ج6 - ف110
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
110- (يسوع في إحدى قرى المدن العشر)
02 / 10 / 1944
على ضفّة النهر، قرية ذات بضعة بيوت متواضعة جدّاً. يُفتَرَض أن يكون يسوع قد مضى مِن هنا، عندما اجتاز بالـمَركَب نهر الأردن الفائض. بالفعل قادماً لملاقاة يسوع، الذي بَعَثَ أمامه الإسخريوطيّ وتوما ليهيّئا له الدرب، العَبَّار (الذي ينقل الناس بالـمَركَب) مع ذويه.
العَبَّار، إذ يرى يسوع قادماً مِن بعيد، يحثّ الخطى، وحينما يَصِل أمام يسوع، ينحني انحناءة إجلال بالغة قائلاً: «وصلتَ في الوقت المناسب، يا معلّم، مِن أجل مرضانا. إنّهم ينتظرونكَ. لقد تحدّثتُ عنكَ كثيراً. كلّ القرية تحيّيكَ بواسطتي قائلة: "مبارك هو مَسيّا الله تعالى".»
«السلام لكَ ولهذه القرية. أنا هنا مِن أجلكم. لن تخيب آمالكم. السماء ترحم الذي يؤمن. هيّا بنا.»
يسير يسوع إلى جانب العَبَّار للتوجّه إلى مركز القرية.
نساء وأطفال ورجال يَظهَرون على العتبات، ثمّ يتبعون الموكب الصغير طالما هو يتقدّم. في كلّ متر يتعاظم الجمع، ذلك أنّ أناساً يَفِدون على الدوام للانضمام إلى الذين هم هنا. منهم مَن يحيّي، مَن يُبارِك، ومَن يتوسّل.
«يا معلّم» تهتف امرأة «ابني مريض. تعال، أيّها المبارك!»
يتحوّل يسوع صوب بيت فقير، يضع يده على كتف الأُمّ الباكية ويَسأَل: «أين هو ابنكِ؟»
«ها هنا، يا معلّم، تعال.»
يَدخُل إلى البيت الأُمّ ويسوع والعَبَّار وبطرس ويوحنّا وتدّاوس وبعض مِن الجمهور. يتجمهر الباقون أمام الباب ويمطّون الرقاب ليروا.
في إحدى أركان المطبخ الفقير والمظلم، هناك سرير صغير قريب مِن نار مشتعلة وعليه جثّة صغيرة لولد ابن سبعة أعوام. أقول جثّة صغيرة لشدّة اختزاله واصفراره، دونما حراك. فقط حشرجة لاهثة في الصدر الصغير، مريض بالسل، على ما أظنّ.
«انظر، يا معلّم، لقد بَذَلتُ مدّخراتي كلّها مِن أجل إنقاذه، أقلّه هو. لم يعد لديَّ زوج. ولقد مات ولداي الآخران تقريباً في نفس سنّه. أخذتُه حتّى قيصريّة الساحل لأعرضه على طبيب رومانيّ. ولكنّه لم يعرف سوى القول لي: "استسلمي للأمر. فالنخر يذيبه". انظر...»
وتكشف الأُمّ عن الكائن الصغير المسكين برمي الأغطية إلى الخلف. حيث لا ضمادات، عظام صغيرة محدثة نتوءاً تحت جلد أصفر محروق. إنّما جزء صغير مِن الجسم فقط مكشوف، الآخر تحت الضماد واللباس الذي، عندما تنزعه الأُمّ، تَظهر الحُفَر المميّزة للنتوء العظمي التي ترشح. مشهد يدعو للشفقة. المريض الصغير منهار لدرجة لا تبدر منه أيّة حركة. يبدو وكأنّ الأمر لا يخصّه. بالكاد يفتح عينيه المجوّفتين والغبيّتين وتنظران نظرة لا مبالية، أقول منزعجة، إلى الجمع، ثمّ يعيد إغماضهما.
يلاطفه يسوع. يضع يده الطويلة على الرأس الصغير الذي يستسلم، ويعيد الصبيّ فتح عينيه وهو يَنظُر بأكثر اهتمام إلى هذا المجهول الذي يلمسه بكلّ الحب ويبتسم له بكلّ الرأفة.
