ج4 - ف111

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

111- (في بيت لحم الجليل)

 

09 / 08 / 1945

 

وَصَلوا إلى بيت لحم الجليل مساءً. قَدَر الـمُدُن التي تَحمِل هذا الاسم أن تمتدّ على روابٍ مُتماوِجة، مُحاطَة بالخُضرة، بالغابات والحقول والمراعي التي تَرعى فيها القِطعان النَّازِلة إلى حظائرها ليلاً.

 

السماء حمراء، بقيّة غَسَق يتلاشى. الجوّ مليء بالموسيقى الرّعائيّة مِن أجراس وثُغاءات مُرتَجِفة، تنضمّ إليها أصوات فَرِحَة لأطفال يَلعبون، وأصوات أُمّهاتهم تناديهم.

 

«اذهب يا يهوذا بن سمعان، مع سمعان، للبحث عن مأوى لنا وللنساء. النَّـزل في مركز البلدة، وسوف نوافيكم إلى هناك.»

 

بينما يُنفِّذ يهوذا والغيور الأمر، يَلتَفِت يسوع إلى أُمّه ويقول: «لن تكون هذه المرّة كما في بيت لحم الأخرى تلك. سَتَجِدين مكاناً تستريحين فيه، يا أُمّي. فلا كَثرة في عدد المسافرين، في هذا الموسم، كما ليس هناك اكتتاب.»

 

«في هذا الفصل، يَطيب النوم في المروج، أو وسط هذه المراعي، بين الحِملان.» وتبتسم مريم لابنها، وتَبتَسِم لِرُعاة صغار فضوليّين، يُمعِنون في النَّظَر إليها. تبتسم بطريقة جَعَلَت أحدهم يقول لرفيقه، بعد أن يُنبِّهه بِمِرفَقه: «قد تكون هي ولا أحد سِواها.» ويتقدَّم واثِقاً مِن نفسه وقائلاً: «السلام عليكِ يا مريم، يا ممتلئة نِعمة، هل السيّد معكِ؟»

 

وتُجيب مريم بابتسامة أكثر عذوبة: «هو ذا السيّد.» وتُشير إلى يسوع الذي التَفَتَ ليتحدّث إلى ابني عمّه، مُكلِّفاً إيّاهما بتوزيع الصَّدَقات على المساكين الذين يَقتَرِبون سائِلين نائِحين. وتَلمس الأُمّ ابنها بِلُطف قائلة له: «بنيّ، هؤلاء الرُّعاة يطلبونكَ، وقد تَعرَّفوا إليَّ، لستُ أدري كيف...»

 

«لا بُدَّ أن يكون إسحاق قد مَرَّ مِن هنا تاركاً عِطر الوَحي. أَقبِل إلى هنا أيّها الصبي.»

 

الرَّاعي، أَسمَر، وهو بين الثانية عشرة والرابعة عشرة مِن العُمر، قويّ البنية رغم هُزاله، عيناه سوداوان حيويّتان جدّاً، وشَعره يَنسَدِل حالِك السَّواد مُلبَّداً، وقد تدثَّرَ جِلد نَعجة، يبدو لي نسخة طبق الأصل عن السَّابق، يَدنو مِن يسوع، مع ابتسامة سعادة، مَسلوب اللُّبّ.

 

«السلام لكَ، أيّها الصبيّ، كيف تعرَّفتَ إلى مريم؟»

 

«لأنّ لِأُمّ الـمُخلِّص فقط يمكن أن تكون تلك الابتسامة وذلك الوجه. لقد قيل لي: "وَجه ملاك، عينان كالنجوم، وابتسامة أعذَب مِن قُبلة الأُمّ، إنّها وديعة مثل اسمها: مريم، قِدّيسة لدرجة التَّمكُّن مِن الانحناء فوق الإله الوَليد". وهذا كلّه رأيتُهُ فيها، وحَيَّيتُها لأنّني كنتُ أبحث عنكَ. كُنّا نبحث عنكَ يا ربّ، و... لم أكن أجرؤ على تحيّتكَ أنتَ أوّلاً.»

 

«مَن حَدَّثكَ عَنّا؟»

 

«إسحاق، الذي مِن بيت لحم الأُخرى. وقد وَعَدَنا أن يأخُذنا إليكَ في الخريف الـمُقبِل.»

 

«هل جاء إسحاق إلى هنا؟»

 

«إنّه ما يزال في هذه الأنحاء، مع تلاميذ كثيرين. إنّما نحن الرُّعاة، فهو الذي تحدَّثَ إلينا. وقد آمَنَّا بكلامه. يا ربّ، اسمح لنا أن نُقدِّم لكَ آيات الإجلال، مِثل رفاقنا في الليلة السعيدة.» وبينما هو يَجثو على تُراب الطريق، يُطلِق صيحة للرُّعاة الآخرين الذين أوقَفوا القطيع عند أبواب البلدة (أبواب، أسلوب كلام، فهذه البلدة لا أسوار لها.) حيث توقَّفَ يسوع كذلك في انتظار النساء، لِيَدخُل البلدة معهنَّ.

