ج2 - ف89
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
89- (يسوع في منطقة المياه الحلوة: "أَكرِم أباكَ وأُمّكَ")
03 / 03 / 1945
يَذرَع يسوع المكان جيئة وذهاباً ببطء، على شاطئ النهر. النهار يَبزُغ مِن خلال ضباب يوم شتويّ كئيب يتمادى على قصب الشاطئ. وعلى مدى النَّظَر، لا أحد على شاطئ الأردن مِن الطرفين. لا شيء سوى الضباب على سطح الماء، وصوت الماء الـمُرتَطِم بالقَصَب والجاري مُوحِلاً بسبب أمطار الأيّام السابقة. بعض مِن زقزقة العصافير يَصِل مُقتَضَباً وحزيناً بعد انقضاء موسم الحبّ. فالموسم الحالي وشُحّ الغذاء يجعلها كئيبة.
يُنصِت يسوع إليها، ويبدو مهتمّاً كثيراً بنداء عصفور صغير يدير رأسه صوب الشمال، وبرَتابة دَقّات الساعة، يقول: "سيرويت" بشكل نَوحيّ، ثمّ يديره صوب الجنوب ويُكرّر الـ "سيرويت" إنّما بشكل تساؤليّ. أخيراً، يبدو أنّ العصفور الصغير قد تلقّى إجابة في الـ "سيب" الواردة مِن الضفّة الأخرى، ويمضي مرفرفاً بجناحيه، عبر النهر، مع زقزقة فرح. يقوم يسوع بحركة وكأنّه يقول: «يا لحسن الحظّ»، ثمّ يُعاوِد المسير.
«هل أُزعِجكَ يا معلّم؟» يَسأَل يوحنّا القادم مِن جهة الحقول.
«لا. ماذا تريد؟»
«أودُّ أن أقول لكَ... يبدو لي أنّه خبر يُفرِحكَ، لذا أتيتُ فوراً لأستشيركَ أيضاً.
كنتُ أكنس غُرفنا، عندما وَصَلَ يهوذا الاسخريوطيّ وقال لي: "هل أساعدكَ؟" فوقفتُ مندهشاً، ذلك أنّه يقوم بهذا العمل على مَضَض، حتّى حينما يُطلَب منه... ولكنّني لم أقل له أكثر مِن: "آه! شكراً! هكذا أنهي عملي بسرعة أكثر وبشكل أفضل". وأَخَذَ يكنس، وأنهينا عملنا بسرعة. فقال حينئذ: "لنذهب إلى الغابة، فدائماً كبار السنّ هم الذين يجلبون الحَطَب. وهذا ليس حسناً. فلنذهب نحن. أنا لا أُحسِن التصرّف. ولكن لو تُعَلّمني..." وذهبنا. وبينما كنتُ هناك أحزم الحطب معه، قال لي: "يوحنّا، أريد أن أقول لكَ شيئاً".
قُلتُ له: "تكلّم". وكُنتُ أظنّ الأمر انتقاداً.
إنّما على العكس، فقد قال: "أنا وأنتَ الأكثر شباباً. ينبغي لنا أن نكون أكثر انسِجاماً ووحدة. أنتَ تكاد تخاف منّي، وإنّكَ لَعَلى حقّ، فأنا لستُ صالحاً. إنّما ثِق... أنا لا أفعل ذلك متعمّداً. أحياناً أُحِسُّ بالحاجة إلى أن أكون سيّئاً. وقد يكون ذلك بسبب كَوني وحيداً ومُدلّلاً ممّا أَفسَدَني. وأودُّ لو أُصبِح صالحاً. وأَعلَم أنّ كبار السنّ لا ينظرون إليَّ بعين الرضى. أولاد عمّ يسوع صُدِموا... نعم، فلقد ارتكبتُ بحقّهم الكثير مِن النقائِص، وكذلك بحقّ ابن عمّهم. أمّا أنتَ فإنّكَ صالح وصَبور. أَحبِبني. اعمَل كما لو كنتُ أخاً لكَ، سيّئاً، نعم، إنّما ينبغي لكَ أن تحبّه بالرغم مِن كلّ شيء. فالمعلّم أيضاً يقول إنّه ينبغي التصرّف هكذا. عندما تراني لا أتصرّف بشكل حَسَن، قُل لي. ثمّ لا تتركني دائماً وحيداً. عندما أَذهَب إلى البلدة، تعال أنتَ أيضاً. سوف تساعدني لكي لا أتصرّف بشكل سيّئ. أمس تألّمتُ كثيراً. حَدَّثَني يسوع، وأنا نَظَرتُ إليه. وفي حقدي الأبله، لم أكن في السابق أنظر لا إلى ذاتي ولا إلى الآخرين. أمس نَظَرتُ ورَأَيتُ... لهم كلّ الحقّ في القول إنّ يسوع يعاني... ولقد تنبّهتُ أيضاً إلى كوني مسؤولاً أيضاً عن ذلك. أنا لا أريده أن يكون كذلك. تعال معي. هل تأتي؟ هل ستساعدني كي أكون أقلّ سوءاً؟"
هكذا قال لي، وأَعتَرِف أنّ قلبي كان يخفق مثل قلب عصفور بين يديّ طفل. كان يخفق مِن الفرح لأنّني مسرور بأن يصبح صالحاً، ومِن أجلكَ أيضاً كنتُ سعيداً، ولكنّ قلبي كان يخفق بشدّة مِن الخوف... ذلك أنّني لم أكن أريد أن أصبح مثل يهوذا. إنّما بعدئذ، تذكّرتُ ما قلتَهُ أنتَ لي يوم قَبِلتَ يهوذا، وأَجبتُهُ: "نعم، سوف أساعدكَ. إنّما عليَّ أن أطيع إذا ما كانت لديَّ أوامر أخرى..." وكنتُ أفكّر: الآن أقول للمعلّم، وإذا ما شاء هو ذلك أَفعَله، وإذا لم يَشأ أَجعَله يأمرني بألّا أبتعد عن البيت.»
