ج7 - ف236

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

236- (يسوع ويوحنّا بن زَبْدي)

 

14 / 12 / 1946

 

إنّها صبيحة شتويّة صافية إنّما قارسة. فالصقيع قد بَيَّض بالدقيق البلّوريّ وبلّوراته الأرض والعشب، وأحال بعض الغصينات اليابسة الملقاة على الأرض إلى جواهر ثمينة مغشّاة بلآلئ.

 

يوحنّا يخرج مِن مغارته. إنّه شاحب جدّاً بثوبه الكستنائيّ الداكن. لا بدّ أنّه يشعر ببرد شديد أو أنّه متألّم. لا أدري. ما أعلمه هو أنّه بشحوب شبه مُزرَقّ، ومشيته غير واثقة كأنّه شخص ليس على ما يرام. يمضي صوب الجدول، يتساءل عمّا إذا كان سيغمس فيه يديه أم لا، مِن ثمّ يحسم أمره، يجمع يديه، ويشرب جرعة مِن هذا الماء الصافي إنّما الشديد البرودة بالتأكيد. ينفض يديه ويُنهي تنشيفهما بطرف ثوبه. ثمّ يلبث حائراً… ينظر صوب الخرائب حيث يسوع، وصوب ملاذه. يعود إلى ملاذه على مهل ولكن، ما إن وصل إلى فتحة المدخل، حتّى أصابه نوع مِن الدوار وترنّح. كاد يقع لو لم يستند إلى الجدار شبه المنهار. يلبث هناك ورأسه مستند إلى ذراعه المطويّة، مستنداً إلى الجدار لبعض الوقت، ثمّ يرفع رأسه وينظر حوله… لا يعاود الدخول إلى ملاذه. ومتّكئاً إلى الجدار، ومتعلّقاً بالحجارة الناتئة والمجرّدة مِن الجصّ، يقطع الخطوات القليلة الّتي تفصله عن الإسطبل حيث يسوع، وبوصوله إلى العتبة تقريباً، يخرّ على ركبتيه وينوح: «يا يسوع، ربّي، ارحمني!»

 

سرعان ما يظهر يسوع: «يوحنّا! ماذا تفعل؟ ما بكَ؟»

 

«آه! يا ربّي! إنّني جائع! إنّني لم آكل أيّ شيء منذ يومين تقريباً. إنّني جائع وبردان...» وتصطكّ أسنانه، وهو شاحب جدّاً.

 

«تعال! تعال إلى الداخل!» يقول يسوع وهو يساعده على النهوض.

 

الرسول، مستنداً إلى ذراع يسوع، يبكي ورأسه محنيّ إلى كتفه، ويشهق: «لا تعاقبني يا ربّ، لقد عصيتُكَ...»

 

يسوع يجيبه مبتسماً: «لقد عوقبت بالفعل. إنّكَ مثل شخص يحتضر… اجلس هنا، على هذا الحجر. الآن سأشعل ناراً وسأعطيكَ ما تأكله...» وبالصوفان يُشعِل يسوع بعضاً مِن غصينات، ويوقد ناراً لا بأس بها فوق الموقد البدائي قرب الباب. رائحة الأغصان المحترقة وألسنة اللهب الـمُبهِجة تنتشر في المغارة البائسة، ويسوع يشكّ قطعتيّ خبز بعود ويقرّبه مِن اللهب، وعندما يرى بأنّها ساخنة، يكسوها بالقلب الدسم للأجبان الّتي تركها الرعاة، والجبن يلين ويذوب فوق الخبز الّذي يبقيه يسوع فوق اللهب كما لو كان طبقاً.

 

«الآن كُل ولا تبكِ.» يقول يسوع وهو لا يزال يبتسم، ممرّراً الخبز ليوحنّا الّذي يبكي دونما صوت مثل طفل مُنهَك، ولا يكفّ عن ذرف الدموع حتّى وهو يأكل بشراهة هذا الطعام المقوّي.

 

يسوع يتّجه صوب الـمَعلَف ويعود ببعض تفاحات، يضعها تحت الرماد الّذي سخن بفضل حرارة الخشب الّذي يحترق، يسنده حجران يقومان مقام دعامتين.

