ج3 - ف59

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

59- (يسوع يلتقي أُمّه في بيت عنيا)

 

23 / 06 / 1945

 

عَبْرَ الطريق الظَّليلة التي تَصِل جبل الزيتون ببيت عنيا -ويمكن القول إنّ السلسلة الخضراء تَصِل حتّى ريف بيت عنيا- يسير يسوع وأتباعه مُسرِعين حتّى مدينة لعازر. ولم يَكَد يَدخُلها حتّى تَمَّ التعرّف عليه، ويَنتَشِر رُسُل مُتطَوِّعون في كلّ الاتجاهات للإعلان عن قدومه. وبفضل ذلك يَهرَع لعازر ومعه مكسيم مِن جهة، وإسحاق وتيمون ويوسف مِن الأخرى، ومِن ثالثة مرثا مع مارسيل التي ترفع وشاحها كي تنحني وتُقبِّل ثوب يسوع، وبعد ذلك مباشرة، تَهرَع مريم التي لحلفى ومريم سالومة اللتين تُبجّلان المعلّم، ثمّ تُقبّلان أبناءهما. وفي تلك الأثناء، يَعْبيص الصغير الذي ما يزال يسوع يمسكه بيده، وقد هَزَّته كلّ تلك الجموع التي تَصِل، يَنظُر بِدَهشَة، ويوحنّا الذي مِن عين دور، مِن جهته، شاعراً نفسه غريباً، يَنسَحِب على حِدة في مؤخِّرة الجمع. وها هي ذي الأُمّ تتقدّم على الدرب المؤدّي إلى بيت سمعان.

 

يَترك يسوع يد يَعْبيص، ويُبعِد الأصدقاء بلطف لِيُسرع إليها. الكلمات المعروفة تَهزّ الجوّ، مُنطَلِقَة كغناء حُبّ مُنفَرِد يسمو على لَغَط الجمهور: «بنيّ!» «ماما!» يتبادلان القُبلات، وفي قُبلَة مريم قَلَق مَن خافَت طويلاً، والآن، في الانعتاق مِن الرعب الذي سَيطَر عليها، تشعر بتعب المجهود الذي بَذَلَته بِقَدر الخطر الذي كابَدَهُ…

 

يُلاطِفها يسوع، الذي يُدرِك كلّ ذلك، ويقول: «علاوة على ملاكي، فقد كان ملاككِ معي، يا أُمّي، كي يَسهر عليَّ. فلم يكن ممكناً أن يصيبني أيّ مكروه.»

 

«فليتمجّد اسم الربّ. ولكنّني لا أعرف كم تألّمتُ!»

 

«كنتُ أودُّ المجيء بأسرع مِن ذلك، ولكنّني سَلَكتُ طريقاً أخرى طاعة لكِ. وكان في ذلك خير، لأنّ أمركِ يا أُمّي، كما هو على الدوام، قد أعطى زهوراً جميلة.»

 

«بل طاعتكَ يا بنيّ!»

 

«هي وصيّتكِ الحكيمة يا أُمّي...» ويتبادلان الابتسامات كعاشِقَين.

 

«ولكن هل يُعقَل أن تكون هذه المرأة أُمّ ذاك الرجل؟ أين هي السنوات الستّ عشرة التي تفصل بين عُمرَيهما؟ نضارة وجمال الوجه والجسد البتوليّ يَجعَلان مِن مريم أختاً لابنها الذي هو في مِلء روعة نموّه البشري.

 

«ألا تسألينني لماذا هذا الإزهار الجميل؟» يَسأَل يسوع المبتسم على الدوام.

 

«أعرف أنّ يسوعي لا يُخفي عنّي شيئاً.»

 

«أُمّي الحبيبة!» ويُقبِّلها مرة أخرى.

 

الناس الذين لَبثوا على مسافة بضعة أمتار يبدون وكأنّهم لَم يُلاحِظوا ما حَدَث. ولكنّني أراهن أنّ لا عين مِن كلّ تلك العيون التي تبدو كأنّها تَنظُر إلى مكان آخر، لَم تَرمُق، ولو بِنَظرَة، ذلك الحَدَث اللطيف.

