ج6 - ف147
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الثاني
147- (في جَمَلا)
08 / 07 / 1946
يَبزُغ الفجر تماماً عندما يستيقظ يسوع ويجلس على سريره البسيط المكوّن مِن تراب وعشب. ثمّ يَنهَض، يلتقط صندله ورداءه الذي كان قد تغطّى به ليحمي نفسه مِن الندى وبرودة الليل، وبحذر يخطو بين تشابك أرجل، أذرع، أجساد ورؤوس الرُّسُل النائمين حوله. إنّه يبتعد بضع خطوات، إنّه ينظر بانتباه ليرى أين يضع قدميه في ضوء الفجر الخافت، والذي هو بالكاد بصيص ضوء تحت الأشجار الـمُورِقة. إنّه يَصِل إلى مرج مكشوف، ومنه، وعبر فتحة بين الأشجار والصخور، يمكن للمرء أن يلمح جزءاً صغيراً مِن البحيرة التي تستيقظ، وفسحة كبيرة مِن السماء التي تنجلي، منتقلة مِن مسحة الرماديّ المزرقّ الذي تتميّز به قبّة السماء عند بزوغ الفجر، إلى الأزرق الفاتح، بينما إلى الشرق تتلوّن بالأصفر الفاتح، المستمرّ أكثر فأكثر، مستحيلاً شيئاً فشيئاً أصفر زهريّاً، وأخيراً تتلوّن بالمسحة المرجانيّة الشاحبة الرائعة الجمال.
إنّ الفجر يعد بيوم جميل، ولو أنّ هناك سحابات خفيفة جدّاً تأبى أن تُسلِّم القسم الشرقيّ مِن السماء لضوء النهار، وتتقدّم في وِشاح لا تتأثّر به السماء الزرقاء: بل هي على العكس تتجمّل به كما لو كانت مزخرفة بوشاح ناصع البياض ومُهدّب بذهب ومرجان متغيّر الألوان، فتغدو أكثر فأكثر جمالاً، كما لو كانت تسعى للوصول إلى قمّة جمالها الآنيّ، قبل أن يبدّدها ضوء النّهار بأشعّة شمسه المظفّرة. وإلى الغرب، على العكس، بضع نجمات ما تزال ظاهرة، وإن كانت قد جُرّدت مِن تألّقها اللّيليّ في النور الآخذ بالازدياد، والقمر، الذي هو على وشك الغروب خلف قمم الجبال، والذي يُبحر في السماء شاحباً، بلا أشعّة، كما لو أنّه كوكب يحتضر.
إنّ يسوع، واقف حافي القدمين على العشب النديّ، يداه مضمومتان إلى صدره، رأسه مرفوع متأمّلاً النهار الذي يطلع، يُفكّر... أو يتحدّث إلى الآب في حِوار روحيّ. هناك صمت مطبق، مطبق لدرجة أنّه يمكن سماع صوت القطرات الكبيرة للندى الغزير وهي تتساقط على الأرض.
ويسوع، الذي لا يزال واقفاً ويداه مضمومتان، يَخفض رأسه ويَغرَق في تأمّل عميق جدّاً. إنّه مستغرق كلّيّاً في ذاته. عيناه الواسعتان والبديعتان مسمّرتان على الأرض كما لو كانتا ترغبان في انتزاع إجابة مِن الأعشاب. لكنّني واثقة بأنّهما لا تريان حتّى الحركة الخفيفة لِسُوق النباتات التي، بفعل نسيم الفجر البارد، تُحدِث نوعاً مِن الحفيف، رعشة تُشبِه مَن يستيقظ ويتمطّى، يتلفّت، يُحرّك نفسه كيما يصحو تماماً، ويليّن أعصابه وعضلاته. هو يَنظُر ولا يرى استيقاظ الأعشاب والزهور البرّية هذا، الذي يَعبُر مِن أغصانها الصغيرة، أوراقها، تويجاتها التي تتّخذ شكل مظلّات، أو عناقيد، أو سنابل، أو حُزَم، التي بعضها منعزلة في كؤوس، وأخرى بشكل إكليل مشعّ، أو بشكل نبتة أنف الذئب، أو بشكل قرن الخصب، أو بشكل قنزعة أو ثمار عنبيّة. بعضها منتصبة على سيقانها، بعضها رخوة وقد تدلّت على سوق ليست لها، وقد التفَّت حولها، بعضها مهملة وتزحف على الأرض؛ بعضها متجمّعة ضمن مجموعات مِن نباتات كثيرة متواضعة وصغيرة، بعضها منفردة، عريضة، حادّة اللّون والمظهر. كلّها منهمكة في نفض قطرات النّدى عن بتلاتها، التي ما عادت متلهّفة لها، بل لأشعّة الشمس، متقلّبة في رغباتها كما في أشكالها. إنّها بهذا شبيهة جدّاً بالبشر، الذين لا يرضون أبداً بما لديهم.
