ج3 - ف49
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الثاني
49- (في عين دور. في مغارة السّاحِرة. هِداية فيلكس الذي أَصبَحَ اسمه يوحنّا)
13 / 06 / 1945
إنَّ جبل طابور هو الآن خلف الجوّالِين، ذلك أنّهم قد تجاوَزوه. عَبْرَ سهل محصور بين ذاك الجبل وجبل آخر يقابله، يسير الجَّمع وهُم يتحدّثون عن المسيرة الصاعدة التي صَعَدَها الجميع. ومع ذلك يبدو في البداية وكأنّ الأكبر سنّاً كانوا يريدون توفير هذا العناء عن أنفسهم. أمّا الآن، فالجميع مسرورون بالمضيّ حتّى القمّة. لقد هان المسير، حيث أَصبَحَ الآن على طريق مطروقة كثيراً. الوقت مُنعِش، إذ لديَّ انطباع بأنّهم أمضوا اللّيل على سفح جبل طابور.
«هي ذي عين دور.» يقول يسوع مشيراً بإصبعه إلى بلدة فقيرة متشبِّثة على سفوح تلك السلسلة الجبليّة الأخرى.
«هل تريد حقّاً الذهاب إليها؟»
«إذا كنتَ تريد التكرُّم عليَّ...»
«هيّا بنا إذن.»
«ولكن هل الدرب إليها طويل؟» يَسأَل برتلماوس الذي، بسبب سنّه، يُفتَرَض ألاّ يكون مؤيِّداً للرحلات البانوراميّة.
«آه! لا! ولكن إذا شئتم المكوث هنا فافعَلوا...» يقول يسوع.
«نعم، نعم! ليس لكم سوى المكوث هنا، فيكفيني أن أذهب إليها مع المعلّم.» يُردِف يهوذا الاسخريوطيّ قائلاً.
«أودُّ معرفة ما إذا كان هناك ما يستحقّ المشاهدة قبل أن أُقرِّر... ففي قمّة طابور رأينا البحر، وبعد حديث الصبيّ، عليَّ الاعتراف بأنّني أَجَدتُ مشاهدته للمرّة الأولى. وقد رأيتُهُ كما تَرى أنتَ: بالقلب. أمّا هُنا... فأودُّ معرفة ما إذا كان هناك ما نتعلَّمه، حينئذ آتي، حتّى ولو اضطررتُ للتعب...» يقول بطرس.
«هل تَسمَعهم؟ فإنَّكَ لم تُفصِح عن نواياكَ بعد. رفقاً منكَ برفاقكَ، أَفصِح عنها الآن.» يقول يسوع.
«أليست عين دور هي الجهة التي أراد شاول التوجّه إليها لاستشارة العَرَّافَة؟»
«نعم، وإذن؟»
«وإذن يا معلم، أحبّ الذهاب إلى هناك والاستماع إليك تتحدَّث عن شاول.»
«آه! آتي أنا كذلك!» يهتف بطرس متحمّساً.
«إذاً، هيّا بنا.»
يَقطَعون الجزء الأخير مِن الطريق الرئيسيّة بسرعة، ويتحوَّلون إلى درب فرعيّ يؤدّي مباشرة إلى عين دور.
إنّه موقع فقير، كما قال يسوع. البيوت مبنيّة على المنحدرات التي تصبح بعد تَجاوُز البلدة أكثر وعورة وأشدّ انحداراً. السكّان فقراء. وعلاوة على ذلك يُفتَرَض فيهم تربية الخِراف على مراعي الجبل ووسط غابات السنديان العتيقة. هناك بعض مِن حقول الشعير أو حبوب أخرى مِن نفس الفصيلة في الأمكنة المؤاتية، وأشجار تفّاح وتين. وبعض الكروم حول البيوت لتزيين الجدران المظلمة، كما لو كانت البلدة بالحريّ رطبة.
«سنسأل الآن أين كانت تقيم الساحرة.» يقول يسوع، ويُوقِف امرأة عائدة مِن النبع ومعها جِرارها.
تَنظُر إليه المرأة بفضول، ثمّ تجيب بوقاحة: «لا أدري. لديَّ أشياء أخرى كثيرة تشغلني، وهي أكثر أهميّة مِن تلك الترّهات التافهة!» وتتركه وتمضي.
يتوجّه يسوع بالكلام إلى عجوز يَقطَع قِطعة خشبيّة.
«الساحرة؟... شاول؟... مَن تُراه ما زال يهتمّ بذلك؟ ومع ذلك انتَظِر... هناك أحدهم قد دَرَسَ وهو قد يَعرِف... تعال.»
