قلب. نعم. فَمِن الإنسان أَخَذتُ الجزء الأوّل والجزء الثاني مِن الأجزاء الثلاثة التي تُكَوِّن الإنسان. أَخَذتُ المادّة بكل متطلّباتها، والحسّ بكل ميوله وأهوائه. وإذا كنتُ، بفعل الإرادة، قد تمكّنتُ مِن كَبح كلّ الأهواء غير الصالحة قبل ولادتها، فلقد تركتُ الميول المقدّسة: ميول الحبّ البنويّ، حبّ الوطن، الصداقات، العمل، حبّ كلّ ما هو رائع ومقدّس، تركتُها تنمو، مُقتَدِرة مثل أرز مُعمِّر لأكثر مِن مائة عام. وهنا، أحسستُ بالحنين إلى الأُمّ البعيدة، عُدتُ إلى الإحساس بالحاجة إلى عنايتها بضعفي كإنسان. هنا أحسستُ بتجدّد الألم الناجم عن ابتعادي عن الواحد الأحد الذي أحبَّني حبّاً كاملاً. هنا عاد لي الإحساس بالعذاب الذي كان مُعدّاً لي وألم آلام تلك المسكينة، التي لن تجد دموعاً لكثرة ما سينبغي لها أن تَذرف منها مِن أجل ابنها وبسبب البشر. هنا عاد لي الإحساس بإعياء البَطَل والنَّاسِك الذي، في خلال ساعة مِن الإحساس الـمُسبَق، وَعَى عدم جدوى جهده... وبكيتُ... والحزن... نداء سحريّ للشيطان. ليسَت خطيئة أن تكون حزيناً إذا كانت الساعة مُسَبِّبة للعذاب. إنّما الخطيئة أن تستسلم للحزن وأن تقع في الفُتور أو القُنوط. فالشيطان يتوجّه فوراً عندما يرى أحداً يَسقُط في هوّة الفتور الروحيّ.
لقد أتاني بثياب مُسافِر مُحِبّ للمعروف. إنّه يتَّخِذ على الدوام مَظهَراً مُستَحَبّاً... كنتُ أتضوّر جوعاً... والأعوام الثلاثون تغلي في عروقي. عَرَضَ عليَّ المساعدة، وبدأ بالقول: "قُل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً". إنّما قبل ذلك... نعم... قبل ذلك، كان قد كَلَّمَني عن المرأة... آه! إنّه يُجيد الكلام عنها. يَعرِفها بِعُمق. ولقد بَدَأ بإفسادها ليجعل منها حليفاً له في عَمَله الـمُفسِد. أنا لستُ فقط ابن الله. أنا يسوع، عامِل الناصرة. ولذلك الرجل، الذي كان يتحدَّث إليَّ آنئذ، سائلاً إيّاي فيما إذا كنتُ قد خَبِرتُ التجربة، وكان يوجّه لي اللوم لأنّني أكاد أكون سعيداً بشكل جائر، لكوني لم أرتكب خطيئة، وقد قلتُ لذاك الإنسان: "الفِعل يتضاءل عند الإشباع. والتجربة لا تتحقّق عندما نُقصِيها وننبذها، إنّما تصبح أكثر عُنفاً خاصّة وأن الشيطان يثيرها". ولقد نَبَذتُ وأَقصَيتُ التجربة الـمُضاعَفة: الجوع إلى المرأة والجوع إلى الخبز. واَعلَموا أنّ الشيطان قد اقتَرَحَ عليَّ الأولى، ولم يكن مخطئاً حسب شرع البشر، كأفضل حليف لِأفرض نفسي على العالم.
وإذ لم تكن التجربة قد هُزِمَت بقولي: "ليس بالإحساس وحده يَحيَى الإنسان"، فقد جاء الكلام معي حينذاك عن رسالتي. كانت تبغي غواية مَسيّا بعد تجربة الإنسان الشاب. وقد دَفَعَتني للقضاء على مسؤولي الهيكل غير الجديرين... والمعجزة لهيب من السماء، لا يلائم لأن يصبح حلقة مِن خيزران يُصنَع منها إكليل... والله لا يُجَرَّب بطريقة الطلب إليه اجتراح معجزات تضع حداً لحياة البشر. هذا ما كان يريده الشيطان. الدافع المبرِّر كان حجة. أمّا الحقيقة فكانت: "مَـجِّد ذاتكَ لكونكَ مَسيّا"، ليقودني إلى الشهوة الأخرى، شهوة الكبرياء.
