ج7 - ف182

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الأول

 

182- (في الهيكل. "هل تعلمون مَن أكون ومِن أين أتيتُ؟")

 

04 / 09 / 1946

 

إنّ الهيكل هو أكثر ازدحاماً بعد مِن اليوم السابق. ووسط الجمع الذي يملأ الباحة الأولى ويهيج، أرى وثنيّين كُثُراً، أكثر بكثير مِن أمس. كلّهم في انتظار مترقِّب، الإسرائيليّون كما الوثنيّون. ويتحدّثون، الوثنيّون مع الوثنيّين، والعبرانيّون مع العبرانيّين، بمجموعات منتشرة هنا وهناك، مِن دون إغفال النَّظَر عن الأبواب.

 

الأحبار، تحت الأروقة، يَجهَدون برفع الصوت للجذب وإظهار الفصاحة. لكنّ الناس غافلون، وهم يتحدّثون إلى تلاميذ قلّة. غَمَالائيل هناك، في موضعه. لكنّه لا يتكلّم. إنّه يتمشّى جيئة وذهاباً على سجّادته الفاخرة، مشبوك الذراعين، حاني الرأس، يتأمّل، والثوب الطويل، والرداء الأطول بعد، الّذي فتحه ويتدلّى مُعلّقاً بمشبكين مزخرفين فضّيّين عند الكتفين، يشكّلان إلى الخلف حاشية يدفعها بقدمه كلّما عاد على أعقابه. إنّ تلاميذه، الأكثر وفاءً، مستندون إلى الحائط، ينظرون إليه بصمت، متهيّبين، يحترمون تأمّل معلّمهم.

 

بعض الفرّيسيّين، الكَهَنَة، يتظاهرون أنّ لديهم أشغالاً كثيرة، ويروحون ويجيئون... الناس، المدركون لنواياهم الحقيقيّة، يشيرون إليهم بالإصبع، وبعض التعليقات تنطلق مثل صاروخ ملتهب حارقة نفاقهم. لكنّهم يتظاهرون بعدم السّماع. إنّهم قلّة مقارنة بالكثيرين الّذين لا يكرهون يسوع، والّذين على العكس يكرهونهم، لذلك يَرَون أنّه مِن الحكمة عدم الردّ.

 

«ها هو! ها هو! إنّه اليوم يأتي عبر الباب المذهّب!»

 

«لنسرع!»

 

«إنّني باقٍ هنا. سيأتي إلى هنا ليتكلّم. أحافظ على مكاني.»

 

«وأنا كذلك، لا بل إنّ مَن يذهبون يتركون متّسعاً لنا نحن الذين نبقى.»

 

«إنّما هل سيدعونه يتكلّم؟»

 

«ما دام تركوه يدخل!...»

 

«نعم، لكنّه أمر مختلف. باعتباره ابناً للشريعة لا يمكنهم منعه مِن الدخول. أمّا باعتباره رابّياً فبإمكانهم طرده إذا ما أرادوا.»

 

«كَم مِن تناقضات! فإذا ما تركوه يذهب ليتكلّم إلى الله، فلماذا لا يدعونه يكلّم البشر؟» (هذا الذي يتكلّم وثنيّ هو).

 

«هذا صحيح» يقول وثنيّ آخر. «نحن لأنّنا غير طاهرين لا يدعوننا نذهب إلى هناك، أمّا هنا فنعم، على أمل أن نصبح مختونين...»

 

«اصمت يا كوينتوس، لهذا يدعونه يتحدّث إلينا. على أمل تقليمنا كما لو كنّا أشجاراً. إنّما نحن على النقيض نأتي كي نضع أفكاره كما أغصان تطعيم لأغصاننا البرّية.»

 

«إنّكَ تُحسِن القول. هو الوحيد الذي لا يحتقرنا!»

 

«آه! لذلك! عند الذهاب بكيس مال للشراء فالآخرون حتّى لا يحتقروننا.»

 

«انظر! نحن الوثنيّين قد أصبحنا أسياد المكان. سنسمع جيّداً! وسنرى بشكل أفضل! تسرّني رؤية وجوه أعدائه. بحقّ جوبيتر! مبارزة وجوه...»