ويَصعَد العجوز، وهو يَعرُج، عَبْرَ مَسلَك كثير الحجارة، حتّى يَصِل إلى بيت بائس جدّاً ومُهمَل. «إنّه ها هنا. سأَدخُل أُناديه.»
يُشير بطرس إلى دجاجات تنبش الأرض في حَوش قَذِر ويقول: «هذا الرجل ليس إسرائيليّاً.»
ولكنّه لا يضيف كلمة واحدة لأنّ العجوز عاد، يتبعه رَجُل أَعوَر وقَذِر وبلا ترتيب، فوضويّ مثل كلّ موجودات بيته. يقول العجوز: «انظُر، يقول هذا الرجل إنّ هناك، بعد ذاك البيت المتهدِّم، درباً ثمّ جدولاً ثمّ غابة وكهوفاً، الأعلى منها، الذي ما زال يحتَفِظ بجدران تهدَّمَت أطرافها، هو الذي تبحث عنه. أليس هذا ما قُلتَه؟»
«لا. لقد خَلطتَ الأمور كلّها. سأذهب أنا مع هؤلاء الغُرَباء.»
صوت الرجل قاس وحَلقيّ، ممّا يزيد الانطباع غير الملائم. ويَسيرون. بطرس وفليبّس وتوما يشيرون إلى يسوع، المرّة تلو المرّة، بألاّ يذهب. ولكن يسوع لا يأبه بِهِم. إنّه يتقدّم مع يهوذا، خلف الرجل، يتبعه الآخرون... مُكرَهين.
«أإسرائيليّ أنتَ؟» يَسأَل الرجل.
«نعم.»
«وأنا كذلك أو أكاد، حتّى ولو لم يكن يبدو عليَّ ذلك. ولكنّني بقيتُ فترة طويلة جدّاً في بلدان أخرى، وأَخَذتُ عنها عادات لا تروق لهؤلاء الحمقى. فأنا أَفضَل مِن الآخرين. ولكنّهم يقولون إنّني شيطان، لأنّني أقرأ كثيراً، وأربّي الدجاج الذي أبيعه للرومان، وأعرف المداواة بالأعشاب. عندما كنتُ شاباً، تشاجرتُ مع رومانيّ بسبب امرأة -وقد كنتُ آنذاك في سينتيوم- وطَعَنتُهُ بالخنجر. فمات هو، وفقدتُ أنا عيني وكلّ ما كنتُ أملكه، وحُكِمَ عليَّ بالأشغال الشاقّة لمدّة طويلة... مؤبّد. ولكنّني كنتُ أعرف المداواة، وشَفَيتُ ابنة أحد الحُرَّاس، مما أكسَبَني صداقته وبعض الحرّيّة... واستغلَّيتُها في الهرب. لقد تصرَّفتُ بشكل سيّئ، إذ، بكلّ تأكيد، قد دَفَعَ الرجل ثمّن فراري مِن حياته. ولكنّ الحرّيّة تبدو جميلة عندما نكون في السجن...»
«أفلا تعود جميلة فيما بعد؟»
«لا، فالسجن الذي تكون فيه وحيداً لهو أفضل من الاحتكاك بالناس الذين لا يحترمون وحدتكَ، وهُم حولكَ يبغضونكَ...»
«هل دَرَستَ الفلاسفة؟»
«لقد كنتُ معلّماً في سينتيوم... وكنتُ صابئاً...»
«والآن؟»
«الآن، أنا لستُ شيئاً. أعيش في الواقعيّة وفي البُغض، كما أبغَضوني ويُبغِضونني.»
«مَن يبغضكَ؟»
«الجميع. وأوّلهم الله. فقد كانت لي امرأة... وقد سَمَحَ الله بأن تخونني وتُفلِسني. كنتُ حرّاً ومحتَرَماً، فأَصبَحَ محكوماً عليَّ بالأشغال الشاقّة. فَتَخلّي الله وظُلم البشر شَطَبا مِن وُجودي ذاك وأولئك. هنا لم يبقَ شيء على الإطلاق...» ويَضرب جبهته وصدره. «يعني: هنا في الرأس يوجد الفِكر والمعرفة. وهنا لا شيء.» ويَبصق باحتقار.
«أنتَ تُخطئ: فما زال هناك أمران.»
«ما هُما؟»
«التذكُّر والبُغض. أَزِلهُما. كُن خالياً حقّاً... وأنا أمنحكَ شيئاً جديداً تَضَعهُ مكانهما.»