 

يَصيح الرَّاعي: «أبي، إخوتي، أصدقائي، لقد وَجَدنا الربّ. هيّا لِنُكرِّمه.»

 

يُقبِل الرُّعاة لِيَجتَمِعوا مع قطيعهم أمام يسوع، يَرجُونه ألّا يَمضي إلى مكان آخر، بل يَرضى ببيتهم الفقير غير البعيد للمَبيت فيه مع أصدقائه.

 

«هناك حظيرة كبيرة» يَشرَحون «بما أنّ الله يحمينا، وهناك غُرَف وأَروِقة مليئة بالقَشّ المعطَّر. فالغُرَف تكون للأُمّ وأَخَوَاتها، لأنّهنّ نساء، إنّما هناك غُرفَة أُخرى لكَ. أَمّا الآخرون فبإمكانهم النوم معنا على القَشّ، تحت الأَروِقة.»

 

«أنا أيضاً أمكث معكم، وستكون استراحة أكثر مُتعة حتّى مِمّا لو كنتُ أَبيتُ في منـزل مَلِك. إنّما سوف نُخطِر أوّلاً يهوذا وسمعان.»

 

«أَذهَب أنا يا معلّم.» يقول بطرس، ويَمضي مع يعقوب بن زَبْدي.

 

يتوقَّفون على قارعة الطريق، في انتظار عودة الرُّسُل الأربعة.

 

يَنظُر الرُّعاة إلى يسوع وكأنّه الله في مَجدِه. الأصغر سِنّاً منهم، في الحقيقة، هُم سُعداء، ويَبدون وكأنّهم يُريدون أن يَطبَعوا في نفوسهم كلّ التفاصيل عن يسوع ومريم التي انحَنَت تُداعِب حِملاناً أتت تَفرك أفواهها بركبتيها.

 

«كان واحد في بيت أليصابات قريبتي، وكان يَلعَق جَدائِلي، كلّ مرّة كان يَراني فيها. كنتُ أُسمّيه: صديقي. لأنّه، بالحقيقة، كان لي صديقاً كطفل، وكان يَهرَع إليَّ كلّما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وهذا يُذكِّرني به تماماً، بعينيه ذات اللونين. لا تَقتُلوه! لقد تُرِكَ الآخر كذلك يعيش بسبب حبّه لي.»

 

«إنّها نَعجة أُنثى، وكُنّا نريد بيعها لأنّ لها عينين بِلَونين، وأَظنُّها لا ترى جيّداً بِعَين واحدة. أمّا إذا كانت هذه إرادتكِ، فسوف نَحتَفِظ بها.»

 

«آه! نعم! أودُّ لو لم يُقتَل حَمَل أبداً... فالحِملان بريئة جدّاً، وصوتها صوت طفل ينادي أُمّه. ولدى قَتل أَحَدها، يُخَيَّل إليَّ أن طفلاً يُقتَل.»

 

«ولكن، يا امرأة، لو بَقِيَت كلّ الحملان حيّة، لما بقي لنا مكان على الأرض.» يقول الرَّاعي الأكبر سناً.

 

«أَعلَم. ولكنّني أُفكِّر بألمها وألم النِّعاج، أُمّهاتها. فهي تبكي كثيراً عندما تُنـزَع منها صغارها. وهي تبدو وكأنّها أُمّهات حقيقيّات، مثلنا. وأنا، لا يمكنني رؤية أحد يتألّم، ولكنّني أُحِسُّ بتمزُّق مِن أجل أُمّ مُمزَّقة هكذا. إنّه ألم مُختَلِف عن كلّ الآلام، ذلك أنّ، بالنسبة لنا، لا يتمزّق القلب والعقل فقط، بِفِعل صدمة موت ابن، بل إنّما حتّى الأحشاء مِنّا. فنحن الأُمّهات، نظلّ مُرتَبِطات بِوَلَدنا على الدوام. وانتزاعه منّا هو تمزيقنا بالكامل.» لَم تَعُد مريم تبتسم، بل تتلألأ دمعة في عينها الزرقاء، وتَنظُر إلى يسوع الذي يَسمَعها ويَنظُر إليها، وتَضَع يدها على ذراعه، كما لو أنّها كانت تخشى أن يكون على وشك أن يُنتزَع مِن أمامها.

 

على الطريق الترابية، تَصِل مجموعة مِن الناس المسلَّحين: ستّة رجال يصحبهم أناس يَصيحون. يَنظُر الرُّعاة ويتحدّثون فيما بينهم بصوت خافت. ثُمّ يَنظُرون إلى يسوع ومريم. يتكلّم الأكبر سنّاً: «لِحُسن الحظ أنّكِ لَن تَدخُلي بيت لحم هذا المساء.»

 

«لماذا؟»

 

«لأن هؤلاء الناس الذين مَرّوا للتوّ، والذين يَدخُلون البلدة، ماضُون إليها لانتزاع ابن مِن أُمّه.»

 

«آه! ولكن لماذا؟»

 

«لِيَقتُلوه.»

 

«آه! لا! ماذا فَعَلَ؟»

 

يَسأَل يسوع كذلك، ويَدنو الرُّسُل لِيَسمَعوا.

