ج5 - ف34

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

34- (يسوع يغضب لأوّل مرّة. يوبّخ بطرس)

 

30 / 11 / 1945

 

يُغادِر يسوع مدينة قيصريّة فليبّس مع خيوط الصباح الأولى، ذلك أنّها الآن بعيدة بجبالها، والسهل يُحيط مِن جديد بيسوع الذي يتوجّه صوب بحيرة ميرون ليذهب بعد ذلك إلى بحيرة جنّسارت. كلّ الرُّسُل برفقته وكذلك التلاميذ الذين كانوا في القيصريّة. لكنّ قافلة كثيرة العدد لا تُدهِش أحداً، ذلك أنّ قوافل أخرى تتجّه صوب أورشليم، قوافل إسرائيليّين أو صابئة، قادمين مِن كلّ مكان، راغبين في المكوث بعض الوقت في المدينة المقدّسة لسماع الرابّيين واستنشاق هواء الهيكل طويلاً.

 

يسيرون بسرعة، تحت الشمس المرتفعة في الأفق، ولكنّها لا تتسبّب بالمضايقة، لأنّها شمس ربيع تُداعِب الأوراق الجديدة والأغصان الـمُزهِرة التي تُوَلِّد أزهاراً وأزهاراً وأزهاراً مِن كلّ صوب. والسهل الذي يسبق البحيرة ليس سوى سجّادة مُزهِرة، والعين، إذ تلتفت صوب الروابي المحيطة به، تراها مكسوّة نُدفاً بيضاء، مائلة قليلاً إلى الزهرة، أو زهراء زهراء، أو زهراء تميل إلى الحُمرة، بحسب الأشجار المثمرة المختلفة، أو لدى المرور أمام بيوت الفلّاحين القليلة أو أمام محلّات البياطرة، هنا وهناك على طول الطريق، تستمتع بالورود المتفتّحة في الحدائق، أو على طول الأسيجة أو على جدران المنازل.

 

«حدائق يُوَنّا تكون الآن مكسوّة بالزهور» يُبدي سمعان الغيور ملاحظته.

 

«حديقة الناصرة كذلك يُفتَرَض أنّها تبدو كسلّة مليئة بالزهور. ومريم هي النحلة الوديعة التي تتنقّل بين شجيرات الورد وشجيرات الياسمين التي لن يطول بها الوقت لِتُزهر، والزنابق التي ظَهَرَت براعمها على السُّوق، وسوف تَقطف غصينات اللوز كما تفعل عادة، بل حتّى ستقطف غصينيّ أجاص ورمّان لتضعهما في مزهريّة في غرفتها الصغيرة. فعندما كنّا أطفالاً كنّا نسألها على الدوام: "لماذا تحتفظين دائماً بغصين شجرة مزهرة ولا تحتفطين على النقيض مِن ذلك بأولى الورود؟" وكانت تجيب: "لأنّ على بتلاتها أراه مكتوباً، الأمر الآتي مِن الله، وأشمّ رائحة نسيم السماء النقيّ". هل تذكر يا يوضاس؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى أخاه.

 

«نعم، أتذكّر. وأذكُر أنّني، عندما أصبحتُ رجلاً، كنتُ انتظر الربيع بتلهّف لأرى مريم تتنقّل في حديقتها تحت ندى شجراتها الـمُزهِرة وعَبْر أسيجة ورداتها الأولى. لم أرَ في حياتي مشهداً أروع مِن مشهد تلك الفتاة الأزليّة تنـزلق بين الزهور، وسط طيران الحَمَام...»

 

«آه! فلنمض، يا ربّ، بسرعة، لنراها! ولأرَ أنا أيضاً كلّ هذا!» يتوسّل توما.

 

«ليس علينا سوى حثّ الخطى، والاستراحة قليلاً أثناء الليل، لِنَصِل إلى الناصرة بأسرع ما يمكن» يُجيب يسوع.

 

«هل تُنعِم عليَّ بهذا يا ربّ؟»

 

«نعم يا توما. سنذهب جميعنا إلى بيت صيدا، ثمّ إلى كفرناحوم، وهناك نفترق، فنستقلّ نحن الـمَركَب إلى طبريّا ثمّ إلى الناصرة. بهذا، جميعنا، عدا اليهود، سنلبس ثياباً أخفّ. فالشتاء قد انقضى.»