«اسمع يا يوحنّا. إنّني أدعكَ تذهب. إنّما عليكَ آنذاك أن تقطع لي وعداً بأنّكَ إذا ما أَحسَستَ بأيّ شيء يجعلكَ تَضطَرِب أن تأتي وتخبرني. لقد أَفرَحتَني كثيراً يا يوحنّا. هو ذا بطرس مع سمكته. اذهب أنتَ يا يوحنّا.»
ويلتفت يسوع إلى بطرس: «هل كان صيداً موفقاً؟»
«آه! ليس كثيراً، سمك نحيل... أمّا الذي سُحِب منه فجزء فقط. ويعقوب يُهمهِم، لأنّ حيواناً قَطَعَ الحبل وأضاع إحدى الشِّباك. وقد قُلتُ: "ألم يكن مِن المفروض أن يَأكل أيضاً؟ أَشفِق على الحيوان المسكين". ولكنّ يعقوب لا يسمع مثل هذا الكلام...» يقول بطرس ضاحكاً.
«هذا ما أقوله عن إنسان هو أخ. وهذا ما لا تعرفون فِعله.»
«أتتكلّم عن يهوذا؟»
«أتكلّم عن يهوذا. إنّه يُعاني مِن ذلك. فرغباته حَسَنَة وميوله فاسدة. إنّما قل لي، وأنتَ الصيّاد المتمرّس، إذا ما أردتُ الذهاب بالمركب، في نهر الأردن، للوصول إلى بحيرة جنّسارت، فكيف يمكنني ذلك؟ وهل أنجح؟»
«إيه! سيكون عملاً هائلاً! ولكنّكَ تنجح بمركب صغير ذي قعر مُسطَّح... إنّ ذلك لَمُتعِب وطويل! يجب سبر العمق باستمرار، والانتباه للضفاف والأعماق القليلة والأغصان الطافية مع التيار. الشراع غير ضروريّ في بعض الحالات، بل على العكس... إنّما أنتَ تريد العودة إلى البحيرة عن طريق النهر؟ فاعلَم أنّه بعكس التيّار، وسيكون الأمر سيّئاً. ينبغي أن تكونوا كُثُراً وإلّا...»
«أنتَ قلتَها. عندما يكون المرء فاسداً ويبغي التوجّه إلى الخير، وَجَبَ عليه المضيّ عكس التيار، ولا يمكنه التوصّل إلى ذلك بمفرده. ويهوذا هو بالضبط واحد من أولئكَ. وأنتم، لا تساعدونه. فالمسكين يَمضي وحيداً، يرتَطِم بالقاع قليل العمق، يَفشَل فيه ويتعثّر بالأغصان الطافية، ويَجِد نفسه عالقاً في الدوّامات. مِن جهة أخرى، إن هو سَبَرَ العمق، فلا يمكنه، في الوقت نفسه، الإمساك بالدفة أو الـمِجذَاف. فلماذا تلومونه إذا لم يتقدّم؟ أَتُشفِقون على الغرباء، ولا تُشفِقون عليه، وهو رفيقكم؟ هذا ليس عدلاً. أترى هناك؟ إنّه هو مع يوحنّا يمضيان إلى البلدة لجلب الخبز والخضار. لقد تَوسَّلَ ألّا يذهب بمفرده. وقد طَلَبَ ذلك مِن يوحنّا لأنّه ليس أبلهاً، ويَعلَم بماذا تفكّرون عنه أنتم كبار السنّ.»