«أيّ شيء؟»
«الحُبّ.»
«آه! آه! آه! إنّكَ تُضحِكني! ها قد مَرَّت خمس وثلاثون سنة لم أكن لأضحك خلالها، يا رجل. منذ تأكَّدتُ مِن أنّ امرأتي تخونني مع تاجر خمر رومانيّ. الحبّ! الحبّ لي! فهذا كما لو أنّني أرمي حجارة كريمة لدجاجاتي! كانت ستموت مِن سوء الهضم إذا لم تنجح في التقيّؤ. والأمر ذاته بالنسبة إليَّ. فحبّكَ يُثقِل على قلبي إذا لم أستطع هضمه...»
«لا يا رجل! لا تتكلّم هكذا!» يَضَع يسوع يده على كَتِفه وهو حزين بشكل حقيقيّ وجَليّ.
يَنظُر إليه الرجل بعينه الوحيدة، وما يراه في هذا الوجه العذب والجميل للغاية، يَجعَله أبكماً ويُغيِّر لهجته. ويَنتَقِل مِن التهكّم إلى الجدّ الجدّ، ومنه إلى كآبة حقيقيّة. يَخفض رأسه ثمّ يَسأَل بصوت متغيِّر: «مَن أنتَ؟»
«يسوع الناصريّ، مَسيّا.»
«أنتَ!!!»
«أنا. ألم تَسمَع بي، أنتَ يا مَن تقرأ؟»
«كنتُ أَعلَم... أمّا إن كنتَ حيّاً أم لا... آه! خاصّة هذا، لم يكن لي عِلم به! لم أكن أَعلَم أنّكَ كنتَ طيبّاً مع الجميع... هكذا... حتّى مع القَتَلَة... اغفِر لي ما قُلتُه لكَ عن الله وعن الحبّ... الآن أُدرِك لماذا تريد منحي الحبّ... لأنّ العالم دون الحبّ جحيم، وأنتَ، مَسيّا، تريد جعله نعيماً.»
«نعيماً في كلّ قلب. أَعطِني أنتَ التذكُّر والبُغض اللَّذَين يَجعَلانكَ مريضاً، ودعني أَضَع في قلبكَ الحبّ!»
«آه! لو كنتُ عرفتُكَ مِن قَبل!... حينئذ... ولكنّني عندما قَتَلتُ، بكلّ تأكيد، لم تكن قد وُلِدتَ بعد... إنّما بعدئذ... فيما بعد... عندما أَصبَحتُ حرّاً كما الأفعى في الغابات، فقد عِشتُ لأسمِّم بِبُغضي.»
« ولكنّكَ أيضاً فعلتَ الخير. ألم تقل إنّكَ كنتَ تداوي بالأعشاب؟»
«نعم. كي يتقبَّلَني الناس. ولكن كَم مِن مرّة صارَعتُ إرادة التسميم بواسطة شرابات العِشق!... أترى؟ لجأتُ إلى هنا، لأنّها بلدة يَجهَل الناس فيها العالم، والعالم يجهلهم. بلدة ملعونة. ففي أيّ مكان آخر كنتُ لَأبقى فيه كارِهاً ومَكروهاً، وكنتُ أخاف أن يتعرَّفوا عليَّ... ولكنّني سيّئ.»
«لقد نَدِمتَ على تسبّبكَ بالسوء لحارس السجن. أترى أنّكَ ما زِلتَ تَحتَفِظ ببعض الصَّلاح؟ فأنتَ لستَ شرّيراً... فقط لديكَ جرح كبير مفتوح، ولا أحد يداويه لكَ... وهو يَذهَب بصلاحكَ، كما تَهدر الجِّراح الدم. إنّما لو كان هناك مَن يداويكَ ويُضمِّد جراحكَ، أيّها الأخ المسكين، فَلَم يكن صلاحكَ ليُهدَر كُلّما تَشَكَّل. بل لكان تَعاظَمَ فيكَ...»
يبكي الرجل حانياً رأسه، دون أن يَفضَح شيء دموعه. وحده يسوع الذي يسير إلى جانبه يراه. نعم يراه. ولكنّه لَم يَعُد يقول شيئاً.
يَصِلون إلى ملاذ، هو عبارة عن جدران متداعية، وكهوف في الجبل. يُحاوِل الرجل تثبيت صوته، ويقول: «هو ذا المكان، ادخُل إذن.»
«شكراً يا صديقي. كُن صالحاً.»
