ج6 - ف111
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
111- (الممسوس)
29 / 09 / 1944
يسوع وأتباعه ما زالوا عبر الأرياف. هنا موسم حصاد القمح قد انتهى والحقول تُظهِر حشفاتها (أصل القمح الباقي بعد الحصاد) المحترقة. يَسلك يسوع درباً ظليلاً ويتحدّث إلى الرجال الذين لحقوا بجماعة الرُّسُل.
«نعم» يقول أحدهم «إنّه أكثر مِن مجنون، وأنتَ تعلم، إنّه هَلَع الجميع، وبشكل خاص النساء، فهو يتبعهنّ بنكات فاحشة. والويل لو أمسَكَ بهنّ!»
«لا أحد يعلم مكان تواجده» يقول آخر «على الجبال، في الغابات، في أثلام المروج... يبرز بغتة مثل ثعبان... النساء يجزعن منه بشدّة، إحداهنّ، شابّة، وهي عائدة مِن النهر، وجدت نفسها وقد أمسَكَ بها الهائج فانتابتها الحمّى الشديدة لأيّام عديدة.»
«ذاك النهار، ذَهَبَ صهري إلى المكان الذي هيّأ فيه قبراً له ولعائلته، وكونه كان قد فقد حماه، كان يُجري اللازم مِن أجل الدفن. ولكنّه وَجَدَ نفسه يهرب إذ كان في داخله الممسوس، عارياً ويصيح كما على الدوام، وكان يهدّده بالضرب بالحجارة... لقد تبعه حتّى القرية تقريباً ومِن ثمّ عاد إلى القبر، فدَفَنَ الميت في قبري.»
«وفي المرّة التي تذكَّرَ كيف أَمسَكَ به بقوّة دانيال وطوبيّا، وأعاداه إلى بيته مربوطاً؟ انتَظَرَهما، نصف مطمور في القصب ووحل النهر، وعندما صَعَدا إلى الـمَركَب للصيد أو للعبور، لستُ أعلم بالتحديد، بقوّته الشيطانيّة رَفَعَ الـمَركَب وقَلَبَه. نَجَيا بمعجزة، إنّما فُقِد كلّ ما كان في الـمَركَب الذي أُخرِج مكسور الأرينة (الجسر في قعر الـمَركَب) والمجاذيف محطّمة.»
«ولكن ألم تعرضوه على الكَهَنَة؟»
«نعم. أخذناه مربوطاً مثل حُزمة حتّى أورشليم... رحلة! رحلة!... كنتُ فيها وأقول لكَ لا حاجة للنزول إلى الجحيم لمعرفة ما يجري فيها وما يُقال. إنّما ذلك لم يُجدِ نفعاً...»
«كما في السابق؟»
«أسوأ!»
«ومع ذلك... الكاهن!...»
«ولكن ما الذي تريده؟... يجب أن...»
«ماذا؟ أكمل...»
صمت.
«تكلّم إذن. لا تخف، لن ألومكَ.»
«هاكَ... كنتُ أقول... ولكنّني لا أريد أن أرتكب خطيئة... كنتُ أقول... بأنّ... نعم... كان يمكن للكاهن أن ينجح لو... لو...»
«لو كان قدّيساً، هذا ما تريد قوله، ولا تجرؤ على قوله. أنا أقول لكَ: تحاشَ الإدانة. إنّما ما تقوله صحيح، بكلّ ألم هو صحيح!...»
يصمت يسوع ويتنهّد. قليل مِن الصمت وهو منزعج.
ثمّ يتجرّأ أحدهم مِن جديد. «لو التقينا به، فهل تُشفيه؟ هل تُحرِّر هذه البقعة؟»
«هل تأمل أنّني أستطيع ذلك؟ لماذا؟»
«لأنّكَ قدّيس.»
«الله القدّيس.»
«وأنتَ ابنه.»