«وأَرسَلتَهُ؟ وإذا ما أَفسَدَ يوحنّا أيضاً؟»
«مَن؟ أخي؟ لماذا يُفسَد؟» يَسأَل يعقوب الذي يَصِل مع الشبكة المنتَشَلة مِن بين القصب.
«لأنّ يهوذا يذهب معه.»
«منذ متى؟»
«منذ اليوم. وأنا مَن سَمَحَ بذلك.»
«إذن، إذا كنتَ أنتَ مَن سمحتَ بذلك...»
«نعم، وأنصح به الجميع. إنّكم تتركونه كثيراً وحيداً. لا تكونوا قُضاة له وحده. فهو ليس أسوأ مِن كثيرين. ولكنّه الأكثر دَلالاً، ومنذ الطفولة.»
«نعم، هذا صحيح، يُفتَرَض أنّه هكذا. فلو كان أَبَواه زَبْدي وسالومة لما كان كما هو عليه. والِدَايَّ صالحان. ولكنّهما يتذكّران أنّ لهما حقوقاً وعليهما واجبات تجاه أبنائهما.»
«ما تقوله صحيح. اليوم سأتكلّم بالضبط عن هذا. أمّا الآن فهيّا بنا. إنّني أرى أناساً وَصَلوا عبر الحقول.»
«أنا، لستُ أرى كيف سنحيا. فليس لدينا وقت للأكل ولا للصلاة ولا للراحة... والناس يتزايدون باستمرار.» يقول بطرس وقد تَنازَعَته مشاعر الإعجاب والسأم.
«هل تتذمّر مِن ذلك؟ إنّها إشارة إلى أنّ ما يزال هناك أناس يُفتّشون عن الله.»
«نعم يا معلّم، ولكنّكَ تعاني مِن ذلك، حتّى لقد بَقيتَ أمس بلا طعام، ولم يكن لكَ في هذه الليلة مِن غطاء سوى معطفكَ. لو تَعلَم أُمّكَ بذلك!»
«لكانت ستُبارِك الله الذي يُرسِل لي الكثير مِن المؤمنين.»
«ولكانت ستوبّخني أنا الذي تَلَقَّيتُ أوامرها.» يَخلص بطرس إلى تلك النتيجة.
يَصِل فليبّس وبرتلماوس وهما يُومِيان. يَرَيان يسوع، يَحثّان الخُطى قائِلَين: «آه! يا معلّم! ماذا نفعل؟ إنّه حجّ حقيقيّ؛ مرضى وأناس يبكون ومساكين مُعدَمون يأتون مِن البعيد.»
«سوف نبتاع الخبز. الأغنياء يُعطون الصَّدَقات وليس أمامنا سوى استخدامها.»
«النهار قصير. العنبر يغصّ بالناس الذين يُخيّمون. والليالي رطبة وباردة.»
«أنتَ على حقّ يا فليبّس. سوف نُحشَر جميعنا في غرفة واحدة. سنتمكّن مِن فِعلها، وسنرتّب الآخرين، مَن لا يستطيع منهم العودة إلى بيته في الليل.»
«فَهِمتُ!» يُهمهِم بطرس، «وسنضطرّ، بعد قليل، إلى طَلَب الإذن مِن الضيوف لتبديل ملابسنا. إنّهم يَجتاحوننا لدرجة أن يجعلونا نهرب، نحن.»
«سوف تَرى هروبات أُخرى يا بطرس! ما لها، هذه المرأة؟» إنّهم الآن في الدار، ويَلحَظ يسوع امرأة تبكي.
«لستُ أدري. بالأمس كانت هنا أيضاً، وكانت تبكي. عندما كنتَ تتحدّث إلى منّان، أَتَت لملاقاتكَ ثمّ انصَرَفَت. يُفتَرَض أنّها مَكَثَت في البلدة أو في الجّوار إلى حين عودتها. لا يبدو عليها أنّها مريضة...»
«السلام لكِ يا امرأة.» يقولها يسوع وهو يمرّ بجوارها.
وتُجيب بهدوء: «ولكَ السلام.» ولا شيء آخر.
هناك، على الأقلّ، ثلاثمائة إنسان. تحت العنبر يوجد الـمُقعَدون والعميان والبُكم؛ كذلك طفل يرتعش بشدة، فهو بلا شك مصاب باستسقاء الدماغ، ويمسكه رجل بيده، وهو لا يَفعَل غير الأنين، وسيل اللعاب، وهَزّ الرأس، وهو ذو مظهر غبيّ.
«هل يمكن أن يكون ابن تلك المرأة؟» يَسأَل يسوع.
«لستُ أدري. فسمعان هو الذي يهتمّ بالزوار، وهو أَعلَم.»
