ج7 - ف209
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الثاني
209- (يسوع عند أنقاض قرية مُدمّرة)
12 / 10 / 1946
لستُ أدري في أيّ موضع هو يسوع. بالتأكيد على الجبال في مكان مهمل بفعل تدمير أو بكارثة أو بعمليّات حربية. وأقول إنّ الأمر يتعلّق بالأحرى بهذه الأخيرة، ذلك أنّ أنقاض المنازل تشير إلى آثار حريق في السقوف، المحميّة مِن المياه والتي ما تزال مرئيّة في تشابك العلّيق، اللبلاب ونباتات معرّشة أخرى أو طفيليّة نمت هنا وهناك. الأوراق العريضة المزغبة لنبات، لستُ أعرف اسمه، إلاّ أنّني لمحتُه أيضاً في إيطاليا، تغطّي كلّيّاً إحدى الأنقاض الّتي تبدو كجبل صغير شديد الانحدار. إلى أبعد مِن ذلك، جدار ما زال منتصباً ووحيداً ليتأمّل أنقاض المنزل الـمُنهار، وقد اجتاحته نباتات الكَبَر والقرّاص وحاجز مخرّم، وممّا كان شُرفة، تتدلّى أغصان ياسمين البرّ وتترنّح في الهواء مثل شعر أشعث. منزل آخر داخله منهار، إلاّ أنّ جدرانه الخارجيّة ما تزال منتصبة، يشبه مزهريّة وهو يحوي بدل سوق الزهور أشجاراً نمت عفوياً في المساحة الّتي كانت قائمة فيها في البداية الأجنحة. آخر، ما زال جزء منه قائماً مع بعض درجات سلّم، يشبه فندقاً مهيّأ لاحتفال ومزيّن كلّه بالخُضرة. في أعلى هذه الأنقاض، شجرة حور، هزيلة وطويلة كما نصل، تبدو وكأنّها تسأل السماء لماذا مثل هذا البؤس. ومِن منزل لآخر، مِن أنقاض لأخرى، أشجار ثمار معاندة ومتنكّسة، وقد أصبحت برّيّة، تهيمن عليها بقايا نباتات أو هي تهيمن عليها، وقد نبتت مِن ثمار ساقطة، مائلة أو مستقيمة، زاحفة، خارجة مِن ثقب في الجدار، مِن بئر جافّ، تبدو كما غابة مسحورة. عصافير وطيور حمام، إذ تخرج مِن شقوق الأنقاض، ترتمي بنشاط في المحيط، حيث كان يوماً بالتأكيد حقول معتنى بها، وحيث هناك الآن تشابك بيقية قاسية، جفّفتها الشمس، وهي تُفتح لتدع بذورها تقع لتنمو في الربيع، زؤاناً وشيلماً. طيور الحمام تطرد منها بضربات قوية مِن أجنحتها العصافير الأصغر، الّتي تبحث عن بعض حبوب الدَخَن والقنّب الخارجة مِن لستُ أدري أيّة بذور بعيدة، والتي عبر سنوات استمرّت بالإبذار العفوي في الحقول المهملة. والعصافير، خاصة عصافير الدوري، تثأر لنفسها، بانتزاع الأذينات النحيلة للدَخَن البائس، كي تحملها إلى أعشاشها، وتطير بصعوبة، منحنية تحت الثقل وعوائق عناقيد السنيبلات.
لم يكن مع يسوع فقط الرُّسُل، إنّما كذلك جمع لا بأس به مِن التلاميذ، مِن بينهم هَرْماس الذي مِن عِمّاوس وكِلْيوباس، إبن رئيس المعبد العجوز كِلْيوباس، واستفانوس. وهناك كذلك رجال ونساء، كما لو أنّهم أتوا مِن إحدى القرى لدعوة يسوع للذهاب إليهم، أو كأنّهم تبعوه، بعد مروره بقريتهم. يسوع، خلال اجتيازه المكان المملوء بالأنقاض، يتوقّف غالباً لينظر، ويتوقّف بشكل نهائيّ عندما يتمكن مِن الهيمنة مِن مكان أعلى على تشابك الأنقاض والنبات، حيث لا علامة على الحياة إلاّ مِن خلال طيور الحمام، التي بالتأكيد كانت في الماضي لطيفة وأليفة، والآن عادت برّية وشرسة. إنّه يتأمّل، ذراعاه متصالبان على صدره، الرأس منحنٍ قليلاً، وكلّما نظر أكثر، كلّما شحب وحزن أكثر.