 

والذي يَنظُر أكثر مِن الجميع هو يَعْبيص. فلقد تَرَكَه يسوع حينما هَرَعَ لمعانقة أُمّه وبقي الصبيّ وحيداً، ذلك أنّه في خِضَمّ الأسئلة والأجوبة لَم يَعُد أحد يعير الصبيّ المسكين انتباهاً... يَنظُر ويَنظُر، ثمّ يَحني رأسه مُصارِعاً الحزن... ولكنّه، في النهاية، لَم يَعُد يتماسَك، وتَنهَمِر دموعه وهو يقول: «ماما! ماما!»

 

يَلتَفِت الجميع، وأوَّلهم يسوع ومريم، وكُلّهم يُحاوِلون الاستدراك، أو يتساءلون مَن يكون ذاك الصبيّ. تَهرَع مريم التي لحلفى، وكذلك بطرس -لقد كانا معاً- وهما يقولان: «لماذا تبكي؟»

 

ولكن قَبل أن يتمكّن يَعْبيص مِن التقاط أنفاسه، وسط ألمه الكبير، ليتكلّم، تَركُض مريم وتأخذه بين ذراعيها قائلة: «نعم يا صغيري، الماما! لا تَعُد تبكي، واعذرني لأنّي لَم أرَكَ قَبلاً. أصدقائي، هو ذا ابني الصغير...» ويتمّ الانتباه إلى أن يسوع قال لها، على مدى بضعة أمتار: «إنّه يتيم صغير أَخَذتُه معي.» ومريم خَمَّنَت الباقي.

 

ما زال الصبيّ يبكي، ولكنّه أقلّ حزناً. وبما أنّ مريم تحمله بين ذراعيها وتُعانِقه، ينتهي به الأمر إلى الابتسام، والدموع ما زالت تغشى وجهه.

 

«هلمَّ لأمسح لكَ كلّ هذه الدموع. ينبغي لكَ ألّا تعود تبكي! عانِقني...»

 

لم يكن يَعْبيص يبتغي غير ذلك، فَبَعد ملاطفات كثيرة مِن قِبَل رِجال مُلتَحين، ها هو سعيد بتقبيل خدّ مريم الناعم.

 

ولكن يسوع يبحث عن يوحنّا الذي مِن عين دور ويَجِده، وها هو يأخذه إلى ركنه على حِدَة. وبينما يُحيّي الرُّسُل مريم، يأتي إليها يسوع ممسكاً بيده يوحنّا الذي مِن عين دور ويقول: «أُمّاه، هو ذا التلميذ الآخر. وقد كان لأمركِ الفضل في الحصول على هذين الابنين.»

 

«بل طاعتكَ يا بنيّ»، تُكرِّر مريم ثمّ تحيّي الرجل قائلة: «السلام لكَ.»

 

الرَّجُل الصَّلب والـمُضطَرِب، الرجل الذي مِن عين دور الذي كان قد تغيَّرَ كثيراً منذ ذلك الصباح الذي قَادَت فيه نزوة الاسخريوطيّ يسوع إلى عين دور، وينتهي به الأمر إلى التخلُّص مِن ماضيه، بينما هو ينحني أمام مريم. أظنُّه هكذا، فوجهه الذي يرتفع، بعد الانحناءة الكبيرة، يبدو صافياً، وقد "حَلَّ فيه السلام" حقّاً.

 

يتوجّه الجميع إلى بيت سمعان: مريم ويَعْبيص بين ذراعيها، يسوع ممسكاً بيده يوحنّا الذي مِن عين دور، وحولهم وخلفهم لعازر ومرثا، الرُّسُل مع مكسيمين وإسحاق ويوسف وتيمون.

 

يَلِجُون البيت حيث يُبَجّل خادم سمعان العجوز، على عتبته، كُلّ مِن يسوع ومعلّمه.

 

«السلام لكَ، يا يوسف، ولهذا البيت» يقول يسوع وهو يَرفَع يده التي كان قد وَضَعَها على رأس الخادم العجوز الأشيب مُبارِكاً.

