ج10 - ف37

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء العاشر

 

37- (اعتبارات وشروح حول رقاد وعبور مريم الكلّية القداسة [ومَلَكيّتها])

 

18 / 04 / 1948

 

تقول مريم:

 

«هل مُتُّ؟ نعم، إن أردتم تعريف الموت بأنّه انفصال الجزء النبيل مِن الروح عن الجسد. لا، إذا ما كان يُقصَد بالموت انفصال النَّفْس الـمُحيية عن الجسد، وفساد المادّة الّتي ما عادت النَّفْس تحييها، وقبل ذلك، فظاظة القبر، وقبل كلّ تلك الأمور، ألم الموت.

 

كيف مُتُّ، أو بمعنى أدقّ، كيف عبرتُ مِن الأرض إلى السماء، أوّلاً بجزئي الخالد، ثمّ بالجزء الفاني؟ كما كان عادلاً بالنسبة إلى تلك الّتي لم تعرف وصمة خطيئة.

 

في تلك الأمسية، كانت راحة السبت قد بدأت بالفعل، كنتُ أتكلّم مع يوحنّا. عن يسوع. عن شؤونه. كانت الأمسية مليئة بالسلام. السبت كان قد أخمد كلّ ضجيج لأعمال بشريّة. وتلك الساعة كانت تُخمِد كلّ صوت لبشر أو طيور. وحدها أوراق أشجار الزيتون حول المنزل كانت تحفّ بفعل نسيم المساء، وكان يبدو الأمر كما لو أنّ ملائكة كانت تحوم مُلامِسةً جدران المنزل الصغير المنعزل.

 

كنّا نتكلّم عن يسوع، عن الآب، عن ملكوت السماوات. إنّ الكلام عن المحبّة وعن ملكوت المحبّة هو تأجّج بنار حيّة، استنفاذ لقيود المادّة لتحرير الروح مِن أجل تحليقه الروحانيّ. وإذا أُبقيت النار ضمن الحدود الّتي يضعها الله ليحفظ المخلوقات على الأرض، في سبيل خدمته، فيمكن العيش والاضطرام، واجدين في الاضطرام، لا استنفاذ حياة، بل إتمامها. ولكن حين يزيل الله الحدود ويترك الحرّية للنار الإلهيّة لأن تخترق وتجذب إليه الروح مِن دون أيّ قياس، حينذاك الروح، إذ يستجيب بدوره مِن دون قياس للمحبّة، ينفصل عن المادّة [الجسد] ويطير إلى حيث تدفعه المحبّة وتدعوه. فتلك هي نهاية المنفى والعودة إلى الوطن.

 

ذاك المساء، للاضطّرام الّذي لا يقاوَم، لحيويّة روحي الّتي لا قياس لها، انضمّ وَهَن عذب، شعور غامض بابتعاد المادّة عمّا كان يحيط بها، كأنّ الجسد كان ينام مُتعَباً، بينما العقل، الأكثر حيويّة بعد في التفكير، كان يغوص في الروائع الإلهيّة. إنّ يوحنّا، الشاهد الـمُحِبّ والـمُحتَرِس على كلّ سلوكي مذ أصبح ابني بالتبنّي، وفقاً لمشيئة وحيدي، قد أقنعني بلطف بأن أرتاح على سريري، وسهر عليّ وهو يصلّي.

 

آخر صوت سمعتُه على الأرض كان همس كلمات يوحنّا، الرسول البتول. كانت كلماته بالنسبة إليّ مثل هدهدة أُمّ أمام المهد. ورافقت روحي في نشوته الأخيرة، الفائقة جدّاً والّتي يتعذّر وصفها. لقد رافقتني حتّى السماء.

 

يوحنّا، الشاهد الوحيد على ذلك السرّ العذب، أعدّني وحده، إذ لفّني بردائي الأبيض، مِن دون تغيير ثوبي والحجاب، مِن دون غسلي أو تطييبي. إنّ روح يوحنّا، كما هو واضح مِن كلماته في الفصل الثاني مِن هذه الدورة الّتي تمتدّ مِن العنصرة إلى صعودي، كان يعلم مسبقاً بأنّ جسدي لن يعتريه فساد، وأَعلَمَ الرسول بما كان عليه فِعله. وهو، العفيف، الـمُحِبّ، الـمُحتَرِس حيال أسرار الله وحيال رفاقه البعيدين، فَكَّر بوجوب أن يحرس السرّ وأن ينتظر خدّام الله الآخرين، كي يروني ثانية، وليستمدّوا مِن تلك الرؤية التعزية والعون لأجل المشقّات ومتاعب رسالتهم. وانتظرهم، كما لو أنّه كان واثقاً مِن مجيئهم.