يُنادي الغيور ويَسأَل. ولكنّ الرجل ليس مع المرأة. إنّها وحيدة. «هي لا تفعل سوى البكاء والصلاة. وقد سَأَلَتني منذ قليل: "هل المعلّم يشفي القلوب أيضاً"؟»
«قد تكون امرأة مَغدورة.» يُعلِّق بطرس.
بينما يتوجّه يسوع إلى المرضى، يمضي برتلماوس ومتّى مع زوار كثيرين إلى العِماد.
المرأة في ركنها تبكي ولا تتحرّك.
يَجتَرِح يسوع المعجزات ولا يَردّ أحداً. كم هو جميل ذو الغباء الذي، بنفحة منه يمنحه الذكاء، وهو ممسك برأسه بين يديه الطويلتين. يتزاحم الناس حوله. حتّى المرأة المحجّبة، وقد يكون بسبب وجود الكثير مِن الناس أنّها تَجرّأت واقتَرَبَت قليلاً، ووَقَفَت بجانب المرأة الباكية. يقول يسوع للأبله: «أريد فيكَ نور الذكاء ليقودكَ إلى نور الله. اسمع: قُل معي: "يسوع". قُلها. أنا أريد ذلك.»
والأبله الذي كان قبلاً يئنّ مثل حيوان، ولا شيء آخر، يُتَمتِم بصعوبة: "يسوع" أو بالحري ”جيجيو”.
«مرّة أخرى.» يَأمره يسوع وهو ما يزال يمسك بين يديه الرأس الـمُشَوَّه، وهو يسيطر عليه بالنَّظَر.
«يس – سوع.»
«مرّة أخرى.»
«يسوع!» يقولها الأبله أخيراً، وقد أَصبَحَت نظرته ذات تعبير ومعنى، وعلى فمه ابتسامة مختلفة.
«أيّها الرجل،» يقول يسوع للأب «بفضل الإيمان الذي عندكَ شُفِيَ ابنكَ. اسأله وحاوره. فإنّ اسم يسوع عجائبيّ في مواجهة الأمراض والآلام.»
يقول الرجل لابنه: «مَن أنا؟»
ويُجيب الطفل: «أبي.»
يَضمّ الرجل ابنه إلى صدره ويَشرَح: «لقد وُلِدَ هكذا. فزوجتي توفّيت وهي تضعه، وهو كان لا يُفكّر ولا يتكلّم. أمّا الآن فانظروا. لقد آمَنتُ، نعم، إنّني قادم مِن يافا. ماذا ينبغي لي أن أفعل مِن أجلكَ يا معلّم؟»
«أن تكون صالحاً، وابنكَ كذلك. لا شيء أكثر.»
«وأن أحبّكَ. آه! هيّا بنا حالاً نخبر أُمّ أُمّكَ، فهي التي دَفَعَتني إلى المجيء. لتكن مباركة!»
ويَمضي الاثنان سعيدَين. فلم يبق مِن الآفات القديمة سوى ضخامة رأس الطفل. بينما التعبير والكلام طبيعيّان.
ويَسأَل كثيرون: «أبإرادتكَ شُفِيَ أمّ بقُدرة اسمكَ؟»
«بإرادة الآب، الـمُحتَفي دائماً بالابن. ولكن اسمي أيضاً هو بحدّ ذاته خَلاص. تَعلَمون ذلك: فيسوع يعني مُخَلِّص. هناك صحّة النَّفْس وصحّة الجسد. ومَن يَذكر اسم يسوع بإيمان حقيقيّ يتخلّص مِن الأمراض والخطيئة، ذلك أنّ في كلّ مرض نفسيّ أو جسديّ هناك مخلب للشيطان. فهو يُوجِد الأمراض الجسديّة ليقود إلى التمرّد واليأس بألم هذا الجَّسَد، والأمراض المعنويّة أو الروحيّة ليقود إلى الدينونة وعذاب الجحيم.»
«إذن، حَسب رأيكَ، فإن بعلزبول ليس دخيلاً في كلّ بلايا الجنس البشريّ.»
«ليس دخيلاً. فبسببه أَصبَحَ في العالم مرض وموت، وبه كذلك أَصبَحَ في العالم جريمة وفساد. عندما تَرَون البؤس يَقضّ مَضجَع أحدهم، فَكّروا بأنّه بالشيطان يتألّم. وعندما تَرَون أحداً يُسبِّب البؤس، فاعلموا أنّه أداة للشيطان.»
«ولكنّ الأمراض تأتي مِن الله.»