يبدو يسوع وكأنّه يُنصت. ولكنّه بالتأكيد لا يَسمَع هفيف الريح، الذي يصبح أقوى، والذي يستمتع بهزّ قطرات الندى وإسقاطها، ولا يَسمَع الوشوشات المتزايدة للطيور الصغيرة، التي تصحو وتروي لبعضها أحلام الليل، أو التي تتبادل انطباعاتها مِن أعشاشها الدافئة والشجيّة، حيث، وسط الصوف والقشّ الطريّ، بدأت الفراخ العارية تُظهِر ريشها، أو تفتح مناقيرها الكبيرة إلى أقصى حدّ مُظهرة حلاقيمها الحمراء النَّهِمة، صارخة بأُولى مطالباتها بالطعام. إنّ يسوع يبدو كما لو أنّه يُنصت. لكنّه بالتأكيد لا يسمع أولى نداءات الشحرور المتحدّية، أولى الأغاني العذبة لعصفور التين الأسود، ولا الزغردة الذهبية للقبّرة، والتي ترتفع ببهجة نحو شمس الصباح، ولا الصياح الذي يمزّق الهواء الساكن لسرب مِن طيور السنونو التي كانت قد غادرت الصخور حيث بنت أعشاشها، والتي قد بدأت بنسج رحلاتها التي لا تعرف الكلل مِن الأرض إلى السماء. وهو أيضاً لا يَسمَع الصياح الجامح لطائر عقعق جاثم على غصن شجرة بلّوط قريب منه، والذي يبدو كما لو أنّه يَسأَل ساخراً: «مَن أنتَ؟ بماذا تفكّر؟». ولا حتّى هذا يقطع تأمّله.
ولكن مَن لا يعلم أنّ العقعق مُناكِد؟ فهذا العقعق، وقد أزعجته رؤية غريب عند المرج الصغير الذي ربّما هو مكانه المفضّل، فينتزع مِن شجرة البلوط ثمرتي بلّوط جميلتين توأمتين، وبالدقّة التي لبطل في الرماية، يُسقِطهما على رأس يسوع. هي ليست بتلك القذيفة الثقيلة، القادرة على التسبّب بالأذى، إنّما مع أخذ الارتفاع الذي أُسقِطَتا منه بعين الاعتبار، فإنّها فعّالة كفاية كي تلفت انتباه المتأمّل، الذي ينظر للأعلى ويرى الطائر الذي يبتهج برمايته، بجناحين مفتوحين وإيماءات مضحكة. يبتسم يسوع برقّة، يهزّ رأسه، يتنهّد كخاتمة لتأمّله، ويمضي سائراً هنا وهناك. يَنزِل العقعق إلى المرج فيما ينعق ساخراً، مصفّقاً بجناحيه، منقّباً هنا وهناك في العشب المحرَّر مِن الدخيل.
يبحث يسوع عن الماء، ولكنّه لا يجده. إنّه يُذعِن للعودة إلى الرُّسُل، لكنّ الطيور تُعلِمه أين يجده. فأسراب منها تطير نحو بعض الزهور العريضة جدّاً والتي لها شكل الكأس، وهي بالفعل كؤوس صغيرة تحتوي ماءً، أو أنّه متوضّع على أوراق عريضة ذات وَبَر، حيث تحفظ كلّ وبرة بقطرة ندى، والطيور تروي عطشها أو تغتسل هناك. يسوع يقلّدها. إنّه يجمع في راحتيه ماء بعض الكؤوس ويُنعِش وجهه، إنّه يلتقط بعض الأوراق ذات الوبر ويزيل بها الغبار عن قدميه الحافيتين، إنّه يغسل صندليه ويلبسهما، وببعض الأوراق الإضافيّة يغسل يديه حتّى يرى بأنّهما قد أصبحتا نظيفتين، ويبتسم هامساً: «الكمالات الإلهيّة للخالق!»