 

إنّما مختلفاً كان قرار الله، الذي هو طيّب كما دوماً حيال الـمُفَضّل، والذي هو بارّ كما دائماً مع كلّ المؤمنين. فقد أثقل جَفنيّ الأوّل، كي يقيه النعاس مِن تمزّق رؤية جسدي يُختَطَف منه أيضاً. وللمؤمنين وهب حقيقة إضافيّة مِن شأنها أن تثبّتهم بالإيمان بقيامة الجسد، بالمكافأة بحياة أبديّة ومغبوطة ممنوحة للأبرار، بحقائق العهد الجديد الأكثر قوّة وعذوبة: الحبل بي بلا دَنَس، أمومتي الإلهيّة البتوليّة، طبيعة ابني الإلهيّة والبشريّة، الله الحقّ وإنسان حقّ، المولود لا بمشيئة بشريّة، بل بعرس إلهيّ وبذرة إلهيّة زُرِعَت في أحشائي، وأخيراً كي يؤمنوا بأنّ قلبي أنا، أُمّ البشر، موجود في السماء، يخفق بمحبّة قَلِقَة مِن أجل الجميع: أبراراً وخطأة، راغباً برؤيتكم كلّكم معه، في الوطن المغبوط، إلى الأبد.

 

عندما أخذتني الملائكة مِن المنزل الصغير، هل كان روحي قد عاد إليّ؟ لا. ما كان ينبغي على روحي أن يعاود النزول إلى الأرض. لقد كان يتعبّد أمام عرش الله. إنّما حين تمّت مغادرة الأرض، المنفى، زمان ومكان الانفصال عن ربّي الواحد والثالوثي للأبد، عاد روحي ليتألّق في وسط نفسي، مُنتَشِلاً الجسد مِن رقاده، وبالتالي فمن العدل القول إنّني صعدتُ إلى السماء بالنَّفْس والجسد، ليس بوسائلي الذاتيّة كما حدث ليسوع، إنّما بمساعدة الملائكة. لقد استيقظتُ مِن ذلك الرقاد الغامض، نهضتُ، وطرتُ أخيراً، لأنّ جسدي اكتسب كمال الأجساد الـمُمَجَّدة. وأحببتُ. أحببتُ ابني المستعاد وربّي، الواحد والثالوثيّ، أحببتُه كما هو مقدّر لكلّ الّذين سوف يحيون إلى الأبد.»

***

05 / 01 / 1944

 

يقول يسوع:

 

«عندما حانت ساعتها الأخيرة، مثل زنبقة منهكة، بعد أن نشرت كلّ عطورها، تنحني تحت النجوم، وتُقفِل كأسها الناصع البياض، تمدّدت مريم، أُمّي، على سريرها، وأغمضت عينيها عن كلّ ما كان يحيط بها كي تستغرق في تأمّل أخير وهادئ بالله.

 

منكبّاً على رقادها، كان ملاك مريم ينتظر بترقّب أن يفصل إلحاح النشوة ذلك الروح عن الجسد، في الوقت الّذي قرّره الله، وأن يفصله على الدوام عن الأرض، فيما أَمْر الله العذب والفتّان كان يهبط مِن السماوات.

 

ومنحنياً بدوره على ذلك الرقاد الغامض، فإنّ يوحنّا، ملاك الأرض، كان يسهر كذلك على الأُمّ الّتي كانت على وشك أن تفارقه. وعندما رآها خامدة، فقد تابع السهر عليها بعد، بحيث لا تُنتَهَك مِن قِبَل النظرات الفضوليّة الـمُدنِّسة، فقد بقيت، حتّى بعد الموت، العروس الطاهرة وأُمّ الله، الّتي كانت ترقد جميلة جدّاً وساكنة.

 

يقول تقليد أنّه في تابوت مريم، الّذي أعاد فتحه توما، لم يُعثَر إلاّ على زهور. إنّها أسطورة محضة. فما مِن قبر ابتلع جثمان مريم، لأنّه لم يكن هناك أبداً جثمان لمريم، وفقاً للمفهوم البشريّ، حيث إنّ مريم لم تمت كما يموت أيّ كائن حيّ.