 

«هل الحال أفضل الآن؟» يَسأَل يسوع وهو يجلس قرب رسوله، الّذي يومئ برأسه بالإيجاب، وهو لا يكفّ عن البكاء.

 

يسوع يطوّق عنقه بذراعه ويجذبه إليه، الأمر الّذي يزيد مِن حدّة بكاء يوحنّا، الّذي لا يزال منهكاً جدّاً ومشوّشاً جدّاً، الّذي ربّما هو بسبب الخوف مِن مَلامة، بسبب الانفعال لرؤية نفسه مُرَحّباً به هكذا، لا يقدر على القيام بشيء آخر غير البكاء.

 

يسوع يبقيه مضموماً إليه دون أن يتكلّم طالما الآخر يأكل. ثمّ يقول: «كفى للآن. التفاح ستناله لاحقاً. أودّ إعطاءكَ قليلاً مِن الخمر، إنّما ليس لديَّ. لقد وجدتُ أوّل أمس، عند الفجر، حطباً وطعاماً خارج الإسطبل. إنّما لم يكن هناك خمر، وبالتالي لا يمكنني إعطاؤكَ منه. ربّما لو كان الوقت متقدّماً أكثر، لأمكنني أن أطلب الحليب مِن رعاة قد رأيتُهم يرعون القطيع في ما وراء الجدول. لكن طالما أنّ الصقيع لم يذب، فالقطعان لا تخرج...»

 

«إنّ حالي أفضل بالفعل يا ربّ… لا تشغل بالكَ بي.»

 

«وأنتَ إذن ما الّذي يثقل كاهلكَ، بحيث تبدو تماماً كما شجرة تذيب الشمس عنها الصقيع؟» يقول يسوع مبتسماً بحيويّة أكثر بعد، ويُقبّل يوحنّا عند أعلى جبينه.

 

«لأنّني طافح ندماً يا ربّ… و… نعم! دعني أفعل! ينبغي لي أن أكلّمكَ راكعاً، أطلب مغفرتكَ...»

 

«أيا يوحنّا المسكين! حقّاً إنّ إجهاداً يفوق طاقتكَ قد أضعف حتّى تفكيركَ. وهل تظنّ أنّني بحاجة إلى كلامكَ كي أحكم عليكَ وأغفر لكَ؟»

 

«نعم، نعم. إنّكَ تعلم كلّ شيء، أعلم ذلك. لكنّني لن أحظى بسلام طالما لم أَبُح لكَ بخطيئتي، بالأحرى خطاياي. دعني أفعل. دعني أعترف بخطاياي.»

 

«حسناً، تكلّم، إن كان على ذلك أن يمنحكَ السلام.»

 

يوحنّا ينزلق على ركبتيه، ورافعاً وجهه الدامع، يقول: «لقد ارتكبتُ خطيئة عصيان، خطيئة التخمين وخطيئة… لا أدري إذا ما كنتُ أُحسِن قولها "الكينونة البشرية". إنّما هذه حتماً هي خطيئتي الأكثر حداثةً، الأكثر جسامة، الّتي تسبّب لي الألم الأعظم، والّتي تخبرني كم أنا خادم بلا جدوى، بل بالأحرى، كم أنا أنانيّ، دنيء.»

 