إنّه الآن مُنتَعِش، مرتّب، لأنّه كان قد مشّط شعره ولحيته بيديه الرطبتين، وفيما أشعّة الشمس الأولى تُحيل المرج إلى سجّادة مرصّعة بالماس، فإنّه يمضي ليوقظ الرُّسُل والنّسوة.
أفراد المجموعتين (الرُّسُل والنسوة) بالكاد يستطيعون الاستيقاظ وقد أَخَذَ منهم التعب كلّ مأخذ. مريم مستيقظة ولكنّها غير قادرة على الحراك بسبب الصبيّ الصغير الذي ينام منكمشاً على صدرها، ورأسه الصغير تحت ذقنها. والأُمّ، عند رؤيتها يسوع يَظهَر عند مدخل المغارة، تبتسم له بعينيها الزرقاوين الفاتحتين، فيما يستحيل وجهها ورديّ اللّون فَرَحاً برؤيته. وتُحرّر نفسها مِن الطفل الذي يتذمّر قليلاً بسبب تحريكه، تَنهَض وتذهب نحو يسوع بمشيتها الهادئة المتماوجة بعض الشيء كالتي لحمامة خجولة.
«ليبارككَ الله لهذا اليوم يا بنيّ.»
«ليكن الله معكِ يا أُمّي. أكانت ليلة غير هانئة بالنسبة لكِ؟»
«لا. بل على العكس، لقد كانت هانئة جدّاً. لقد بدا لي أنّني كنتُ أحظى بكَ، صبيّاً صغيراً، بين ذراعيّ... وقد حلمتُ بأنّ نوعاً مِن نهر ذهبيّ كان يتدفّق مِن فمكَ، يَصدُر عنه نَغَم لا يمكن وصفه، وصوت كان يقول... آه! يا له مِن صوت: "ها هي الكلمة التي تُثري العالم وتمنح الغبطة لِمَن يُنصت إليها ويطيعها. وسوف تُخلِّص دونما حدود لقدرتها، في الزمان والمكان." آه! يا بنيّ! وأنتَ يا وَلَدي هو تلك الكلمة! كيف العمل كي أعيش طويلاً وأفعل الكثير كي أتمكّن مِن أن أشكر الآب الأزليّ لأنّه جعلني أُمّكَ؟»
«لا تقلقي بشأن ذلك يا أُمّي! فإنّ كلّ دقّة مِن دقّات قلبكِ تُسِرّ الله. أنتِ تسبيح حيّ لله، وستكونين دوماً كذلك يا أُمّي. لقد كنتِ تشكرينه مذ وُجِدتِ...»
«لا يبدو لي أنّني أفعل ذلك بشكل وافٍ يا يسوع. إنّه عظيم، عظيم جدّاً ما فَعَلَه الله لي! أمّا أنا، فما الذي أفعله أكثر ممّا تفعله كلّ تلك النسوة الصالحات، اللواتي هنّ تلميذاتكَ مثلي أنا؟ يا بنيّ، قل لأبينا أن يمنحني الفرصة كي أشكره بالشكل الذي يليق بعطيّته.»
«أُمّاه! أوتعتقدين بأنّ الآب يحتاج إلى أن أطلب منه ذلك لأجلكِ؟ هو سبق أن أعدَّ لكِ التضحية التي سيكون عليكِ تقديمها لهذا التسبيح الكامل. وستكونين كاملة حينما تنجزينها...»
«يا يسوعي!... إنّني أُدرك ما تعنيه... إنّما هل سأكون قادرة على التفكير في تلك الساعة؟ يا لأُمّكَ المسكينة...»
«العروسة المغبوطة للمحبّة الأزليّة! هي مَن تكونين أنتِ يا أُمّي. والمحبّة سوف تفكّر فيكِ.»