لا يقول الرجل شيئاً، ويَمكُث حيث هو، بينما يمرّ يسوع وأتباعه فوق حجارة، كانت بالتأكيد مِن موادّ بناء الجدران القويّة. يُزعِجون عظاءات خضراء وحيوانات برّيّة أخرى. يَلِجون مغارة واسعة سَوَّدَها الدخان، حيث ما يزال منقوشاً على جدرانها صُوَر البروج وسِيَراً مشابهة. في ركن سَوَّدَه الدخان كوَّة في الجدار، تحتها حفرة تبدو مَصبّ مَجرور لمسيل السوائل. الوطاويط تُزيِّن السقف بتكتُّلها المثير للاشمئزاز. بومة، وقد انزَعَجَت مِن نور غصن أشعَلَه يعقوب لرؤية ما إذا كانوا يسيرون على عقارب أو ثعابين، تتذمّر مُصفِّقة بجناحيها المبطَّنَين، ومُغلِقة عينيها اللّتين يجرحهما النور، وهي تجثمّ بالضبط في الكوّة، وتحت قدميها نَتانة جرذان ميتة، وبنات عرس وعصافير متفسِّخة، تختلط برائحة الغائط ورطوبة الأرض.
«في الحقيقة إنّه لمكان جميل!» يقول بطرس. «يا صبيّ، إنّ طابوركَ وبحركَ أفضَل!» ثمّ مُلتَفِتاً إلى يسوع: «يا معلّم، فَرِّح يهوذا بسرعة، لأنّ هنا... بالتأكيد ليس قاعة أنطيباس الـمَلَكيّة!»
«فوراً. ما الذي تريد معرفته بالتحديد؟» يُوجِّه سؤاله إلى يهوذا الاسخريوطيّ.
«هاك... أودُّ معرفة ما إذا أخطَأَ شاول بمجيئه إلى هنا، ولماذا... كذلك معرفة ما إذا كان ممكناً لامرأة استحضار الأموات. أبغي معرفة ما إذا... آه! بالنتيجة، تَحدَّث أنتَ، وسأطرح عليكَ الأسئلة.»
«هذا يتطلّب وقتاً! أَقلَّه فلنَخرُج إلى الشمس، على الصخور... سنتحاشى بذلك الرطوبة والنتانة.» يقول بطرس متوسِّلاً.
يُوافِق يسوع. يَجلسون كيفما استطاعوا على أطلال جدران.
«خطيئة شاول لم تكن سوى واحدة مِن مجموعة خطاياه. فلقد سَبَقَتها وتَبِعَتها خطايا أخرى كثيرة. وكلّها ثقيلة. جحود مُضاعَف بجميل صموئيل، الذي كان قد مَنَحَه الـمَسح الـمَلَكيّ، وتوارى بعد ذلك كي لا يُشارِك الـمَلِك إعجاب الشعب به. جحود بفضل داود الذي خَلَّصَه مِن جالوت، الذي عَفَّ عنه في مغارة عين الجدي وحاكيلا. وهو مُرتَكِب للعديد مِن المخالفات للطاعة، والفضائح بين الشعب. مُذنِب، لتسبّبه بالكآبة لصموئيل الذي أَحسَنَ إليه، بإخلاله بالمحبّة. مُذنِب، بالحَسَد والاعتداءات على داود، الـمُحسِن الثاني إليه، وأخيراً بالجريمة المقتَرَفَة هنا.»
«ضدّ مَن؟ فهو لم يَقتُل أحداً هنا.»
«بل هو قد قَتَلَ روحه. انتهى إلى قَتلها هنا، في الداخل. لماذا تخفض رأسكَ؟»
«أُفكّر يا معلم.»
«تُفكّر، أرى ذلك. بماذا تُفكّر؟ ولماذا أردتَ المجيء؟ ليس لمجرّد الفضول الفكريّ. اعترف بذلك.»
«نَسمَع دائماً الحديث عن السحر، وعن استحضار الأرواح... كنتُ أريد أن أرى ما إذا كنتُ سأكتشف شيئاً... كان سيرضيني معرفة كيف يَجري ذلك... أُفكّر أنّنا، كوننا مُعَدّين للإدهاش بقصد الاستمالة، فينبغي لنا أن نكون، إلى حدّ ما، مُحضِّرين للأرواح. فأنتَ، أنتَ. وتتصرّف بسلطانكَ. أمّا نحن، فينبغي لنا البحث عن قُدرَة، عَن عَون لتحقيق أعمال غريبة تَفرض نفسها...»
«آه! لكن هل أنتَ مجنون؟ ولكن ما الذي تقوله؟» يهتف الكثيرون.