 

«نعم، وسوف نقول لليمامة: "انهضي بسرعة، يا حبيبتي، وهلمّي فقد مضى الشتاء، وتوقَّفَ انهمار المطر، وعلى الأرض زهور... قفي، يا خليلتي، وتعالي، أيّتها اليمامة المختبئة دوماً، أريني وجهكِ، وأسمِعيني صوتكِ".»

 

«مرحى لكَ يا يوحنّا! تبدو كعاشق يُنشِد أغنية لجميلته!» يقول بطرس.

 

«أنا كذلك. أنا عاشق مريم. ولستُ أرى امرأة أخرى توقِظ حبّي. ليس سوى مريم، التي أُحِبّها بكلّ كياني.»

 

«كنتُ أقول هذا أنا كذلك، منذ شهر. أليس كذلك يا سيّد؟» يقول توما.

 

«أظنُّنا جميعاً مُغرَمين بها. حبّاً سامياً جدّاً، سماويّاً للغاية!... بشكل لا يوجد معه سوى هذه المرأة التي تستطيع أن توحي به. والنَّفْس تحبّ نفسها بالكامل، الروح يحبّ ويُعجَب بذكائها، والعين تُعجَب وتُسَرّ بكياستها التي تمنح عاطفة لا شائبة فيها، كما لو أنّ المرء يَنظُر إلى زهرة... مريم، جمال الأرض، وأظنُّها جمال السماء...» يقول متّى.

 

«صحيح! صحيح! فكلّنا نرى في مريم أكثر ما في المرأة مِن وَداعة ولُطف. فهي الطفل النقيّ والأُمّ الوديعة معاً. ولا يدري المرء إذا ما كان يحبّها مِن أجل هذه أو تلك مِن الصِّفات...» يقول فليبّس.

 

«يحبّها المرء لأنّها "مريم". وكفى!» يقول بطرس بأسلوب الحِكَم.

 

يَسمَعهم يسوع يتكلّمون ويقول: «أحسنتم القول جميعكم. سمعان بطرس أجاد القول. فإنّ المرء يحبّ مريم لأنّها "مريم". لقد قُلتُ لكم، أثناء ذهابنا إلى القيصريّة، إنّ فقط الذين يجمعون الإيمان الكامل إلى الحبّ الكامل سيتوصّلون إلى معرفة المعنى الحقيقيّ للكلمات: "يسوع، المسيح، الكلمة، ابن الله وابن الإنسان". إنّما الآن كذلك أقول لكم إنّ اسماً آخر ثقيل على الفهم. وهو اسم أُمّي. ففقط الذين يجمعون الإيمان الكامل إلى الحبّ الكامل سيتوصّلون إلى معرفة المعنى الحقيقيّ لاسم "مريم"، أُمّ ابن الله. والمعنى الحقيقيّ سيبدأ بالانكشاف بجلاء إلى المؤمنين الحقيقيّين والمحبّين الحقيقيّين في ساعة تَمزُّق مُرعِبة، عندما سيُحكَم بالموت على التي وَضَعَت مع الذي وُلِدَ منها، عندما ستُشارِك الفادية الفادي في الفِداء في نَظَر العالم أجمع، وإلى أبد الآبدين.»

 

«متى؟» يَسأَل برتلماوس في حين توقّفوا على صفاف نهر كبير ليشرب العديد مِن التلاميذ.

 

«فلنتوقّف هنا لنتقاسم الطعام. فالشمس عند الظهيرة. هذا المساء سنكون عند بحيرة ميرون، ويمكننا اختصار الطريق بواسطة مَراكِب صغيرة.» يُجيب يسوع متهرّباً.

 

يَجلس الجميع على عشب ضفاف النهر، الطريّ والدافئ بفعل الشمس، ويقول يوحنّا: «مِن المؤسف أن نُخرِّب هذه الزهور الصغيرة اللطيفة. تَحسَبها قِطَعاً مِن السماء سقطت هنا على المروج.» توجد المئات والمئات مِن الزهور البريّة الجميلة.