«كيف يمكنكَ معرفة ذلكَ؟»
«أيه! يقال ذلك، ثمّ نحن أبناء النهر ونعلم ما الذي فعلتَه، منذ أقمار ثلاثة (ثلاثة أشهر). فَمَن يوقِف فيضاناً لو لم يكن ابن الله؟»
«وموسى؟ ويوشع؟»
«كانا يتصرّفان باسم الله ومِن أجل مجده، واستطاعا ذلك لأنّهما كانا قدّيسَين. وأنتَ أكثر قداسة منهما.»
«هل ستفعل ذلك، يا معلّم؟»
«سأفعل ذلك إذا ما التقينا به.»
يُتابِعون المسير. الحرارة التي توالي ارتفاعها تقودهم إلى ترك الطريق والبحث عن استراحة في حزمة مِن الأشجار متواجدة على طول النهر، الذي لم يعد مضطرباً كما كان في الفيضان. إنّما رغم كونه مُترعاً بالمياه، فالمياه ساكنة وزرقاء ومتلألئة تحت الشمس.
يتوسّع الدرب وتُلاحَظ مجموعة مِن البيوت البيضاء. مِن المفترض الدنوّ مِن إحدى القرى. على الأطراف إنشاءات صغيرة بيضاء جدّاً وبفتحة واحدة على أحد الجدران؛ قِسم منها مفتوح، والأُخريات مُغلَقات بإحكام. ولا يوجد أحد حولها. هي مبعثرة على أرض مجدبة وبائرة وهي تبدو مهملة. ليس فيها سوى أعشاب سيّئة وحصى.
«اذهب! اذهب! تراجع وإلاّ قتلتكَ!»
«ها هو الممسوس الذي رآنا! أنا، أذهب.»
«وأنا كذلك.»
«وأنا أتبعكما.»
«لا تخشوا شيئاً. امكثوا وانظروا.»
يُظهِر يسوع الكثير مِن التأكيد جَعَلَ الرجال... الشجعان يطيعون. ومع ذلك، تراجَعوا خلف يسوع. كذلك التلاميذ مَكَثوا في الخلف. يتقدّم يسوع بمفرده وبمهابة كما لو أنّه لم يكن يرى أو يسمع شيئاً.
«اذهب!» الصرخة مفتِّتة للقلب؛ بالمشاركة مع زعيق وَدَويّ. يبدو أنّ إمكانيّة خروجها مِن حنجرة آدميّة مستحيلة. «اذهب! إلى الخلف! سأقتلكَ! لماذا تلاحقني؟ لا أريد رؤيتكَ!» ويقفز الممسوس، عارياً بالكامل، أسمر، مع لحية وشعر طوال ومشعّثين. الخصلات السوداء والكثيفة ممتلئة بالأوراق الجافّة والغبار، تَنزل على عينيه الشزرتين، المحتقنتين بالدم، وتدوران في محجريهما، حتّى على الفم المفتوح في صراخه وفي قهقهة ضحكاته المجنونة، التي تبدو وكأنّها كابوس، على الفم الذي يزبد ويسيل منه الدم، إذ إنّ الهائج يضربه بحجر حادّ ويقول: «لماذا لا أستطيع قتلكَ؟ مَن يربط قوّتي؟ أنتَ؟ أنتَ؟»
يَنظُر إليه يسوع ويتقدّم.
يتدحرج المجنون على الأرض، ويعضّ نفسه، يزبد أكثر فأكثر، يضرب نفسه بحجره، ينتصب مِن جديد، يُشير بسبابته صوب يسوع ويحدّق فيه وهو مضطرب ويقول: «اسمع! اسمع! الذي يأتي هو...»
«اخرس يا شيطان الرجل! آمركَ بذلك.»