 

«لقد وُجِدَ يوئيل الغنيّ مقتولاً على طريق الجبل. وقد كان عائداً مِن سيكامينون [حيفا]، ومعه مال كثير. ولكنَّهم لَم يكونوا لُصوصاً، لأنّ المال كان ما يزال مع القتيل. الخادِم الذي كان يُرافِقه قال إنّ معلّمه كان قد طَلَبَ منه أن يَسبِقه للتبليغ عن قدومه، وعلى الطريق، لدى توجّهه صوب المكان الذي حَدَثَت فيه الجريمة، فإنّه لم يُشاهِد سوى الشاب المزمع قتله الآن، وبعد ذلك شَهِد رَجُلان مِن البلدة أنّهما شاهَداه يُهاجِم يوئيل. والآن يُصِرّ أهل القتيل على موت الشاب. هذا إذا كان هو القاتل حقاً...»

 

«ألا تُصدِّق ذلك أنتَ؟»

 

«يبدو لي الأمر مُستحيلاً. فالشاب بالكاد تَجاوَزَ سِنّ المراهَقَة، وهو طَيِّب المعشَر. عاش مع أُمّه باستمرار، لأنّه وحيدها وهي أرملة، أرملة قِدّيسة. ليس في حاجة إلى المال ولا هو يُفكِّر بالنساء. كما ليس مشاغباً ولا مجنوناً. فلماذا يَقتُل إذاً؟»

 

«ولكن قد يكون له أعداء.»

 

«مَن؟ يوئيل الذي مات أم هابِيل الـمُتَّهَم؟»

 

«الـمُتَّهَم.»

 

«آه! لا أدري... ولكن... لا أدري.»

 

«كُن صريحاً أيّها الرجل.»

 

«سيّدي، إنّه أمر أُفكِّر فيه. وقد قال لنا إسحاق ألّا نُفكِّر شَرّاً بالقريب.»

 

«ولكن يجب أن تكون لنا الجُّرأة في الكلام لإنقاذ بريء.»

 

«لو تَكلَّمتُ، وإن كنتُ على حقّ أو على خطأ، فسوف يكون لِزاماً عليَّ أن أَهرُب مِن هنا، لأنّ الـمَدعوَّان أَشِير ويعقوب هُما مِن ذَوي النُّفوذ.»

 

«تكلّم دون خوف، ولَن تكون مُرغَماً على الهرب.»

 

«سيّدي، إنَّ أُمّ هابيل جميلة وشابّة وحكيمة. فالمدعو أَشِير ليس عاقِلاً، ولا يعقوب كذلك. الأوّل معجب بالأرملة، والثاني... البلدة كلّها تَعرِف أنّ الثاني هو وَقوَاق في بيت يوئيل. أظنُّ أنّ...»

 

«فَهِمتُ. هيّا بنا يا أصدقاء. أنتنّ، أيّتها النساء، ابقين إذن مع الرُّعاة. سأعود في الحال.»

 

«لا يا بنيّ، آتي معكَ.»

 

يَمضي يسوع مُسرِعاً إلى مركز البلدة. يَبقَى الرُّعاة حائِرين، ولكنّهم بعدئذ يَترُكون القطيع مع الأصغر سنّاً الذين يَبقُون مع النساء جميعاً عدا الأُمّ ومريم التي لحلفى اللَّتَين تَبِعَتَا يسوع، ويُسرِعون لِلَّحاق بالمجموعة الرَّسوليّة.»

 

عند الطريق الثالثة التي تَقطَع الشارع الرئيسيّ لبيت لحم، يُقابِلون الاسخريوطيّ وسمعان وبطرس ويعقوب الذين يَصِلون وهُم يُشَوِّرون ويَصيحون.

 

«يا له مِن فِعل يا معلّم! يا له مِن فِعل! ويا له مِن أَلَم!» يقول بطرس مُضطَرِباً.

 

«ابن يُنتَزَع مِن أُمّه عِنوة ليُقتَل. إنّها تُدافِع عنه مِثل ضَبع، ولكنّها امرأة مُقابِل رجال مسلَّحين.» يُضيف سمعان الغيور.

 

«لقد سالَت دماؤها مِن كلّ رُكن في جسمها.» يقول الاسخريوطيّ.

 

«لقد حَطَّموا بابها بينما كانت مُعتَصِمة في البيت.» يَخلَص إلى القول يعقوب بن زَبْدي.

 

«سأمضي إليها.»

 

«آه! نعم! فأنتَ وحدكَ مَن يستطيع تعزيتها.»

 

يَنعَطِفون إلى اليمين، ثُمّ إلى اليسار صوب مركز البلدة. ويَظهَر التَّجمهُر الصَّاخِب الذي يَضطَرِب ويتدافَع أمام منـزل هابيل، وأصوات امرأة تُفتِّت القلب، لا إنسانيّة، مُتوَحِّشة، وفي الوقت ذاته مُثيرة للشَّفَقة، تَصِل حتّى هنا.

 

يُسرع يسوع، ويَصِل إلى ساحة صغيرة، هي تَوَسُّع للطريق أكثر منها ساحة، حيث الصَّخَب في ذُروتِه.

