ج4 - ف134
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
134- ("فلنمض إلى تريشة")
05 / 09 / 1945
يعود يسوع إلى البيت ليلاً. يَدخُل الحديقة دون ضجّة، يتوقّف هُنيهة أمام المطبخ الـمُظلِم. يراه خاوياً. يتوجّه إلى الغرفتين حيث الأَسِرَّة والحصر. وهما أيضاً خاليتان. لم يكن هناك سِوى الثياب المبدَّلة، فوق بعضها على الأرض، ممّا يشير إلى أن الرُّسُل قد عادوا. يبدو البيت وكأنّه غير مسكون، بقدر ما كان هادئاً صامتاً.
ويسوع، وهو لا يُحدِث ضجّة أكثر مِن ظلّ، يَصعَد السـلّم، الأبيض في بياض القمر، ويَصِل إلى الشُّرفة. يجتازها. يبدو وكأنّه شبح يتحرّك دون صوت، شَبَحاً نورانياً. في تألُّق نور القمر، يبدو وكأنّه أضحى أكثر صفاء، وأكثر عَظَمَة أيضاً. يرفع بيده السّتار الذي على باب الغرفة العلويّة. وكان قد ظَلَّ مُنسَدِلاً مُذ دَخَلَ تلاميذ يوحنّا مع يسوع. في الداخل، جالِسين هنا وهناك، جماعات أو فرادى، كان الرُّسُل مع تلاميذ يوحنّا ومَنَاين، وكان مارغزيام نائماً ورأسه على ركبتيّ بطرس. وقد أخذ القمر على عاتقه مهمّة إنارة الغرفة بدخوله بأمواجه الفسفوريّة مِن النوافذ المفتوحة. لا أحد يتكلّم. ولا أحد ينام سِوى الولد وهو جالس أرضاً على حصيرة.
يَدخُل يسوع على مهل، وأوّل مَن يراه توما. «آه! يا معلّم!» يقولها وهو يَقفِز.
يَهتزّ الآخرون جميعاً. وبطرس، بتسرُّعه، أوشَكَ على النهوض فجأة، ولكنّه يتذكّر الولد فَيَفعلها على مهل، جاعلاً رأس مارغزيام الأسمر يتّكئ على مقعده، بحيث وَصَلَ آخرهم أمام يسوع، بينما المعلّم، بالصوت التَّعِب الذي لامرئ عانى الكثير، يُجيب يوحنّا ويعقوب وأندراوس الذين يَروُون له ألمهم: «أَفهَم ذلك. إنّما الـذي لا يؤمن هو فقط الذي يَشعُر بالأسى بسبب الموت. وليس نحن الذين نعرف ونؤمن. لم يَعُد يوحنّا منفصلاً عنّا. كان كذلك قبلاً. في السابق كان يُفرِّقنا حتّى. إمّا معي وإمّا معه. الآن انتهى. فحيث يكون هو أكون أنا. إنّه إلى جانبي.»
بطرس يَحشُر رأسه الذي ملأه الشيب وسط رؤوس الشباب ويراه يسوع: «أأنتَ كذلك بكيتَ يا سمعان بن يونا؟» وبطرس، بصوت أَجَشّ أكثر مِن المعتاد: «نعم، يا سـيّد، فأنا كذلك كنتُ يوماً تلميذاً ليوحنّا... ثمّ... ثمّ... التفكير بأنّ يوم الجمعة الماضي كنتُ حزيناً لأنّ وجود الفرّيسيّين ملأ لنا السبت مرارة! هذا، نعم، كان سبت مرارة! كنتُ قد جلبتُ الولد... لنحصل على سبت أحلى أيضاً... إنَّما على العكس...»
«لا تجعل نفسـكَ تنهار، يا سـمعان بن يونا. لم نفقد يوحنّا. أقول ذلك لكَ أيضاً. وبالمقابل، أَصبَحَ لدينا ثلاثة تلاميذ ناضجين بشكل جيّد. أين الولد؟»
«هنا، يا معلّم، إنّه نائم...»