«لا! لا! لا! لا أَخرَس، لا، لن أَخرَس. ما الذي بيننا وبينكَ؟ لماذا لا تعاملنا معاملة حسنة؟ ألم يكفكَ أنّكَ أقصيتَنا في مملكة الجحيم؟ ألم يكفكَ أنّكَ أتيتَ لتنتزع منّا الإنسان؟ لماذا تدحرنا إلى هناك؟ دعنا نسكن في فرائسنا! أنتَ، العظيم والقادر، مُرّ واستولِ، إن استطعت، إنّما دعنا نستمتع ونُضرّ. مِن أجل هذا نحن موجودون. آه! أيّها الـمَلـ... لا! لا يمكنني قول ذلك! لا تجعلني أقولها! لا تجعلني أقولها! لا يمكنني لعنكَ! أنا أكرهكَ! أنا أضطهدكَ! أنتظركَ لأعذّبكَ! أكرهكَ، أنتَ وما ينجم عنكَ، وأكره روحكَ. الحبّ، أكرهه، أنا الذي هو الكره! أريد أن ألعنكَ! أريد أن أقتلكَ! ولكنّني لا أستطيع. لا أستطيع! لا أستطيع أيضاً! ولكنّني أنتظركَ، أيّها المسيح، أنتظركَ. سوف أراكَ ميتاً! آه! يا لها مِن ساعة فَرَح! لا! ليس مِن الفرح! أنتَ، ميت! لا، ليس كونكَ ميتاً. وأنا مهزوم! مهزوم! مهزوم على الدوام!... آه!!!...» النوبة في ذروتها.
يتقدّم يسوع صوب الممسوس مسيطراً عليه بإشعاع عينيه المغناطيسيّتين. يسوع وحده، الآن. الرُّسُل والشعب مكثوا في الخلف؛ الشعب خلف الرُّسُل والرُّسُل على بعد ثلاثين متراً على الأقلّ مِن يسوع.
سكّان مِن القرية، التي تبدو مكتظّة بالسكّان، والتي تبدو لي ثريّة كذلك، خَرَجوا، وقد جذبهم الصراخ، ينظرون إلى المشهد، مستعدّين هم أيضاً للهروب كالمجموعة الأخرى. هذا هو ترتيب المشهد: في المركز الممسوس ويسوع، يبعد الواحد عن الآخر بضعة أمتار؛ خلف يسوع، إلى اليسار، الرُّسُل وأناس مِن الشعب، إلى اليمين خلف الممسوس، السكّان.
يسوع، بعد أن أَمَرَه بالصمت، لم يعد يتكلّم. يُحدّق في الممسوس. إنّما الآن يتوقّف يسوع ويرفع ذراعيه، يمدّهما صوب الممسوس، وهو على وشك التكلّم. الصراخ يصبح بالحقيقة جهنّميّاً. يتلوّى الممسوس، يقفز إلى اليمين، إلى اليسار وفي الهواء. يبدو وكأنّه يبغي الهرب أو الاندفاع، ولكنّه لا يتمكّن. لقد تسمَّرَ هنا، وخارج تَلَوّيه المستمرّ، لا شيء مِن الحركة متاح له.
حينما يمدّ يسوع الذراعين، ويداه ممدودتان كما لو أنّه يُقسِم اليمين، يَصرخ المجنون بشدّة، وبعد أن يقوم بالكثير مِن الدعوات بالشرّ، الضحك والشتائم، يَشرع بالبكاء والتوسُّل. «إلى الجحيم، لا! لا، ليس إلى الجحيم! لا تُرسِلني! حياتي رهيبة حتّى هنا، في سجن الإنسان هذا، ذلك أنّني أودُّ أن أجوب العالم وأُفتّت المخلوقات. ولكن هنا، هنا، هنا!... لا! لا! لا! دعني خارجاً!...»
«اخرج منه. آمركَ بذلك!...»
«لا!»
«اخرج!»
«لا!»
«اخرج!»
«لا!»
«باسم الله الحقّ، اخرج!»
«آه! لماذا تَهزِمني؟ ولكن لا، لا أَخرُج. أنتَ المسيح، ابن الله، أمّا أنا فإنّني...»
«مَن تكون؟»
«أنا بعلزبول، أنا بعلزبول، سيّد العالم، ولا أَخضَع. أنا أتحدّاكَ، أيّها المسيح!»
يَقِف الممسوس فجأة عن الحركة، متوتّراً، يكاد يكون متجمّداً، ويُحدّق بيسوع بعينيه الفوسفوريّتين، بالكاد يحرّك شفتيه ليتلفّظ بكلمات غير مفهومة، اليدان على الكتفين، والكوعان مثنيّان، ويقوم بحركات خفيفة.