 

ما زالت الأُمّ تُقارِع الحرّاس مِن أجل ابنها. فهي تتمسَّك بيد، أضحَت مَخلَباً حديديّاً، بِحُطام الباب المحطَّم، وبالأُخرى ما زالت مُتمسِّكة بِحِزام ابنها. وإذا ما حاوَلَ أحدهم إبعادَها تَعُضَّه بوحشيّة، غير آبهة بالضربات التي تتلقّاها، ولا إلى الألم الذي يَلمّ بها مِن شَعرها الذي يَشُدّونه بشكل وحشيّ حتّى يَرجع رأسها إلى الخلف. وعندما لا تَعضّ تصيح: «اترُكوه! قَتَلَة! إنّه بريء! ليلة مقتل يوئيل كان في السرير إلى جانبي! قَتَلَة! سَفَّاحين! قَذِرين! شُهود زُور!»

 

أمَّا الشاب، وقد أَمسَكَ به مُنتَزِعوه مِن كتفيه، وهم يَجُرّونه مِن ذراعيه، فيلتَفِت بوجهه الـمُضطَرِب ويصيح: «ماما! ماما! لماذا ينبغي لي أن أموت وأنا لَم أَفعَل شيئاً؟»

 

إنّه مُراهِق وسيم، كبير، مُمتَشِق القامة، عيناه سوداوان وعَذبَتان، شَعره أسود قاتِم، مُجعَّد قليلاً، ثوبه مُمزَّق ويُظهِر جسده الناعم والفتيّ، يكاد يكون جسد طفل.

 

يسوع، يُساعِده مُرافِقوه، يَشقّ له طريقاً وَسَط الجَّمع الـمُتراصّ، لِيَصِل إلى المجموعة المثيرة للشَّفَقة، تماماً في الوقت الذي انهارت فيه قُوى المرأة، فأُفلِتَت مِن الباب، وجُرَّت مثل كيس مربوط بجسد ابنها على حجارة الدرب. ولكنّ ذلك لَم يَدُم أكثر مِن بضعة أمتار. ضربة عنيفة تَنـزَع يَد الأُمّ مِن حِزام ابنها. وتَقَع الأُمّ، ويَرتَطِم وجهها بالأرض بقسوة، ليزداد سيلان الدم منه. ولكنّها تَنتَصِب حالاً على ركبتيها، مادَّة ذِراعيها، بينما الابن الذي يُؤخَذ بسرعة، بالقَدر الذي يَسمَح به الحَشد الذي يتباعَد بصعوبة، يُحرِّر ذراعه اليسرى ويُحرِّكها، وهو يَلتَفِت إلى الخلف، ويصيح: «ماما! وداعاً! تذكَّري، أنتِ على الأقلّ، أنّني بريء!»

 

تَنظُر إليه المرأة بعينين مَجنونَتَين، ثُمّ تَقَع أرضاً وقد أُغمِي عليها.

 

يتقدَّم يسوع مِن مجموعة الحرّاس: «توقَّفوا لحظة. آمُركُم!» لا يَظهَر التَّأثُّر على وجهه.

 

«مَن تكون أنتَ؟» يَسأَل واحد مِن المجموعة بعدوانيّة. «نحن لا نعرفكَ. ابتعد ودعنا نمضي ليُعدَم قبل حلول الليل.»

 

«أنا رابّي. الأعظم. باسم يهوه توقَّفوا أو يَصعَقكُم الله.» ويبدو في تلك اللحظة إنّه هُو مَن سوف يَصعَقهُم. «مَن الشَّاهِد ضدّ هذا؟»

 

«أنا وهو وهو.» يُجيب الذي تَكلَّمَ أوّلاً.

 

«شهادتكَ غير مقبولة لأنّها ليست صحيحة.»

 

«ولماذا تقول هذا؟ نحن مُستَعِدُّون للقَسَم على ذلك.»

 

«قَسَمكم خطيئة.»

 

«نحن نَرتَكِب خطيئة؟ نحن؟»

 

«أنتم. وكذلك تُضمِرون الفِسق، وتؤجِّجون الحقد، إنّكم جَشِعون تجاه الثَّروات، وأنتم قَتَلَة، فإنّكم كذلك تَحنُثون القَسَم. وقد بِعتُم أنفسكم إلى النَّجاسة. فأنتم قادرون على ارتكاب أيّ عمل شائِن.»

 

«انتبه لكلامكِ، فأنا أَشِير...»

 

«وأنا يسوع.»

 

«أنتَ لستَ مِن هنا. لستَ كاهناً ولا قاضياً. أنتَ لستَ شيئاً. أنتَ الغريب.»

 

«نعم، أنا الغريب، لأنّ الأرض ليست مملكتي. ولكنّني قاض وكاهن. ليس فقط لهذا الجزء الصغير مِن إسرائيل، بل لإسرائيل كلّها ولكلّ العالم.»

 

«هيّا بنا، هيّا بنا! ليس لنا ما نَفعَله مع مجنون.» يقول الشَّاهِد الآخَر وهو يَدفَع يسوع لِيُبعِده.