«أنتَ تقول ذلك يا بنيّ، وأنا أطمئنّ لكلمتكَ. إنّما أنتَ... صلّي مِن أجلي، في تلك الساعة التي لا يفهمها أحد مِن هؤلاء... والتي هي وشيكة... ذلك صحيح، أليس كذلك؟»
مِن المستحيل وصف تعبير وجه مريم خلال هذا الحِوار. ما مِن كاتِب يمكنه ترجمته إلى كلمات مِن دون أن يُفسده بانفعاليّة ركيكة أو صبغة غير دقيقة. فقط مَن لديه قلب، قلب طيّب، حتّى ولو كان قلباً رجوليّاً، يمكنه أن يَصِف بعقله التعبير الحقيقيّ المرسوم على وجه مريم في هذه اللحظة.
يَنظُر يسوع إليها... تعبير آخر غير قابل للترجمة إلى لغتنا الفقيرة. ويجيبها: «وأنتِ سوف تصلّين مِن أجلي في ساعة الموت... نعم. لا أحد مِن أولئك يفهم... إنّها ليست غلطتهم. الشيطان يُحدِث أدخنة كي لا يتمكّنوا مِن الرؤية، وبحيث يكونون كالسكارى الذين لا يَستَوعِبون، وبالتالي يكونون غير مستعدّين... وأسهل للإخضاع... إنّما أنتِ وأنا سوف نخلّصهم، رغم مكائد الشيطان. يا أُمّي، إنّني أعهد بهم إليكِ اعتباراً مِن هذه اللحظة. تذكّري كلماتي هذه: إنّني أعهد بهم إليكِ. أعطيكِ إرثي. ليس لي شيء على الأرض سوى أُمّ، وأنا أُقدّمها لله: أضحية مع الأضحية؛ وكنيستي، وهذه أعهد بها إليكِ. كوني حاضنتها.
منذ مدّة قصيرة كنتُ أتساءل في كَم مِن البشر، في المستقبل، سوف ينبعث رجل إسخريوط بكلّ نقائصه. وكنتُ أفكّر بأنّ أيّاً كان، إن لم يكن يسوع، سَوف يَرفُض هذا الكائن الخاطئ. إنّما أنا لن أرفضه. فأنا يسوع. أمّا أنتِ، وخلال الوقت الذي سوف تبقين فيه على الأرض، حيث ستكونين الثانية بعد بطرس بالنسبة للتراتبيّة الكنسيّة، هو رأس الكنيسة وأنتِ المؤمنة، إنّما الأولى كأُمّ للكنيسة حيث إنّكِ قد وَلَدتِني أنا، رأس هذا الجسد الروحانيّ، فلا ترفضي اليهوذات الكثيرين، إنّما ساعِدي وعلّمي بطرس، أَخَويّ، يوحنّا، يعقوب، سمعان، فيلبّس، برتلماوس، أندراوس، توما ومتّى ألّا يرفضوا، وإنّما أن يُساعِدوا. دافعي عنّي لدى أتباعي، ودافعي عنّي ضدّ أولئك الذين يريدون تشتيت وتفكيك الكنيسة الناشئة. وفي العصور اللاحقة كُوني دوماً يا أُمّي الشفيعة والحامية، المدافعة عن كنيستي والمعينة لها، لكَهَنَتي، للمؤمنين بي، مِن الشرّ والعقاب، مِن أنفسهم... كَم مِن يهوذات، أيا أُمّي، في العصور اللاحقة! وكم سيكون هناك ذوو أنصاف عقول عاجزين عن الفهم، أو مثل العميان والصمّ الذين لا يستطيعون أن يروا أو أن يسمعوا، أو لا يستطيعون المجيء كالمشلولين والمقعدين... يا أُمّي، ليكونوا كلّهم تحت جناحكِ! أنتِ وحدكِ تستطيعين وسوف تكونين قادرة على تغيير قرارات إدانة الآب الأزليّ لنَفْس واحدة أو لعدد مِن النُّفوس. لأنّ الثالوث لن يكون قادراً على رفض أيّ شيء لزهرته.»
«سوف أفعل ذلك يا بنيّ. طالما أنّ الأمر يعتمد عليَّ، يمكنكَ المضيّ في مسعاكَ بسلام. فإنّ أُمّكَ هنا لتدافع عنكَ في كنيستكَ، على الدوام.»