 

«اصمت! حذار مِن سماعكَ تذكر جوبيتر، إنّ ذلك محرّم هنا.»

 

«آه! ليس بين جوبيتر ويهوه سوى فارق بسيط. وبين الآلهة ما مِن ضغينة... لقد أتيتُ برغبة حسنة للاستماع. لا للسخرية. يتمّ الحديث كثيراً وفي كلّ مكان عن هذا الناصريّ! وقد قلتُ: إنّ الفصل لجيّد وسأذهب للاستماع إليه. هناك مَن يذهب أبعد بعد للاستماع إلى العرّافين...»

 

«مِن أين أنتَ آتٍ؟»

 

«مِن برجة. وأنتَ؟»

 

«مِن طرسة»

 

«إنّني تقريباً عبرانيّ. أبي كان هيلّينياً مِن إيقونيوم. لكنّه تزوّج في أنطاكية الكيليكيّة مِن رومانيّة، ومات قبل أن أُولد. لكنّ البِذرة عبرانيّة»

 

«قد تأخّر في المجيء... أيكونون قد أمسكوا به؟»

 

«لا تخف. لكان أعلمنا صياح الجمع. فهؤلاء العبرانيّون يصيحون كما طيور عقعق مضطربة، دوماً...»

 

«آه! ها هو بذاته. هل هو آتٍ بالضبط إلى هنا؟»

 

«ألا ترى أنّهم قد شغلوا بدهاء كلّ المواضع ما عدا هذا الرّكن؟ أَنصِت إلى كلّ هذه الضفادع الّتي تنقّ للإيحاء بأنّها معلّمات؟»

 

«ذاك الّذي هناك صامت. أصحيح أنّه أعظم حَبر لإسرائيل؟»

 

«نعم، إنّما… يا له مِن متحذلق! لقد استمعتُ إليه يوماً، وكي أهضم علمه توجّب عليَّ شرب كؤوس عديدة مِن نبيذ فاليرنو دا تيتو في بيزيتا.» يضحكان فيما بينهما.

 

يسوع يقترب ببطء. يمرّ مِن أمام غَمَالائيل، الّذي لا يرفع رأسه حتّى، ومِن ثمّ يذهب إلى موضع أمس.

 

الناس، الّذين هم الآن خليط مِن إسرائيليّين، متهوّدين ووثنيّين، يدركون أنّه على وشك أن يتكلّم ويهمسون: «ها هو سيتكلّم علناً ولا يقولون له شيئاً»

 

«ربّما الأمراء والرؤساء قد عرفوا فيه المسيح. البارحة غَمَالائيل، بعد مغادرة الجليليّ، قد تحدّث كثيراً مع الشيوخ»

 

«معقول؟ كيف أمكنهم معرفته فجأة، بينما منذ فترة قليلة كانوا يعتبرونه مستحقّاً للموت؟»

 

«ربّما كان لدى غَمَالائيل دلائل...»

 

«وأيّة دلائل؟ أيّة دلائل تريدون أن تكون في صالح هذا الرجل؟» يجيب أحدهم.

 

«اصمت يا ابن آوى. لستَ سِوى آخر النسّاخين. مَن سألكَ؟» ويستهزئون به. يمضي.

 

إنّما يتولّى الأمر آخرون، لا ينتمون إلى الهيكل، إنّما هم بالتأكيد مِن اليهود المشكّكين: «الدلائل نملكها نحن. إنّنا نعلم مِن أين هو. لكنّ المسيح، عندما يأتي، فلا أحد سيعلم مِن أين يكون. ذاك لن نعرف أصله. إنّما هذا!!! إنّه ابن نجّار مِن الناصرة، وبوسع كلّ بلدته أن تشهد هنا ضدّنا إن كنّا نكذب...»