 

«لا تتقدّم ولا خطوة واحدة.» يُدوّي صوت يسوع وهو يَنظُر إليه نَظرَة مُعجِزة تَقهَر وتَشلّ، كما تُعيد الحياة وتُفرِح عندما يريد ذلك. «لا تتقدّم ولا حتّى خطوة واحدة. ألا تَثِق بما أقول؟ حسناً إذن انظر. هنا لا وجود لِتُراب الهيكل ولا لمائه، وليست هنا كلّمات مكتوبة بالحبر لِتَجعَل الماء الذي هو الحُكم على الحَسَد والزنى مُرّاً (انظر سِفر العدد أصحاح 5 الآيات 11-31). إنّما هنا أنا. وأنا مَن يُنفِّذ الحُكم.» صوت يسوع كرنين بوق بِقَدر ما هو نافِذ.

 

يتدافَع الناس لِيَروا. مريم الكُلّيّة القداسة فقط، ومعها مريم التي لحلفى، بَقِيَتا لإسعاف الأُمّ المغمى عليها.

 

«هاكُم كيفيّة حكمي. أعطُوني القليل مِن تُراب الطريق والقليل مِن الماء في إناء. وريثمّا أُعطىَ ذلك، أنتم أيّها الشَّاكُون وأنتَ أيّها المتَّهَم أجيبوني: هل أنتَ بريء أيّها الابن؟ قُلها بصراحة لِمَن هو مُخلِّصكَ.»

 

«أنا كذلك يا سيّدي.»

 

«أَشِير، هل يمكنكَ أن تُقسِم بأنّكَ لَم تَقُل سِوى الحقيقة؟»

 

«أُقسم. لا داعي لديَّ لِأَكذب. أُقسِم على ذلك بالهيكل. فَليَنـزِل لَهَب مِن السماء لِيَحرِقني إن لَم أكن أقول الحقيقة.»

 

«يعقوب، هل يمكنكَ أن تُقسم أنّكَ صادق في اتّهامكَ، دون مُبرِّر خَفيّ يدفعكَ إلى الكَذِب؟»

 

«أُقسِم على ذلك بيهوه. حُبّي لصديقي القتيل فقط يدفعني إلى الكلام. ليس هناك أمر شخصيّ بيني وبين هذا.»

 

«وأنتَ أيّها الخادم، هل يمكنك القَسَم بأنّكَ تَقول الحقيقة؟»

 

«أُقسم على ذلك ألف مَرَّة لو لَزِم الأمر! معلّمي! معلّمي المسكين!» يبكي وهو يُخفي وجهه بمعطفه.

 

«حسناً. هو ذا الماء وهو ذا التراب. وها هي الكَلِمَة: "أنتَ أيّها الآب القدّوس والإله تعالى، أَتِمَّ مِن خلالي حُكم الحقّ، لِتَعود الحياة والسعادة إلى البريء وأُمّه الحزينة، والعقاب العادل لغير البريء. ولكن لِما لي مِن حُظوة في عينيكَ، فلا نار ولا موت، بل كَفَّارة طويلة للذين ارتَكَبوا الخطيئة".»

 

يقول هذه الكلّمات مادّاً يديه على الإناء، كما يَفعَل الكاهن أثناء القداس، عند التَّقدِمة. ثمّ يَغمِس يده اليمنى في الإناء، وبيده المبلَّلة يَرشّ الأربعة الذين خَضَعوا للحُكم، ويَجعَلهُم يَشرَبون جرعة مِن هذا الماء، أوّلاً للشَّاب ثمّ للثلاثة الآخرين.

 

بعد ذلك، يُصالِب ذراعيه على صَدره ويَنظُر إليهم. والجَّمع يَنظُر كذلك، وبعد بُرهَة يطلق الجَّمع صيحة ويرتمي أرضاً والوجه إلى الأرض. حِينذاك يَنظُر الأربعة الذين كانوا على نَسَق واحد إلى بعضهم، ويَصيحون بِدَورهم. يَصيح الشاب أولاً مِن الدَّهشة، ثُمّ الآخرون مِن الرُّعب، إذ يرى كل واحد مِن الثلاثة وجوه الآخرين وقد غطاها البَرَص المفاجئ، بينما الشاب سليم منه.

 

يَرتَمي الخادِم عند قدمي يسوع الذي يَبتَعِد مِثل الآخَرين، بِما فيهم الجنود، يَبتَعِد آخِذاً هابيل بيده لِكَيلا تُصيبه العدوى مِن الثلاثة البُرص. ويَصيح الخادِم: «لا! لا! الـمَغفِرة! أنا أَبرَص! هُم الذين دَفَعوا لي لِتأخير المعلّم حتّى المساء، لِيَضربوه على الطريق الصحراويّة. لقد جَعَلوني أنزَع نَعل البَغل عَن قصد، وعَلَّموني الكَذِب، أن أقول إنّي سَبَقتُهُ. على العكس، كنتُ معهم ساعة قَتله، وأقول كذلك لماذا ارتَكَبوا فِعلتهم: لأنّ يوئيل كان قد لاحَظَ أنّ يعقوب يحبّ زوجته الشابّة، ولأنّ أَشِير كان يريد أُمّ هابيل، وهي تَرفضه. فاتَّفقَا على التَّخلُّص مِن يوئيل وهابيل معاً والتمتّع بالمرأتين. ها قد تَكلَّمتُ فَخَلِّصني مِن البَرَص، خَلِّصني منه! هابيل، أنتَ صالح، صَلِّ لأجلي!»