«الأمراض هي فوضى ضمن النظام. الله بالفعل قد خَلَقَ الإنسان سليماً وكاملاً. واختلال النظام الذي جَلَبَه الشيطان ضمن النظام الـمُعطى مِن الله قد جَلَبَ معه آفات الجسد، والنتائج المتفرّعة عنها، أعني الموت أو بالحريّ الإرث الـمُفجِع. فلقد وَرَثَ الإنسان عن آدم وحوّاء الخطيئة الأصليّة، إنّما ليس هي وحسب، فالوَصمَة تمتدّ باستمرار لتحيط بفروع الإنسان الثلاثة: الجسد الدائم العَيب والفِسق، ومِن هنا ضعفه ومرضه؛ والأخلاق الدائمة الكبرياء، ومِن هنا الفساد المتزايد؛ والروح بكفرها الـمُتَعاظِم، أي بوثنيّتها الـمُتَفاقِمة. ومِن أجل هذا يجب، كما فَعَلتُ مع ذلك المتخلّف، تلقين الاسم الذي يجعل الشيطان يهرب، بل يجب نقشه في الروح وفي القلب، ووضعه على الأنا الداخليّة مثل خاتم الـمَلَكيّة.»
«ولكن هل أنتَ تمتلكنا؟ مَن أنتَ لنؤمن بكَ كلّ هذا الإيمان؟»
«ليته كان كذلك! ولكن لا. فالأمر ليس كذلك. لو كنتُ أمتلككم لكنتم الآن مُخَلَّصين. ولكان هذا حقّي. فأنا الـمُخَلِّص، ومن المفروض أن أَمتَلِك الذين أُخَلِّصهم. ولكنّني سوف أُخَلِّص الذين يؤمنون بي.»
«يوحنّا... -فأنا أتيتُ مِن قِبَل يوحنا (المعمّدان)- وقد قال لي: "اذهب إلى الذي يتحدّث ويُعَمِّد قرب أفرايم وأريحا. فهو يملك سلطان الحَلّ والرَّبط، بينما لا أستطيع أنا سوى القول: "قُم بفعل توبة لتعيد إلى نفسكَ اللياقة التي تسمح لها باتباع طريق الخلاص".» إنّ الذي يتكلّم هو أحد الذين بَرئوا بمعجزة. كان سابقاً يسير على عكّازين، ولم يعد الآن في حاجة إليهما في تنقّله.
«ألا يتألّم المعمدان مِن ترك الجموع له؟» يَسأَل أحدهم.
والذي تَكَلَّمَ سابقاً يُجيب: «يتألّم؟ وهو الذي يقول للجميع: "اذهبوا! اذهبوا! فأنا النَّجم الذي يَأفل بينما هو النجم الذي يَصعَد ويَثبت في أَلَقه الأبديّ. لكي لا تبقوا في الظلمات، اذهبوا إليه قبل أن يخبو مصباحي".»
«ليس هذا ما يقوله الفرّيسيّون! إنّ قلوبهم مُفعَمَة بالحقد، لأنّكَ تَجذب الجموع. هل تَعلَم؟»
«أَعلَم.» يُجيب يسوع باختصار.
ويَدور حِوار حول الأسباب أو أقلّه طريقة تصرّف الفرّيسيّين. ولكنّ يسوع يَقطَع الحديث بـ«لا تَنتَقِدوا»، حيث لا مجال للردّ.
يعود برتلماوس ومتّى مع مَن عَمَّدَاهم.
يبدأ يسوع بالحديث.
«السلام معكم جميعاً. الآن، بما أنّكم تأتون هنا مِن الصباح، فقد ارتَأَيتُ أنّه مِن الأكثر مُلاءَمة أن أُحدّثكم عن الله في الصباح، وأن تَمضوا عند الظهيرة. كما أُفكّر بإيجاد مأوى للزوار الذين لا يستطيعون العودة إلى ذَويهم ليلاً. فأنا بِدَوري ضَيف، ولا أملك سوى الحدّ الأدنى الذي لا بدّ منه، والذي مَنَحَتني إيّاه رحمة صديق. ولدى يوحنّا أقلّ ممّا لديَّ حتّى. إنّما الذين يذهبون إلى يوحنّا هم أشخاص يتمتّعون بصحّة جيّدة، أو بكلّ بساطة، مرضهم بسيط، كَسيحون وعميان وبُكم. وهُم ليسوا أمواتاً أو ذَوي مصائب خطيرة كالذين يأتون إليَّ. يَذهَبون إليه مِن أجل معموديّة التوبة. بينما يأتون إليَّ مِن أجل شفاء الأجساد كذلك. والشريعة تقول: "أَحبِب قريبكَ كنفسكَ". وأُفكّر وأقول: "كيف أُظهِر حبّي لإخوتي إذا كنتُ أَسدّ قلبي في وجه احتياجاتهم، حتّى الجسدية منها؟" وأَخرُج بنتيجة: أن سأعطيهم ما أُعطِيتُه. سأمدّ يدي للأغنياء وأسعى لتأمين الخبز للفقراء. وبالتخلّي عن سريري سأستقبل مَن هو تَعِب ومُتألّم.