 

في تلك الأثناء يُسمع صوت أحد الوثنيّين الّذي يقول: «يا معلّم، تحدّث قليلاً إلينا، اليوم. لقد قيل بأنّكَ تؤكّد على أنّ كلّ البشر قد أتوا مِن إله واحد، إلهكَ. لدرجة أنّكَ تدعوهم أبناء الآب. إنّ فكرة مماثلة قد كانت أيضاً لشعرائنا الرواقيّين. قد قالوا: "نحن ذرّية الله". وإنّ مواطنيكَ يقولون بأنّنا أكثر نجاسة مِن البهائم. كيف توفّق بين الاتّجاهين؟»

 

إنّ السؤال يُطرح تبعاً لعادات المجادلات الفلسفيّة، على الأقلّ هذا ما أظنُّه. ويسوع كان يهمّ بالردّ، عندما ترتفع حدّة الجدال بين اليهود المشكّكين وأولئك المؤمنين، وصوت حادّ يردّد: «إنّه رجل عادي. المسيح لن يكون مثله. كلّ شيء سيكون استثنائيّاً فيه. الهيئة، الطبيعة، النّسب...»

 

يسوع يستدير إلى ذلك الاتّجاه ويقول بصوت عالٍ: «أنتم تعرفونني إذن وتعرفون مِن أين أنا آتٍ؟ أمتأكّدون تماماً مِن ذلك؟ وأيضاً ذاك القليل الذي تعرفونه ألا يخبركم شيئاً؟ ألا يؤكّد لكم النبوءات؟ إنّما أنتم لا تعرفون كلّ شيء عنّي. الحقّ الحقّ أقول لكم بأنّني لم آتِ مِن ذاتي ومِن حيث تعتقدون بأنّني قد أتيتُ. إنّ الحقّ ذاته، الّذي لا تعرفونه، هو مَن أَرسَلَني.»

 

صيحة استياء ترتفع مِن الأعداء.

 

«الحقّ ذاته. ولكنّكم لا تعرفون صنائعه. إنّكم لا تعرفون طرقه، تلك الطرق الّتي أتيتُ عَبرَها. الكراهية لا يمكن أن تعرف طرق وصنائع المحبّة. لا يمكن للظلمات احتمال رؤية النور. أمّا أنا فأعرف مَن أَرسَلَني لأنّني خاصّته، جزء منه وكلّ معه. وهو قد أَرسَلَني كي أُتِمّ ما يشاؤه فِكره.»

 

تَحدُث جَلَبَة. الأعداء يندفعون كي يضعوا اليد عليه، يقبضوا عليه، يضربوه. الرُّسُل، الأتباع، الناس، الوثنيّون، المتهوّدون، ينتفضون للدفاع عنه. يهرع آخرون لمساعدة الأوّلين، وأوشكوا على أن ينجحوا، إنّما غَمَالائيل، الّذي حتّى تلك اللحظة كان يبدو بمنأى عن كلّ شيء، يغادر سجّادته ويُقبِل صوب يسوع، الّذي دَفَعَه مَن يريدون الدفاع عنه إلى تحت الرواق، ويصيح: «دعوه وشأنه. أريد أن أسمع ما يقول.»

 

وبأكثر ممّا يفعل فيلق الحرّاس، الّذي يهرع مِن قلعة أنطونيا لقمع الشَّغَب، يفعل صوت غَمَالائيل. الشَّغَب يخمد مثل زوبعة تتكسّر. وتهدأ الضجّة لتصبح مجرد همهمة. الحرّاس، بدافع الحذر، يلبثون قريباً مِن السور الخارجي، إنّما قد باتوا بلا فائدة.

 

«تكلّم»، غَمَالائيل يأمر يسوع. «أَجِب مَن يتّهمونكَ.» النبرة آمِرة، إنّما غير مُتهكّمة.

 

يسوع يتقدّم نحو الفناء. هادئاً، ويستأنف الكلام. غَمَالائيل يبقى حيث هو، وتلاميذه ينهمكون بجلب سجّادته ومقعده كي يكون مرتاحاً أكثر. لكنّه يبقى واقفاً، ذراعاه متشابكان، حاني الرأس، مغمض العينين، مُرَكّزاً للإصغاء.