«هل تريد أن تُشفى؟» يتكلّم يسوع بهدوء وهو منحن على الوجه الصغير الأصفر. في البدء أعاد الغطاء إلى الجسد الصغير، قائلاً للأُمّ التي كانت تريد تبديل الثياب الداخليّة: «لا حاجة إلى ذلك، يا امرأة. دعيه على حاله.»
دونما كلام ، يشير المريض الصغير بنعم.
«لماذا؟»
«مِن أجل أُمّي» يقول الصوت الصغير الضعيف، الواهن للغاية. تبكي الأُمّ بأكثر شدّة.
«هل ستكون صالحاً على الدوام إذا ما شفيتَ؟ وَلَداً صالحاً؟ مواطناً صالحاً؟ ومؤمناً صالحاً؟» يطرح الأسئلة مُفصِّلاً إيّاها جيّداً، ليتيح للصغير الوقت للإجابة على كلّ سؤال. «هل ستتذكّر ما تَعِد به الآن؟ على الدوام؟»
الـ «نعم» الضعيفة المعبّرة مع ذلك عن رغبة عميقة، تَصدُر الواحدة تلو الأخرى، مثل زفرات النَّفَس.
«أعطني يدكَ، يا صغيري.» يبغي المريض الصغير إعطاءه اليد اليسرى السليمة. ولكنّ يسوع يقول: «أعطني الأخرى. لن أسبّب لكَ الألم.»
«يا ربّ» تقول الأُمّ: «هي ليست سوى جرح. دعني أضمّدها، مِن أجلكَ...»
«لا يهمّ، يا امرأة. أنا لا أشمئزّ إلاّ مِن رجس القلوب. أعطني اليد وقل معي: أريد أن أكون صالحاً كابن، كإنسان وكمؤمن بالله الحقّ".»
يُردّد الصبيّ مُجهِداً صوته الصغير. آه! في هذا الصوت نَفْسه كلّها، الأمل... وبالتأكيد أمل أُمّه كذلك.
صمت مهيب في الغرفة وفي الشارع. يسوع الذي يمسك بيده اليسرى يد المريض اليمنى، يرفع يده اليمنى -إنّها حركته عندما ينطق بحقيقة أو عندما يفرض إرادته على الأمراض أو العناصر- وإذ ينتصب مجدّداً، مهيباً، يقول بصوت ذي سلطان: «وأنا أريد أن تشفى. انهض، أيّها الصبيّ، ومَجِّد الربّ» ويترك اليد الصغيرة التي أصبَحَت الآن سليمة، نحيفة، إنّما دون أيّ خدش، ويقول للأُمّ: «اكشفي عن ابنكِ.»
وجه المرأة يُنبئ عن أحد ينتظر حكماً بالموت أو بالنعمة. بتردّد ترفع الأغطية... تصرخ وترتمي على الجسد الصغير، النحيف للغاية، إنّما السليم، تُقبّله، تشدّه... هي مجنونة مِن الفرح. بحيث لم ترَ يسوع يبتعد عن السرير ويتوجّه صوب الباب.
ولكنّ المريض يراه ويقول: «باركني، يا ربّ، واسمح لي أن أبارككَ. أُمّاه... ألا تشكريه؟»
«آه! عفواً!...» المرأة، والطفل بين ذراعيها، ترتمي عند قدميّ يسوع.
«أَفهَم يا امرأة. امضي بسلام وكوني سعيدة. وداعاً، أيّها الصبيّ، كن صالحاً. وداعاً للجميع.» ويَخرُج.
نساء كثيرات يرفعن أبناءهنّ لتحفظهم بركة يسوع مِن الشرّ، في المستقبل. يتسلّل الصغار بين الكبار ليحظوا بالمداعبة. ويسوع يُبارِك، يُداعِب، يستمع، يتوقّف مجدّداً ليشفي ثلاثة أشخاص عيونهم مريضة، وواحد يهتزّ كما لو أنّه يرقص رقصة القدّيس فيتوس (متلازمة الرقص اللاإرادي). هو قد أَصبَحَ الآن في مركز القرية.
«هنا يتواجد أحد أقربائي، هو أصمّ أبكم منذ الولادة. عقله متيقّظ، ولكنّه لا يستطيع فعل شيء. اشفه، يا يسوع.» يقول العَبَّار.
«قدني إليه.»