 

لعازر ومرثا، بعد انطباع الفَرَح الأوّل، حزينان قليلاً، ويسألهما يسوع: «لماذا يا صديقيَّ؟»

 

«لأنّكَ لستَ معنا، ولأنّ الجميع يأتون إليكَ عدا النَّفْس التي كُنّا نودُّ لو تكون لكَ.»

 

«وَطِّدا صبركما ورجاءكما وصلاتكما. ثمّ، أنا معكما. وهذا البيت!... هذا البيت ليس سوى العُشّ الذي منه سيطير ابن الإنسان كلّ يوم، إلى أصدقائه الأحبّاء، القريبين جدّاً في المدى، إنّما لو أخذنا الأمور فائقة الطبيعة بعين الاعتبار، فَهُم قريبون بشكل لا نهائيّ في الحبّ. إنّكم في قلبي وأنا في قلبكم. هل يمكن أن نكون أقرب مِن ذلك ؟ إنّما سنكون معاً هذا المساء. تفضّلا بالجلوس إلى مائدتي.

 

«آه! مسكينة أنا! أتلكَّأ هنا! تعالي يا سالومة، فلدينا عمل نقوم به!» صيحة مريم التي لحلفى تُضحِك الجميع، بينما تَنهَض قريبة يسوع مُسرِعة لتَمضي إلى مَشاغِلها.

 

ولكنّ مرثا تلحق بها: «لا تهتمّي يا مريم بالطعام. سأُصدِر أوامري. أمّا أنتِ فَجَهِّزي الطاولات فقط، وسأُرسِل لكِ المقاعِد اللّازمة. هيّا يا مارسيل. أعود حالاً يا معلّم.»

 

«لقد التقيتُ يوسف الذي مِن الرّامة، يا لعازر، وسيأتي إلى هنا يوم الإثنين مع بعض الأصدقاء.»

 

«آه! إذاً فأنتَ حِصَّتي في ذلك اليوم!»

 

«نعم. إنّه يأتي لنكون معاً، وكذلك لتنظيم احتفال يَعْبيص. يوحنّا، خُذ الصبيّ إلى الشُّرفة. سَيَجِد مجالاً لِلَّعب.»

 

«يوحنّا بن زَبْدي، المطيع على الدوام، يَنهَض في الحال مِن مكانه، وبعد برهة تُسمَع زقزقة الصبيّ وَوَقع قدميه الصغيرتين على الشُّرفة المحيطة بالبيت.

 

«الصبيّ» يَشرَح يسوع لأُمّه وأصدقائه، للنساء اللواتي بينهنّ مرثا التي سارَعَت كيلا تفوتها دقيقة مِن الفَرَح بقرب المعلّم، «إنّه حفيد أحد فلّاحي دوراس. فلقد مَرَرتُ بمرج ابن عامر...»

 

«هل صحيح أنّ الحقول قد خَرِبَت ويَبغي بيعها؟»

 

«كونها خَرِبَة، فهي كذلك. أمّا بالنسبة إلى البيع فلستُ أَعلَم . لقد حَدَّثَني أحد فلّاحي جيوقانا عن ذلك، ولكنّني لا أدري ما إذا كان الأمر مؤكَّداً.»

 

«لو كان يبيع أشتريها عن طيب خاطر لتأمين مَلجَأ لكَ وسط وكر الثعابين ذاك.»

 

«لا أظنّكَ تنجح وقد قَرَّرَ جيوقانا الحصول عليها.»

 

«سوف نرى... ولكن أَكمِل روايتكَ. مَن هُم الفلّاحون؟ فالذين كانوا سابقاً وَزَّعَهم جميعاً.»

 

«نعم. وهؤلاء أتى بهم مِن أراضيه في اليهوديّة، أَقلَّه العجوز جَدّ الصبي. وكان يحتَفِظ به في الغابة، مثل حيوان برّيّ، كي لا يراه دوراس... وقد كان هناك منذ الشتاء...»

 

«آه! الصبيّ المسكين! ولكن لماذا؟» جميع النساء مُضطَرِبات.