 

«لقد اتّهمتموني دونما سبب كما لو أنّني جدّفت بدلاً مِن قَول الحقيقة. أنا لا أتكلّم كي أدافع عن نفسي، إنّما لأمنحكم النور كيما تتمكّنوا مِن معرفة الحقّ. ولا أتكلّم مِن أجل نفسي. لكن أتكلّم مذكّراً بالكلام الذي تؤمنون وتُقسِمون به. إنّه يشهد لي. أنتم، أَعلَم ذلك، لا تَرَون فيَّ سِوى إنسان مثلكم، أدنى منكم. ويبدو لكم أنّه مِن المستحيل أنّ إنساناً يمكن أن يكون المَسيّا. أقلّه تفكّرون بأنّه يجب أن يكون ملاكاً، هذا المَسيّا الّذي هو مِن أصل غامض لدرجة أنّه لا يمكن أن يكون مَلِكاً إلاّ بالسلطة الّتي يثيرها سرّ أصله. إنّما متى أبداً في تاريخ شعبنا، في الأسفار الّتي تحوي هذا التاريخ، والّتي ستكون كتابات تدوم بقدر العالم، لأنّ منها سينهل معلّمو كلّ بلد وكلّ عصر لتعزيز علمهم وأبحاثهم حول الماضي في نور الحقّ، متى أبداً ذُكِر في هذه الأسفار أنّ الله قد تكلّم إلى أحد ملائكته ليقول له: "ستكون مِن الآن فصاعداً لي ابناً لأنّني أنا قد ولدتكَ"؟»

 

أرى غَمَالائيل وقد أُعطي طاولة صغيرة ولُفافات ويجلس للكتابة…

 

«إنّ الملائكة، المخلوقات الروحيّة، خُدّام العليّ ورُسُله، قد خُلِقَت مِن قبله كما الإنسان، كما الحيوانات، كما كلّ ما خُلِق. لكنّها لم تكن قد وُلِدت منه. لأنّ الله يلد فقط ذاته آخر، لأنّ الكمال لا يمكنه أن يلد إلّا كمالاً آخر مساوياً له، كي لا يحطّ مِن كماله بولادة مخلوق أدنى منه.

 

وإذاً، إذا لم يكن لله أن يلد الملائكة ولا أن يرفعهم إلى مرتبة أبنائه، فَمَن سيكون الابن الذي يقول له: "أنتَ ابني. أنا اليوم ولدتكَ"؟ ومِن أيّ طبيعة سيكون إذا، وقد وَلَدَه، قد قال لملائكته مشيراً إليه: "وليعبده كلّ ملائكة الله"؟ وكيف سيكون هذا الابن، كي يستحقّ أن يَسمَع مِن الآب، الذي إنّما بنعمته فحسب إذا ما استطاع البشر أن يتلفّظوا باسمه بقلب ينسحق تعبّداً: "اجلس عن يميني حتّى أجعل مِن أعدائك موطئاً لقدميكَ"؟ هذا الابن لا يمكن أن يكون إلّا الله كما الآب، الّذي يتقاسم وإيّاه الخصائل والقُدرة، والّذي معه ينعم بالمحبّة الّتي تغبطهما في المحبّة فائقة الوصف وغير الـمُدرَكة للكمال بذاته.

 

لكن، إذا كان الله لم يرَ أنّه مِن اللائق رفع ملاك إلى مرتبة ابن، فهل كان أبداً ليقول عن إنسان ما قد قاله عن هذا الذي هو هنا يكلّمكم -وكُثُر منكم يا مَن تحاربونني كنتم حاضرين حين قاله- هناك عند مخاضة بيت عَبرة، في نهاية السنتين السابقتين لهذه؟ قد سمعتموه وارتعدتم. لأنّ صوت الله لا لبس فيه، ومِن دون نعمة خاصّة منه يُطرَح مَن يسمعه ويرتعش قلبه.

