ج3 – ف24

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الأول

 

24- (نحو الخَلوَة في الجبل قبل اختيار الرُّسُل)

 

15 / 05 / 1945

 

في هذه الليلة كان الظهور الـمُروِّع للوجه الذي تعرفون، كما أراه عادة. وقد أَصابَني منه الهَلَع.

 

يُبحِر مَركَبا بطرس ويوحنّا على البحيرة الساكنة، تتبعهما كُلّ الـمَراكِب التي على شواطئ طبريّا، أظنُّها كثيرة جدّاً هي الـمَراكِب واليخوت التي تروح وتجيء مُحاوِلَة إدراك أو تجاوز مَركَب يسوع، لكي تعود فتتبعه. رجاء وتوسّلات ونداء وطلبات تتقاطع جميعها على الأمواج اللازورديّة.

 

في مَركَب يسوع، هناك مريم وأُمّ يعقوب ويوضاس، بينما في الـمَركَب الآخر مريم سالومة مع ابنها يوحنّا وسُوسَنّة. ويسوع يَعِد، يُجيب، ويبارك بلا كلل. «سأعود، نعم. أعدكم بذلك. كونوا صالحين. تذكّروا كلامي لتضمّوه وتضيفوه إلى ما سوف أقوله لكم فيما بعد. سيكون الانقطاع قصيراً. لا تكونوا أنانيّين. فلقد أتيتُ كذلك مِن أجل الآخرين. هدوءاً! هدوءاً! وإلّا فَسَتُلحِقون الأذى بأنفسكم. نعم سأصلّي لأجلكم. سوف أكون قريباً منكم على الدوام. ليكن الربّ معكم. بكلّ تأكيد سوف أتذكّر دموعكَ، وسوف تجد العزاء. ليكن لديكَ الرجاء. آمِن!»

 

وبينما هو يتقدّم هكذا، مع البَرَكات والوُعود، يرسو الـمَركَب على الشاطئ. ليست طبريّا هي هذه، إنّما بلدة صغيرة جدّاً، بالتحديد هي مجموعة صغيرة مِن البيوت الفقيرة، وتكاد تكون مُهمَلَة.

 

يَنـزل يسوع ومَن معه، ويعود الـمَركَبان أدراجهما، يقودهما الـمُستَخدَمون وزَبْدي. وتحذو الـمَراكِب الأخرى حَذوَهُما، ومع أنّ كثيرين ممّن كانوا ينـزلون يريدون اتّباع يسوع بأيّ ثمن، لم أتعرّف سوى على إسحاق ويوسف وتيمون الذين أراهم بين الكثيرين الذين هُم مِن كلّ الأعمار، مِن المراهقين حتى الشيوخ.

 

يترك يسوع البلدة، حيث يظلّ السكّان لا مبالين. إنّهم قليلو العدد، سيّئو الهندام. يُوزِّع يسوع عليهم الهِبات، ويلحق بالطريق الرئيسيّة. يتوقّف. «والآن فلنفترق. أُمّي، اذهبي أنتِ إلى الناصرة مع مريم وسالومة. ويمكن لسُوسَنّة العودة إلى قانا. وسأعود أنا قريباً. تعرفن ما يجب القيام به. ليكن الله معكنّ!»

 

أما بالنسبة إلى أُمّه فالسلام خاص جداً ومترافق بابتسامة عريضة، وعندما تجثو مريم لنيل البركة، وهي تعطي بذلك الـمَثَل للأُخرَيَات، يبتسم يسوع بنعومة فائقة. وتعود النساء إلى مدينتهنّ، ومعهنّ حلفى بن سارة وسمعان.