 

«اذهب أنتَ إلى أُمّكَ؛ حتّى إذا ما أفاقت مِن غيبوبتها تَرى وجهكَ وتعود إلى حياة هادئة. وأنتم... كان ينبغي لي أن أقول لكم: "فليُفعل بكم ما كُنتم تَبغُون فِعله". وهذا هو العدل الإنسانيّ. ولكنّني أَدَعكم إلى كفّارة تفوق طاقة البشر. والجذام الذي أرعبكم يقيكم مِن الإصابة والموت كما تستحقّون. يا أهل بيت لحم، ابتعدوا، أَفسِحوا الطريق مِثل مياه البحر، لِتَدَعوهم يَمضُون إلى حياتهم الشاقّة الطويلة. الحياة الشاقّة الرهيبة! الأكثر فظاعة مِن الموت الفجائيّ. وهذه، رَحمَة هِي مِن الله، لِيَمنَحهُم إمكانيّة التوبة، إذا أرادوا ذلك. امضُوا!»

 

يَلتَصِق الحشد بالجدار لِيَدَع مُنتَصف الطريق حُرّاً ويمضي الثلاثة صَوب الجبل، وقد غطّاهم الجُذام وكأنَّهم مُصابُون به منذ أعوام، الواحد تلو الآخر، في صَمت الغَسَق الذي يَهبط، والذي جَعَلَ أصوات العصافير كلّها تصمت، وكذلك ذوات الأربع، ولم يَعُد يُسمَع سوى نَحيبهم.

 

طِهِّروا الطريق بكمية مِن الماء بعد إضرام النار. وأنتم أيّها الجنود، اذهبوا وقولوا إنّ العدالة قد تحقَّقَت، وطُبِّقت حسب أكثر الشرائع الموسويّة كَمالاً.»

 

يَهمّ يسوع بالذهاب إلى حيث أُمّه ومريم التي لحلفى تُتَابِعان إسعاف المرأة التي يَعود إليها وَعيها ببطء، بينما يُلاطِف ابنها يديها الباردتين ويُقبِّلهما. ولكنّ أهالي بيت لحم، باحترام مَمزوج بالخَشية، يَرجُونه: «حَدِّثنا يا سيّد. أنتَ في الحقيقة ذو سلطان. أنتَ هو بالتأكيد الذي حَدَّثَنا عنه الرجل الذي بَشَّر بمَسيّا لدى مروره هنا.»

 

«سوف أتحدّث ليلاً قُرب حَظيرة الرُّعاة. أمّا الآن فَسأُساعِد الأُمّ على استعادة وعيها وطبيعتها.»

 

ويَمضي للقاء المرأة التي جَلَسَت على رُكبَتيّ مريم التي لحلفى. إنّها تستعيد وعيها رويداً رويداً، وهي تَنظُر إلى وجه مريم الـمُحبَّب الذي يبتسم لها. ولا تتنبَّه تماماً إلّا لحظة تَلفِت نَظَرَها صَوب شعر ابنها الأسود المتدلّي على يديها الـمُرتَجِفَتين، وتَسأَل: «هل متُّ أنا أيضاً؟ هل هذا هو اليمبس؟»

 

«لا يا امرأة. هذه هي الأرض وهذا هو ابنكِ، وقد نَجا مِن الموت. وهذا هو يسوع، ابني، الـمُخلِّص.»

 

وتقوم المرأة بأوّل حركة لها، إنسانيّة. تَستَجمِع قُواها، وتتقدّم لِتضمّ رأس ابنها المنحني. وتراه سالِماً مُعافى، تُعانِقه بِهياج، باكية، ضاحكة، مُستَرجِعة كلّ الأسماء التي كانت تُطلِقها عليه عندما كان صغيراً، كي تُعبِّر له عن فَرَحِها.

 

«نعم يا ماما، نعم. إنّما الآن انظري، ليس إليَّ، بل إليه. هو الذي أَنقَذَني. بارِكي الربّ.»

 

المرأة، وهي ما تزال لا تَقوى على النُّهوض أو الركوع، تمدّ يَديها اللتين ترتَجِفان وتَسيل منهما الدماء. وتُمسِك بيد يسوع وتَنهال عليها بالقُبلات وتُغطّيها الدموع.

 

يَضَع يسوع يده اليسرى على رأسها قائلاً لها: «كوني سعيدة وفي سلام، وكوني صالحة على الدوام. وأنتَ كذلك يا هابيل.»