«لماذا تبقى هنا يا معلّم؟ المكان يحزنكَ. ذلك واضح. لا تتوقّف لتتأمّله. أنا آسف لجعلي إيّاكَ تمرّ مِن هنا، ولكنّ الدرب كان أقصر بكثير.» يقول كِلْيوباس الذي مِن عِمّاوس.
«آه! أنا لا أنظر إلى ما ترونه!»
«وما هو إذاً يا ربّ؟ قد تكون تعاود رؤية الحدث الماضي؟ بالتأكيد كان مرعباً. هذا هو أسلوب روما...» يقول الآخر الّذي مِن عِمّاوس.
«وهذا يَفرض التفكير. أُنظروا جميعكم. هنا كانت مدينة، ليست كبيرة، إنّما جميلة. كان هناك منازل غنيّة أكثر مِن المنازل الفقيرة. وكان أغنياء يملكون هذه الأمكنة الّتي أضحت الآن غابات برّية، وكان أغنياء يملكون هذه الحقول العقيمة الّتي يغطّيها العلّيق، الزؤان، والقرّاص... حينذاك كان هنا بساتين جميلة وحقول مغطّاة بالمواسم. وكانت المنازل حينها جميلة، مع حدائق مليئة بالزهور، والآبار، وينابيع حيث كانت تستحم طيور الحمام ويلعب الأطفال. كان جميع سكان هذا المكان سعداء، والغبطة لم تجعلهم مستقيمين. لقد نسوا الربّ وكلامه... وهاكم!
لم يعد مِن منازل، لم يعد مِن زهور، لم يعد من ينابيع، ولا محاصيل، ولا ثمار. لم يبقَ سوى طيور الحمام، وليست سعيدة كما فيما مضى. وبدلاً من الحبوب الشقراء والكمّون، الّتي كانت حينذاك لذيذة ووافرة، هي الآن تتقاتل للحصول على القليل من البيقية والزؤان المرّ. ويكون العيد إذا ما وجدت سنبلة شعير نبتت بين الأنقاض!... وبينما أنا أنظر، لم أعد أرى حتّى طيور الحمام... إنّما وجوهاً ووجوهاً... الكثير منها لم يُولَد بعد... وأرى أنقاضاً وأنقاضاً، وعلّيقاً وكروماً برّيّة، وبيقية برّيّة تغطّي أراضي الوطن... وكلّ ذلك بسبب عدم الرغبة باستقبال الربّ. أَسمَع صوت بكاء الأطفال المنهكين، الأكثر بؤساً مِن هذه العصافير الّتي ما زال الله يوفّر لها الحدّ الأدنى مِن العون للحفاظ على الحياة، بينما سيكون أولئك الصغار محرومين مِن كلّ عون، ضحايا العقوبة العامّة، سَقيمين على صدور الأُمّهات الجافّة، مائِتين مِن الحرمان والآلام ومِن ذعر مجهول الإسم. وأَسمَع نواح الأُمّهات مِن أجل أطفالهنّ النافقين مِن الجوع على صدورهنّ. ونواح الزوجات الفاقدات لأزواجهنّ، عذراوات أسيرات لتلبية رغبات المنتصرين، رجالاً مقيّدين بالسلاسل بعدما عانوا كلّ ذلّ الحرب، وعجائز عاشوا طويلاً كي يروا نبوءة دانيال تتحقّق. وأَسمَع صوت إشَعياء الّذي لا يتعب في هَبّة هذا الهواء وسط الأنقاض. في عويل طيور الحمام وسط الردم: "بكلمات بربريّة، بلغة غريبة سيُكلّم الربّ هذا الشعب الّذي كان قد قال له: 'هنا تكون راحتي. أعيدوا نشاط الـمُتعَب؛ هذه هي تعزيتي'".