وعندما لم يستسلم للفشل بعد قولي: "لا تجرّبنّ الربّ إلهكَ"، حاوَلَ المراوغة بقوّة طبيعته الثالثة: الذهب. آه! الذهب. شيء عظيم كالخبز والأعظم المرأة المتعطّشة للخبز أو المسرّات. عظيم جدّاً تهليل الجموع للإنسان… كَم مِن الخطايا تُقتَرَف لأجل هذه الأمور الثلاثة! إنّما الذهب... ولكنّ الذهب... المفتاح الذي يَفتَح، واسطة الإغواء، إنه ألفا وأوميغا ω & α (أوّل وآخر حرف مِن الأبجديّة اليونانيّة، ويقابلها في العربية الألف والياء) تسعة وتسعين بالمائة مِن تصرفات البشر. مِن أجل الخبز والمرأة يصبح الإنسان لصّاً. مِن أجل السُّلطة يذهب حتّى القتل. إنّما مِن أجل الذهب، فهو يصبح وثنيّاً، عابد صنم. مَلِك الذهب: الشيطان، قَدَّمَ لي ذهبه مقابل أن أسجد لـه... وقد طعنتُه بالكلمات الأزليّة: "لله وحده تسجد وإيّاه وحده تعبد".
هنا، هنا حَدَثَ كلّ هذا.»
يَنهَض يسوع. إنّه يبدو أكبر مِن المعتاد في السهل الذي يحيط به، في النور ذي الوميض الفوسفوريّ بشكل خفيف وهو يَسقُط مِن النجوم. يَنهَض التلاميذ كذلك. يُكمِل يسوع الكلام مُركّزاً بشدّة على يهوذا.
«حينئذ أقبَلَ ملائكة الربّ... فلقد أتى ابن الإنسان بالنَّصر الثلاثيّ. لقد كان ابن الإنسان يَعرِف ماذا يعني إنسان، وانتَصَرَ. لقد كان مُنهَكاً. كانت المعركة أكثر إنهاكاً مِن الصوم الطويل... لكنّ الروح كان يُسيطِر... أعتَقِد أن السماوات قد ارتَعَدَت لدى تأكيدي الكامل كإنسان يمتاز بالرُّشد. أعتقد أنّه، منذئذ، حَلَّت فيَّ قُدرة اجتراح المعجزات. لقد كنتُ الله. وكنتُ قد أصبحتُ ابن الإنسان. الآن، وقد انتَصَرتُ على الحيوان الـمُلازِم للطبيعة البشريّة، وأنا الإنسان-الله ، فأنا، مثل الله، أقدر على كلّ شيء. ومثل الإنسان قد اختَبَرتُ كلّ شيء. تصرّفوا أنتم كذلك، مثلي، إذا أردتم صُنع ما أَصنَع. وافعلوا ذلك لذكري.
كان ذلك الإنسان قد دُهِش مِن طَلَبي العون مِن الآب وطَلَبي منه ألّا يُدخِلني1 في التجربة. أن لا يتركني إذاً لخطر تجربة تتجاوز قُدراتي. أظنّ هذا الرجل، الآن وقد عَلِمَ، لن يندَهِش. تصرّفوا أنتم أيضاً كذلك لذكري، ولتَظفَروا مثلي، ولا تَشُكَّوا أبداً لرؤيتكم إيّاي قويّاً في كلّ تجارب الحياة، منتصراً في معركة الحواسّ الخمس، الحسّ والعاطفة، على طبيعتي ككائن بشريّ حقيقيّ، وبالأكثر ككائن إلهيّ. تذكّروا كلّ هذا.