 

«غداً تَنبُت مِن جديد وأجمل ممّا هي عليه» يقول يعقوب أخوه ليواسيه «فهي إن أَزهَرَت فلكي تجعل للربّ قاعة وَليمة على هذه البُقَع مِن الأرض.»

 

يُبارك يسوع الطعام ويوزّعه، ويبدأ الجميع بتناول الطعام بمرح. والتلاميذ، وكأنّهم دَوّار الشمس، يَنظُرون جميعهم إلى يسوع الجالس وسط صفّ رُسُله. ينتهون مِن الطعام بسرعة، وقد طيَّبَته السَّكينة والماء الصافي. إنّما بما أنّ يسوع ما يزال جالساً، فلا أحد يتحرّك. يدنو التلاميذ كذلك ليَسمَعوا ما الذي يقوله يسوع ردّاً على أسئلة رُسُله، وهُم يسألونه عمّا قاله سابقاً عن أُمّه.

 

«نعم. لأنّ كونها أمّي بحسب الجسد، أمر عظيم. تصوّروا أنّ حنّة التي لألقانة ما زالت تُذكَر لأنّها أُمّ النبيّ صموئيل. ولكنّه لم يكن سوى نبيّ، ومع ذلك يتذكّر المرء أُمّه لأنّها حبلت به. بالنتيجة فإنّ ذِكر مريم يكون تُرافقه أعظم المدائح، لأنّها مَنَحَت العالم يسوع الـمُخلِّص. ولكنّ هذا يبقى قليلاً لما يَطلبه منها الله لإتمام التدبير اللازم لخلاص العالم. مريم لا تُخيِّب رغبة الله. لم تُخيِبّها أبداً. منذ أن طُلِبَ منها حُبّ كامل لتضحية كاملة، أعطَت ذاتها وسوف تعطيها. وعندما تتمّم التضحية العظمى معي، مِن أجلي ومِن أجل العالم، عند ذاك يَفهَم المؤمنون الحقيقيّون والمحبّون الحقيقيّون المعنى الحقيقيّ لاسمها. وسيُمنَح هذا الإدراك لكلّ مؤمن حقيقيّ وكلّ محبّ حقيقيّ إلى أبد الآبدين. اسم الأُمّ العظيمة، المربّية القدّيسة التي تُرضِع أبناء المسيح بدموعها لتجعلهم ينمون لحياة السماوات.»

 

«تبكي، يا ربّ؟ على أُمّكَ أن تبكي؟» يَسأَل الاسخريوطيّ.

 

«كل أُمّ تبكي، وأُمّي ستبكي أكثر مِن كلّ أُمّ.»

 

«ولكن لماذا؟ فأنا كنتُ أجعل أُمّي تبكي أحياناً لأنّني لم أكن دائماً ابناً صالحاً. أمّا أنتَ! فلن تُسبّب الألم لأُمّكَ مطلقاً.»

 

«لا. بالفعل، فأنا، كابن، لا أُسبّب لها الألم، ولكنّني، كفادي، سوف أُسبّبه لها. هناك اثنان سوف يَجعَلان أُمّي تَذرف الدموع إلى ما لا نهاية: أنا لِأُخلِّص الإنسانيّة، والإنسانيّة بخطيئتها المستمرّة. فكلّ إنسان عاش أو هو يعيش أو سوف يعيش يُكلِّف مريم دموعاً.»

 

«ولكن لماذا؟» يَسأَل يعقوب بن زَبْدي مذهولاً.

 

«لأنّ كلّ إنسان يُكلِّفني، أنا، آلاماً، لافتدائه.»

 

«ولكن كيف يمكنكَ قول ذلك عن الذين ماتوا أو الذين لم يُولَدوا بعد؟ الذين يُسبِّبون لكَ الآلام هُم الأحياء، الكَتَبَة والفرّيسيّون والصدّوقيّون، باتّهاماتهم وحسدهم وشرّهم، ليس إلّا.» يؤكّد برتلماوس وكلّه ثقة بنفسه.