 

«لأنّ أباه وأُمّه قد بَقِيا مَدفونَين في الانهيار الذي حَصَلَ قرب عِمّاوس. الجميع: الأب والأُمّ والإخوة. وقد نجا هو مِن الموت لأنّه لم يكن في البيت. وجيء به إلى جدّه. ولكن ماذا كان يمكن لفلّاح مِن فلّاحي دوراس أن يَفعَل؟ أنتَ يا إسحاق قد تحدَّثتَ عنّي كما عن مُخلِّص، حتّى بالنسبة إلى هذه الحالة.»

 

«هل أَسَأتُ التصرُّف يا ربّ؟» يَسأَل إسحاق بتواضع.

 

«بل أَحسَنتَ. ولقد كان الله يريد ذلك. والعجوز أعطاني الصبيّ الذي ينبغي أن يبلغ السنّ هذه الأيّام.»

 

«آه! يا للمسكين! يا لحجمه الصغير وهو في الثانية عشرة! إنّ ابني يوضاس كان يَبلغ ضعف حجمه في مثل هذه السنّ... ويسوع؟ يا للزهرة!» تقول مريم التي لحلفى.

 

وسالومة: «حتّى أولادي كانوا أكثر قوّة!»

 

تُتمتِم مرثا: «حقّاً إنّه هزيل جدّاً! كنتُ أظنُّه لم يتجاوز بَعْدُ العاشرة.»

 

«هيه! الجوع مخيف! لقد قاسى مِن الجوع منذ مولده. والآن... ماذا كان بإمكان العجوز أن يقدِّمه له، إذا كان الجميع هناك يموتون جوعاً؟» يقول بطرس.

 

«نعم، لقد عانى الكثير. ولكنّه طيّب جدّاً وذكيّ. ولقد أَخَذتُهُ مواساة للعجوز وللصغير.»

 

«هل تتبنّاه؟» يَسأَل لعازر.

 

«لا، لا أستطيع.»

 

«إذن، آخذه أنا.»

 

يرى بطرس أمله يتلاشى، ويئنّ بحرقة: «يا ربّ! أكلّ شيء له؟»

 

يبتسم يسوع ويقول: «لعازر، لقد فَعَلتَ الكثير، وأنا ممتنّ لكَ. إنّما هذا الصبيّ، لا يمكنني أن أَعهَد به إليكَ. إنّه "ابننا". وهو لنا جميعاً. فرح الرُّسُل والمعلّم. وفوق ذلك، فهو ينمو هنا في البحبوحة، وأنا أبغي منحه نعمة مِعطفي الـمَلَكيّ: "الفقر النـزيه". ذاك الذي يرتضيه ابن الإنسان لنفسه، للتمكّن مِن مجابهة أعظم المصائب دون الإساءة إلى أحد. ولقد حَصَلتَ أيضاً على هديّة منّي في السابق...»

 

«آه! نعم! الجدّ العجوز وابنته. المرأة نشيطة جدّاً، والعجوز طيّب جدّاً.»

 

«أين هما الآن؟ أَقصِد في أيّ مكان؟»

 

«هنا في بيت عنيا. أتظنّني كنتُ سَأُبعِد البَرَكَة التي بَعَثتَها لي؟ المرأة تعمل في نسج الكتّان. أمّا العجوز، فَبِما أنّه كان مُصِرّاً على العمل، فقد جَعَلتُهُ يهتمّ بخلايا النحل. أمس -أليس كذلك يا أختاه؟- كانت لحيته الطويلة مُذَهَّبة، وأثناء تثوّل النحل (تفريق الخلية إلى خلايا) عَلِقَت جميعها، وكان يُحَدِّثها كأنما إلى بناته. إنّه سعيد.»

 

«أُصَدِّق! بوركتَ!» يقول يسوع.

 

«شكراً يا معلّم. ولكن لا بدّ مِن مصاريف لهذا الصبيّ! فهل تأذن لي على الأقلّ...»

 

«أنا أُفكِّر له بثوب العيد.» يهتف بطرس، ويضحك الجميع لِنـزقه.