«دعه ينام.» يقول يسوع وهو ينحني على الرأس الصغير الأسمر الذي ينام مطمئناً. ثمّ يَسأَل مِن جديد: «هل تعشّيتم؟»
«لا يا معلّم. كنّا ننتظركَ، وكنّا منشغلين الآن لتأخّركَ، غير عالمين أين نبحث عنكَ... كان يتهيّأ لنا أنّنا فقدناكَ أنتَ كذلك.»
«ما زال لدينا الوقت لنمكث معاً. هيّا، هيّئوا العشـاء، لأنّنا سنذهب بعد ذلك إلى مكان آخر. إنّني في حاجة لأن أختلي وسط أصدقاء، وغداً، إذا ما بقينا هنا، فحتماً سوف يحيط بنا الناس.»
«وأنا، أُقسِم لكَ بأنّني لن أحتملهم، خاصّة حركات الأفاعي تلك التي للفرّيسيّين. وإذا ما أفلَتَت منهم ولو ابتسامة موجهة إلينا في المجمع، فسيكون أمراً سيّئاً!»
«هدوءاً، يا سمعان!... ولكنّني، أنا أيضاً كنتُ أفكّر في هذا. لأجل ذلك أتيتُ لآخذكم معي.»
على بريق المصابيح الصغيرة المضاءة على طرفيّ الطاولة، يُرى امتقاع الوجوه بشكل أفضل. وحده يسوع يحافظ على عَظَمَته المهيبة، ومارغزيام يبتسم في نومه.
«لقد أكل الولد.» يَشرَح سمعان.
«إذن فمن الأفضل أن ندعه نائماً.» يقول يسوع.
ووسط أتباعه، يَمنَح ويوزع القليل مِن الطعام الذي يأكلونه بلا شهيّة. وينتهي العشاء بسرعة.
«قولوا لي الآن ماذا فعلتم...» يقول يسوع ليشجّعهم.
«أنا قد ذهبتُ مع فليبّس إلى قرى بيت صيدا. لقد بَشَّرنا وشَفينا ولداً مريضاً.» يقول بطرس.
«في الحقيقة هو سمعان الذي شفاه.» يقول فليبّس الذي لا يريد نَسب مفخرة لنفسه وهي ليست مِن حقّه.
«آه! يا سيّدي! لستُ أدري كيف فَعَلتُ. صَلَّيتُ كثيراً، مِن كلّ قلبي، لأنّني كنتُ أُشفِق على ذلك الصبيّ. ثمّ مَسَحتُهُ بالزيت الذي فركتُهُ بيدي الغليظتين... وشُفِيَ. وعندما رأيتُ وجهه يستعيد لونه وعينيه تَفتَحان، بالنتيجة يَستَعيد الحياة، تقريباً خفتُ.»
يضع يسوع يده على رأس سمعان دون أن يتكلّم.
«لقد دُهِش يوحنّا كثيراً لأنّه طَرَدَ شيطاناً، إنّما عليَّ أنا التحدث في ذلك.» يقول توما.
«أخوكَ يوضاس فَعَلَها كذلك.» يقول متّى.
«وفي الوقت ذاته أندراوس.» يقول يعقوب بن حلفى.
«مِن جِهته، سمعان الغيور شَفى أحد البرص. آه! لم يَخَف مِن لمسه! ولكنّه قال لي فيما بعد: "لا تخف. بإذن الله لن يصيبنا أيّ أذى جسديّ".» يقول برتلماوس.
«أَحسَنتَ القول، يا سمعان. وأنتما الاثنان؟» يَسأَل يسوع يعقوب بن زَبْدي والاسخريوطيّ، المتواجِدَين بعيداً قليلاً، الأوّل يتحدّث إلى تلاميذ يوحنّا الثلاث، والثاني يبقى وحيداً وعابساً.
«آه! أنا لم أفعل شيئاً.» يقول يعقوب. ولكنّ يهوذا صَنَعَ ثلاث معجزات رائعة: أعمى وكسيح ومُستَحوَذ عليه، كان يبدو لي شاذَّ الطِّباع، ولكنّ الناس كانوا يُسمّونه هكذا...»