«ليبارككِ الله يا أُمّي... تعالي! سوف أجمع لكِ بعضاً مِن كؤوس الأزهار الممتلئة بالمياه المعطّرة، وسوف تُنعِشين بها وجهكِ، كما فعلتُ أنا. إنّ أبانا الكلّيّ القداسة قد أعدّها لنا، والطيور قد أرشدتني إليها. انظري كيف أنّ كلّ شيء مفيد في خلق الله المنظّم! تلك الهضبة العالية القريبة مِن البحيرة، إنّها خصبة جدّاً بسبب الضباب الذي يَصعَد مِن بحر الجليل، ومِن الأشجار العالية التي تجذب الندى، سامحة بهذه الوفرة مِن الأعشاب والزهور، حتّى في حرارة الصيف العالية. هذا التساقط الغزير للندى لملء هذه الكؤوس بحيث يتمكّن أبناؤه المحبوبون مِن غسل وجوههم... هذا ما أعدّه الآب لأولئك الذين يحبّونه. خذي. ماء الله، في كؤوس الله، لإنعاش حوّاء الفردوس الجديد.» ويقطف يسوع تلك الزهور العريضة، والتي لا أعرف اسمها، ويسكب في يديّ مريم الماء المتجمّع فيها…
في تلك الأثناء كان الآخرون قد رتّبوا أنفسهم وأتوا بحثاً عن يسوع الذي ابتعد قليلاً عن مكان الاستراحة.
«نحن جاهزون يا معلّم.»
«حسناً. لنذهب مِن هذا الاتّجاه.»
«أهو الاتّجاه الصحيح؟ فالأحراج تنتهي هنا، وآخر مرّة مشينا بين الأحراج...» يعترض يعقوب زَبْدي.
«لأنّنا كنّا قادمين صعوداً مِن البحيرة. أمّا الآن فيمكننا سلوك الطريق الصحيحة. أترون؟ إنّ جَمَلا هناك، في الجنوب الشرقي، وهذه هي الطريق الوحيدة. الجهات الثلاث الأخرى غير سالكة، إلّا للعنزات البرّيّة.»
«معكَ حقّ. سوف نتحاشى الوادي العميق القاحل، الذي رأينا الممسوسين يأتون منه» يقول فيلبّس.
إنّهم يسيرون بسرعة، وسرعان ما يَخرُجون مِن الحرج حيث ناموا، عبر درب حصويّ يمتدّ إلى ما وراء وادٍ صغير يتّسع أكثر فأكثر كلّما اقتربوا مِن الجبل العجيب الذي تتموضع عليه جَمَلا، والذي هو شديد الانحدار مِن ثلاث جهات، أي مِن الشرق والشمال والغرب، والذي يرتبط مع بقيّة المنطقة فقط بواسطة هذه الطريق التي تمتدّ بشكل مستقيم مِن الجنوب إلى الشمال، والتي ترتفع بين واديين صخريّين موحِشَين يفصلانها عن الريف مِن على الجانب الشرقيّ، وعن أحراج أشجار السنديان مِن على الجانب الغربيّ.
يمرّ الكثير مِن رُعاة الخنازير وسط صخب خنازيرهم، متّجهين صوب أحراج أشجار السنديان. وتمرّ عربات محمّلة بحجارة مربّعة وهي تصرّ صريراً، تجرّها ثيران بطيئة مكدّنة بشكل زوجيّ. ويمرّ بعض الخيّالة مُهرولين ومُثيرين سُحُباً مِن الغبار. وتمرّ مجموعات مِن الحفّارين الهزيلين بالثياب الرثّة -أعتقد بأنّ أغلبهم عبيد أو محكومون بالأشغال الشاقّة لسبب ما- متوجّهين نحو أشغالهم تحت رقابة حرّاسهم المشدّدة.
ما أن يُصبِحوا أكثر قرباً مِن الجبل وتبدأ الطريق بالصعود، يصبح بإمكانهم أن يروا خنادق محصّنة تحيط بالجبل كحلقات تحمي جوانبه. لا بدّ أنّ حفر تلك الخنادق ليس بالأمر السهل، وخاصّة في مواضع معيّنة حيث هي إلى حدّ ما ناتئة. ومع ذلك فإنّ الكثير مِن الرجال يعملون على إصلاح التحصينات الموجودة وعلى تشييد أخرى جديدة، وهم يحملون على أكتافهم العارية مكعّبات صخريّة تحني أولئك الأشقياء البؤساء وتُخلّف جروحاً دامية على أكتفاهم العارية تلك.