الدموع تغسل وجهه بحقّ، بينما بالنسبة ليسوع فإنّ الابتسامة تجعل وجهه أكثر فأكثر إشراقاً. يسوع يلبث محنيّاً بعض الشيء فوق رسوله الباكي، والابتسامة الإلهيّة مفعمة ملاطفة لألم يوحنّا. ولكنّ يوحنّا محزون إلى درجة أنّه لا يجد تعزية حتّى في هذه الابتسامة، ويتابع: «لقد عصيتُكَ. لقد قلتَ بوجوب عدم انفصالنا، وأنا انفصلتُ فوراً عن رفاقي وسَبَّبتُ لهم البلبلة. وأجبتُ يهوذا الاسخريوطيّ بأسلوب سيّئ، الّذي كان يلفت نظري إلى أنّني كنتُ أخطئ. لقد قلتُ: "أنتَ قد فعلتَ ذلك البارحة، وأنا أفعله اليوم. أنتَ فعلتَ ذلك كي تحصل على أخبار عن أُمّكَ، وأنا أفعله كي أكون مع المعلّم وأسهر عليه، لأحميه"... لقد أفرطتُ في الاعْتِداد بنفسي لأنّني كنتُ أريد أن أفعل ذلك… أنا، المسكين العاجز، أحميكَ أنتَ! ومِن ثمّ كنتُ معتدّاً بنفسي لأنّني أردتُ أن أقلّدكَ. لقد قلتُ: "حتماً هو يصلّي ويصوم. سوف أفعل ما يفعل ولذات مقصده". وعلى العكس...» البكاء يستحيل نحيباً فيما اعتراف البؤس البشريّ، المادّة الّتي تغلّبت على إرادة الروح، يخرج مِن شفتيّ يوحنّا: «وعلى العكس… لقد نمتُ. لقد نمتُ على الفور! ولم أنهض إلّا في وضح النهار، وقد رأيتُكَ تمضي إلى الجدول، تغتسل، تعود إلى هنا، وأدركتُ أنّهم قد كانوا ليقبضوا عليكَ حتّى مِن دون أن أكون مستعدّاً للدفاع عنكَ. ومِن ثمّ كنتُ أريد أن أُكفّر وأصوم، لكنّني لم أكن أهلاً لفعل ذلك. وبلقمات صغيرة، بالكاد كيلا آكل، فقد انتهيتُ إلى أكل كلّ خبزي القليل في اليوم الأوّل. وأنتَ تعلم أنّني لم أكن أملك شيئاً آخر. لقد أنهيتُ كلّ شيء ولم أكن قد شبعتُ بعد. وفي اليوم التالي شعرتُ بجوع أكثر بعد، وهذه الليلة… آه! ليلة أمس بالكاد نمتُ بسبب الجوع والبرد، وهذه الليلة لم أنم أبداً… وهذا الصباح لم أُحسِن المقاومة أكثر… وقد أتيتُ لأنّني خفتُ مِن الموت إعياءً… وهذا أكثر ما يؤلمني: أنّني لم أُحسِن أن أكون صاحياً كي أصلّي وأسهر عليكَ، وأنّني أحسنتُ القيام بذلك بسبب عضّات الجوع… إنّني خادم أبله وجبان. عاقبني يا يسوع!»

 

«أيّها الطفل المسكين! أودُّ لو أنّ العالم أجمع ينوح على خطايا تشبه خطاياكَ! إنّما أنصت! انهض وأنصت إليَّ، وسيعود السلام إلى قلبكَ. هل عصيتَ أيضاً سمعان بن يونى؟»

 

«لا يا معلّم. ما كنتُ لأفعل ذلك أبداً، لأنّكَ قلتَ أنّ علينا أن نبقى خاضعين له كما لأخ بِكر. إنّما هو، عندما قلتُ له: "إنّ قلبي غير مطمئنّ لرؤيته يمضي وحده"، قد أجاب: "معكَ حقّ. لكنّني لا أستطيع الذهاب لأنّ عليَّ واجب قيادتكم كلّكم. اذهب أنتَ، وليرافقكَ الله". الآخرون رفعوا الصوت، ويهوذا أكثر مِن الآخرين. لقد ذَكَّروا بالطاعة، وحتّى إنّهم لاموا سمعان بطرس.»

 

«لاموا؟ كن صادقاً يا يوحنّا.»

 

«هذا صحيح يا معلّم. هو يهوذا مَن لام سمعان، وأساء معاملتي. الآخرون فقط قالوا: "إنّ المعلّم قد أمر بأن نبقى معاً". وكانوا يقولون ذلك لي، لا لرئيسنا. لكنّ سمعان أجاب: "إنّ الله يرى غاية الفعل وسيغفر. والمعلّم سيغفر، لأنّ ذلك مِن قَبيل المحبّة"، وقد باركني وقَبَّلني وأرسلني في إثركَ، كما في ذاك اليوم الّذي فيه ذهبت مع خُوزي إلى ما وراء البحيرة.»