جميعنا إخوة. والحبّ لا يُختَبَر بالكلام، بل بالأفعال. مَن يُغلق قلبه في وجه نِدّ له، يكن له قلب قايين. ومَن ليس لديه حُبّ، فقد تَمرَّدَ على وصيّة الله. نحن جميعاً إخوة، ومع ذلك أرى وتَرَون أنّه، حتّى ضمن العائلات. حيث الدم يُوَحِّد، ومع الدم اللحم، والأُخُوّة التي وَصَلَت إلينا مِن آدم ـ تُوجِد الأحقَاد والخلافات. فالأخ ضدّ أخيه، والابن ضدّ أهله، والقَرين عدوّ قَرينه.
ولكن، كي لا نكون إخوة سيّئين على الدوام، وأزواجاً زُناة، علينا، منذ الطفولة الأولى، تَعَلُّم احترام العائلة، المؤسّسة الأصغر والأعظم في العالم. الأصغر بالنسبة إلى مدينة أو منطقة أو دولة أو قارّة. ولكنّها الأعظم، لأنّها الأقدم؛ فالله هو مَن أَرسَى دَعائِمها عندما لم تكن فكرة الوطن والبلد موجودة أصلاً بعد، إنّما النواة العائليّة هي التي كانت حَيّة وفَاعِلة، كانت نبع الذريّة والسُلالات، المملكة الصغيرة حيث الرجل هو الـمَلِك والمرأة الـمَلِكَة والأولاد الرعيّة. هل تدوم مملكة إذا سادت ساكنيها التفرقة والعَداء؟ لا يمكن أن تدوم. وفي الحقيقة لا تتماسك عائلة دون الطاعة والاحترام والانسجام والنيّة الحسنة وحبّ العمل والعاطفة.
تقول الوصايا العشر: ” أَكرِم أباكَ وأُمّكَ“.
كيف نكرمهم؟ ولماذا علينا إكرامهم؟
الإكرام يَفتَرِض طاعة حقيقيّة، وحبّاً كاملاً لا نقص فيه، واحتراماً وَاثِقاً، ومَخافة مُحتَرِمة لا تؤثّر على الثقة، إنّما، في الوقت ذاته، لا تجعلنا نتعامل مع الأشخاص الأكبر سنّاً وكأنّنا عبيد أو أدنى منهم. علينا إكرامهم، لأنّ آباءنا وأُمّهاتنا هم الذين مَنَحونا الحياة، بعد الله، واهتَمّوا بكلّ احتياجاتنا الماديّة، لقد كانوا المعلّمين الأوائل للكائن طَريّ العُود الآتي إلى الأرض. مَن يَلتَقِط شيئاً سَقَطَ أو يَهِب قطعة خبز، يُقال له: "ليبارككَ الله"، ويُقال له: "شكراً". وأولئك الذين يُميتون أنفسهم في العمل ليُشبِعونا، ليَخيطوا لنا ثيابنا ويُنظّفوها، أولئك الذين يَصحون لننام، ويَرفضون الراحة لمعالجتنا، ويَجعلون لنا مِن صدورهم سريراً في أكثر أتعابنا ألماً، أفلا نقول لهم بحبّ: ”ليبارككم الله“ و”شكراً“؟
أنّهم مُعلّمونا. والمعلّم نخشاه ونحترمه. ولكنّ المعلّم يَأخذنا على عاتقه عندما نكون قد عرفنا مسبقاً ما لا بدّ منه للسلوك والتغذية وقَول الأشياء الأساسيّة، ويتركنا عندما نكون على وشك تَعَلُّم الدرس الأقسى في الحياة، أعني "معرفة العَيش". أمّا الأب والأُمّ فهما اللذان يُعِدّاننا للمدرسة أوّلاً، وبعد ذلك للحياة.
إنّهم أصدقاؤنا. ولكن أيّ صديق يمكنه أن يكون أكثر صداقة لنا مِن الأب؟ وأيّة صديقة أكثر مِن الأُمّ؟ هل يمكنكم أن تَجزَعوا منهم؟ هل يمكنكم القول: "يخونني أو تخونني"؟ ومع ذلك فها هو الشابّ الأحمق والشابّة الأكثر حُمقاً اللذان يتّخذان لهما أصدقاء غرباء ويُغلِقان قلبيهما في وجه الأب والأُمّ، ويُفسِدان الروح والقلب بعلاقات رعناء متهوّرة، كي لا نقول عنها آثِمة، وتُسَبِّب انسكاب دموع الأب والأُمّ، الدموع التي تَنسَكِب وكأنّها قَطَرات رصاص مُنصَهِر على قلب الأهل. ومع ذلك، فهذه الدموع، أقول لكم، لا تَقَع في غُبار النسيان، لأنّ الله يَلتَقِطها ويُحصِيها. والأب الشهيد الذي نَسحَقه بالأرجل، سوف يكافئه الربّ. ولكنّ العذاب الذي يُسَبّبه الابن لأبيه فلن يُنسَى، حتّى ولو طَلَبَ الأب والأُمّ، في حبّهما الأليم، الرحمة مِن الله لابنهما الآثِم.