يتوقّف يسوع أيضاً؛ الآن، الذراعان متصالبتان على صدره، يُدقِّق فيه النَّظَر، يسوع كذلك بالكاد يحرّك شفتيه، ولكنّني لا أسمع كلاماً.
يَنتَظِر الحضور، ولكنّهم ليسوا جميعاً على الرأي ذاته:
«لا يتمكّن مِن ذلك!»
«بلى، المسيح يتمكّن مِن ذلك الآن.»
«لا، هو الآخر الذي يتفوّق.»
«نعم!»
«لا!»
يرخي يسوع ذراعيه، وجهه بريق آمر. صوته رعد. «اخرج. للمرّة الأخيرة، اخرج، أيّها الشيطان! هو أنا الذي آمُر!»
«آآآآآه!» (إنّه الصراخ الطويل لتَمَزُّق لا نهائيّ. أكثر مِن الذي لامرئ يُختَرَق بالسيف ببطء.) ثمّ يتحوّل الصراخ إلى كلام: «أَخرُج، نعم، لقد هزمتَني. ولكنّني سوف أنتقم. أنتَ تطردني، ولكنّ شيطاناً هو إلى جانبكَ وسوف أدخل فيه لأمتلكه، سوف أنقضُّ عليه بكل ما لديَّ مِن سلطان. ولن ينتزعه منّي أمركَ. في كلّ زمان، في كلّ مكان، سأُنجِب لي أبناء، أنا، صانع الشرّ. وكما أنّ الله وُلِدَ مِن ذاته، ها أنا أُولَد مِن ذاتي. أَحبَل في قلب الإنسان، وهو يلدني، يلد شيطاناً جديداً يكون هو نفسه، وأنا اغتبط بأن تكون لي هكذا ذريّة! أنتَ والناس، سوف تجدون هذه الخلائق التي تخصّني، الذين هم أنا ذاتي آخرين. سوف أذهب، أيّها المسيح، كي أستحوذ على مملكتي الجديدة، كما تريد، وأترك لكَ كتلة الأشلاء هذه التي أسأتُ معاملتها. ومقابل الذي تركتُه لكَ، الصَّدَقة التي يقدّمها الشيطان لكَ، أنتَ الله، سوف أتّخذ لي ألفاً وعشرة آلاف الآن، وسوف تجدهم عندما تُصبِح أنتَ أشلاء جسد مقرفة معروضة لسخرية الكلاب. في توالي الأزمنة سوف أتّخذ عشرة آلاف ومائة ألف لأجعل منهم أداتي وعذابكَ. أتظنّ أنّكَ تهزمني برفع علامتكَ؟ أتباعي سيدكّونها وسأنتصر... آه! لا، لن أنتصر عليكَ! ولكنّني سوف أعذّبكَ بذاتكَ وبأتباعكَ!...»
يُسمَع قصف وكأنّه ضربة صاعقة، إنّما لا لمعان برق ولا دويّ رعد، فقط انفجار جاف وممزِّق، وبينما يسقط الممسوس وكأنّه ميت على الأرض ويبقى هكذا، وعلى مقربة مِن التلاميذ يَسقُط جذع ضخم على الأرض، كما لو أنّه كان قد نُشِر بمنشار صاعق على ارتفاع متر واحد مِن الأرض. كان للمجموعة الرسوليّة الوقت اللازم بالضبط للابتعاد، ثمّ يفرّ الشعب في كلّ اتّجاه.
أمّا يسوع، الذي انحنى على الرجل المرميّ على الأرض وأَمسَكَه مِن يده، يلتفت، ويبقى هكذا منحنياً مع بقاء يد الرجل المحرّرة في يده، ويقول: «تعالوا. لا تخشوا شيئاً!» يدنو الناس، وَجِلِين. «لقد شفي. هاتوا لباساً.» فيذهب أحدهم وهو يجري.