 

«يوحنّا المعمدان قُتِلَ كذلك... وهو ليس النبيّ الوحيد الذي قتلته إسرائيل، وكاهن المشيئة الأزليّة الوحيد الذي قُتِلَ لأنّه قد أُسيء فهمه مِن قِبَل الذين يعصون أوامر الله.»

 

«ولكنّكَ أنتَ أكثر مِن نبيّ، وأهمّ مِن المعمدان ذاته، سابقكَ. أنتَ كلمة الله. يد إسرائيل لن ترتفع عليكَ» يقول يوضاس تدّاوس.

 

«هل تظنّ ذلك يا أخي؟ أنتَ مُخطئ» يُجيبه يسوع.

 

«لا. لا يمكن أن يكون هذا! لا يمكن أن يحصل هذا! لن يَسمح الله بذلك! وهذا يعني الحَطَّ مِن قَدر مسيحه إلى الأبد!» يوضاس تدّاوس مُنفَعِل لدرجة أنّه يَنهَض واقفاً.

 

يسوع كذلك يَفعَل فِعله ويُمعِن النَّظَر بوجهه الشاحبّ، وعينيه الصادقتين. ويقول على مهل: «ومع ذلك هذا ما سيكون» ويَخفض ذراعه الأيمن الذي كان يَرفَعه كما للقَسَم.

 

يَنهَض الجميع ويتراصّون حوله، إكليل مِن وجوه متألّمة، ولكنّها متشكّكة أكثر، وتَسري همهمات بين الجمع: «بالتأكيد... لو كان الأمر هكذا... لكان تدّاوس على حقّ.»

 

«ما حَصَلَ للمعمدان سيّئ. ولكنّ ذلك رَفَعَ مِن قَدر الرجل، البطوليّ إلى النهاية. لو كان هذا قد جرى للمسيح، لكان حُطّ مِن قَدره.»

 

«يمكن للمسيح أن يُضطَهَد، إنّما ليس أن يُحطّ مِن قَدره.»

 

«مسحة الله عليه.»

 

«مَن يمكنه أن يؤمن بعد، إذا ما كان يَراكَ تحت رحمة البشر؟»

 

«لن نسمح بذلك.»

 

الوحيد الصامت هو يعقوب بن حلفى. فينهره أخوه: «ألا تتكلّم؟ ألا تَنفَعِل؟ ألا تسمع؟ احمِ المسيح مِن نفسه!»

 

أمّا يعقوب، فَمِن أجل كلّ إجابة يضع يديه على وجهه ويتنحى قليلاً وهو يبكي.

 

«إنّه أحمق!» يقول أخوه.

 

«قد يكون أقلّ مما تظنّ» يُجيبه هرمست، ويُتابِع: «أمس، أثناء شرح النبوءة، تحدَّثَ المعلّم عن جَسَد متحلّل يتشكّل مِن جديد، وعن جسد يقوم مِن الموت بقدرته الذاتيّة. ولا أظنُّ أحداً يمكنه أن يقوم إن لم يكن قد مات أوّلاً.»

 

«ولكن يمكنه أن يموت ميتة طبيعيّة، بالشيخوخة. وهذا كثير بالنسبة للمسيح!» يقول تدّاوس، ويوافقه الرأي كثيرون.

 

نعم، إنّما في هذه الحال لا تكون هناك علامة لهذا الجيل الذي هو أكثر شيخوخة منه» يُبدي سمعان الغيور ملاحظته.

 

«حسناً! ولكن ما قيل لم يكن يعني أنّه يتحدّث عن نفسه» يردّ تدّاوس، مُكابِراً في حبّه واحترامه.

 

«لا يمكن لأحد، إن لم يكن ابن الله، أن يقوم بقوّته الذاتيّة، كذلك لا يمكن لأحد، إن لم يكن ابن الله، أن يُولَد كما وُلِدَ هو. أقول هذا، أنا. أنا الذي شاهدتُ مَجد ولادته» يقول إسحاق واثقاً مِن نفسه في شهادته.