«اصمتوا. دعوه يتكلّم، فجنونه هذا أمر مختلف عن الجنون المعهود.»
«نعم، خُلاصة القول، كان يبدو لي أنّني، بالمجيء إلى هنا، يمكن لبعض مِن سحر تلك الحقبة الدخول فيَّ، وجَعلي أَعظَم. وذلك، ثِق تماماً، في صالحكَ.»
«أَعرِف أنّكَ صادق في رغبتكَ الحاليّة. ولكنّني أَردُّ عليك بكلمات أزليّة، إذ هي كلمات الكِتاب، والكِتاب سوف يدوم ما دام البشر، سواء آمَنوا به أم احتَقَروه، حَارَبوه باسم الحقّ أم حَوَّلوه إلى مثار للسخرية، فسيدوم، سيدوم أبداً.
قيل: "إذ رَأَت حوّاء أنّ ثمرة الشجرة كانت لذيذة للمأكَل وشهيّة للنَّظَر، قَطَفَت منها وأَكَلَت وأَعطَت بَعلها... وحينئذ انفَتَحَت أعينهما، فَعَلِما أنّهما عَريانَان، فخاطا لهما مآزر... وقال الله: ‹كيف لاحَظتُما نفسيكما أنّكما كنتما عريَانَين؟ فليس ذلك إلاّ مِن جرّاء أكلكما مِن الثَّمَرة الـمُحرَّمَة.› وطَرَدَهما مِن جنّة المباهِج". وفي سِفر شاول قِيل: "قال صموئيل لدى ظهوره: ‹لماذا أَزعَجتَني باستدعائي؟ لماذا استجوابي بعد خروج الربّ منكَ؟ سوف يعاملكَ الربّ كما قُلتُ لكَ... لأنّكَ لم تطع صوت الربّ›".
بُنيَّ لا تَمُدَّ يدكَ إلى الثَّمَرة المحرَّمة. فمجرّد الدنوّ منها تَهوُّر ورُعونة. لا تَكُن فضوليّاً لمعرفة ما هو أبعَد مِن الأرض، خوفاً مِن أن تُصبِح ضحيّة السمّ الشيطانيّ. اهرب مِن العلوم الباطنيّة وما لا تفسير له. شيء واحد عليكَ تَقَبُّله بإيمان مقدَّس: الله. أَمّا كلّ ما هو ليس الله، ولا يُفَسَّر بقوّة الفِكر، ولا يمكنه أن يُوجَد عن طريق القوى البشريّة، فاهرب منه، اهرب منه. فلا تَفتَحْ لكَ ينابيع الشرّ، ولا تدركنَّ أنّكَ "عريان". عريان: كريه، ممقوت، في إنسانيّة ممزوجة بالشيطانيّة.
لماذا تريد الإبهار بخوارق غامِضَة؟ أَبهِر بقداستكَ، ولِتَكن وَضَّاءَة كشيء آتٍ مِن الله. لا ترغبنَّ في تمزيق الحُجُب التي تَفصل الأحياء عن الأموات. لا تُشوِّش المتوفَّين. اسمعهُم إذا كانوا أحياء، طالما هُم على الأرض. كَرِّمهم بطاعتكَ لهم بعد موتهم. ولكن لا تُكدِّر حياتهم الثانية. فالذي لا يطيع صوت الربّ يَفقد الربّ. والربّ قد حَرَّمَ الباطنيّة واستحضار الأرواح وعبادة الشيطان، بكلّ أشكالها. ماذا تريد أن تعرف أكثر ممّا تقوله لكَ الكَلِمَة الآن؟ ما الذي تريد فِعله عِلاوة على ما يَسمَح لكَ صلاحكَ وقُدرَتي بِفِعله؟ لا تكن راغباً في اقتراف الخطيئة، بل في بلوغ القداسة يا بنيّ. لا يجرحنَّكَ ما أقوله لكَ. يسعدني أن تكتشف ذاتكَ في إنسانيّتكَ. فما يَسرّكَ يَسرّ الكثيرين، الكثير مِن الناس. أمر واحد فقط: الهدف الذي تُثبِّته في ما ترغَب: "أن تكون لكَ القُدرة على جلب الآخرين إليَّ"، يُزيل عن الإنسانيّة عبئاً هائلاً ويَمنَحها أجنحة، ولكنّها أجنحة طيور ليل. لا يا يهوذا. ضع أجنحة مُنيرة، أجنحة ملاك لروحكَ. ولن تجلب القلوب بغير أثيرها، وبه تَنقُلها إلى الله باقتفاء أَثَركَ. هل يمكننا المضيّ؟»
«نعم يا معلّم! فلقد أخطأتُ...»