 

«فإذن ليس عليَّ أن أغفر لكَ هذه الخطيئة...»

 

«ألأنّها بغاية الجسامة؟»

 

«لا. لأنّها غير موجودة. عُد إلى هنا يا يوحنّا، إلى جانب معلّمكَ وأَنصِت إلى درسه. ينبغي أن نُحسِن تطبيق الأوامر ببرّ وبصيرة، بأن نُحسِن إدراك روح الأمر، لا فقط الحروف الّتي تُشكّل الأمر. لقد قلتُ: "لا تنفصلوا". وأنتَ انفصلتَ وبالتالي كنتَ لترتكب خطيئة. لكنّني قلتُ قبلاً: "كونوا متّحدين بالجسد والروح، خاضعين لبطرس". وبهذه الكلمات اخترتُه ممثّلي الشرعيّ بينكم، مع صلاحيّات كاملة بتقدير الأمور وقيادتكم. وبالتالي، فإنّ ما فعله بطرس أو ما سيفعله في غيابي، سيكون فِعلاً حَسناً. فكوني أنا مَن منحه سلطة قيادتكم، فإنّ روح الربّ، الّذي هو فيَّ، سيكون كذلك معه وسيرشده في توجيه الأوامر الّتي تفرضها الظروف وتوحي بها الحكمة للرسول الرئيس لأجل خير الجميع. ولو أنّ بطرس كان قد قال لكَ: "لا تذهب". وكنتَ قد أتيتَ على حدّ سواء، فحتّى الغاية الصالحة لفعلكَ -إرادتكَ اللحاق بي بدافع محبّة بغية أن تدافع عنّي وتكون معي في المخاطر- ما كانت لتكفي لمحو خطيئتكَ. وكانت مغفرتي تلزم بحقّ. لكنّ بطرس، رئيسكَ، قال لكَ: "اذهب". فإنّ إطاعتكَ له تبرّركَ تماماً. هل أنتَ مقتنع بذلك؟»

 

«نعم يا معلّم.»

 

«هل عليّ أن أغفر لكَ خطيئة الاعْتِداد بالنَّفْس؟ قل لي، مِن دون أن تفكّر إذا ما كنتُ أرى قلبكَ. هل اعتددتَ بنفسكَ بدافع كبرياء لتقليدي كي تتمكّن مِن القول: "إنّني بإرادتي قد أخمدتُ احتياجات الجسد، لأنّني قادر على فعل ما أريد؟". فكّر بذلك جيّداً...»

 

يوحنّا يفكّر. ثمّ يقول: «لا يا ربّ. بتفحّصي لنفسي جيّداً، لا، لم أفعل الأمر لأجل ذلك. كنتُ آمل بالتمكّن مِن فِعله لأنّني كنتُ قد فهمتُ أنّ التكفير هو ألم للجسد، لكنّه نور للروح. لقد أدركتُ أنّه وسيلة لتقوية ضعفنا ونيل الكثير مِن الله. أنتَ تفعله لأجل ذلك. وأنا لأجل ذلك كنتُ أريد فِعله. وأظنّني لا أخطئ بالقول بأنّ، إذا ما كنتَ تفعله أنتَ القويّ، القادر، القدّوس، فأنا، نحن، علينا أن نفعله على الدوام، إذا ما كان بالإمكان فِعله دوماً، كي نكون أقلّ ضعفاً وأقلّ مادّيّة. لكنّني لم أستطع فِعله. إنّني ما زلتُ جائعاً، وأشعر بنعاس شديد…» والدموع تعاود الانسياب على مهل، بتواضع، اعترافاً حقيقيّاً بمحدوديّة القدرات البشريّة.