كنتُ قد وعدتُكم أن آخذكم إلى حيث تتمكّنون مِن معرفة المعلّم... منذ فجر أيّامه، فجر نقيّ كالذي على وشك أن يَبزُغ، حتّى ظهيرة حياته، هذه الظهيرة التي انطَلَقتُ منها لملاقاة مساء حياتي... وقد قُلتُ لأحدكم: "أنا أيضاً قد تهيّأتُ". وأنتم تَرَون أنّ هذا حقيقة. أشكركم على مُرافَقَتي في هذه العودة إلى مسقط رأسي وإلى مكان صومي. أولى الاحتكاكات بالعالم، أشعَرَتني بالغثيان وسَبَّبَت لي الإحبـاط. إنّ الأمر لجِدُّ مُســتَهجَن. أمّا الآن فقد تَغَذَّت نفسـي بِنُخاع السَّـبع: الاندمـاج مع الآب في الصلاة والتـوحــّد. يمكنني العودة إلى العـالم لاســتعادة صليبي، صليبـي الأوّل كفــادي: صليب الاحتكاك بالعالم. العالم حيث قليلة جدّاً هي النفوس التي تُدعى مريم، التي تُدعى يوحنّا…
الآن اسمعوا، وخاصّة أنتَ يا يوحنّا…
إنّنا نعود إلى الأُمّ والأصدقاء. فأرجوكم: لا تُخبِروا الأُمّ عن القَسوَة التي واجَهَت حُبّ ابنها. فتُعاني منها الكثير. سوف تتألّم كثيراً مِن فظاظة الإنسان هذه، كثيراً... إنّما لا نقدمنّ لها الكأس منذ الآن. وسوف يكون مُرّاً إلى درجة هائلة عندما سيُقَدَّم لها فيما بعد. مُرّاً جدّاً، بحيث يلسعها سمّ ما سوف يتسلّل مثل ثعبان في أحشائها المقدّسة، وفي شــرايينها، وسيُجَمِّد قلبــها. آه! لا تقـولوا لأُمّي إنّني قد نُبِــذتُ في بيت لحـم وحبرون (الخليل) مثل كلب! ارحموها! أنتَ يا سمعان، أنتَ كبير وطيّب، أنتَ فَكِّر، أَعرِف أنّكَ لن تتكلّم. وأنتَ يا يهوذا، أنتَ يهوديّ ولن تتكلّم بدافع عزّة النفس الوطنيّة. أمّا أنتَ يا يوحنّا، أنتَ الشاب الجليليّ، فلا تقع في خطيئة الكبرياء، الانتقاد والفظاظة. اصمُت. فيما بعد سوف تقول للآخرين ما أرجوكَ أن تصمُت عنه الآن. وحتّى للآخرين، فهناك الكثير مما سيُقال فيما يخصّ المسيح. لماذا خَلط ما يأتي مِن الشيطان ضدّ المسيح معه؟ أيّها الأصدقاء: هل تَعِدونني بكلّ ذلك؟»
«آه! يا معلّم، بكلّ تأكيد نَعِدُكَ! كن مطمئنّاً!»
«شكراً. فلنذهب حتّى تلك الواحة الصغيرة. هناك نبع، خزان مليء ماء بارداً. هناك ظِلّ وخُضرة. الطريق إلى النهر متطرّفة. سوف نتمكّن مِن إيجاد الطعام والراحة هناك حتّى المساء. وعلى ضوء النجوم، سوف نَصِل إلى النهر، إلى المخاضة. وسننتظر يوسف حيث ننضمّ إليه، فهو الآن قد عاد. هيّا.»
ويبدؤون المسير، بينما، مِن الشرق، يُعلِن وميض ورديّ أوّلي بزوغ يوم جديد.
----------
1- الجمعية العامة للمؤتمر الأسقفي الإيطالي في الدورة 72 بتاريخ (15 نوفمبر 2018) في بيانها الختامي: (رابط البيان)، وافقت على تعديل المقطع الأخير من صلاة الأبانا ليصبح: "لا تتركنا نتعرّض للتّجربة" (Non abbandonarci alla tentazione). بدلاً مِن: "لا تُدْخِلنا في تجربة" (Non ci indurre in tentazione). وقد صادق قداسة البابا فرنسيس على هذا التعديل ضمناً في المقابلة العامّة يوم (الأربعاء 1 مايو 2019). (رابط المقابلة).