«لا، بل كنتَ باحثاً... والعالَم سيكون زاخراً بِمَن هُم كذلك. هيّا، هيّا. فلنَخرُج مِن موضع النتانة هذا. ولنذهب إلى الشمس! بعد بضعة أيّام سيكون الفصح، وبعده نذهب إلى أُمّكَ. فهي التي أستَذكِرها مِن أجلكَ: بيتكَ النـزيه، أُمّكَ القدّيسة. آه! أيّ سلام هو!»
كالعادة، ذِكرى أُمّه، وثناء المعلّم عليها، أعادَت الصَّفاء والاطمئنان إلى قلب يهوذا. يَخرُجون مِن الأطلال، ويَنحَدِرون عَبْر الدرب الذي سَلَكوه قبلاً. ما زال الرجل الأعور هناك.
«أما زلتَ هنا؟» يَسأَل يسوع، مُحاوِلاً ألاّ يجعل أحداً يُلاحِظ وجهه الذي جَعَلَته الدموع يَصطَبِغ بالأحمر.
«أنا هنا. وإذا سَمَحتَ لي أتبعكَ. فلديَّ ما أقوله لكَ...»
«تعال إذن معي. ما الذي تريد قوله؟»
«يا يسوع... أعتقد أنه، لامتلاك القوّة على الكلام، لِفِعل السحر المقدَّس بتغيير ذاتي، لاستحضار روحي الميتة، كما استَحضَرَت الساحرة صموئيل لشاول، ينبغي أن أذكُر اسمكَ، العَذب كنظرتكَ، القدّوس كصوتكَ. لقد مَنَحتَني حياة جديدة، وهي ما زالت عديمة الشكل، عاجزة كتلك التي لِرَضيع مولود حديثاً، وكانت وِلادته صعبة. إنّها ما تزال تتخبّط في قبضة جَسَد فاسِد. ساعدني في الخروج مِن موتي...»
«نعم، يا صديقي.»
«أنا... أنا أدركتُ معنى أنّني ما زلتُ أحتفظ بالقليل مِن الإنسانيّة في قلبي. لستُ متوحِّشاً كلّيّاً، وما زلتُ أستطيع أن أُحِبّ وأن أكون محبوباً، أن أغفر وأن يُغفَر لي. فحبّكَ، حبّكَ الذي هو مغفرة، عَلَّمَني ذلك. أليس الأمر كذلك؟»
«نعم يا صديقي.»
«أيّ اسم تطلقه عليَّ؟»
«اسماً عزيزاً على قلبي: يوحنّا. فأنتَ النعمة التي صَنَعَها الربّ.»
«هل تأخذني معكَ؟»
«الآن نعم. بعد ذلك تتبعني وسط التلاميذ. ولكن بيتكَ؟»
«لَم يَعُد لي بيت. سأترك كلّ ما أملك لمساكين. امنحني فقط حبّكَ وقُوتاً.»
«تعال.» ويلتَفِت يسوع ويُنادي الرُّسُل: «يا أصدقائي، وخاصّة أنتَ يا يهوذا، أشكركم. فبواسطتكَ، بواسطتكم، أَقبَلَت نَفْس إلى الله. هو ذا التلميذ الجديد. يمكث معنا حتّى اللّحظة التي سيمكننا فيها أن نعهد به إلى الإخوة التلاميذ. كونوا سعداء لأنّكم عثرتم على قلب، وباركوا الربّ معي.»
في الحقيقة، لا يبدو الإثنا عشر سعداء كثيراً. ولكنّهم يتظاهرون بذلك بدافع الطاعة والكياسة.
«لو سمحتَ، أمضي أمامكم. وسوف تَجِدني عند عَتَبَة البيت.»
«اذهب.»
يمضي الرجل وهو يَجري. يبدو وكأنّه رجل آخر.
«الآن وقد أَصبَحنا وحدَنا، فإنّني آمركم، هو ذاك آمركم، بأن تكونوا صالحين معه وطيّبين، وألاّ تتحدّثوا عن ماضيه لأيّ كان. مَن يتحدّث أو يخلّ بالمحبّة تجاه الأخ المهتدي، فسيجد نفسه مَطرُوداً مِن قِبَلي. هل فهمتم؟ انظروا كم هو الربّ صالح! فإنّنا إذ كنا آتين مِن أجل هدف بشريّ، مُنِحْنا نعمة العودة مِن هنا بعد الحصول على إنعام فائق الطبيعة. آه! إنّني مُغتَبِط مِن أجل الفَرَح الذي وُلِدَ في السماء بسبب المهتدي الجديد.»