 

ماذا يكون إذاً الإنسان الّذي يكلّمكم؟ أيكون ربّما مولوداً مِن بذرة ومشيئة إنسان مثل جميعكم؟ أيكون العليّ قد أَسكَنَ روحه جسداً مجرّداً مِن النعمة، كما الّذي للبشر المولودين بمشيئة جسديّة؟ أيكون العليّ، تعويضاً عن الخطيئة العظمى، يرتضي بتضحية مِن إنسان؟ فكّروا. هو لم يختر ملاكاً كي يكون مسيحاً وفادياً، فهل يختار إذن إنساناً ليكون كذلك؟ وهل كان ممكناً أن يكون الفادي فقط ابناً للآب مِن دون اتّخاذ طبيعة بشريّة، إنّما بوسائل وقدرات تفوق الإدراك البشريّ؟ وهل يمكن أبداً أن يكون لبِكر الله أبوين، إذا كان هو البِكر الأزليّ؟

 

ألا يضطرب الفكر المتكبّر أمام هذه التساؤلات، الّتي تصعد صوب ممالك الحقّ، دوماً أقرب منها أكثر، والّتي لا تجد إجابة إلّا في قلب متواضع ومليء بالإيمان؟

 

مَن يجب أن يكون المسيح؟ أيكون ملاكاً؟ أكثر مِن ملاك. إنساناً؟ أكثر مِن إنسان. إلهاً؟ نعم، إله. إنّما بجسد متّحد به، كي يتمكّن مِن إتمام التكفير عن الجسد الخاطئ. كلّ شيء سيُفتدى بواسطة المادّة الّتي تمّت بها الخطيئة. وعليه كان يُفتَرَض مِن الله إرسال ملاك للتكفير عن خطايا الملائكة الساقطين، وللتكفير عن لوسيفورس وأتباعة الملائكيّين. لأنّ، كما تعلمون، كذلك لوسيفورس قد أخطأ. لكنّ الله لم يرسل روحاً ملائكيّاً لافتداء الملائكة الظلاميّين. فهم لم يعبدوا ابن الله، والله لا يغفر الخطيئة ضدّ كلمته المولود مِن محبّته. مع ذلك فإنّ الله يحبّ الإنسان ويرسل الإنسان، الوحيد الكامل، لافتداء الإنسان وتحقيق السلام مع الله. ومِن الصواب أنّ الإنسان-الإله وحده قادر على إتمام فِداء الإنسان واسترضاء الله.

 

الآب والابن قد تحابّا وتفاهما. والآب قال: "أشاء". والابن قال: "أشاء". ومِن ثمّ الابن قال: "أعطني". والآب قال: "خذ"، والكلمة نال جسداً بكينونة سريّة، ودُعِيَ هذا الجسد يسوع المسيح، مَسيّا، الّذي يجب أن يفتدي البشر، يجلبهم إلى الملكوت، ينتصر على الشيطان، يحطّم العبوديّة.

 

الانتصار على الشيطان! ما كان لملاك أن يقدر على ذلك، لن يستطيع إتمام ما يمكن لابن الإنسان إتمامه. ولهذا، ها هو الله لا يدعو الملائكة لأجل العمل العظيم، إنّما الإنسان. وها هو الإنسان الذي بأصله تشكّكون، تُنكِرون أو تتساءلون. ها هو الإنسان. الإنسان المقبول مِن الله. الإنسان الّذي يمثّل جميع إخوته. الإنسان الّذي يماثلكم في الشَّبَه، الإنسان الّذي يفوقكم ويختلف عنكم مِن حيث الأصل (المصدر)، الّذي، لا مِن إنسان، بل مِن الله قد وُلِد وكُرّس لأجل مهمّته، الواقف أمام المذبح المهيب كي يكون كاهناً وضحيّة لأجل خطايا العالم، الحَبر الأزليّ الأسمى، الكاهن الأعظم على رتبة ملكي صادق.

 

لا ترتعدوا! أنا لا أمدّ اليدين نحو التاج الحَبريّ. إنّ إكليلاً آخر ينتظرني. لا ترتعدوا! لن أسلب رفعتكم. فأُخرى هي بالفعل حاضرة مِن أجلي. إنّما ارتعدوا فقط مِن ألّا تكون تضحية الإنسان ورحمة المسيح غير ذي فائدة لكم. لقد أحببتُكم كثيراً، أحبّكم إلى درجة أنّني نلتُ مِن الآب أن أُهلِك ذاتي. لقد أحببتُكم كثيراً وأحبّكم إلى درجة أنّني طلبت أن أَستَنفِذ كلّ ألم العالم كي أمنحكم الخلاص الأبديّ.