 

«لا يا سيّدي. إنّ حياتي وحياة ابني لكَ، لأنّكَ أنقَذتَهُما. فاسمح له بأن ينضمّ إلى التلاميذ، كما كان يَشتَهي مُذ أتوا إلى هنا. أعطيكَ إيّاه بفرح كبير، وأرجوكَ أن تَسمَح بأن أتبَعهُ لأَخدُمه وأخدُم خُدّام الله.»

 

«وبيتكِ؟»

 

«آه! يا سيّدي! إنّ مَن عاد إلى الحياة، هل يمكن أن تكون له المشاعر ذاتها التي كانت له قبل الموت؟ وبفضلكَ نَجَت ميرتا مِن الموت ومِن الجحيم. في هذا البلد، قد أتوصَّل إلى كُره الذين عَذَّبوني بابني. وأنتَ تَكرز بالحبّ، أَعرِف ذلك. فاسمَح للمسكينة ميرتا أن تحبّ الوحيد الذي يستحقّ الحبّ، ورسالته وخُدّامه. ما زلتُ الآن مُنهَكة ولا يمكنني أن أتبعكَ. ولكن حالما سأتمكّن، اسمَح لي يا سيّدي، سأتبعكَ وأكون قريبة مِن هابيلي...»

 

«سوف تتبعين ابنكِ، وتتبعينني معه، كوني سعيدة. كوني في سلام الآن. سلامي لكِ. وداعاً.»

 

وبينما تَدخُل المرأة إلى البيت، يَسنِدها ابنها وبعض الأتقِياء، يَخرُج يسوع والرُّعاة ومريم ومريم التي لحلفى مِن البلدة للمضيّ إلى الحظيرة الواقعة في طرف شارع مُتاخِم للحقول…

 

...أُضرِمت نار كبيرة لإنارة الاجتماع. جَمع غَفير يَنتَظِرون أن يتحدّث يسوع، جالِسين على شكل نصف دائرة في الحقول. وفي انتظار ذلك يتحدّثون عن أحداث النهار. هابيل كذلك هنا، مع أناس كثيرين مُبتَهِجين، قائلين إنّهم كانوا جميعهم مؤمنين ببراءته.

 

«ولكنّكم كنتم مُستعدِّين لقتلي! حتّى أنتَ، يا مَن حَيَّيتَني على باب بيتي ساعة قتل يوئيل.» ولم يَستَطِع الشاب تمالك نفسه حتّى تلقِّي الإجابة، فيضيف: «أمّا أنا فأسامحكَ باسم يسوع.»

 

هو ذا يسوع قادِم مِن الحظيرة باتّجاههم، عظيماً، مرتدياً الأبيض، يُحيط به الرُّسُل، يتبَعهُ الرُّعاة والنساء.

 

«السلام لكم جميعاً.

 

إن كان مجيئي قد ساهَمَ في إرساء مُلك الله فيما بينكم، فليتبارك الربّ. إن كان مجيئي قد ساهَمَ في إظهار براءة إنسان، فليتبارك الربّ. وإذا كان وصولي في الوقت المناسب لمنع وقوع جريمة، فقد ساهَمَ كذلك في مَنح ثلاثة مُذنِبين وسيلة افتداء، فليتبارك اسم الربّ.

 

الآن، تَبعَث أحداث اليوم على التأمّل في أمور كثيرة. سوف نتأمّلها بينما يَهبط الليل لِيُغلِّف بالعتمة فَرَح قلبين وتأنيب ضمير ثلاثة آخرين. ففي عتماته يُظلِّل، كما تحت وِشاح عفيف، دموع فَرَح الأوَّلَين، والدموع الحارقة للآخَرِين، التي يراها الله آنذاك. وسط كلّ تلك الأشياء، هناك مَيل لاعتبار ما أعطى الله في الشريعة وكأنّه لَم يَكُن، أو بغير جدوى.

 

نظرياً، الشريعة المعطاة مِن الله يتمّ التقيّد بها في إسرائيل، أمّا في الحقيقة فلا. الشريعة هنا مُحلَّلَة ومفصَّلة ومُشرَّحة إلى درجة جَعَلَتها تموت بشكل مُريع. إنّها هنا، وكأنّها جثّة محنَّطة، بلا حياة، بلا تنفّس ولا دم في قلوب كثيرة كثيرة. فعلى المومياء يمكن الجلوس كما على مَقعَد، على المومياء يمكن وضع أشياء، ثياب، حتّى فَضَلات، لو أراد المرء ذلك، وهي لا تَثور، لأنّ لا حياة لها. فهكذا يَجعَل الكثيرون مِن الشريعة مَقعَداً، مَسنَداً، مَقلَباً لفضلاتهم. بالنسبة إلى البعض، هي لا تَثور في ضمائرهم لأنّها ميتة.