 

«حسن جدّاً، ولكنّه سوف يحتاج إلى ثياب أخرى. كن لطيفاً يا سمعان. أنا أيضاً بلا أولاد. فاسمح لمرثا ولي بأن يكون لنا عزاء صُنع ثيابه الصغيرة.»

 

بطرس، عند هذا الإلحاح، يتأثّر على الفور: «الثياب... نعم... إنما ثوب الأربعاء فأنا مَن يتكفَّل به، لقد وَعَدَني المعلّم بذلك، وقال بأن أَذهَب مع الأُمّ لشرائه غداً.» يُفنِّد بطرس كلّ ذلك خوفاً مِن أيّ تغيير يَطرَأ على حسابه هو.

 

يبتسم يسوع ويقول: «نعم يا أُمّاه. أرجوكِ أن تذهبي غداً مع سمعان. وإلّا فسيموت هذا الرجل مِن الضِّيق. ستُقدِّمين له النصيحة بالنسبة إلى الاختيار.»

 

«أنا قلتُ: ثوب أحمر وحزام أخضر. وسيكون ذلك مناسباً جدّاً. أَفضَل مِن هذا اللّون الذي عليه الآن.»

 

«سيكون الأحمر مناسباً جدّاً» تقول مريم بلطف. «فثوب يسوع كذلك كان أحمراً. ولكنّني أقول إنّ على الأحمر يُفَضَّل الحزام الأحمر أو على الأقل توشية حمراء.»

 

«اقترحتُ ذلك أنا لأنّني أرى يهوذا الأسمر رائع المظهر بشرائطه الخضراء على الثوب الأحمر.»

 

«ولكنّها ليست خضراء يا صديقي!» يقول الاسخريوطيّ ضاحكاً.

 

«لا؟ إذاً أيّ لون هو ذاك؟»

 

«هذا اللون يُسمّى "عِرق عَقيق".»

 

«ماذا تريدني أن أَعلَم عنه؟ كان يبدو لي أخضراً. رأيتُهُ كذلك على الأوراق...»

 

تَتَدخَّل مريم الكُلّية القَدَاسة بِرِفق: «سمعان على حقّ. إنّه بالضبط اللون الذي تَتَّخِذه الأوراق عند أولى هطولات الخريف...»

 

«هو ذاك! وبما أن الأوراق خضراء، كنتُ أقول عن الحزام إنّه أخضر.» يستنتج بطرس راضياً. فالعَذبة قد وَضَعَت السلام والفرح حتّى في ذاك الأمر الطَّفيف.

 

«نادوا الصغير.» تَطلب مريم، ويَصِل الصبيّ في الحال مع يوحنّا.

 

«ما اسمكَ؟» تَسأَله مريم وهي تُلاطِفه.

 

«اسمي... كان اسمي يَعْبيص، ولكنّني الآن أَنتَظِر اسماً...»

 

«تنتظره؟»

 

«نعم، يَعْبيص يريد اسماً، يعني أنّني خَلَّصتُهُ. ستجدينه يا أُمّي. اسم محبّة وسلام.»

 

تُفكِّر مريم... ثمّ تقول: «مارغزيام. أنتَ النقطة الصغيرة في بحر الذين خَلَّصَهم يسوع. هل يعجبكَ؟ إن هذا الاسم، عدا السلام والمجد، فهو يُذكِّر كذلك بي.»

 

«إنه جميل جداً.» يقول الصبيّ المسرور للغاية.

 

«ولكن أليس اسماً أنثوياً هو؟» يَسأَل برتلماوس.

 

«بإبدال حرف "م" بحرف "ل" يمكنكم تغييره إلى اسم ذَكَريّ، وذلك عندما يصبح هذا القطرة البشرية بالِغاً. أمّا الآن فإنّه سيحمل الاسم الذي اختارَته له الأُمّ. أليس كذلك؟»

 

«نعم» يقول الصبيّ. ومريم تُلاطِفه.

 

تُنادِيها سِلفَتَها: «إنّه مِن الصوف الجيّد.» وتَلمس معطف يَعْبيص الصغير. «ولكنّ لونه! ما قولكِ؟ سأصبغه باللون الأحمر القاتم. وسيكون ذلك حسناً.»