يَدخُلان حديقة صغيرة في عمقها شاب، في حوالي الثلاثين مِن عمره، ينتح الماء مِن بئر ليسقي الخضار. كونه لا يسمع ويدير ظهره، لا يتنبّه لما يحصل ويتابع عمله دونما اضطراب، رغم صياح الجمع، بقوّة جعلت الحمامات تهرب خائفة إلى السطح.
يُدرِكه العَبَّار، يمسك بذراعه ويقوده إلى يسوع.
يقف يسوع في مواجهة البائس، قريباً منه، بالحقيقة الجسم جانب الجسم، بشكل أنّه يلمس بلسانه لسان الأبكم الذي بقي فمه مفتوحاً. وإصبعاه الأوسطان في أذنيّ الأصمّ، يصلّي للحظة، عيناه مرتفعتان إلى السماء. ثمّ يقول: «انفتحوا!» ويرفع يديه عنه ويبتعد.
«مَن تكون، أنتَ يا مَن حَرَّرتَ نطقي وسمعي؟» يقول الذي شُفي بمعجزة.
يقوم يسوع بحركة ويحاول متابعة طريقه خارجاً مِن الباب الخلفيّ للبيت. ولكنّ الرجل الذي شُفي والعبّار تَمَسّكا به. الواحد يقول: «إنّه يسوع الناصريّ، مَسيّا» والآخر هاتفاً: «آه! امكث، كي أعبدكَ!»
«اعبد الله تعالى، وكن وفيّاً له على الدوام. اذهب. لا تُضِع وقتكَ بكلام عديم الجدوى، لا تجعل مِن المعجزة مادّة للّهو. استخدم الكلمة للخير، واسمع بقلبكَ أكثر مِن أذنيكَ أصوات الروح الخالق الذي يحبّكَ ويبارككَ.»
ولكن نعم! لا فائدة مِن القول لِمَن هو في غاية السعادة ألاّ يتحدّث عن سبب سعادته! الرجل الذي شُفي يستعيد روعه بعد سنوات مِن الصمم والبكم بالتحدّث إلى كلّ الحاضرين.
يُصرّ العَبَّار على جعل يسوع يدخل بيته للاستراحة واستعادة النشاط. يأخذ على عاتقه أن يكون علّة كلّ الاحترام المحيط بيسوع، ويتعلّق بهذه الفكرة. يريد أن تكون محلّته معروفة.
«ولكنّني أنا وجيه القرية.» يقول عجوز وقور.
«ولكن، لو لم أكن هنا مع مراكبي، لما رأيتَ يسوع» يجيب العَبَّار.
وبطرس الصريح والنّزق على الدوام: «في الحقيقة... لو لم أكن هناك لأقول لكَ شيئاً، أنتَ... المراكب...»
يتدخّل يسوع بتدبير إلهيّ ليوفّق بين الجميع. «هيّا بنا إلى قرب النهر. هناك، في انتظار الطعام، وليكن شحيحاً وبسيطاً، إذ على الطعام أن يَخدم الجسد، لا أن يكون هدف الجسد، أنا، سوف أكرز. وليأتِ معي الذين يبغون الاستماع إليَّ وسؤالي.»
يمكنني القول بأنّ القرية برمّتها تتبعه.
يَصعَد يسوع إلى مَركَب مسحوب إلى مكان جافّ على الشاطئ الرمليّ، ومِن على هذا المنبر المرتجل، كون المستمعين في قبالته، جالسين على شكل نصف دائرة على الشاطئ وبين الأشجار، يتحدّث إليهم.