 

يمكنني مقارنة جزء كبير مِن إسرائيل بالغابات المتحجّرة التي تُشاهَد هنا وهناك في وادي النيل وفي صحراء مصر. لقد كانت غابات، وغابات نباتات حيّة، تتغذّى على النَّسغ، كثيرة الصَّخَب تحت الشمس، تغطّيها إيراقات جميلة وزهور وثمّار. كانت تجعل مِن المكان الذي نَمَت فيه فردوساً أرضيّاً، كانت محبوبة مِن البشر ومِن الحيوانات التي كانت تنسى جفاف الصحراء الـمُقفِرة، العطش الـمُحتَدِم الذي يُسبِّبه الرمل للإنسان بِغباره الـمُحرِق، فانياً الأجساد، مُحوّلاً إيّاها إلى غبار، تاركاً الهياكل العظمية راقِدة في تموّجات الرمال، هياكل عظميّة مصقولة، وكأنّ عاملاً دقيقاً صَقَلَها. كانوا يَنسون كلّ شيء تحت هذا الظلّ الأخضر، الصاخب، الغنيّ بالماء والفواكه التي تُشبِع وتُسلّي وتَمنح الشجاعة لِمُواصَلة مَسيرات جديدة.

 

ثُمّ، ولسبب مجهول، كأمور ملعونة مثلاً، لَم تَجفّ وحسب، كما يَحدُث مع أشجار أخرى، التي رغم موتها، ما زالت تُستَخدَم في إضرام النار في مَواقِد الناس، أو جَذوات لإنارة الليل، لإبعاد الحيوانات الصهباء، والتخلّص مِن رطوبة الليل بالنسبة إلى المسافرين البعيدين عن أوطانهم. إنّما تلك الأشجار لم تُستخدم كَحَطَب، فقد أَصبَحَت حجارة، حجارة. يبدو أن صَوّان الأرض، بفعل سِحر ما، صَعَدَ مِن الجذور إلى الجذوع وإلى الأوراق. ثمّ أتت الرياح، وكَسَرَت الأغصان الأكثر هشاشة، وقد أَصبَحَت أشبَه بالمرمر الذي هو في حدّ ذاته قاس ورخو. إلّا أنّ الأشجار الأكثر ضخامة ما زالت على جذوعها الجبّارة لِتَخدَع أفراد القوافل الـمُتعَبين الذين، بفعل انعكاسات الشمس الـمُبهِرة، أو تحت أطياف نور القمر، يَرَونَ ظِلال الجذوع، المنتَصِبة في السهول، أو في عُمق الوديان التي لم تَرَ الماء إلّا في أزمنة الفيضانات الغزيرة، ترتَسِم، وهم يَبحَثون قَلِقين عن ملجأ وملاذ، عن شيء يتغذّون به، عن بئر، عن فاكهة طازجة، وبما أنّ عيونهم تَعِبَة مِن انعكاس الشمس على الرمال دونما حماية منه، فإنّ القوافل تتهافت إلى الغابات الوهميّة. إنّها أشباح حقيقيّة! مظاهر خَدَّاعة لأجسام حيّة، وجود حقيقيّ لأشياء ميتة.

 

لقد رأيتُها واحتفظتُ بِذِكراها، رغم أنّني كنتُ ما أزال صغيراً، كإحدى أشياء الأرض الأكثر كآبة. هكذا كانت تبدو لي، طالما لم ألمسها وأقيس وأزن أشياء الأرض الكئيبة تماماً لأنّها ميتة. الأشياء اللامادّيّة، أي الفضائل والنُّفوس الميّتة. الأولى ميّتة في النُّفوس، والنُّفوس ميّتة لأنّها قَتَلَت ذاتها.

 

الشريعة موجودة في إسرائيل، ولكنّها كالأشجار المتحجِّرة في الصحراء: أصبَحَت كالمرمر، ميّتة. مُسبِّبة للخطأ، أشياء قُيِّض لها الحتّ دونما جدوى. أشياء مؤذية، حتّى مِثل الأشجار المتحجّرة، لأنّها تَخلِق سراباً يَجلِب إليه الناس، مُبعِداً إيّاهم عن الواحات الحقيقيّة، جاعلاً إيّاهم يموتون مِن الجوع والظمأ والعُزلة، مُودياً بهم إلى حَتفِهم. أشياء ميتة تَجلِب أخرى إلى الموت، كما يُقرأ في كثير من الأساطير الوثنيّة.

 

لقد كان لكم اليوم مثال عمّا تَكونه شريعة تحوّلت إلى حجر في نَفْس أَصبَحَت هي أيضاً حجراً. إنّها نبع كلّ أنواع الخطايا والشقاء. فليفدكم ذلك في معرفة العيش ومعرفة إحياء الشريعة فيكم، بنـزاهتها التي أُضيئها أنا بأنوار الرحمة.

 

الليل مُدلَهِمّ. النجوم تَنظُر إلينا، وكذلك الله. ارفعوا نَظَركم إلى السماء المرصَّعة بالنجوم، وارفعوا أرواحكم صوب الله. دونما انتقاد للبؤساء الذين عاقَبَهُم الله، دونما كبرياء لعدم ارتكابكم لخطيئتهم، عِدُوا الله وأنفسكم بعدم الوقوع في جَدب النباتات الملعونة لصحارى ووديان مصر.

 

السلام لكم.»

 

يباركهم ويَنسَحِب إلى نِطاق الحظيرة الواسع، المحاط بالأروقة، حيث مَدَّ الرُّعاة تحتها طبقة جيّدة مِن القَشّ لجعلها سريراً لخُدّام الربّ.