يستعيد الرجل وعيه على مهل. يفتح عينيه ليتلاقى نظره بنظرة يسوع. يجلس. يمسح بيده الحرّة العرق المتصبّب والدم واللعاب، يردّ شعره إلى الخلف، يَنظُر إلى نفسه، وإذ يرى نفسه عارياً أمام كثير مِن الناس يَخجَل مِن نفسه. ينكمش على ذاته ويَسأَل: «ماذا هناك؟ مَن تكون؟ لماذا أنا هنا، عرياناً؟»
«لا شيء، يا صديقي. الآن سوف يأتونكَ بثياب وستعود إلى بيتكَ.»
«مِن أين أتيتُ أنا؟ وأنتَ مِن أين أتيتَ؟» يتكلّم بصوتِ مريضٍ مُتعَب.
«أنا، أتيتُ مِن بحر الجليل.»
«وكيف تعرّفتَ عليَّ؟ لماذا أَسعَفتَني؟ ما هو اسمكَ؟»
يَصِل بعض الرجال ومعهم ثوب قَدَّموه للذي شفي بمعجزة، وتصل امرأة عجوز تبكي وتشدّ الرجل الذي شفي إلى صدرها.
«بنيّ!»
«أُمّاه، لماذا تركتِني زمناً طويلاً؟»
تبكي العجوز المسكينة بأكثر حدّة، تعانقه وتلاطفه. قد كانت لتقول له كلاماً آخر، ولكنّ يسوع يُهيمِن عليها بنظرته ويوحي لها بكلمات أخرى أكثر حميميّة: «كنتَ مريضاً جدّاً، يا بنيّ! مَجِّد الله الذي شفاكَ ومسيحه الذي أجرى ذلك باسم الله.»
«هو؟ ما اسمه؟»
«يسوع مِن الجليل، ولكنّ اسمه هو الصّلاح. قَبِّل يديه، يا بنيّ، قُل له أن يسامحكَ على ما فعلتَه أو قلتَه... حتماً تكلّمتَ في...»
«نعم لقد تكلّم في الحمّى التي أصابته» يقول يسوع ليوقف الكلام قليل الفطنة. «ولكنّه لم يكن هو الذي يتكلّم، وأنا لستُ صارماً معه. كن صالحاً، الآن. كن عفيفاً.» يُشدّد يسوع على هذه الكلمات. يخفض الرجل رأسه، خَجِلاً.
إلاّ أنّ ما وَفَّره له يسوع، لم يوفّره له السكّان الأثرياء الذين تقدّموا الآن. بينهم الفرّيسيّون الذين يعجز عنهم الوصف.
«هذا نجح معكَ تماماً! مِن حسن حظّكَ أنّكَ التقيتَ به هو، سيّد الشياطين.»
«أنا، ممسوس؟» الرجل مُروَّع.
استشاطت العجوز غضباً: «اللعنة! يا عديمي الرحمة، والاحترام! ثعابين ممقوتة ومتوحّشة! وأنتَ كذلك، مسؤول المعبد عديم النّفع. القدّيس سيّد الشياطين!»
«ومَن تريدين أن يكون له سلطان عليهم، إن لم يكن مَلِكهم وأباهم؟»
«آه! يا منتهكي القدسيّات! أيّها المجدّفون! فلتكونوا مـ...»
«اصمتي، يا امرأة. كوني سعيدة مع ابنكِ. لا لعنات. فهذا لا يسبّب لي لا غمّاً ولا ضيقاً. امضوا جميعكم بسلام. للصالحين بركتي. هيّا بنا، يا أصدقائي.»
«هل يمكنني أن أتبعكَ؟» الرجل الذي شُفي هو الذي يتكلّم.
«لا، امكث هنا. كُن شاهداً لي وفَرَحاً لأُمّكَ. اذهب!»
ووسط صيحات التصفيق، وهمسات الاحتقار، يجتاز يسوع المدينة الصغيرة جزئيّاً ويعود إلى ظلّ الأشجار على طول النهر. يزحمه الرُّسُل.
يَسأَل بطرس: «لماذا، يا معلّم، أبدى الروح النجس هذا القدر مِن المقاومة؟»
«لأنّه كان روحاً ناجزاً.»