 

لماذا لا تريدون أنّ تصدّقوني؟ ألا يمكنكم التصديق بعد؟

 

أما قيل عن المسيح: "أنتَ كاهن للأبد على رتبة ملكي صادق"؟ إنّما متى ابتدأ الكهنوت؟ أيمكن أن يكون في زمن إبراهيم؟ لا. وأنتم تعلمون ذلك. ومَلِك العدل والسلام الّذي يَظهَر للإعلان عنّي، بمظهر نبويّ، عند فجر شعبنا، ألا يُخطِركم بأنّ هناك كَهَنوتاً أكثر كمالاً، يأتي مباشرة مِن الله، كما ملكي صادق الّذي لم يتمكّن أحد أبداً مِن تحديد أصله، والّذي دُعي "الكاهن" وكاهناً سيبقى إلى الأبد؟ ألم تعودوا تؤمنون بكلام الوحي؟ وإن كنتم تؤمنون به، فكيف، أيّها المعلّمون، لا تُحسِنون إعطاء تفسير مقبول للكلام الّذي يقول، والّذي يتكلّم عنّي: "أنتَ كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق"؟

 

هناك إذن كهنوت آخر، فضلاً عن ذلك، قبل الّذي لهارون. وعن هذا قيل "أنتَ"، لا "كنتَ"، لا "ستكون". أنتَ كاهن إلى الأبد. ها هي ذي إذن هذه العبارة تعلن بأنّ الكاهن الأبديّ لن يكون مِن الأصل المعروف لهارون، لن يكون مِن أيّ أصل كهنوتيّ. إنّما سيكون مِن مصدر جديد، سرّي كما ملكي صادق. إنّه مِن هذا المصدر، وإذا ما كانت قُدرة الله ترسله، فهي علامة على أنّه يريد تجديد الكهنوت والطقس بحيث يغدو ذا فائدة للبشريّة.

 

أتعرفون أصلي؟ لا. أتعرفون أعمالي؟ لا. أتدركون ثمارها؟ لا. إنّكم لا تعرفون شيئاً عنّي. تعرفون إذن أنّني في هذا أيضاً أكون "المسيح"، الّذي أصله وطبيعته ورسالته يجب أن تكون مجهولة إلى أن يشاء الله أن يكشفها للبشر. طوبى للذين سيحسنون، الذين يحسنون الإيمان قبل أن يسحقهم اعتلان الله الرهيب بثقله أرضاً ويسمّرهم ويسحقهم تحت الحقيقة الصاعقة والقادرة الّتي تهدر مِن السموات، وتصيح مِن الأرض: "هو كان مسيح الله".

 

تقولون: "هو مِن الناصرة، أبوه كان يوسف. أُمّه هي مريم". لا، ليس لي أب قد أنجبني إنساناً. ليس لي أُمّ قد أنجبتني إلهاً. ومع ذلك فلي جسد قد تولّيته بفعل صنيعة للروح سرّية، وقد أتيتُ وسطكم مارّا عبر هيكل مقدّس. وسوف أخلّصكم، بعدما أشكّل ذاتي وفقاً لمشيئة الله، سوف أخلّصكم مُخرِجاً ذاتي الحقّة مِن هيكل جسدي لإتمام التضحية العظمى لإله يبذل نفسه لخلاص الإنسان.

 

أبتاه، يا أبي! لقد قُلتُ لكَ في بداية الأيّام: "ها أنا ذا لأعمل مشيئتكَ". لقد قُلتُ لكَ في ساعة النعمة قبل أن أغادركَ لألبس جسداً لأستطيع أن أتألّم: "ها أنا ذا لأعمل مشيئتكَ". وأقولها لكَ ثانية لأقدّس الّذين قد أتيتُ مِن أجلهم: "ها أنا ذا لأعمل مشيئتكَ". وسأقولها لكَ مجدّداً، على الدوام، إلى أن تتمّ مشيئتكَ...»