قيل: ”أَكرِم أباكَ وأُمّكَ لِتُعَمِّر طويلاً على الأرض“. وأنا أُضيف: ”وأبديّاً في السماء“. وقِصر الحياة على الأرض يبقى عقاباً خفيفاً لِمَن يُقَصِّر بواجب أهله! الآخرة ليست هُراء، وفي الآخرة سوف يُكافَأ المرء أو يُعاقَب حسب الحياة التي عاشها على الأرض. فالذي يُقصّر بواجبه تجاه أبيه، يُقَصِّر تجاه الله، إذ قد أَمَرَ الله لصالح الأب بواجب الحبّ، ومَن لا يحبّه يُخطئ، وكذلك هو يَفقد بالطريقة هذه أكثر مِن الحياة الماديّة، يَفقد الحياة الحقيقيّة التي حَدَّثتُكم عنها، فيذهب للقاء الموت، فهو قد أَصبَحَ ميتاً، بما أنّ نفسه قد فَقَدَت حُظوتها لدى الربّ. لقد أضحى الجّرم في كيانه، لأنّه يَجرَح الحبّ الأكثر قداسة بعد حبّ الله. إنّه يَحمل في ذاته بذور زُناة المستقبل، ذلك أنّ الابن السيّئ سوف يكون زوجاً خائناً. ففيه تَكمُن الميول إلى الانحراف الاجتماعيّ، لأنّ مِن الابن السيّئ يَخرج لصّ المستقبل والقاتل الشرّير العنيف والـمُرابي البَارِد والفاسِق الـمُغوي والشهوانيّ الوَقِح والكائن الـمَقيت الذي يخون وطنه وأصدقاءه وأولاده وزوجته والجميع. هل يمكن أن يكون لديكم احترام وثقة بالذي لا يتردّد في خيانة حُبّ أُمّ، وقد هَزئ بشيب أب؟
وهنا أقول: اسمعوا أيضاً، ففي مقابل واجبات الأبناء هناك واجبات مشابهة للآباء. اللعنة للأبناء الآثِمين هي! ولكنّ اللعنة كذلك للآباء الآثِمين! تَصَرَّفوا بالطريقة التي لا يمكن معها لأبنائكم انتقادكم ولا الإقتداء بكم في الشرّ. اجعلوهم يحبّونكم حبّاً يُمنَح باستقامة وعدل ورحمة. الله رحمة. وليكن الأهل، الذين هُم في المرتبة الثانية مباشرة بعد الله، رُحَماء. كُونوا الـمَثَل الـمُشَجِّع لأبنائكم. كونوا لهم السلام والدليل. وكُونوا حبّهم الأوّل. فالأُمّ هي دوماً الصورة الأولى للزوجة التي نودُّ الحصول عليها. ووجه الأب بالنسبة لبناته هو وجه الزَّوج الذي يَحلمن به. اجتَهِدوا، بشكل خاصّ، في جعل أبنائكم وبناتكم يختارون بحكمة أقران المستقبل وهم يُفكّرون بأُمّهم وأبيهم، ويَوَدّون أن يَجِدوا لديهم ما هو موجود في أبيهم وأُمّهم: الفَضيلة الحقيقيّة.
لو كان مِن المفروض أن أتحدّث حتّى أَفي الموضوع حقّه، فالنهار والليل لا يكفيان. إنّني أَختَصِر، حبّاً بكم. أمّا الباقي فليَقله لكم الروح الأزليّ. أنا أرمي البذور ومِن ثمّ أَرحَل. أمّا البذور فتَضرب لها جذوراً لدى الصالحين وتُنتِج السنابل. امضوا وليكن السلام معكم.»
الذين يَودّون الرحيل يَمضون على الفور، والذين يَبقون يَدخُلون الغرفة الثالثة، يأكلون زادهم أو ما يُقدّمه لهم التلاميذ باسم الله. وقد وُضِعَت دفوف خشبيّة وقشّ على حَوامِل بسيطة، بحيث يستطيع الزوّار النوم عليها.
تَمضي المرأة المحجّبة مسرعة. والتي كانت تبكي واستمرت بينما كان يسوع يتحدّث، تَستَدير في مكانها مُتردّدة، ثمّ تُقرّر الذهاب.