 

«فإذن، هل تعتقد أنتَ أنّ البؤس الجسديّ الضئيل هذا قد كان بلا جدوى؟ آه! كم ستتذكّره في المستقبل، عندما تواجه تجربة أن تكون قاسياً ومتطلّباً تجاه تلاميذكَ ومؤمنيكَ! فهو ما سوف يعود إلى فكركَ ليقول لكَ: "تذكّر أنّكَ أنتَ أيضاً قد استسلمتَ للتعب، للجوع. لا تطالب أن يكون الآخرون أقوى منكَ. كُن أباً لمؤمنيكَ، كما "كان معلّمكَ أباً لكَ في ذاك الصباح". قد كنتَ لتستطيع أن تُحسِن جدّاً السهر، وألّا تشعر بعد بذاك الجوع الشديد. لكنّ الربّ قد سمح بأن تنكسر أمام احتياجات الجسد تلك لجعلكَ متواضعاً، دوماً أكثر فأكثر تواضعاً ورحمة تجاه أمثالكَ.

 

كثيرون هم الّذين لا يُحسِنون التمييز بين تجربة وخطيئة مُنجَزَة. إنّ الأولى هي اختبار يمنح استحقاقاً ولا ينتزع النعمة، والثانية هي سقوط ينتزع الاستحقاق والنعمة. وآخرون لا يُحسِنون التمييز بين أحداث طبيعيّة وخطايا، ويتوجّسون مِن أنّهم قد أخطأوا، بينما، وهي حالتكَ، لم يكن الأمر سوى إطاعة لنواميس طبيعيّة صالحة. وبقولي "صالحة" أميّز النواميس الطبيعيّة مِن الغرائز الـمُنفَلِتة، لأنّ ليس كلّ ما يدعى اليوم "نواميس طبيعيّة"، هي كذلك، وهي صالحة. قد كانت صالحة كلّ النواميس المرتبطة بالطبيعة البشريّة، الّتي كان الله قد منحها للأبويَن الأوّلَيين: الحاجة إلى الطعام، الراحة، الشراب. ثمّ، مع الخطيئة، فإنّ الغرائز الحيوانيّة، الجموح، الشهوانيّة مِن كلّ نوع، قد حلّت وتداخلت مع النواميس الطبيعيّة، مُدنِّسةً بانفلاتها كلّ ما كان صالحاً، بغياب الاعتدال. والشيطان أبقى النار متّقدة، وحَفَّز الرذائل بتجاربه. والآن بإمكانكَ أن ترى أنّه إن لم تكن الاستجابة لحاجة الطعام والراحة خطيئة، فخطيئة هي الشراهة، السُّكر، الخمول الـمُطَوَّل. كذلك الحاجة إلى الاقتران والإنجاب ليست خطيئة، لا بل إنّ الله قد أعطى الأمر بفعل ذلك لملء الأرض بالبشر، إنّما ليس صالحاً الاتّحاد فقط لإشباع الحواس. هل أنتَ مقتنع بهذا أيضاً؟»

 

«نعم يا معلّم. إنما قل لي إذن أمراً. أولئك الّذين لا يريدون الإنجاب، أيخطئون ضدّ أمر الله؟ لقد قلتَ مرّة أنّ حالة البتوليّة هي أمر جيّد.»

 

«إنّها الأكثر كمالاً. كما أنّها الأكثر كمالاً حالة ذاك الّذي، إذ إنّه غير راضٍ عن حسن استخدامه لثرواته، فإنّه يتجرّد منها تماماً. إنّها كمالات تستطيع المخلوقات بلوغها. وسوف تكافأ عليها مكافأة عظيمة. ثلاثة هي الأمور الأكثر كمالاً: الفقر الاختياريّ، العفّة الدائمة، الطاعة المطلقة في كلّ ما ليس خطيئة. هذه الأمور الثلاثة تجعل الإنسان شبيهاً بالملائكة. وواحد هو الكمال المطلق: بذل حياتنا حُبّاً بالله والإخوة. هذا الأمر يجعل الإنسان شبيها بي، لأنّه يرتقي به إلى المحبّة المطلقة. ومَن يحبّ بشكل مطلق هو شبيه بالله، غارق في الله ومنصهر معه. كن في سلام إذن يا محبوبي. فلا خطيئة فيكَ. إنّني أقول لكَ ذلك، فلماذا إذن تزيد حدّة بكائكَ؟»

 

«لأنّ هناك خطيئة بعد. خطيئة أنّني قد استطعت المجيء إليكَ بدافع حاجة، وأنّني استطعتُ السهر بسبب الجوع، لا بدافع المحبّة. هذا لن أغفره لنفسي أبداً. ولن يحدث لي بعد. لن أنام أبداً فيما أنتَ تتألّم. لن أنساكَ وأنام بينما أنتَ تبكي.»