«ماذا يفعلون؟ ألعلّه زمن الحرب بحيث يتوجّب عليهم أن يفعلوا هذا؟ إنّهم مجانين» يقول الرُّسُل لبعضهم، فيما النسوة يشفقن على الرجال التعساء نصف العُراة، سيّئي التغذية، والمرغمين على أن يقوموا بأعمال تفوق طاقاتهم.
«إنّما مَن الذي يجبرهم على العمل؟ أهو حاكم الربع أم الرومان؟» يَسأَل الرُّسل مجدّداً، ويتناقشون بالأمر فيما بينهم، لأنّه قد يبدو الأمر وكأنّ جَمَلا مستقلّة عن ربع فيلبّس وربع هيرودس، وأيضاً لأنّه يبدو للبعض مِن الرُّسُل أنّه مِن المستحيل أن يُشغِل الرومان أنفسهم ببناء تحصينات في أراض أجنبيّة، والتي قد تُستَخدم ضدّهم في المستقبل. سيّما وأنّ الفكرة الأبديّة، الراسخة كفكرة مهووس، عن مملكة زمنيّة للمسيح، تتبدّى كراية لنصر مؤكّد، لمجد واستقلال قوميّ.
إنّهم يتناقشون بصوت عالٍ بحيث أنّ بعض المشرفين يقتربون منهم ويُنصِتون. إنّهم رجال أفظاظ، مِن الواضح أنّهم ليسوا مِن العِرق اليهوديّ، أكثرهم مسنّون، العديد منهم لديهم ندوباً على أجسادهم، إنّما هويّتهم تتوضّح مِن التعليق المزدَري لأحدهم: «"مملكة!" أسمعتَ ذلك يا تيطس؟ أيا ذوي الأنوف الكبيرة! إنّ مملكتكم قد سبق وسُحِقَت تحت هذه الصخور. إنّ مَن يَستخدم عدوّاً كي يبني ضدّ عدوّ فهو يَخدُم العدوّ. هذا ما قاله بوبليوس كورفينيوس. وإن لم تكونوا قد فهمتم، فعيشوا طويلاً، والصخور سوف تفسّر لكم الأمر» ويضحك رافعاً سوطه لأنّه يرى عاملاً مُنهَكاً يترنّح ويجلس، وكاد يضربه لو لم يوقفه يسوع متقدّماً وقائلاً: «ليس مسموحاً لكَ أن تفعل ذلك. إنّه إنسان مثلكَ.»
«مَن أنتَ كي تتدخّل وتُدافع عن عبد؟»
«أنا الرحمة. اسمي البشريّ لن يعني لكَ شيئاً. لكنّ صفتي تذكّركَ بأن تكون رحيماً. أنتَ قلتَ: "مَن يَستخدم عدوّاً كي يبني ضدّ عدوّ فهو يَخدُم العدوّ." فأنتَ قد تحدّثت عن حقيقة مؤلمة. أمّا أنا فسأقول لكَ حقيقة ساطعة: "مَن لا يرحم فلن يلقى الرحمة."»
«هل أنتَ خطيب؟»
«لقد قلتُ لكَ، أنا الرحمة.»
عدد مِن سكّان جَمَلا، الذين كانوا متّجهين صوب بلدتهم يقولون: «إنّه معلّم الجليل. إنّه مَن يأمر الأمراض، الرياح، المياه والشياطين، مَن يُحيل الحجارة خبزاً، مَن ما مِن شيء يقدر على مقاومته. لنهرع إلى البلدة كي نُخبِر السكّان. بحيث يجيء المرضى! ونحن نستمع لكلامه. فنحن ننتمي لإسرائيل أيضاً!» وبعضهم يغادرون مسرعين، والبعض يتجمّعون حول المعلّم.
الـمُراقِب المشار إليه سابقاً يَسأَل: «أصحيح ما يقولونه عنكَ؟»
«نعم، إنّه صحيح.»
«اجترح معجزة وسوف أؤمن.»
«ليس عليكَ أن تطلب معجزات مِن أجل أن تؤمن. بل اطلب الإيمان كي تؤمن، وهكذا تحظى بمعجزة. الإيمان والرحمة تجاه قريبكَ.»
«إنّني وثنيّ...»
«هذا ليس سبباً مقنعاً. إنّكَ تعيش في إسرائيل التي تعطيكَ مالاً...»