يتّخذ الموضوع مِن السؤال الذي طرحه عليه أحد الرجال: «شريعتنا، يا معلّم، تبدو وكأنّها تشير إلى أنّ الذين يولدون تعساء هم معاقبون مِن الله، لدرجة أنّها تمنعهم مِن أداء أيّة خدمة في الهيكل. ولكن ما هي خطيئتهم؟ أليس مِن العدل أن يُعَدّ الأهل الذين أنجبوا هذا التعيس هم المذنبين؟ وخاصة أُمّهاتهم؟ وكيف ينبغي لنا التصرّف مع الذين وُلِدوا تعساء؟»
«اسمعوا:
نَحّات عظيم جدّاً، نحّات ممتاز، شَكَّل يوماً تمثالاً وجَعَلَ منه أثراً كاملاً لدرجة أنّه سرّ به وقال: "أريد أن تمتلئ الأرض بروائع مشابهة". ولكنّه لم يكن قادراً على هذا الحجم مِن العمل. فاستدعى أناساً آخرين لمساعدته وقال لهم: "انحتوا، مِن هذا النموذج، ألفاً وعشرة آلاف تمثال بكمال مشابه. أنا أضع عليهم لمستي الأخيرة طابعاً الملامح على مظاهرها". ولكنّ مساعديه لم يكونوا أهلاً للتوصّل إلى ذلك. بالفعل كانت إمكانيّاتهم متدنّية جدّاً عن تلك التي لمعلّمهم، وأكثر مِن ذلك، كانوا قد أصبَحوا سكارى بعض الشيء لتناولهم مِن ثمرة كانت عصارتها تُحدِث هذياناً وضبابيّة. حينئذ أعطاهم النحّات قوالب وقال لهم: "اسبكوا المادّة لتشكيلها. سيكون أثراً تامّاً، وفي النهاية، أَمنَحُها اللمسة الأخيرة لإحيائها". وشَرَعَ المساعدون بالعمل.
لكنّ النحات كان له عدوّ كبير: عدوّ شخصيّ وعدوّ لمساعديه. كان هذا العدوّ يعمل بشتّى الطرق على أن يشوّه صورة النحات، وأن يخلق تبايناً في الرأي بينه هو ومساعديه. لذلك، فَعَّل دهاءه في أعمالهم: تارّة في إفساد المادة التي كان مِن الواجب إسالتها في القوالب، وتارّة بتخفيف توهّج النار، وتارّة بإثارة المساعدين بشكل مغالى فيه. والذي حصل بالتالي أنّ رئيس العالم، كي يتحاشى قدر الإمكان ألاّ تَخرُج النُّسخ غير تامة، اتَّخذَ تدابير صارمة ضدّ النُّسخ الخارجة بشكل غير تامّ. وكان أحدها أن نُسخاً كثيرة لم يكن مِن الممكن عرضها في بيت الله. فهناك ينبغي على الكلّ أن يكون كاملاً. أقول "ينبغي" لأنّه لم يكن هكذا. حتّى ولو كان الظاهر جيّداً، الواقع لم يكن كذلك. فالذين كانوا حاضرين في بيت الله يَبدون دون عيب، ولكنّ عين الله تكتشف فيهم العيوب الأفظع: تلك التي تنتمي للقلب.
آه! القلب! به يُخدَم الله. في الحقيقة، به. لا حاجة ولا يكفي أن تكون العين نقيّة والسمع تامّاً، الصوت رخيماً، والجسم جميلاً، لترتيل التسبيح المستساغ لدى الله. لا حاجة ولا يكفي أن تكون لدى المرء ألبسة بهيّة، نظيفة ومعطّرة. بل النقاء والكمال والتناغم والإتقان يجب أن يكون بالروح، في النَّظَر والسَّمَع والصوت، وفي الحالات الروحيّة، وينبغي لهذه أن تكون مزيّنة بالطُّهر؛ هو ذا الثوب البهيّ، النظيف والمعطّر بالمحبّة: هو ذا الزيت المشبع بالخُلاصات التي ترضي الله.
وأيّة محبّة هي تلك التي لدى أحد ما، كونه سعيداً ويرى بائساً، يشعر تجاهه بالاحتقار والكراهية؟ إنّما على العكس، ينبغي مبادرة البريء والتعيس بالولادة بمحبّة مضاعفة، بل مثلّثة الأضعاف. البؤس ألم يمنح الأجر لِمَن يتحمّله ولِمَن هو مبتلى برؤيته يتحمّله، ويتألّم بحبّ الأهل، وقد يَطرق على صدره، مفكّراً: "هو أنا، بآثامي، السبب بهذا الألم". وينبغي ألاّ يصبح البؤس مطلقاً سبباً لخطيئة روحيّة لِمَن يراه. النَّظَر يصبح خطيئة إذا ما أدّى إلى ما هو ضدّ المحبّة. مِن أجل هذا أقول لكم: "لا تكونوا خاليين مِن المحبّة تجاه قريبكم. هل وُلِد بائساً؟ أحبّوه لأنّه يحمل ألمه العظيم. هل أصبَحَ بائساً لخطأ منه؟ أحبّوه لأنّ خطيئته قد تحوّلت إلى عقاب. هل هو أبو أحد ما وُلِد بائساً أو أصبح كذلك؟ أحبّوه إذ ما مِن ألم أعظم مِن ألم أب ابتلي بابنه. هل هي أُمّ حَمَلَت مسخاً؟ أحبّوها فهي حتماً مسحوقة بهذا الألم الذي تظنّه الأكثر لا إنسانيّة. إنّه ألم قاسٍ. هي كذلك بالأكثر أيضاً تلك المرأة التي وَلَدَت مسخاً بالنَّفْس، وهي تلاحظ أنّها وَلَدَت شيطاناً وخطراً على الأرض، على الوطن، على العائلة وعلى الأصدقاء. آه! هذه الأُمّ التي لا تجرؤ حتّى على رفع جبهتها، الأُمّ المسكينة لكائن متوحّش، حقير، قاتل، خائن، سارق، فاسد!