 

أمّا يسوع فقد استمع إليهم يتكلّمون، وذراعاه متصالبتان، وهو يَنظر إليهم الواحد تلو الآخر. وقد أعطى إشارة الآن إلى أنّه سيتكلّم، ويقول: «سيسلَّم ابن الإنسان إلى أيدي البشر، ليس لأنّه ابن الله، ولكن لأنّه كذلك فادي البشر. وما مِن فِداء بدون ألم. ألمي يُصيب الجسد، اللحم والدم، للتكفير عن خطايا اللحم والدم. وسيكون معنويّاً للتكفير عن خطايا النَّفْس والشَّهوات. وسيكون روحيّاً للتكفير عن أخطاء الروح. سيكون كاملاً. وكذلك، حين تزفّ الساعة، سيُقبَض عليَّ في أورشليم، وبعد أن أتألّم كثيراً، مِن قِبَل الشيوخ ورؤساء الكَهَنَة والكَتَبَة والفرّيسيّين، سيُحكَم عليَّ بموت مُشين. والله سيدع ذلك يحصل لأنّه ينبغي أن يكون هكذا، لأنّني الحَمَل الذي يُكفِّر عن خطايا العالم أجمع. وفي بحر مِن العذاب، الذي تشاركني به أُمّي وبعض الناس الآخرين، سأموت على الصليب. وبعد ثلاثة أيّام، بفعل إرادتي الإلهيّة فقط، سأقوم لحياة أبديّة وممجَّدة كإنسان، وسأُصبِح مِن جديد الله في السماء مع الآب والروح. إنّما قبل ذلك عليَّ أن أتحمّل كلّ أنواع الآلام المخزية، وأن يُطعَن قلبي بالكذب والحقد.»

 

جوقة مِن الصرخات المشكِّكة ترتفع في جوّ الربيع الدافئ والمعطَّر.

 

أمّا بطرس، وقد بدا الفزع والشكّ على وجهه، هو أيضاً، يأخذ يسوع مِن ذراعه وينحّيه قليلاً قائلاً له على مهل في أذنه: «آه! يا ربّ! لا تقل هذا. لا يحسن ذلك. لا يحسن. أترى؟ إنّهم يتشكّكون. ويقلّ تقديرهم لكَ. يجب ألّا تسمح بذلك مهما يكن السبب؛ ولكن أيضاً، لن يحدث لكَ شيء كهذا مطلقاً. لماذا إذاً مواجهته وكأنّه حقيقة؟ يجب أن يزداد تقدير الناس لكَ على الدوام، إذا شئتَ أن تُثبِت ذاتكَ. وعليكَ أن تَختُم بمعجزة، قد تكون تحويل أعدائكَ إلى رماد مثلاً. ولكن أبداً لا يجوز أن يُحَطّ مِن قدركَ، أو أن تجعل نفسكَ كأحد المسيئين وهو يُعاقَب.» ويبدو بطرس كمعلّم أو أب حزين يلوم بأسلوب مليء بالحبّ المتألّم ابنه الذي تفوّه بحماقة.

 

ويسوع الذي كان منحنياً قليلاً ليسمع همس بطرس، يعود لينتَصِب صارماً، وبريق في عينيه، ولكنّه بريق غَضَب، ويَصرُخ بقوّة ليسمع الجميع، فالأمثولة للجميع: «ابتعد عنّي، أنتَ يا مَن في هذه اللحظة شيطان ينصحني أن أخالف وصيّة أبي! فأنا لأجل هذا أتيتُ! وليس مِن أجل المقامات! وأنتَ، إذ تنصحني بالكبرياء والعصيان والقسوة دون محبّة، تَجنح بي نحو الشرّ. اذهب! أنتَ عَثَرة لي! ألا تُدرِك أنّ العَظَمَة لا تكمن في المقامات، بل في التضحية، ولا يهمّ إن بَدَونا حشرات في نَظَر البشر إذا كان الله يَنظُر إلينا كملائكة؟ أنتَ، الرجل الأرعن، لا تفهم ما هي العَظَمَة والصَّواب بالنسبة لله، وتَنظُر وتَحكُم وتَسمَع وتتكلّم بما هو بشريّ.»