 

يسوع، الّذي رفع الذراعين صوب السماء، مصلّياً، يخفضهما الآن ويشبكهما فوق صدره ويحني الرأس، يغلق العينين ويستغرق في صلاة سرّية.

 

الناس يتهامسون. لم يفهموا جميعهم، بالأحرى الأكثريّة (وأنا معهم) لم يفهموا. إنّنا جاهلون جدّاً. لكنّنا نحسّ بأنّه قد أعلن عن أمور عظيمة. ونصمت ممتلئين إعجاباً.

 

إنّ ذوي النوايا الخبيثة، الّذين لم يفهموا أو الّذين لم يريدوا أن يفهموا، يستهزئون: «إنّه يهذي!». لكنّهم لا يجرؤون على قول المزيد ويبتعدون أو بالحريّ يتّجهون إلى الأبواب هازّين رؤوسهم. أظنُّ أنّ كلّ هذا التعقّل هو ثمرة الرماح والخناجر الرومانيّة الّتي تلمع تحت الشمس عند طرف السور.

 

غَمَالائيل يشقّ لنفسه طريقاً بين الباقين. يصل قرب يسوع، الّذي ما زال يصلّي، مستغرقاً، بعيداً عن الجمع وهذا المكان، ويناديه: «رابّي يسوع!»

 

«ماذا تريد، يا رابّي غَمَالائيل؟» يَسأَل يسوع رافعاً الرأس، فيما العينان لا تزالان مستغرقتان في رؤيا داخليّة.

 

«تفسيراً منكَ.»

 

«تكلّم.»

 

«انصَرِفوا جميعاً!» يأمر غَمَالائيل، وبنبرة بحيث أنّ الرُّسُل، التلاميذ، الأتباع، الفضوليّين، وتلاميذ غَمَالائيل أنفسهم، يبتعدون بسرعة. يبقيان وحدهما، الواحد بمواجهة الآخر. ويتبادلان النظر. يسوع دوماً مفعم لُطفاً عَذباً، الآخر متسلّط عن غير قصد ومترفّع المظهر دونما تعمّد. وهو مظهر قد أتاه حتماً نتيجة سنوات مِن التبجيل الـمُفرِط.

 

«يا معلّم… قد تمّ إبلاغي ببعض كلام لكَ قيل في وليمة... والّذي استنكرتُه لأنّه كان مُريباً. أأُقارِع أو لا أُقارِع. إنّما دوماً في العلن… لقد تأمّلتُ بذاك الكلام. وقارنتُه مع الّذي في ذاكرتي… وقد انتظرتُكَ، هنا، كي أستفسر منكَ حوله… وقبل ذلك أردتُ سماعكَ تتكلّم… هم لم يفهموا. أنا أتمنّى أن أتمكّن مِن الفهم. لقد كتبتُ كلامكَ فيما كنتَ تقوله. كي أتأمّل فيه. وليس لأؤذيكَ. أتصدّقني؟»

 

«أصدّقكَ. وليجعله العليّ يوقد روحكَ»

 

«فليكن كذلك. اسمع. هل الحجارة الّتي يجب أن ترتجّ هي ربّما حجارة قلوبنا؟»

 

«لا أيّها الرابّي. هذه (ويشير إلى أسوار الهيكل بحركة دائريّة). لماذا تَسأَل عن ذلك؟»

 

«لأنّ قلبي ارتعش عندما نُقِلَ إليَّ كلامكَ في الوليمة، وإجاباتكَ للمجرِّبين. كنتُ أظنُّ أنّ هذا الارتعاش هو العلامة...»

 

«لا أيّها الرابّي. إنّه لقليل جدّاً ارتعاش قلبكَ وقلوب قلّة آخرين كي يكون العلامة الّتي لا تترك شكوكاً… حتّى إن أنتَ، بفضل حُكم نادر لمعرفة متواضعة عن ذاتكَ، أَطلَقتَ على قلبكَ عبارة حجر. آه! أيّها الرابّي غَمَالائيل، أحقّاً لا يمكنكَ أن تجعل مِن قلبك المتحجّر مذبحاً مضيئاً مضيافاً لله؟ ليس لصالحي أيّها الرابّي. وإنّما كي تكون استقامتكَ كاملة...»