«لأنّني أعمل.»
«لا. لأنكَ تجعل الناس يَعمَلون.»
«أنا أعرف كيف أجعل الناس يعملون.»
«نعم، بلا رحمة. إنّما ألم تفكّر أبداً بأنّكَ لو كنتَ يهوديّاً بدلاً مِن أن تكون رومانيّاً، فقد تكون مكان أحد أولئك الرجال؟»
«إيه! بالتأكيد... لكنّني لستُ كذلك، بفضل حماية الآلهة.»
«إنّ أصنامكَ العقيمة لن تكون قادرة على حمايتكَ إذا ما شاء الله الحقّ أن يضربكَ. إنّكَ لم تمت بعد. فإذن كن رحيماً كي تنال الرحمة...»
الرجل يودّ الردّ والنّقاش، لكنّه يهزّ كتفيه بتعالٍ، ويدير ظهره ويمضي، ويضرب رجلاً كان قد توقّف عن العمل بمعوله بسبب عِرْق صخر صلب.
ينظر يسوع إلى الرفيق التعيس الذي ضُرِب، وينظر أيضاً إلى الذي ضَرَبَه. نظرتين، وإن كانتا مختلفتين، إنّما تحملان الشفقة ذاتها. وهما نظرتان حزينتان للغاية، بحيث أنّهما تذكّرانني بنظرات محدّدة للمسيح أثناء الآلام. إنّما ماذا عساه يفعل؟ وحيث أنّه عاجز عن التدخّل، فهو يتابع طريقه، مع ثِقل المصائب التي شاهَدَها، لِتُثقِل قلبه.
لكنّ بعض السكّان، الذين هم بالتأكيد مِن الأعيان، يهرعون نزولاً مِن جَمَلا، ويَصِلون بسرعة إلى يسوع، الذين يَنحَنون بمهابة ويَدعونه كي يدخل بلدتهم ويتحدّث للناس، والذين مِن جهتهم يَصِلون جماعات.
«أنتم تستطيعون الذهاب حيثما تشاؤون. أمّا هُم (ويشير إلى العمّال) فلا يستطيعون ذلك. إنّ الجو لطيف الآن، ونحن هنا محميّون مِن الشمس. لنذهب إلى قرب أولئك البؤساء الأشقياء بحيث يتمكّنون هُم أيضاً مِن سماع كلمة الحياة» يجيب يسوع. وهو أوّل مَن ينطلق عائداً إلى هناك، سالكاً ممرّاً وَعِراً يؤدّي إلى قاعدة الجبل، حيث العمل الأكثر إنهاكاً. ومِن ثمّ يُخاطِب الأعيان قائلاً: «إن كانت لكم السُّلطة على فِعل ذلك، فمُروا بأن يتوقّف العمل.»
«يمكننا ذلك بالتأكيد! فنحن مَن يدفع، وإذا ما دفعنا لقاء بضع ساعات بطالة، فليس بمقدور أحد أن يتذمّر» يجيب أعيان جَمَلا ويَذهَبون ليتحدّثوا إلى المشرفين، وبعدها بلحظات قليلة أرى المشرفين يهزّون أكتافهم كما ليقولوا: «إذا كنتم راضين، فلماذا علينا أن نقلق؟» ومِن ثمّ يُصفّرون لمجموعات العمّال، مِن الواضح أنّها إشارة تعني استراحة.
يسوع في تلك الأثناء كان قد تحدّث لأناس آخرين مِن جَمَلا، وأراهم يومِئون بالموافقة ويعودون مسرعين إلى البلدة.
العمّال يهرعون ويتجمّعون حول المراقبين وقد بدا عليهم الفزع.
«توقّفوا عن العمل. إنّ الضجيج الذي تُصدِرونه يُزعِج الفيلسوف» يأمر أحدهم، ربّما هو رئيسهم.
يَنظُر العمّال بعيون متعبة إلى الذي دُعي فيلسوفاً، والذي مَنَحَهم هديّة الاستراحة. والفيلسوف ينظر إليهم بشفقة، يردّ على نظراتهم وعلى كلام رئيس المشرفين قائلاً: «إنّ الضجيج الذي يُصدِرونه لا يزعجني، إنّما شقاؤهم يحزنني. تعالوا يا أبنائي. أريحوا أجسادكم وأكثر منها قلوبكم قرب مسيح الله.»