 

يتلاشى المسكين بطرس تحت تأثير هذا اللَّوم الصَّارم؛ يبتعد مقهوراً ويبكي... ولم تكن دموع فرح كالتي كانت منذ بضعة أيّام خَلَت، ولكنّها دموع ندم لامرئ أدرَكَ أنّه أخطأ وتسبَّبَ في إيلام مَن يحبّ. ويدعه يسوع يبكي. يَخلَع حذاءه، ويرفع ثوبه ويَعبر النهر. وحذا الآخرون حذوه بصمت. لم يجرؤ أحد على أن يتفوّه بكلمة واحدة. في آخر الرّكب يوجد بطرس المسكين، الذي يُحاوِل عَبَثاً إسحاق والغيور مواساته. يلتفت أندراوس مرّات عديدة لينظر إليه، ثمّ يهمس في أذن يوحنّا الحزين بشيء ما، ولكنّ يوحنّا يهز رأسه بالنَّفي.

 

حينذاك يحزم أندراوس أمره. يركض إلى الأمام، يلحق بيسوع، يناديه بلطف تشوبه خشية ظاهرة: «يا معلّم! يا معلّم!...»

 

يتركه يسوع ينادي عدّة مرات. أخيراً يلتفت، بمظهر صارم، ويَسأَل: «ماذا تريد؟»

 

«يا معلّم، إنّ أخي حزين جدّاً... إنّه يبكي...»

 

«لقد استحقَّ ذلك.»

 

«حقّاً، يا معلّم. إنّما هو، يظلّ إنساناً... ولا يمكنه إجادة الكلام دائماً.»

 

«بالفعل لقد تكلَّم اليوم بشكل سيّئ جدّاً.» يُجيب يسوع. ولكنّه أصبَحَ أقلّ صرامة، وابتسامة مُشرِقة تُلطِّف نظرته الإلهيّة.

 

يتجاسر أندراوس ويُطيل مرافعته بخصوص أخيه: «ولكنّكَ عادل وتعرف أنّ حبّه لكَ جَعَلَه يُخطئ...»

 

«ينبغي أن يكون الحبّ نوراً وليس ظُلُمات. وهو حَوَّله إلى ظُلُمات غَلَّفَ بها روحه.»

 

«بحقّ، يا ربّ. إنّما يمكن نزع اللّفافات ساعة نشاء. وهذا ليس كما يكون الروح مظلماً. اللّفافات، يعني الخارج. الروح، يعني الداخل، النواة الحيّة... وداخل أخي صالح.»

 

«فليَنـزَع إذاً اللّفافات التي وَضَعَها.»

 

«بكلّ تأكيد سيفعل، يا ربّ! وها قد اهتمَّ بذلك. التَفِت وانظر كم شوَّهَته الدموع التي لم تواسِه مِن أجلها. لماذا أنتَ صارم معه إلى هذا الحدّ؟»

 

«هذا لأنّ عليه أن يكون "الأوّل" كما أوليتُه الشَّرَف أن يكون. فمن يتلقّى الكثير عليه أن يُعطي الكثير...»

 

«آه! يا ربّ! نعم، بحقّ. ولكن ألا تتذكّر مريم لعازر؟ يوحنّا الذي مِن عين دور؟ أغليّا؟ غانية قورازين؟ لاوي؟ هؤلاء قد أعطيتَهم كلّ شيء... وهُم لم يُعطوك سوى النيّة بالافتداء... يا ربّ... لقد استمعتَ إليَّ مِن أجل غانية قورازين ومِن أجل أغليّا... أفلا تستمع إليَّ مِن أجل سمعاني وسمعانكَ الذي أخطأ بسبب حبّه لكَ؟»

 

يَخفض يسوع عينيه لينظر إلى الوديع الذي تحوَّلَ إلى شجاع ومُلِحّ فيما يخصّ أخاه، كما فَعَلَها بصمت لأجل أغليّا وغانية قورازين، ويشعّ وجهه نوراً، ويقول: «اذهب ونادِ أخاكَ، واجلبه إلى هنا.»

 

«آه! شكراً، يا ربّي! أنا ماضٍ...» ويبتعد، راكضاً بسرعة كالسنونو.

 

«تعال يا سمعان. لم يعد المعلّم غاضباً منكَ. تعال، فهو يريد أن يقول ذلك لكَ.»