«ماذا تعني هذه الكلمة؟»
«أَنصِتوا إليَّ. هناك مَن يستسلم للشيطان بفتح باب على رذيلة أساسيّة. وهناك مَن يستسلمون مرّتين، ثلاثاً، وسبع مرّات. وعندما يَفتح أحدهم روحه للرذائل السبع، حينئذ يدخل فيه روح ناجز. إنّه الشيطان الذي يَدخُل، الأمير الأسود.»
«هذا الرجل، وهو ما يزال شاباً، كيف يمكن أن يستحوذ عليه الشيطان؟»
«آه! يا أصدقائي! هل تعلمون بأيّ مَسلَك يأتي الشيطان؟ ثلاثة دروب هي المطروقة عادة، ومنها واحد لا يغيب أبداً. ثلاثة: الشهوة، المال وكبرياء الروح. والشهوة هي التي لا تغيب أبداً. ساعية باقي الشهوات، تمرّ وهي تبذر سمّها، إنّها تَفَتُّح أزهار شيطانيّة. مِن أجل هذا أقول لكم: "كونوا أسياد أجسادكم". ولتكن هذه السيادة بداية لكلّ سيادة أخرى، كما أنّ هذه العبوديّة هي البداية لكلّ عبوديّة أخرى. عبوديّة الفسق تصبح لصّاً وإخلالاً بالوظيفة، وَحشاً، قاتلاً في خدمة معلّمته. التعطّش للسُّلطة هو كذلك يمتّ بصلة مع الجسد. ألا يبدو لكم ذلك؟ هو كذلك. تأمّلوا وسترون إذا ما كنتُ مخطئاً. فمِن خلال الجسد دَخَلَ الشيطان في الإنسان، ويَفرَح إذا ما استطاع ذلك، فهو يدخل مِن خلال الجسد. هو، الواحد والسبعة أضعاف، مع تزايد جوقات الشياطين السفليّة.»
«مريم المجدليّة، كنتَ تقول عنها بأن كان فيها سبعة شياطين، وبالتأكيد كانوا شياطين الفجور السبعة، ومع ذلك حَرَّرتَها بسهولة فائقة.»
«نعم، يا يهوذا، هذا صحيح.»
«وإذن؟»
«وإذن، أنتَ تقول، نظريّتي لا تقوم على أساس. لا يا صديقي. المرأة كانت تريد، آنذاك، التحرّر مِن هذا الاستحواذ. كانت تريد. الإرادة هي كلّ شيء.»
«لماذا، يا معلّم، نرى أنّ نساء كثيرات مستولى عليهنّ مِن الشيطان، ويمكن القول، مِن هذا الشيطان؟»
«أنتَ ترى، يا متّى، المرأة لا تشبه الرجل في تكوينها وفي تفاعلها مع الخطيئة الأصليّة. للرجل أهداف أخرى في رغباته أكثر أو أقلّ صلاحاً. للمرأة هدف واحد: الحبّ. للرجل تكوين آخر، للمرأة هو: مرهف، وأيضاً أَكمَل لأنّها مهيّأة للإنجاب. وأنتَ تعلم أنّ كلّ كمال ينجم عنه زيادة في الأحاسيس. السمع الكامل يَسمَع ما لا تسمعه أذن أقلّ كمالاً وتُسرّ به. كذلك هو الأمر بالنسبة إلى العين، وكذلك إلى الفم والأنف.
كان مِن المفروض أن تكون المرأة لُطف الله على الأرض، كان مِن المفروض أن تكون الحبّ، تَجَسُّد تلك النار التي تُحَفِّز الذي هو، تجلّي هذا الحبّ، والشاهد عليه. وبالتالي فقد وهبها الله روحاً أكثر سموّاً في المشاعر كي، لوجوب أن تكون يوماً أُمّاً، تعرف وتستطيع أن تفتح عيون قلوب أبنائها على حبّ الله ومَن يشبهونهم، كما أنّ الرجل يفتح عيون عقل أبنائه على الفهم والتصرّف. فَكِّر بما أوصى الله ذاته: "لنصنعنّ لآدم رفيقة". الله-الصلاح لم يكن بإمكانه سوى إرادة صنع رفيقة صالحة لآدم. والصالح، يحبّ. كان على رفيقة آدم إذن أن تكون أهلاً كفاية للحبّ لتنتهي بجعل يوم الرجل مغبوطاً في الجنينة السعيدة. كان مِن المفروض أن تكون أهلاً كفاية لتكون ثانية، مُساعِدة، والتي تحلّ محلّ الله في حبّ الرجل، خليقته، بشكل أنّه حتّى في الأوقات التي لم يكن الله يتجلّى لخليقته بصوته صوت الحبّ، فلا يشعر الرجل بالتعاسة لغياب الحبّ.