 

إنّها فقط، بقرار إلهيّ، انفصلت عن الروح، الّذي سبقها، ومعه اتّحد ثانية جسدها فائق القداسة. وعاكساً القوانين المعتادة، الّتي بموجبها تنتهي النشوة حين يتوقّف الانخطاف، أي حينما يعود الروح إلى الحالة الطبيعية، فإنّ جسد مريم هو الّذي عاد ليتّحد بالروح، بعد استراحة طويلة على السرير الجنائزي.

 

كلّ شيء مستطاع عند الله. أنا خرجتُ مِن القبر مِن دون مساعدة أخرى سوى قدرتي الذاتيّة. مريم أتت إليّ، إلى الله، إلى السماء، مِن دون أن تعرف القبر بعفونته الهائلة والكئيبة. إنّها إحدى أكثر معجزات الله سطوعاً. ليست الوحيدة، ففي الحقيقة، إذا تذكّرنا أخنوخ وإيليا، اللذيَن إذ كانا عزيزَين على الرّب، فقد اختُطِفا مِن الأرض مِن دون أن يعرفا الموت، ونُقِلا إلى مكان آخر، إلى مكان يعرفه فقط الله وسكّان السماء السماويّون. كانا باريَّن، إنّما دوماً لا شيء بالمقارنة مع أُمّي، الّتي هي أدنى في القداسة فقط مِن الله.

لذلك لا توجد ذخائر لجسد مريم أو لقبرها، لأنّه لم يكن هناك قبر لمريم، وجسدها كان قد رُفِع إلى السماء.»

***

08 و 15 / 07 / 1944

 

تقول مريم:

 

«كان الحَبَل بابني نشوة. وكان إنجابه نشوة أعظم. وكان عبوري مِن الأرض إلى السماء نشوة النشوات. فقط أثناء الآلام لم يكن لنشوة أن تجعل آلامي القاسية محتملة.

 

إنّ المنزل، الّذي رُفِعتُ منه إلى السماء، كان إحدى مكارم لعازر الّتي لا تحصى حيال يسوع وأُمّه. منزل جَثْسَيْماني الصغير، القريب مِن مكان صعود يسوع، عبثاً هو البحث عن بقاياه. لأنّه عند تدمير أورشليم على أيدي الرومان، قد تهدّم وبُعثِرت أنقاضه على مر العصور.»

***

18 / 12 / 1943

 

تقول مريم:

 

«كما أنّ ولادة ابني كانت نشوة بالنسبة لي، وكيف مِن الانخطاف في الله، الّذي أخذني في تلك الساعة، عدتُ إلى نفسي وإلى الأرض مع ابني بين ذراعيّ، كذلك فإنّ ما دُعِيَ على نحو خاطئ "موتي" كان انخطافاً في الله.

 

بثقتي بالوعد الّذي كنتُ قد حصلتُ عليه في تألّق صباح العنصرة، كنتُ أفكّر بأنَّ اقتراب لحظة المجيء الأخير للمحبّة، لتخطفني معها، كان يجب أن يتجلّى بتعاظم نار الحبّ الّتي لطالما كانت تَتّقد في داخلي. ولم أكن مخطئة.

 

ومِن جهتي، كلّما كانت تمضي الحياة، كانت رغبتي تتزايد في أن أذوب في المحبّة الأزليّة. كنتُ مدفوعة لذلك برغبة الاتّحاد بابني، واليقين بأنّني لم أكن أبداً لأخدم البشر، بمقدار ما سأخدمهم وأنا عند أقدام عرش الله، أصلّي وأعمل مِن أجلهم. وبوتيرة أكثر فأكثر اتّقاداً وتسارعاً،  بكلّ ما أوتيت نفسي مِن قوّة، كنتُ أهتف إلى السماء: "تعال، يا ربّي يسوع! تعالي، أيّتها المحبّة الأزليّة!"