 

«مساء غد نفعل ذلك. فغداً سيكون له ثوبه الجديد. أمّا الآن فلا يمكننا جَعله يخلعه.»

 

وتقول مرثا للصبي: «هل تأتي معي يا صغيري؟ سأصطحبكَ إلى مكان قريب مِن هنا لرؤية أشياء كثيرة. ثمّ نعود إلى هنا...»

 

لا يَرفض يَعْبيص، لا يَرفض شيئاً البتّة... ولكنّه يبدو مُتخوِّفاً قليلاً مِن ذهابه مع امرأة شبه مجهولة. فيقول بِخَجَل ولُطف: «هل يمكن ليوحنّا أن يأتي معي؟»

 

«بكل تأكيد!...»

 

ويَمضُون، وأثناء غيابهم، يستمرّ النقاش بين مختلف المجموعات. روايات، تعليقات، تَنَهُّدات مِن قسوة الناس. يروي إسحاق ما استطاع معرفته عن المعمدان. يقول البعض إنّه في مكرونة، وآخرون في طبريّا. ولَم يَعُد التلاميذ بعد.

 

«ولكن، ألم يكونوا قد تَبِعوه؟»

 

«بلى. إنّما قرب دوكو، والذين اعتَقَلوه اجتازوا النهر مع سجينهم، ولم يُعرَف ما إذا كانوا قد صَعَدوا صوب البحيرة أو هَبَطوا إلى مكرونة. يوحنّا ومتّياس وشمعون تَفَرَّقوا للاستعلام، ولن يتركوه أبداً، بكلّ تأكيد.»

 

«وأنتَ يا إسحاق، لن تترك أبداً هذا التلميذ الجديد. في هذه الفترة يبقى معي. أريده أن يُمضي الفصح معي.»

 

«أَمَّا أنا فأُمضي الفصح في أورشليم، في بيت يُوَنّا. لقد رأتني وأعطتني غرفة لي ولرفاقي. يأتون جميعاً هذه السنة. وسنكون مع يوناثان.»

 

«حتّى أولئك الذين مِن لبنان؟»

 

«هُم كذلك. إنّما تلاميذ يوحنّا قد لا يتمكّنون مِن المجيء.»

 

«الذين لجيوقانا سيأتون، هل تَعلَم؟»

 

«حقّاً؟ سأكون عند الباب، قُربَ الكَهَنَة الذين يُقدِّمون الذبائح. سأراهم وأصطحبهم معي.»

 

«انتَظِرهم في الساعة الأخيرة. فليس لديهم سوى فترة محدودة. إنّما معهم الحَمَل.»

 

«وأنا كذلك. رائع. فإنّ لعازر هو مَن أعطانيه. سنُضحّي بهذا وذاك، وسيفيدهم ذلك مِن أجل العودة.»

 

تَدخُل مرثا مع يوحنّا والصبيّ الذي يلبس ثوباً كتّانياً ابيض اللون مع ثوب خارجيّ أحمر. ويحمل على ذراعه معطفاً صغيراً أحمر اللون كذلك.

 

«هل تتذكَّرهم يا لعازر؟ أترى أنّ كلّ شيء يَنفَع؟»

 

ويتبادل الأخ والأخت الابتسامات.

 

يقول يسوع: «أشكركِ يا مرثا.»

 

«آه! ربّي! لديَّ هَوَس بالاحتفاظ بكلّ شيء. ولقد وَرثتُه عن أُمّي. لديَّ أيضاً أثواب كثيرة مِن أخي. هي عزيزة على قلبي، لأنّ أُمّي لَمَسَتها. ومِن وقت لآخر آخُذ منها قطعة لأحد الأولاد. والآن سأعطيها لمارغزيام. إنّها طويلة قليلاً، إنّما يمكن تقصيرها. عندما بَلَغَ لعازر السنّ لَم يَعُد يرضى بها... نزوة جميلة، نزوة طفل حقيقيّة... وقد أَذعَنَت أُمّي له، لأنّها كانت تَعبد لِعَازرها.»