 

يلتَفِت يسوع إلى مَن بَقِيَ: «أترككم، ولكنّني لستُ أصرفكم، أترككم لبعض الوقت. سأختلي معهم في تلك الشُّعَب الضيّقة التي ترونها هناك. والذين يَوَدّون انتظاري، فليبقوا هنا في هذا السهل، ولِيَعُد الآخرون إلى بيوتهم. سوف أختلي للصلاة، لأنّني في عشيّة الإقدام على أمور عظيمة. والذين يُحبّون مشيئة الله فليُصلّوا متّحدين معي بالروح. السلام معكم أيّها الأبناء. إسحاق، تَعلَم ما ينبغي لكَ فِعله. أبارككَ أيّها الراعي الصغير.» يبتسم يسوع لإسحاق المسكين الذي أَصبَحَ راعياً للبشر الذين يتجمّعون حوله.

 

يسير يسوع الآن وظهره للبحيرة، متوجّهاً بكلّ ثقة نحو شُعَب بين التلال المتّجهة مِن البحيرة إلى الغرب بخطوط تكاد تكون متوازية. بين تَلَّين صخريَّين، وَعِرَين، ينحدران بشدَّة، وسيل صغير يُزبِد وهو يَنـزل بصخب. وفي الأعلى، المنحدر الشديد للجبل غير المأهول مع نباتات بَرَزَت في كلّ اتّجاه، كما تَيَسَّر لها، بين الحجارة. مَسلَك عنـزات يَصعَد باتّجاه التَّل الأكثر وعورة، وهو الذي يسلكه يسوع.

 

يتبعه التلاميذ مُنهَكِين، يتبع واحدهم الآخر بصمت مُطبِق. وفقط عندما يتوقّف يسوع ليسمح لهم بالتنفّس، في مَوضِع أوسع قليلاً مِن الـمَسلَك الذي يبدو كالخُدش على ذلك المنحدر العَصيّ، ينظرون إلى بعضهم دون كلام. نظراتهم تقول: «ولكن إلى أين يقودنا؟» إلّا أنّهم لا يَنبسون ببنت شفة. وينظرون إلى بعضهم بأسى متزايد باطّراد، كلّما رأوا يسوع يُعاوِد المسير عبر الشُّعَب غير المأهولة والمليئة بالمغارات والتضاريس والصخور التي تجعل المسير صعباً بذاتها، وبالعُلَّيق وبألف نبتة أخرى تتشبّث بالثياب مِن كلّ جهة، وهي تخمش وتُعَثِّر وتضرب الوجه. وحتّى الأكثر شباباً، الحاملون أكياساً ثقيلة، فقدوا مرحهم.

 

أخيراً يتوقّف يسوع ويقول: «سنبقى هنا لمدّة أسبوع للصلاة. ليتهيّأ جميعكم لأمر عظيم. لأجل هذا أردتُ العُزلة هكذا، في مكان قَفر بعيد عن كلّ درب وكلّ بلدة. هنا، مغارات استَخدَمَها أناس قديماً. وسنستخدمها نحن كذلك. هنا مياه عذبة ووفيرة بينما الأرض قاحلة. إنّما لدينا ما يكفي مِن الخبز والزاد لإقامتنا. والذين كانوا معي العام الماضي في البريّة يَعلَمون كيف عشتُ فيها. وهنا، يُعتَبَر بَلاطاً ملكيّاً إذا ما قورِنَ بذاك المكان. والطقس الآن معتدل، وهو يخفّف شدة الصقيع والحرّ أثناء إقامتنا. أرجو أن تكون الإقامة هنا عن طيب خاطر. قد لا يتسنّى لنا أبداً أن نجتمع فيما بعد هكذا معاً ووحدنا فقط. ينبغي أن يوحّدكم هذا الموقف، جاعلاً منكم، ليس فريقاً مِن اثني عشر رجلاً، بل إنما هيئة واحدة.