 

ويسوع ينظر بلطف إلى المعلّم الكهل، الّذي يشدّ على لحيته ويمرّر أصابعه تحت غطاء الرأس ضاغطاً على جبهته ومتمتماً، ويحني الرأس ليقول: «لا أستطيع… لا أستطيع بعد… لكننّي آمُل… أما تزال ستعطي تلك العلامة؟»

 

«سأعطيها.»

 

«وداعاً، أيّها الرابّي يسوع»

 

«فليأت الربّ إليكَ، أيّها الرابّي غَمَالائيل.»

 

يفترقان. يسوع يشير لجماعته ويخرج معهم مِن الهيكل.

 

كَتَبة، فرّيسيّون، كَهَنَة، تلاميذ رابّيين يندفعون مثل نسور كثيرة حول غَمَالائيل، الّذي كان يضع في حزامه العريض الأوراق الّتي كتبها.

 

«إذن؟ ما رأيكَ؟ مجنون؟ لقد أَحسَنتَ صنعاً بكتابة تلك الهذيانات. سوف تفيدنا. أقرّرتَ؟ أأنتَ مقتنع؟ البارحة… اليوم… إنّهما أكثر مِن اللّازم لإقناعكَ» يتكلّمون بصخب، وغَمَالائيل صامت فيما يسوّي حزامه، يُغلِق المحبرة الّتي علّقها به، يعيد لتلميذه الطاولة الصغيرة الّتي استند عليها للكتابة على اللّفافات.

 

«ألا تجيب؟ منذ الأمس لا تتكلّم...» يلحّ أحد زملائه.

 

«إنّني أسمع. لا أنتم. هو. وأحاول أن أتعرّف في كلام الوقت الحالي على الكلمة الّذي خاطبني يوماً. هنا»

 

«وهل قد تنجح في ذلك؟» يقول كُثُر وهم يضحكون.

 

«إنّه كما رعد، الذي يختلف صوته بحسب فيما إذا كان أكثر قرباً أو أكثر بعداً. إنّما هو دوماً دويّ رعد.»

 

«صوت مبهم، إذن» يتهكّم أحدهم.

 

«لا تسخر أيّها اللاويّ. في الرعد قد يكون أيضاً صوت الله، ونكون نحن بغاية الحماقة لظنّنا بأنّها جلبة سُحُب تتمزّق… لا تسخر أنتَ كذلك يا حِلقِيّا، وأنتَ يا سمعان، لئلّا يستحيل الرعد صاعقة ويحيلكم رماداً...»

 

«إذن… أنتَ… تكاد تقول إنّ الجليليّ هو ذاك الطفل الّذي مع هِلِّيل تظنّانه نبيّاً، وأنّ ذاك الطفل وهذا الرجل هما المَسيّا...» يَسأَلون متهكّمون، إنّما بتحفّظ، لأنّ غَمَالائيل يفرض احترامه.

 

«لا أقول شيئاً. أقول بأنّ دويّ الرعد هو على الدوام دويّ الرعد.»

 

«أكثر قُرباً أم أكثر بُعداً؟»

 

«للأسف! إنّ الكلمات تزداد قوّة، بحسب ما يقتضيه العمر. إنّما العشرون عاماً الّتي مضت قد جعلت فِكري منغلقاً أكثر بعشرين مرّة على الكنز الّذي يمتلكه. والصوت ينفذ بأكثر ضعفاً...» ويدع غَمَالائيل رأسه يتدلّى على صدره، مستغرقاً.

 

«هه! هه! هه! إنّكَ تشيخ وتغدو أحمقاً يا غَمَالائيل! إنّكَ تأخذ الأشباح على محمل الجدّ. هه! هه! هه!» يضحكون كلّهم.

 

غَمَالائيل يرفع كتفيه بازدراء. ثمّ يرفع رداءه، الّذي كان يتدلّى مِن كتفيه، يلتفّ به عدّة مرّات بقدر ما هو فضفاض، ويدير الظَّهر للجميع مِن دون أنّ يردّ بكلمة، مُزدَرِياً في صمته.