يَصِلون أمام البيت. ها هو ذا الرجل على العَتَبَة بثوب داكن نظيف ومعطف مناسب وزوج أحذية جديدين وحقيبة كبيرة على الكتفين. إنّه يُغلِق الباب، ثمّ، شيء غريب مِن رجل كنتَ تحسبه فاقد الحسّ، يحمل دجاجة بيضاء، قد تكون المفضّلة لديه، وهي ترقد بين يديه بألفة، فيُقبِّلها ويبكي، ثمّ يضعها على الأرض.
«هيّا بنا... واغفر لي. ولكنّها، أي دجاجاتي، قد أَحَبَّتني... كنتُ أتحدّث إليها و... كانت تفهمني...»
«أفهمكَ أنا كذلك... وأحبّكَ كثيراً. سأهبكَ كلّ الحبّ الذي أباه عليكَ العالم طوال خمسة وثلاثين عاماً...»
«آه! أعرف! أُحِسُّ بذلك! ولأجل ذلك أتيتُ. إنّما أَشفِقْ على إنسان... أَحَبَّ حيواناً... وهو الذي... كان بالنسبة إليه أكثر وَفاء مِن أيّ إنسان...»
«نعم... نعم. لا تَعُد تُفكّر بالماضي. سيكون لديكَ عمل كثير! وبفضل تجربتكَ، سوف تفعل خيراً كثيراً. سمعان. تعال هنا، وأنتَ يا متّى. أترى؟ هذا كان أكثر مِن سجين، لقد كان مصاباً بالبرص. والآخر كان خاطئاً. وهما الآن عزيزان على قلبي، إذ إنّهما يَعرِفان أن يَفهَما القلوب المسكينة... أليس كذلك؟»
«بفضل صلاحكَ يا سيّدي. ولكن يا صديقي، ثِق تماماً أنّ الماضي كلّه يتلاشى ويضمحلّ في خدمته. ولا يبقى سوى السلام.» يقول الغيور.
«نعم، السلام وشباب جديد يحلّ مكان بَلَى الرذيلة والحقد. فأنا كنتُ عشّاراً، أمّا الآن فإنّني رسول. لدينا العالم أمامنا وقد تَثَقَّفنا لحسابه. فنحن لسنا أطفالاً طائِشِين يَمرّون أمام ثمرة مُضرّة وشجرة مُغوِية دون رؤية الحقيقة. نحن نَعلَم. نستطيع تحاشي الشرّ وتعليم الآخرين تحاشيه. نعرف إعادة تقويم الذي انحَرَف، إذ نَعلَم كم الإقالة مِن العَثَرات تَبعَث على العَزاء. ونَعرِف الذي يُقيل مِن العَثَرات: إنّه هو.» يقول متّى.
«حقّاً! حقّاً! ستساعدونني؟ شكراً. إنّني كَمَن يَعبُر مِن مكان مظلم ونَتِن إلى فسحة الحقل الـمُزهِر الحرّة... لقد اختبرتُ أمراً مشابهاً عندما خرجتُ حرّاً، أخيراً أنا حرّ، بعد عشرين عاماً مِن الأشغال الشاقّة والعمل الـمُنهِك في مناجم الأناضول، حينما وجدتُ نفسي -عندما فَرَرتُ في ليلة عاصِفة- على قمّة جبل شديد الانحدار، إنّما حرّاً، على قمّة جبل تغمره الشمس، عند الفجر، ومغطّى بالخمائل العَطِرة... الحرّيّة! أمّا الآن فأكثر! كلّ ما فيَّ يُصبِح أَرحَب! لَم توضَع لي السلاسل منذ خمسة عشر عاماً. ولكنّ الكراهية، ولكنّ الخوف، ولكنّ الوحدة كانت لي السلاسل والقيود... والآن سَقَطَت... ها إنّنا في بيت الرجل العجوز الذي قادكم إليَّ. أيّها الرجل! أيّها الرجل!»
يَهرَع الرجل مسرعاً، ثمّ يتسمّر كالتمثال لدى رؤيته الأعور نظيفاً، مرتدياً ثياب السفر، وبوجه مبتسم.
«خُذ، هاكَ مفتاح بيتي. إنّني راحل أبداً. إنّني أعترف بجميلكَ لأنّكَ الـمُحسِن إليَّ. لقد جَعَلتَ لي عائلة. فتصرّف بما أملك كما تشاء... واعتنِ بدجاجاتي. لا تُسِئ معاملتها. في كلّ سبت يأتي رومانيّ لشراء البيض... وهذا يفيدكَ... عامل دجاجاتي جيّداً... وليكافئكَ الله.»