ولكنّهم لم يريدوا أن يسمعوا. لا. لم يريدوا، والربّ ما عاد يجد راحته وسط شعبه. إنّ الـمُتعَب، الّذي أُنهِكَ وهو يَجوب مناطقه ويُعلّم، يشفي، يهدي، يواسي، لا يجد راحة، بل اضطهاد. لا تعزية، بل شِراك وخيانة. الابن ليس سوى واحد مع الآب. وإذا علّمكم الحقّ أنّ حتّى كأس ماء يُقّدَّم لإنسان ستكون له مكافأته، ذلك أنّ كل عمل رحمة يُفعَل مع أخ يكون يُفعَل مع الله ذاته، فأيّ عقاب سيكون للّذين يمنعون حتّى حجر الدرب الّذي يمكن أن يكون وسادة لرأس ابن الإنسان، ونبع الجبل الّذي يسيل بصلاح من الخالق، والثمار المنسيّة على الغصن، المهملة لأنّها مصابة أو غير ناضجة، والسنبلة الّتي تتزاحم عليها طيور الحمام، والّذين جهّزوا الحبل لخنق الهواء في الحَلق، ومع الهواء الحياة؟ آه! أيا إسرائيل البائس، الّذي فقدتَ فيك العدل، والّذي فقدتَ رحمة الله!
ها هو، ها هو مجدّداً صوت إشَعياء في هواء المساء، المخيف أكثر من صيحة عصفور الموت، المخيف تقريباً كما الصوت الّذي تردّد في الحديقة الأرضيّة لإدانة الـمُذنبَين، و -آه! شيء رهيب!- وصوت النبيّ هذا ليس متّحداً مع وعد مغفرة مثل حينذاك، مثل حينذاك! لا. فلا مغفرة لمن يحتقر الله، للّذين يقولون: "لقد عقدنا تحالفاً مع الموت، لقد أبرمنا عهداً مع جهنّم. إنّ النكبات، حين تحلّ، لا تصيبنا لأنّنا وضعنا ثقتنا في الكذب، وسنكون مصانين به هو القادر". ها هو، ها هو إشَعياء الّذي يُردّد ما سمعه مِن الربّ: "ها أنا مِن أجل أساس صهيون، سأضع حجر زاوية، مختاراً، ثميناً… وسأحكم بالمكيال وأعدل بالمقياس، والبَرَد سيهدم الثقة بالكذب، والمياه ستقلب الملاجئ رأساً على عقب، وسيُهدّم تحالفكم مع الموت ولا يعود لعهدكم مع الجحيم وجود. وعندما ستمرّ العاصفة سيصيبكم البلاء، وسيبلبلكم في كلّ مرّة وفي كلّ ساعة، ووحدها العقوبات ستجعلكم تفهمون الدرس".
إسرائيل البائس! وكما لا يثبت في هذه الحقول سوى البيقية العقيمة والزؤان المرّ، حيث لم يعد مِن حبوب، هكذا ستكون إسرائيل، والأرض الّتي لن تُرِد الله لن يكون لها خبز لأبنائها، وأبناؤها الّذين لم يريدوا استقبال الـمُتعَب، سوف يَهيمون، مضروبين، همجيين، مثل محكومين بالأشغال الشاقة في القوادس، مُستَعبَدين مِن الّذين كانوا يحتقرونهم معتبرين إيّاهم أدنى منهم. إنّ الله سيسحق حقّاً ذلك الشعب المتكبّر تحت ثقل عدله، وسيحطّمه تحت حكمه الـمُهشِّم…
هذا ما أراه في هذه الأنقاض. أنقاض! أنقاض! في الشمال، في الجنوب، في الشرق وفي الغرب، وبشكل خاص في المركز، في القلب، حيث المدينة المذنبة ستكون قد تبدّلت بحفرة متفسّخة...»
دموع بطيئة تنزل على طول الوجه الشاحب ليسوع، الذي يرفع معطفه لإخفاء وجهه، غير تارك مكشوفتين سوى عينيه المتوسّعتين بفعل الرؤية المؤلمة.
ويستأنف المسير، بينما مرافقوه بالكاد يتهامسون، وقد جمّدهم الهلع...