 

تُلاطِفه مرثا بحبّ، ويأخذ لعازر يدها الجميلة ويُقبِّلها ويقول: «وأنتِ لا؟» ويتبادلان الابتسامات .

 

«إنّه تدبير ربّانيّ.» يبدي البعض ملاحظته.

 

«نعم، إنّ نزوتي قد فَعَلَت خيراً. وقد يُغفَر لي لهذا السبب.»

 

العشاء جاهز. كُلّ يَأخُذ مكانه.

 

...هَبَطَ اللّيل، عند ذلك يتمكّن يسوع مِن التحدُّث إلى أُمّه بسلام. صَعَدا إلى الشُّرفة وجَلَسا جنباً إلى جنب، كُلّ في كُرسيّ، واليد في اليد، يَتحادَثان ويُنصِتان الواحد إلى الآخر. يروي يسوع أوّلاً ما حَدَثَ، ثمّ تقول مريم: «يا بُنيّ، بعد رحيلكَ، حالاً بعد الرحيل، أتتني امرأة... كانت تبحث عنكَ. مصيبة هائلة وفِداء عظيم. ولكنّ هذه الإنسانة في حاجة إلى غفرانكَ لِتَحتَفِظ بعزمها بشكل جيّد. ولقد عَهدتُ بها إلى سُوسَنّة قائلة لها إنّها امرأة كنتَ قد شَفَيتَها. هذا صحيح. كنتُ سأحتفظ بها معي لو لم يكن بيتنا آنذاك بحراً يُبحِر فيه الجميع... وكثيرون منهم نواياهم سيّئة. والمرأة تبدي اشمئزازاً مِن العالم. هل تريد معرفتها؟»

 

«إنّها نَفْس. ولكن قولي لي اسمها لأتمكّن مِن استقبالها دون الوقوع في الخطأ.»

 

«إنّها أغليّا الرومانيّة، إيمائيّة وخاطِئة. وقد بَدَأتَ تُخلِّصها في حبرون (الخليل)، وهي بَحَثَت عنكَ وَوَجَدَتكَ في منطقة المياه الحلوة. وكم قاسَت وتألَّمَت بسبب نزاهتها الـمُستعادَة!... لقد رَوَت لي كلّ شيء... يا للفظاعة!...»

 

«خَطيئَتها؟»

 

«هي و... أقول بالأكثر: فظاعة العالم. آه! يا وَلَدي! لا تَثِق بفرّيسيّي كفرناحوم! لقد أرادوا استخدام تلك المسكينة في إيذائكَ. حتّى هي...»

 

«أَعلَم ذلك يا أُمّي... أين هي أغليّا؟»

 

«سوف تَصِل مع سُوسَنّة قبل الفصح.»

 

«حسناً، سأتحدَّث إليها. سأكون هنا يوميّاً مساءً ما عدا عَشيّة الفصح، فَسَأُكرِّسها للعائلة. سأنتَظِرها. فما عليكِ سوى الاحتفاظ بها إن هي أتت. إنَّه فِداء عظيم، كما قلتِ. وإن يكن آنيّاً! الحقّ أقول لكِ إنّ بُذوري تتجذّر في قلوب قليلة بالقوّة التي فَعَلَت ذلك على هذه الأرض التعيسة. ومنذ ذلك الحين ساعَدَ أندراوس على نمائها حتّى تَشَكُّلها الكامل.»

 

«لقد قالَت لي ذلك.»

 

«أُمّاه، ماذا وَجَدتِ حول ذاك الحطام؟»

 

«اشمئزازاً وفَرَحاً. كانت تبدو لي وكأنّها على شفا هاوية الجحيم، ولكن في الوقت ذاته كنتُ أُحِسُّ نفسي محمولة في اللازورد. بما أنّكَ الله يا يسوعي، فمتى تُنجِز تلك المعجزات؟»

 

يَمكُثان صامِتَين تحت نور النجوم الباهر، وفي بياض قمر يقترب مِن اكتماله، صامِتَين، مُحِبَّين، وآخِذَين حصّتهما مِن الاستراحة الواحد في حبّ الآخر.