يَدخُل يسوع إلى المطبخ ليتناول طعامه، ولكنّه ما كاد يَبدأ الأكل حتّى قُرِع الباب.
يَنهَض أندراوس، وهو الأقرب، ويَخرُج إلى الدار. يتحدّث ثمّ يعود ويَدخُل: «يا معلّم، هناك امرأة، وهي التي كانت تبكي، تطلبكَ. تقول إنّها مُضطرّة للذهاب، وينبغي لها أن تتحدّث إليكَ.»
«ولكن، بهذا الشكل، كيف ومتى سيأكل المعلّم؟» يَصرخ بطرس.
«كان عليكَ أن تقول لها أن تأتي لاحقاً.» يقول فليبّس.
«اصمتوا. سآكل فيما بعد. تابِعوا أنتم.»
يَخرُج يسوع. والمرأة موجودة هناك خارجاً.
«يا معلّم... كَلِمة... لقد قُلتَ... آه! تعالَ خلف البيت! إنّه لَمِن الصعب التحدّث عن ألمي!»
يُلبّي يسوع طلبها دون أن يَنبس ببنت شفة. وحينما يُصبِح خلف البيت يَسأَل: «ماذا تريدين مني؟»
«يا معلّم... لقد سَمِعتُكَ حينما تكلّمتَ وأنتَ في وسطنا... ثمّ سَمِعتُكَ حينما وَعَظتَ. حَسِبتُكَ قد تَحدَّثتَ إليَّ. قُلتَ: إنّ في كلّ مرض مادّيّ أو معنويّ، هناك الشيطان... لديَّ ابن مَرَضه في قلبه. لو كان سَمِعَكَ حينما تَحَدَّثتَ عن الأهل! إنّه هَمّي الثقيل. لقد ضَلَّ مع رفاق السوء، وهو... هو تماماً كما تقول... لصّ... هو الآن في البيت، ولكن... يُحِبّ الشّجار... يريد السيطرة... وبعنفوان الشباب الذي هو فيه، يُدَمِّر نفسه بالفُجور والإفراط في الأكل والشراب. زوجي يريد طَرده. وأنا... أنا أُمّ... وأتألّم حتّى الموت. أترى كم أنا قَلِقة؟ قلبي ينفطر بألم عظيم. ومنذ الأمس وأنا أودُّ التحدّث إليكَ، إذ... إنّ أملي ورجائي بكَ أنتَ يا إلهي. ولكنّني لم أكن أجرؤ على قول أيّ شيء.إنّه لَمِن المؤلم جدّاً لأُمّ أن تقول: "لَدَيَّ وَلَد مُجرم"!» تبكي المرأة، منحنية ونائحة أمام يسوع.
«كُفّي عن البكاء. سيُشفى مِن مرضه.»
«لو كان يستطيع سماعكَ، نعم. ولكنّه لا يريد الإنصات إليكَ. آه! لن يُشفى أبداً!»
«ولكن هل لديكِ إيمان مِن أجله؟ هل تريدين ذلك له؟»
«أَوَتَسألني؟ إنّني قادمة مِن البيريه العليا لأرجوكَ مِن أجله...»
«إذن فاذهبي! وعندما ستَصِلين إلى البيت، سيأتي إليكِ ابنكِ تائباً.»
«ولكن كيف؟»
«كيف؟ هل تظنّين الله يرفض فِعل ما أَطلبه أنا منه؟ ابنكِ هناك، وأنا هنا، ولكن الله في كلّ مكان. فأقول لله: "أيّها الأب، الرحمة لهذه الأُمّ. والله يجعل النداء يُدَوّي في قلب ابنكِ. اذهبي أيّتها المرأة. سوف أَمُرُّ يوماً في منطقة بلدتكِ، وأنتِ، إذ تكونين قد امتَلأتِ فخراً بابنكِ، ستأتين معه للقائي. وعندما يبكي على ركبتيكِ طالباً الصّفح وهو يَروي لكِ الصراع الرهيب الذي خَرَجَ منه بنَفْس جديدة، وعندما يَسأَلكِ كيف حَدَثَ هذا، قُولي له: ”بيسوع وُلِدتَ مرّة ثانية في الخير“. حَدِّثيه عني. فإذا ما كنتِ قد أتيتِ إليَّ، فهذا يعني أنّكِ تعلمين. تَصَرَّفي بأسلوب يجعله يَعلَم ويُفَكِّر بي لتكون له القوّة التي تُخَلِّص. الوداع. السلام للأُمّ التي مَلَكَت الإيمان، وللابن الذي يعود، وللأب السعيد، وللعائلة المجتَمِعة. امضي.»
تتوجّه المرأة إلى البلدة وينتهي كلّ شيء.