 

ألا تتكلّمون؟ ألا تسألونني شيئاً؟ ضَعوا الأحمال التي تحملونها على هذه الصخرة، وارموا في قاع الوادي الأثقال التي على قلوبكم: بشريّتكم. لقد أتيتُ بكم إلى هنا لأتحدّث إلى روحكم. ولن أقول كلاماً كثيراً، لقد قُلتُ الكثير في غضون حوالي العام وأنا معكم! وهذا يكفي الآن. فإذا كان ينبغي لي أن أغيرّكم بالكلام، لكان يتوجّب عليَّ الاحتفاظ بكم عشرة أعوام، بل مائة عام، ودائماً تكونون غير كاملين. وها قد حان الآن وقت استفادتي منكم، لذلك عليَّ تأهيلكم، لذا أنا ألجأ إلى الدواء العظيم، إلى السلاح الهائل: الصلاة. لقد صلّيتُ مِن أجلكم على الدوام. أمّا الآن فأريدكم أن تُصلّوا أنتم مِن أجل ذواتكم. لم يحن الوقت بعد لأُعَلِّمكم صلاتي، ولكنّني سأجعلكم تَعرفون كيف تتمّ الصلاة، وما هي الصلاة. إنها حوار الابن مع الأب، مِن الأرواح إلى الروح القدّوس، صلاة مُنفتحة، حارّة، واثِقة، خاشِعة، وصادِقة. الصلاة هي كلّ شيء: إنّها اعتراف، إنّها معرفة ذواتنا، هي دموع على الذات، وهي التزام تجاه ذواتنا وتجاه الله، إنّها طَلَب مِن الله، وهي كلّ هذا عند قدميّ الآب. لذا، لا يمكن أن تكون في الضوضاء أو وسط اللهو، إلا إذا كانت أصناماً هائلة على صورة صلاة. وحتّى الأصنام تعاني وتتألّم مِن الصدمات وضوضاء العالم أثناء ساعات صلاتهم. أنتم لستم سوى أقزام، لستم أكثر مِن أطفال بالنسبة إلى الروح، لستم سوى قاصرين مِن وجهة نظر روحيّة. وهنا سوف تَبلغون سنّ الرشد الروحيّ. والباقي يأتي فيما بعد.

 

سوف نجتمع صباحاً وظهراً ومساء لنصلّي معاً كلمات إسرائيل القديمة، ولنكسر الخبز. ثمّ يعود كلّ إلى مغارته ليمكث أمام الله في مواجهته ومواجهة نفسه، لكلّ ما قُلتُه لكم عن رسالتكم ووسائلكم. ادرُسوا أنفسكم وتفحّصوا ذواتكم وقَرِّروا. للمرّة الأخيرة أقولها لكم. ولكن بعد ذلك ينبغي لكم أن تكونوا كاملين قدر استطاعتكم، دون كَلَل ولا بشريّة. بعدئذ لن تكون بعد سمعان بن يونا أو يهوذا بن سمعان، لن تكونوا أندراوس أو يوحنّا أو متّى أو توما. بل سوف تكونون أدواتي. اذهبوا، كلّ بمفرده. وسأكون أنا في تلك المغارة، وحاضراً أبداً. ولكن لا تأتوا إلّا لأمر هامّ وسبب جادّ. ينبغي لكم أن تتعلّموا التصرّف بمفردكم، والاكتفاء لوحدكم. لأنّه، الحقّ أقول لكم: خلال عام أَوشَكنا على التعرّف على بعضنا، وخلال عامين نكون على وشك أن نفتَرِق. فالويل لكم ولي إن لم تتعلّموا التصرّف بمفردكم. ليكن الله معكم. يهوذا، يوحنّا، احمِلا المؤونة إلى داخل مغارتي، فينبغي أن تدوم، وأنا مَن سأقوم بتوزيعها.»

 

«يوجد منها القليل!...» يَعتَرِض أحدهم.

 

«يوجد ما يلزمنا كي لا نموت. فالبطن الـمُشبَع تماماً يُثقِل الروح، وأنا أريد الارتقاء والسموّ بكم وليس زيادة ثقلكم.»