 

الإفخارستيا، الّتي كانت بالنسبة لي مثل الندى لزهرة عطشى، قد كانت، حياة لي، نعم، إنّما كلّما كان يمرّ المزيد مِن الوقت، كانت تغدو غير كافية لإرضاء لهفة قلبي الّتي لا تقاوم. لم يعد يكفيني أن أتقبّل ابني الإلهيّ في ذاتي، وأن أحمله في داخلي في القربان المقدّس، كما كنتُ قد حملتُه في جسدي البتوليّ. إنّ ذاتي كلّها كانت تريد الله الواحد والثالوثيّ، إنّما ليس تحت الحُجُب الّتي اختارها يسوعي لإخفاء سرّ الإيمان فائق الوصف، بل كما كان، وكما هو، وكما سيكون في قلب السماء.

 

إنّ ابني ذاته، في حالته الإفخارستيّة، كان يُلهِبني بمعانقات تَوق لامتناهية، وفي كلّ مرّة كان يأتي إليّ، بقدرة حبّه، كان ينتزع نفسي منّي في الاندفاعة الأوّلى، ثمّ كان يستمرّ، برقّة لا متناهية، وهو يناديني: "ماما!" وأنا كنتُ أشعر بأنّه كان توّاقاً لأن يحظى بي معه.

 

ما عدتُ أرغب بشيء آخر. لم تعد بي حتّى الرغبة في حماية الكنيسة الوليدة، في الأوقات الأخيرة مِن حياتي الفانية. كلّ شيء كان قد تلاشى في الرغبة بامتلاك الله، بالقناعة الّتي كانت لديّ بامتلاك القدرة على كلّ شيء عند امتلاكه.

 

توصّلوا، أيا أيّها المسيحيّون، إلى هذا الحبّ الكامل. كلّ ما هو أرضيّ يفقد قيمته. لا تنظروا إلاّ إلى الله. وعندما تصبحون أغنياء بفقر الرغبة هذه، الّتي هي غنىً لا يقارن بغيره، فإنّ الله سوف يحنو على روحكم، كي يثقّفه أوّلاً، ليأخذه لاحقاً، وأنتم سوف تصعدون معه إلى الآب، الابن، الروح القدس، لتعرفوهم وتحبّوهم طوال الأبديّة المغبوطة، ولامتلاك ثروات نِعَمهم لإخوتكم. لن يكون المرء أبداً شديد الفاعليّة تجاه إخوته إلاّ عندما لا يعود في وسطهم، بل عندما يصير أنواراً متّحدة بالنور الإلهيّ.

 

إنّ اقتراب المحبّة الأزليّة كان يحمل العلامة التي كنتُ أتوقّعها. كلّ شيء فقد النور واللون، الصوت والحضور بفعل البهاء والصوت اللذيَن، بنزولهما مِن السماء، المفتوحة لبصيرتي الروحيّة، كانا يهبطان عليّ لقطف نَفْسي. يقال بأنّني كنتُ لأبتهج بمساعدة ابني في تلك الساعة. لكنّ يسوعي الوديع كان بالفعل حاضراً مع الآب عندما المحبّة، أي الروح القدس، الأقنوم الثالث مِن الثالوث الأبديّ، قبّلني قبلة حياتي الثالثة، تلك القبلة ذات القوّة الإلهيّة بحيث انبعثت نفسي بها، تائهة في التأمّل مثل قطرة ندى امتصّتها الشمس مِن كأس زنبقة.

 

وأنا صعدتُ مع روحي وهوشعناه إلى أقدام الثلاثة الّذين عبدتُهم على الدوام. ثمّ، وفي اللحظة المناسبة، ومثل لؤلؤة وسط جرنها المتّقد، متلقّية المعونة أوّلاً، ثمّ، متبوعة بسرب الأرواح الملائكيّة الّتي كانت قد أتت لمساعدتي في ولادتي السماويّة الأبديّة، مُنتَظَرةً مِن قِبَل يسوعي ما قبل عتبة السماوات، وعند عتبتها مِن قِبَل زوجي الأرضي البارّ، ومِن قِبَل ملوك وآباء ذريّتي، مِن قِبَل القدّيسين والشهداء الأوائل، دخلتُ كمَلِكَة، بعد الكثير مِن ألم وتواضع خادمة الله المسكينة، إلى ملكوت الغبطة الّتي بلا حدود. والسماء انغلقت ثانيةً على فرح امتلاكي، امتلاك مَلِكَتها، الّتي جسدها، الوحيد بين كلّ الأجساد الفانية، قد مُـجِّد قبل القيامة الأخيرة والدينونة الأخيرة.»