«وأنتَ تَعبس أمامنا هكذا، بينما الله قد ساعدكَ كثيراً؟» يقول بطرس.
«أنا كذلك أعرف أن أكون متواضعاً.» يُجيب الاسخريوطيّ.
«وبعد ذلك استَقبَلَنا أحد الفرّيسيّين. أنا لم أكن على ما يرام. ولكنّ يهوذا يُجيد التصرّف أكثر وقد طَوَّعَه بحقّ. في اليوم الأوّل كان حَذِراً، إنّما بعدئذ... أليس كذلك يا يهوذا؟»
يُوافِق يهوذا دون كلام.
«حسناً جدّاً. وسَـتَفعلون أفضل على الدوام. سنبقى معاً في الأسبوع الـمُقبِل. في هذه الأثناء... سمعان سيهيّئ الـمَراكِب، وأنتَ كذلك يا يعقوب.»
«مِن أجل الجميع، يا معلّم؟ لن نتّسع جميعنا فيها.»
«ألا يمكنكَ الحصول على مَركَب آخر؟»
«بطلبه مِن صهري، نعم. أنا ذاهب.»
«اذهب، وبعد إنجاز العمل، عُدْ حالاً ولا تُعطِ تفسيرات كثيرة.»
يَمضي الصيّادون الأربعة. يَهبط الآخرون ليأخذوا الحقائب والمعاطف. يبقى مَنَاين مع يسوع. الولد ما يزال نائماً.
«هل تذهب بعيداً، يا معلّم؟»
لستُ أَعلَم بَعد... هُم تَعِبون وحزانى. وأنا كذلك. أُفكِّر في الذهاب إلى تريشة، إلى الريف، لنختلي ونكون بسلام.»
«لديَّ حصاني، يا معلّم. ولكن لو سمحتَ، سآتي مُتَّبِعاً البحيرة. هل ستظل هناك طويلاً؟»
«قد أبقى طوال الأسبوع. وليس أكثر.»
«إذن سوف آتي. باركني يا معلّم في هذا الوداع الأوّل. وارفع عن قلبي ثِقلاً.»
«أيّ ثِقل يا مَنَاين؟»
«إنّ ضميري يؤنّبني لتركي يوحنّا. لو كنتُ هناك، لكان مِن الممكن أن...»
«لا، فتلك كانت ساعته. وهو بالتأكيد قد سُرَّ لرؤيتكَ آتياً إليَّ. لا يكن لكَ هذا الثِّقل. حاول، على العكس، أن تتحرّر بسرعة وجيّداً مِن الثِّقل الوحيد الذي لديكَ: طَعم كونكَ إنسان. ولِتُصبح روحاً، يا مَنَاين. سلامي معكَ. سوف نعود لنلتقي قريباً في اليهوديّة.»
يجثو مَنَاين ويباركه يسوع. ثمّ يُنهِضه ويُعانِقه.
يَدخُل الآخرون ويتبادلون التحيّة، الرُّسُل وتلاميذ يوحنّا. في النهاية يأتي الصيّادون: «لقد تمّ، يا معلّم. يمكننا المضيّ.»
«حسناً. حَيّوا مَنَاين الذي يبقى هنا حتّى غَسَق الغد. اجمعوا القوت وخذوا ماء ولنرحل. قَلِّلوا ما استطعتم مِن الضجة.»
ينحني بطرس لإيقاظ مارغزيام.
«لا. دعه، فقد يبكي. أنا سأحمله بين ذراعيّ.» يقول يسوع ويَرفَع برفق الولد الذي يئنّ قليلاً، ولكنّه بشكل عفويّ يأخذ راحته بين ذراعيّ يسوع.
يُطفِئون المصابيح. يَخرُجون. يُغلِقون الباب. يَهبطون. على عتبة الحديقة يُحيّون مَنَاين مِن جديد ثمّ، تِباعاً، على طول الدرب الذي يُنيره القمر، يَقصدون البحيرة: المرآة الفضيّة الكبيرة تحت القمر. ثلاث بقع حمراء على المرآة الساكنة، هكذا تبدو الفوانيس الثلاثة التي في مقدّمة الـمَراكِب. يَصعدون إلى الـمَراكِب وهم يتوزّعون، في النهاية يَصعَد الصيّادون. بطرس وأحد الصبيان في مَركَب، يوحنّا وأندراوس في الثاني، يعقوب وأحد الصبيان في الثالث.