العجوز مَذهول... يأخذ المفتاح وقد فَغَرَ فَاه.
يقول يسوع: «نعم، افعل ما يقوله لكَ، وأنا أيضاً أكون ممتنّاً لكَ. باسم يسوع، أبارككَ.»
«الناصريّ! أنتَ! الرحمة! لقد تكلّمتُ مع الربّ! أيّتها النساء! أيّتها النساء! أيّها الرجال! مَسيّا بيننا!»
يَصرُخ مِثل ابن عرس، ويُقبِل الناس مِن كلّ صوب.
«بارِكنا! بارِكنا!» يَهتفون. وآخرون يقولون: «ابقَ معنا!» وآخرون: «أين تذهب؟ قل لنا على الأقلّ إلى أين أنتَ ذاهب.»
«إلى نائين. لا يمكنني البقاء.»
«نتبعكَ! هل تريد؟»
«تعالوا. وللّذين يبقون السلام والبركة.»
ويتوجَّهون إلى الطريق العامّ يَسلكونه. الرجل الذي يسير إلى جانب يسوع والذي ينوء تحت عبء حقيبته، يُثير فضول بطرس، فيسأله: «ولكن ماذا لديكَ بداخلها لتكون بهذا الوزن الثقيل؟»
«الثياب... وكُتُب... إنها أصدقائي، كما الدجاجات، لم أستطع الابتعاد عنها. وهي ثقيلة.»
«هه! العِلم ثقيل! بكلّ تأكيد! ويُرضي مَن هذا؟»
«لقد دَفَعَت عنّي الجنون.»
«هه! فينبغي لكَ أن تحبّها! ولكن أيّ نوع مِن الكُتُب هي؟»
«فلسفة، تاريخ وشِعر يونانيّ ورومانيّ...»
«جميل، جميل. بالتأكيد جميل. ولكن... أتعتقد بأنّكَ تَقدِر أن تصطحبها معكَ؟»
«قد أتوصّل إلى الابتعاد عنها. ولكن، في نفس الوقت، هذا مستحيل. أليس كذلك مَسيّا؟»
«نادِني يا معلّم. نعم، هذا مستحيل. ولكنّني سأجعل لكَ مكاناً يمكنكَ فيه إيجاد مأوى لأصدقائكَ الكُتُب. وقد تفيدكَ في حِواركَ مع الوثنيّين عن الله.»
«آه! كَم فِكركَ واضح ولا تَحَفُّظ فيه!»
يبتسم يسوع ويهتف بطرس: «أعتقد ذلك! فهو، هو الحكمة!»
«هو الصَّلاح، ثِق بذلك. فأنتَ مُثَقَّف.»
«أنا؟ آه! أعرف التمييز بين الشابل والشبوط. فثقافتي لا تتعدّى ذلك. أنا صياد سمك يا صديقي!» يضحك بطرس مُتواضِعاً وصَريحاً.
«إنّكَ نزيه. وهذا عِلم يتعلَّمه المرء بذاته. ومِن الصعوبة بمكان أن يكون كذلك. إنّكَ تُعجِبني.»
«أنتَ كذلك تُعجِبني، لأنّكَ صريح، حتّى حينما تَتَّهِم نفسكَ. فأنا أَغفِر كلّ شيء وأساعد الجميع. ولكنّني في الوقت نفسه عدوّ الكاذِبين الذي لا يَرحَم. فإنّهم يثيرون اشمئزازي.»
«إنّكَ لَعَلى حقّ. فالإنسان الكاذِب مُجرِم.»
«مُجرِم. أنتَ قُلتَها. قُل، ألا تثق بي لتسلّمني حقيبتكَ؟ يمكنكَ الوثوق بأنّني لن أذهب بالكُتُب... يبدو لي أنّكَ تَعِب...»
«عشرون عاماً في المناجم تُنهِك وتُحطِّم... ولكن لماذا تريد التَّعَب لنفسكَ أنتَ؟»
«لأنّ المعلّم عَلَّمَنا أن نحبّ بعضنا كإخوة. أعطِني هذه وخُذ أسمالي، فهي ليست ثقيلة... فلا تاريخ فيها ولا أشعار، فتاريخي وقصائدي والشيء الآخر الذي قُلتَه لي، كلّ ذلك هو يسوعي، يسوعنا.»