***

كانون الأوّل [ديسمبر] 1943

 

تقول مريم:

 

«إنّ تواضعي لم يكن ليسمح لي بالتفكير بأنّ مجداً عظيماً كان محفوظاً لي في السماء. في فِكري كان شبه يقين بأنّ جسدي البشريّ، الّذي تقدّس بحمله الله، ما كان ليصيبه الفساد، لأنّ الله حياة هو، وحين يُشبِع مخلوقاً ويملأه مِن ذاته، فإن عمله هذا يكون مِثلَ طِيب يحفظ مِن فساد الموت.

 

أنا، لم أكن فقط بلا دنس، ولم أتّحد بالله بِعِناق خصب وعفيف فحسب، وإنّما كنتُ قد تشبّعتُ، حتّى أعماقي السحيقة، مِن فيض الألوهة المخبّأة في أحشائي والمزمعة على الاحتجاب بجسد فان. لكن أن يكون صلاح الخالق قد حفظ لخادمته فرح الإحساس مجدّداً بملامسة يد ابني، بعناقه، بقبلته، وبسماع صوته مجدّداً بأذنيّ، ورؤية وجهه بعينيّ، فأنا لم أكن أفكّر أنّ ذلك سوف يعطى لي، ولم أكن أبتغيه. قد كان ليكفيني أن تُعطى هذه الغبطات لروحي، ومِن ذلك كانت أناي لتمتلئ بالغبطة.

 

لكن، للشهادة على فِكره الخلاّق الأوّل فيما يتعلّق بالإنسان، الّذي أعدّه هو، الخالق، كي يحيا، عابراً بلا موت مِن الفردوس الأرضيّ إلى ذاك السماويّ، إلى الملكوت الأبديّ، فإنّ الله قد شاءني، أنا الّتي بلا دنس، في السماء بالنَّفْس وبالجسد، فور انتهاء حياتي الأرضيّة.

 

أنا الشهادة الأكيدة لما فَكَّر به الله وشاءه للإنسان: حياة بريئة وجاهلاً للخطايا، عبور هادئ مِن هذه الحياة إلى الحياة الأبديّة، بحيث، كَمَن يعبر عتبة منزل ليدخل قصراً، أنّ الإنسان، بكيانه الكامل، الـمُكوّن مِن جسد ماديّ ونَفْس روحيّة، كان ليعبر مِن الأرض إلى الفردوس، مرتقياً بكمال أناه، الّذي وهبه إيّاها الله، إلى الكمال المطلق للجسد والروح، الّذي كان، في الفكر الإلهيّ، معدّاً لكلّ مخلوق يبقى وفيّاً لله وللنعمة. كمالاً كان مِن الممكن امتلاكه في النور الكامل الذي هو في السماء، والتي يملأها، آتياً مِن الله، الشمس الأبديّة الذي ينيرها.

 

مرتفعة إلى مجد السماوات بالنَّفْس والجسد، وضعني الله أمام الآباء، الأنبياء والقدّيسين، أمام الملائكة والشهداء، وقال:

 

"هي ذي الصنيعة الكاملة للخالق. هذا ما خلقتُ على صورتي الحقيقيّة بالأكثر وعلى شبهي مِن بين كلّ أبناء الإنسان، ثمرة تُحفة إلهية وإبداعية، رائعة الكون، الّتي تُرى مُتضمِّنة في كائن واحد، الإلهيّ في روحه الأزليّ كما الله، روحانيّ مثله، حكيم، حرّ، قدّوس، والخليقة المادّية في أقدس الأجساد وأكثرها براءة، بحيث يتوجّب على كلّ حيّ آخر، في ممالك المخلوقات الثلاث، أن ينحني أمامها. هي ذي الشهادة على حبّي للإنسان، الّذي أردتُ له كينونة كاملة ومصيراً مغبوطاً لحياة أبديّة في ملكوتي. هي ذي الشهادة على غفراني للإنسان الّذي، وبمشيئة المحبّة الثالوثيّة، قد منحتُه فرصة إعادة تأهيل وتجديد خلق في عينيّ. إنّها حجر الـمِحَكّ (حجر يستخدم للتحقّق مِن نقاء الذهب) الروحانيّ، إنّها الخاتم الموحِّد للإنسان بالله. هذه هي الّتي أعادت الأزمنة إلى الأيّام الأولى، وتمنح عينيّ الإلهيّتين فرح تأمّل حواء كما أنا خلقتُها، الآن وقد أصبحت أكثر جمالاً وقداسة، لكونها أُمّ كلمتي، وشهيدة الغفران الأعظم. وأنا، لقلبها الطاهر الّذي لم يعرف أبداً أيّة وصمة، حتّى الخفيفة منها، أفتح كنوز السماء، ولرأسها الّذي لم يعرف أبداً الكبرياء، أصنع لها مِن بهائي تاجاً وأُكلّلها، لأنّها فائقة القداسة بالنسبة لي، كي تكون مَلِكَتكم."