«إلى أين نحن ذاهبون، يا معلّم؟» يَسأَل بطرس.
«إلى تريشة، حيث حَطَّ بنا الرحال بعد معجزة الجراسـانيّين. الآن، لن يكون هناك سبخ مستنقعي وسنكون في أمان واطمئنان.»
يَمخر بطرس عباب البحيرة، ويسير الآخرون بمراكبهم خلفه، على خط سير الذي يَسبق. لا أحد يتكلّم. عندما يُصبِحون في عرض البحيرة، وتتلاشى كفرناحوم في ضوء القمر الذي يجعل كلّ الأشياء متماثلة بغباره الفضي، حينئذ بطرس، وكأنّه كان يتحدّث إلى الدفّة، يقول: «هذا يعجبني. غداً سوف يبحثون عنّا، وبفضلكَ لن يجدونا.»
«إلى مَن تتحدّث يا سمعان؟» يَسأَل برتلماوس.
«إلى الـمَركَب. ألا تدري أنّه، بالنسبة للصيّادين، كالعروس؟ كم تحدّثتُ إليه! أكثر مِن تَحدُّثي إلى بورفيرا. يا معلّم... هل الولد مغطّى بشكل جيّد؟ هناك نَدى أثناء الليل على البحيرة...»
«نعم. اسمع يا سمعان. تعال إلى هنا. عليَّ أن أتحدَّث إليكَ...»
يَدفَع بطرس بالدفّة إلى الصبيّ، ويَمضي إلى يسوع.
«لقد قلتُ تريشة، إنّما سنبقى حتّى بعد السبت لتحيّة مَنَاين مِن جديد. ألا يمكنكَ إيجاد مكان لنا قريب مِن هناك نكون فيه بسلام؟»
«آه! يا معلّم! في سلام، نحن أم الـمَراكِب كذلك؟ بالنسبة للمَراكِب فما يلزمنا هو تريشة، أو مرافئ الشاطئ الآخر، أمّا إذا كان الأمر بالنسبة لنا، فيكفي أن تتوغّل فيما وراء الأردن، حيث وحدها الحيوانات يمكنها اكتشافكَ... ومِن المحتمل، بعض صيّادي السمك الساهرين على سلال فخاخ لصيد السمك. سوف نتمكّن مِن ترك الـمَراكِب في تريشة التي نبلغها فجراً، وننسلّ بسرعة إلى ما وراء المخاضة. مِن السهل المرور في ذاك الوقت.»
«حسناً.سوف نفعل هكذا...»
«أيثير العالم اشمئزازكَ، أنتَ كذلك؟ أتفضّل السمك والبعوض؟ إنّكَ على حقّ.»
«أنا لا أشعر بأيّ اشمئزاز. ويجب ألّا يكون ذلك. ولكنّني أريد تحاشي قيامكم بأيّ فِعل يُثير الشكوك، وأودُّ أن أتعزّى بصحبتكم خلال ساعات السبت تلك.»
«معلّمي!...» ويُقبِّله بطرس مِن جبهته ويبتعد وهو يمسح دمعة كبيرة كانت حقيقة على وشك أن تسيل مِن عينه لتنـزل إلى لحيته. يعود إلى دفّته ويأخذ وِجهة الجنوب بدقّة، بينما يتنامى نور القمر عند رقاد الكوكب الذي يهبط فيما وراء هضبة، خافياً وجهه العظيم عن ناظريّ البشر، إنّما تاركاً السماء أيضاً تبيَضّ بنوره، ولمعاناً فضّيّاً على الشاطئ الشرقيّ للبحيرة. أمّا الباقي فباللون النيليّ الداكن الذي بالكاد يتميّز بنور فوانيس المقدّمة.