كان الشيطان على علم بهذا الكمال. الشيطان يعرف أموراً كثيرة. فهو الذي يتكلّم بشفاه التنانين قائلاً أكاذيب ممزوجة بحقائق. وهذه الحقائق التي يكرهها هو لأنّه الكذب، يتفوّه بها فقط -احفظوا ذلك جيّداً، أنتم جميعاً، وأنتم الذين سوف تأتون لاحقاً- لكي يغويكم بالوهم بأنّه ليس الظلام الذي يتكلّم، بل النور. الشيطان، الماكر، المراوغ والوحشيّ، قد وَلَجَ في هذا الكمال وعضّه وأفرغ فيه سمّه. كمال المرأة في الحبّ أصبح بذلك أداة للشيطان للسيطرة على المرأة والرجل، ونَشر الشرّ...»
«ولكن أُمّهاتنا، إذن؟»
«يوحنّا، هل تخشى عليهنّ؟ ليست كلّ النساء أدوات للشيطان. كونهنّ كاملات في الحسّ، فهنّ على الدوام متجاوزات للحدّ في الفعل: ملائكة إن أردن الانتماء لله، شياطين إذا أردن الانتماء للشيطان. النساء القدّيسات -وأُمّكَ واحدة منهنّ- يردن الانتماء لله، وهنّ ملائكة.»
«ألا يبدو لكَ، يا معلّم، أنّ عقاب المرأة غير عادل؟ فالرجل كذلك أخطأ.»
«والمكافأة إذن؟ قيل بأنّ بالمرأة سوف يعود الخير إلى العالم وتتمّ الغَلَبَة على الشيطان.»
«لا تحكموا أبداً على أعمال الله. هذا أوّلاً. ولكن فكّروا أنّه، كما دخل الشرّ بالمرأة، فمِن العدل أن يدخل الخير بالمرأة إلى العالم. المقصود تبديد صفحة كتبها الشيطان، وأسلحة المرأة هي التي ستفعل ذلك. وبما أنّ الشيطان سيرسل صيحاته أبديّاً، فها هو صوت المرأة سيصدح ليحجبها.»
«متى؟»
«الحقّ أقول لكم إنّ صوتها قد نزل مِن السماوات حيث كانت تُنشِد الهللويا أبديّاً.»
«هل ستكون أعظم مِن يهوديت؟»
«أعظم مِن كلّ النساء.»
«ماذا ستفعل؟ ماذا ستفعل إذن؟»
«سوف تقوِّض حوّاء في خطيئتها الثلاثيّة. طاعة مطلقة. طهارة مطلقة. تواضع مطلق. وبموجب هذا ستقوم مَلِكَة ومُنتَصِرة ظافِرة...»
«ولكن، أليست أُمّكَ، يا يسوع، هي الأعظم لكونها قد وَلَدَتكَ؟»
«العظيم هو مَن يعمل مشيئة الله، ولهذا مريم عظيمة. كلّ استحقاق آخر يأتي مِن الله، أمّا هذا فهو يخصّه بالكامل، ولتكن هي مباركة.»
وينتهي كلّ شيء.
يقول يسوع:
«لقد رأيتِ أحد "الممسوسين" مِن الشيطان. هناك إجابات كثيرة في كلامي. ليس الكثير مِن أجلكِ، بل مِن أجل الآخرين. هل ستخدم؟ لا. لن تخدم الذين هم في حاجة إليها بالأكثر. استريحي بسلامي.»