 

ما مِن دموع في السماء. إنّما وبدلاً مِن دموع الفرح، الّتي كانت لتذرفها الأرواح فيما لو مُنِحَت القدرة على البكاء، السائل الّذي يفيض عقب انفعال، فهناك، بعد هذه الكلمات الإلهيّة، إشعاع أنوار، تبدُّل بهاءات إلى بهاءات أكثر حيويّة، اضطّرام نار محبّة بلهيب أكثر اتّقاداً، صوت تناغمات سماويّة فائقة للغاية وغير قابلة للوصف، الّتي يتّحد بها صوت ابني، لتسبيح الله الآب وخادمته المغبوطة للأبد.

***

01 / 05 / 1946

 

يقول يسوع:

 

«‏ثمّة فرق بين انفصال النَّفْس عن الجسد، بفعل موت حقيقي، والانفصال المؤقّت للروح عن الجسد وعن النَّفْس الّتي تحييه بفعل نشوة أو انخطاف تأمّليّ.

 

وفي حين أنّ انفصال النَّفْس عن الجسد يُحدِث الموت الحقيقيّ، فإنّ التأمّل الانتشائي، أي الانفلات المؤقت للروح خارج حواجز الحواسّ والمادّة، لا يُحدِث موتاً، هذا لأنّ ‏النَّفْس لا تنفكّ ولا تنفصل كلّياً عن الجسد، بل إنّها تفعل ذلك فقط بجزئها الأفضل، ‏الّذي يغوص في نيران التأمّل.

 

كلّ البشر، طالما هم أحياء، تكون فيهم النَّفْس، إمّا ميتة بسبب الخطيئة أو حيّة بفعل البرّ، إنّما وحدهم مُحبّو الله العظماء هم الّذين يتوصّلون إلى التأمّل الحقيقيّ.

 

وهذا يبرهن أنَّ النَّفْس، الّتي تَحفظ الوجود طالما هي متّحدة بالجسد -وهذه الخاصّية متشابهة لدى كلّ البشر- تحمل في ذاتها جزءاً أكثر رِفعة: نَفْس النَّفْس، أو روح الروح، الّذي هو قويّ جدّاً لدى الأبرار، بينما في أولئك الّذين أحجموا عن حبّ الله وشريعته، حتّى ولو فقط بفتورهم أو ذنوبهم الطفيفة، فإنّه يغدو واهناً، ممّا يحرم المخلوق مِن القدرة على التأمّل ومعرفة الله وحقائقه الأزليّة، بقدر ما يمكن لمخلوق بشريّ، تبعاً لدرجة الكمال الّتي بلغها.

 

وكلّما أحبّ المخلوق الله وخدمه بكلّ قواه وإمكانيّاته، زاد الجزء الأكثر رِفعةً مِن روحه مِن قدرته على معرفة، تأمّل، النفاذ إلى الحقائق الأزليّة.

 

إنّ الإنسان، الموهوب نَفْساً عقلانيّة، هو قُدرة يملأها الله مِن ذاته. ومريم، كونها أقدس المخلوقات بعد المسيح، فقد كانت قُدرة طافحة، إلى درجة أن تفيض على إخوتها في المسيح في كلّ العصور وإلى دهر الداهرين، بالله، بِنِعَمِه، بمحبّته ورحمته.

 

لقد عبرت مغمورة بأمواج المحبّة. الآن، في السماء، قد أصبحت محيطاً مِن الحبّ، تفيض على أبنائها الأوفياء، كذلك أبنائها الضالّين، بأمواج محبّتها لأجل الخلاص الشامل، حيث إنّها الأُمّ الكونيّة لكلّ البشر.»