حسناً، أقول لكم: "أحبّوا هذه الأُمّهات، الأكثر شقاء". اللواتي يمررن في التاريخ تحت اسم أُمّهات مجرمين، خونة.
في كلّ مكان، سَمِعَت الأرض بكاء أُمّهات مزّقهنّ موت ابنهنّ الوحشيّ. منذ حوّاء، كَم مِن الأمّهات شعرن بأحشائهنّ تتمزّق بأكثر ألماً مِن آلام الولادة، ولكن ماذا أقول؟ شعرن بأحشائهنّ تُنتَزع منهنّ ومعها القلب، بيد متوحّشة، أمام جثّة الابن المقتول، المعدم، المستشهد بفعل الناس. لقد صرخن مِن الألم الفظيع، مرتميات في هذيان تشنّجي لحبّهنّ المتألّم لجثّة لم تكن لتسمعهنّ بعد، لم تكن لتشعر بحرارتهنّ، لم تكن لتستطيع القيام بأيّة حركة لتقول ولو بالنَّظَر أو بإشارة، إذا لم تكن بمقدورها بعد قولها: "إنّي أسمعكِ يا أُمّي".
ومع ذلك أقول لكم إنّ الأرض لم تَسمَع بعد الصرخة، ولا تقبّلت دموع المرأة الأكثر قداسة والمرأة الأكثر تعاسة، مِن اللواتي سيبقين إلى الأبد في ذكرى الإنسان: أُمّ الفادي المحكوم عليه بالموت، وأُمّ الذي خانه. هاتان الاثنتان، الشهيدتان بشكلين مختلفين، ستُسمَعان على بُعد أميال، ستُسمَعان تئنّان، وستكون الأُمّ البريئة والقدّيسة، الأكثر براءة، أُمّ البريء البريئة، التي ستقول لأختها البعيدة، شهيدة ابن قاسٍ أكثر مِن أيّ شيء آخر: "أختاه، أحبّكِ".
أَحِبّوا لتكونوا أهلاً لِمَن سوف تُحِبُّ مِن أجل كلّ الناس وستحبّ كلّ الناس. فالحبّ هو الذي سيخلّص الأرض.»
يَنزل يسوع مِن منبره الريفيّ وينحني ليلاطف وَلَداً نصف عارٍ في قميصه الصغير، يتمرّغ في عشب الشاطئ. بعد الكثير مِن الكلام الرائع، كَم هو ممتع رؤية المعلّم هكذا يهتمّ بطفل صغير، كإنسان عادي، وبعد ذلك يَكسر الخبز، يُقدّمه ويعطيه لأقرب المجاورين ويجلس ليأكل كالرجال الآخرين بينما، بالتأكيد، في قلبه يَسمَع صرخة أُمّه المتألّمة، ويرى يهوذا إلى جانبه.
بالنسبة لي، حادّ جدّاً هو هذا التحكّم بمشاعره الذي يؤثّر فيَّ أكثر مِن أشياء أخرى كثيرة. تعليم مستمرّ أتلقّاه. أمّا بالنسبة إلى الذين هم هنا، يبدو أنّهم قد ظلّوا قطعاً مفتونين. يأكلون، شاردي الذهن وصامتين، وهُم ينظرون بإجلال إلى معلّم الحبّ الوديع.