 

«لا، لا. أنا خَجِل... فمنذ قليل فقط وَجَّه إليَّ اللَّوم... وهو يريدني ليوجه إليَّ المزيد...»

 

«كَم تجهله! هيّا بنا، تعال! هل تظنّ أنّ بإمكاني أخذكَ لأزيد مِن آلامكَ؟ لو لم أكن على يقين مِن أنّ فَرَحاً ينتظركَ، لما كنتُ أُلِحّ. تعال.»

 

«ولكن ما الذي سأقوله له؟» يقول بطرس وهو يَشرع بالسير متردّداً قليلاً، تكبح سيره مشاعره الإنسانيّة، يثيره روحه الذي لا يتمكّن مِن الاستغناء عن تنازل يسوع وحبّه. «ما الذي يمكنني قوله له؟» يُتابِع التساؤل.

 

«ولكن لا شيء! أَظهِر له وجهكَ، وسيكون ذلك كافياً» يقول أندراوس مُشجِّعاً أخاه.

 

وطالما كان الاثنان يتجاوزان التلاميذ، كان هؤلاء يَنظُرون إليهما مبتَسِمين، مُدرِكين الذي يحدث.

 

يَصِلان إلى يسوع. ولكنّ بطرس يتوقّف في اللحظة الأخيرة. أندراوس لا يفتَعِل الحوادث. فيدفعه بهمة كما يَفعَل بالـمَركَب ليدفعه إلى العرض، يدفعه إلى الأمام. يتوقّف يسوع... يرفع بطرس وجهه... يخفض يسوع نظره... ينظران إلى بعضهما... وتنسَكِب دمعتان كبيرتان على خدّي بطرس الأحمرين…

 

«تعال هنا، أيّها الولد الكبير الأرعَن، ولِأَكن لكَ بمثابة الأب فَأَمسح لكَ دموعكَ.» يقول يسوع، ويرفع يده التي ما تزال تحتفظ بآثار ضربة حجر جيسكالا، ويمسح بأصابعه هاتين الدمعتين.

 

«آه! يا سيّدي! هل غفرتَ لي؟» يَسأَل بطرس وهو يرتجف، ممسكاً بيد يسوع بين يديه، ناظراً إليه بعينيّ كلب وفيّ، الذي يبغي الحصول على مسامحة سيّده الغاضب.

 

«لم أُدِنكَ أبداً...»

 

«ولكن قبلاً...»

 

«لقد أحببتُكَ. فحبّ هو عدم السماح بأن تترسّخ فيكَ انحرافات المشاعر والحكمة. عليكَ أن تكون الأوّل في كلّ شيء، يا سمعان بطرس.»

 

«إذن... إذن هل ما زلتَ تحبّني كثيراً؟ هل ما زلتَ راغباً بي؟ هذا لا يعني أنّني أريد المكان الأوّل، أتعلم؟ يكفيني المكان الأخير، إنّما أن أكون معكَ، في خدمتكَ... والموت في خدمتكَ، أيّها الربّ إلهي!»

 

يَضَع يسوع ذراعه حول كتفيّ بطرس ويشدّه إليه. أمّا بطرس الذي ما يزال ممسكاً بيد يسوع الأخرى، فإنّه يوسعها تقبيلاً... سعيداً. ويتمتم: «كم تألّمتُ!... شكراً يا يسوع.»

 

«بل بالحريّ اشكُر أخاكَ. واعرِف، في المستقبل، أن تَحمِل حِملَكَ باستقامة وبطولة. فلننتظر الآخرين. أين هُم؟»

 

لقد تسمّروا في مكانهم، حينما التقى بطرس بيسوع، لِيُفسِحوا المجال للمعلّم ليتحدّث بحريّة مع تلميذه المقهور. أشار إليهم يسوع أن يتقدّموا. وقد كان معهم بعض الفلّاحين الذين كانوا قد تركوا عملهم في الحقول ليأتوا ويَسأَلوا التلاميذ.