 

«لا ترتهن للمستقبل يا يوحنّا. إنّ إرادتكَ مستعدّة، إنّما لا يزال يمكن للجسد أن يغلبها، وقد تصاب بخيبة أمل عميقة وغير مجدية إذا ما تذكّرتَ لاحقاً هذا الوعد الّذي قطعتَه على نفسكَ، ولم تلتزم به بعد ذلك بسبب هشاشة الجسد. انظر. أنا أقول لكَ ما ينبغي أن تقوله كي تكون في سلام، مهما حدث لكَ. قُل معي: "أنا، بمعونة الله، أنوي، بقدر ما سيكون باستطاعتي، ألّا أخضع بعد لأثقال الجسد". وكن ثابتاً في هذه الإرادة. وإذا ما حصل يوماً بعد ذلك، حتّى مِن دون أن ترغب بالأمر، أن تمكّن الجسد المتعب والـمُثبَط مِن التغلب على إرادتكَ، فآنذاك إذن تقول كما الآن: "إنّني أعترف بأنّني إنسان مسكين مثل كلّ إخوتي، وليجعلني ذلك ألجم كبريائي". آه! يا يوحنّا، يا يوحنّا! ليس نومكَ البريء هو ما يمكن أن يسبّب لي الألم! هاك. هذه سوف تقوّيكَ تماماً. سوف نتقاسمها فيما بيننا، مُبارِكَين مَن قدّموها لي.» ويتناول التفاحات الّتي هي الآن ناضجة وساخنة، ويعطي ثلاثاً منها ليوحنّا، ويحتفظ لنفسه بثلاث.

 

«مَن أعطاكَ إيّاها يا ربّ؟ مَن أتى إليكَ؟ مَن كان يعلم أنّكَ هنا؟ فأنا لم أسمع أصواتاً ولا خطوات. رغم أنّني، بعد الليلة الأولى، لم أكفّ عن السهر...»

 

«لقد خرجتُ عند بزوغ الفجر. وكان هناك أمام المدخل حُزَم خشب، وفوقها خبز، أجبان وتفّاح. لم أَرَ أحداً. إنّما قلّة هم الّذين يمكنهم أن يشعروا بالرغبة في تكرار حجّ وبادرة محبّة...» يقول يسوع على مهل.

 

«هذا صحيح! الرعاة! كانوا قد قالوا ذلك: "سنذهب إلى أرض داود… إنّها أيّام ذكرى...". لكن لماذا لم يتوقّفوا؟»

 

«لماذا؟ لقد عبدوا و...»

 

«وأشفقوا. عبدوكَ وأشفقوا عليَّ… إنّهم أفضل منّا أولئك الرجال.»

 

«نعم. لقد حفظوا إرادتهم صالحة، وصالحة دوماً أكثر. بالنسبة لهم، العطية الّتي منحها الله لهم لم تصبح وبالاً عليهم...» يسوع ما عاد يبتسم. إنّه يفكّر ويغدو حزيناً. ثمّ ينتفض. ينظر إلى يوحنّا الّذي ينظر إليه، ثمّ يقول: «فإذن؟ أنرحل؟ ألم تعد منهكاً؟»

 

«لا يا معلّم. لن أكون بغاية الصلابة، على ما أظنّ، لأنّ أطرافي متألّمة، لكنّني أعتقد بأنّني أستطيع السير.»

 

«فلنمضِ إذن. اذهب لجلب كيسكَ، فيما أجمع البقايا في كيسي، ولنمضِ. سوف نسلك الطريق الّتي تمضي صوب الأردن كي نتجنّب أورشليم.»

 

وعند عودة يوحنّا يشرعان بالمسير، مُعاوِدَين سلوك الطريق الّتي سلكاها عند المجيء، ويبتعدان عبر الريف الّذي يدفأ في شمس كانون الأوّل [ديسمبر] اللطيفة.