 

يد يسوع ما تزال على كتف بطرس ويقول: «ممّا جَرى، أدركتم أنّه أمر جدّيّ وصعب أن يكون المرء في خدمتي. لقد وَجَّهتُ اللَّوم له، بينما هو كان للجميع، لأنّ الأفكار ذاتها كانت تدور في خُلد القسم الأكبر مِن قلوبكم، وقد كانت إمّا مكتَمِلة أو في بدايتها. وبهذه الطريقة قضيتُ عليها، والذي ما تزال تعتَمِل في فِكره يُظهِر أنّه لم يفهم مذهبي ورسالتي وشخصيّتي.

 

لقد أتيتُ لأكون الطريق والحقّ والحياة. أمنحكم الحقّ لأنّني أُعلِّم. أُمهِّد لكم الطريق بتضحيتي، أخُطُّها لكم وأدلُّكم عليها. أمّا الحياة، فأمنحكم إيّاها بموتي. وتذكَّروا أنَّ مَن يستجيب لدعوتي وينضمّ إلى صفوف أتباعي ليساهم في فِداء العالم، عليه أن يكون جاهزاً للموت ليمنح الآخرين الحياة. وهكذا فمن أراد أن يتبعني عليه أن يَكفُر بذاته، بعاداته وتقاليده، وبأفكاره، وأن يتبعني بكيانه الجديد.

 

فليحمل كلّ واحد صليبه كما سأحمله أنا. فليحمله حتّى ولو بدا له مُشيناً جدّاً. وليدع الصليب يسحق ذاته البشريّة ليحرّر ذاته الروحيّة، تلك الذات التي لا يُرعِبها الصليب، بل على النقيض مِن ذلك يكون نقطة ارتكاز وسبب تمجيد، ذلك أنّ الروح يَعلَم ويتذكّر. وليتبعني ومعه صليبه. هل ينتظره الموت المشين في نهاية الطريق كما ينتظرني؟ لا يهمّ. فلا يحزن، بل على العكس، ليفرح، فعار الأرض يتحوّل في السماء إلى مجد عظيم، بينما الجُّبن في مواجهة البطولات الروحيّة يصبح خِزياً. أنتم لا تكفّون عن القول بأنّكم تريدون أن تتبعوني حتّى الموت. اتبعوني إذاً، وسأقودكم إلى الملكوت عَبْر طريق وَعِر وصَعب، ولكنّه مقدّس وممجّد، تبلغون في نهايته إلى كسب الحياة التي لا تتغيّر إلى الأبد. فهذا سيكون "الحياة". بينما، على العكس، اتّبِاع دروب العالم والجسد هو "الموت". وبهذه الطريقة، فالذي يريد أن يُخلِّص حياته على الأرض يخسرها، أمّا الذي يخسر حياته على الأرض بسببي وحبّا بإنجيلي، يُخلِّصها. ولكن فَكِّروا: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخَسِر نفسه؟

 

وأيضاً حافظوا على أنفسكم جيّداً، الآن وفي المستقبل، مِن أن تخجلوا بكلامي وأفعالي. فهذا أيضاً يكون "موتاً". بالفعل مَن يخجل بي وبكلامي وسط هذا الجيل المستهتر والفاسق والخاطئ الذي تحدَّثتُ عنه، وهو يأمل الحصول على حماية ومنافع، فيُمالقه وينكرني، أنا وتعاليمي، وهو يرمي الكلام الذي سَمِعَه في أفواه الخنازير والكلاب النَّجِسة ليحصل على فَضَلات كمكافأة له، فهذا سيدينه ابن البشر حين يأتي في مَجد أبيه مع الملائكة والقدّيسين لِيُدين العالم. حينذاك يحمرَّ مِن كلّ أولئك الزُّناة الفاسِقين، والجبناء والـمُرابين ويطردهم مِن ملكوته، لأنّه لا مكان في أورشليم السماويّة للزناة والفاسقين والجبناء والمجدّفين والسارقين. والحقّ أقول لكم إنّ بعضاً مِن الحاضِرين هنا، مِن بين تلاميذي وتلميذاتي، لا يَذوقون الموت قبل أن يروا إقامة ملكوت الله، بِمُلكِه الذي سيكون قد حَصَلَ على التاج والصولجان.»

 

يُعاوِدون المسير وهم يتحدّثون بحماس، بينما تميل الشمس ببطء إلى الأفول في السماء.