الشعب، العبيد، المحكومون، الرُّسُل والتلاميذ يتجمّعون في الفسحة الشاغرة بين الجبل والخنادق، وأولئك الذين لا يجدون أيّ مكان شاغر هناك، فإنّهم يتسلّقون إلى الخنادق الأعلى والأقرب للأرض، والأقلّ حظّاً يُذعِنون للذهاب إلى الطريق، حيث الشمس تَسطَع. ويأتي مزيد مِن الناس مِن جَمَلا، والكثير مِن المسافرين القادمين مِن بلدات أخرى والمتّجهين إلى جَمَلا يتوقّفون هُم أيضاً.
هناك جمع كبير. وأولئك الذين غادروا منذ بعض الوقت (الذين تحدّث إليهم يسوع وعادوا مسرعين إلى البلدة) يُعمِلون مرافقهم كي يشقّوا طريقهم عبر الجمع. إنّهم يحملون سِلالاً وقوارير ثقيلة. إنّهم يشقّون طريقهم وصولاً إلى يسوع -الذي أعطى تعليماته للرُّسُل كي يجلبوا العمّال إلى الصفّ الأوّل- ويضعون السِّلال والقوارير عند قدميه.
«أعطوهم صَدَقات المحبّة» يأمر يسوع.
«لقد سبق أن تناولوا طعامهم وما يزال هناك بعض الماء الممزوج بالخلّ وخبز. إذا أكلوا كثيراً، فسوف يشعرون بثقل أثناء العمل» يصرخ أحد المشرفين.
يَنظُر إليه يسوع ويكرّر الأمر: «أعطوهم طعاماً يليق بالبشر، واجلبوا لي طعامهم.»
الرُّسُل وبمساعدة متطوّعين ينفّذون الأمر.
إنّ طعامهم! نوع مِن قشرة داكنة قاسية، لا يليق بالحيوانات، وقليل من الماء الممزوج بالخلّ. ذلك هو غذاء هؤلاء المحكومين! يَنظُر يسوع إلى ذلك الطعام البائس ويضعه إلى جانب الجبل. وينظر إلى أولئك الذين كان عليهم أن يأكلوه، أجساد سيّئة التغذية، وحدها العضلات فيها صامدة، وقد تضخّمت بسبب الجهد المفرط، بحزم أوتارها المنتفخة فوق الجلد الرخو، عيون محمومة وخائفة، أفواه شَرِهة، إلى حدّ إظهار شهيّة حيوانيّة لدى قضمهم الطعام الوافر غير المتوقّع، وشرب النبيذ الحقيقيّ والمقوّي والمنعش…
ينتظرهم يسوع بصبر إلى أن يُنهوا وجبتهم. ولم يكن عليه أن ينتظر طويلاً لأنّ نهمهم كان كبيراً بحيث أنّه سرعان ما تمّ التهام كلّ شيء.
يَفتَح يسوع ذراعيه كما هي عادته عندما يكون على وشك أن يبدأ بالكلام، كي يلفت انتباه الناس ويَفرض الصمت. يقول: «ما الذي تنظر إليه عينا الإنسان بإعجاب في هذا المكان؟ ودياناً قد حُفرت أعمق ممّا شكّلتها الطبيعة، تلالاً أنشأها الإنسان بِكُتَل مِن صنع البشر، طرقاً متعرّجة تخترق الجبال كأوجار الحيوانات. ولماذا كل ذلك؟ لدرء خطر غير معروف مِن أين يمكن أن يأتي، إنّما مع شعور بأنّه وشيك كغيمة بَرَد في سماء عاصفة.
في الحقيقة يتمّ التصرّف هنا بطريقة بشريّة، بقدرات بشريّة ووسائل بشريّة، وفي بعض الأحيان أيضاً بوسائل لا بشريّة، كي يُدافِعوا عن أنفسهم ويهيّئوا وسائل للهجوم. غافلين عن كلام النبيّ، الذي يُعلّم شعبه كيف يمكن الدفاع عن النّفْس مِن المصائب البشريّة عبر وسائل فائقة للبشر، الأكثر نجاعة. إنّه يصيح: "تعزّوا... عزّوا أورشليم، لأنّ عبوديّتها قد انتهت، وإثمها قد كُفِّر عنه، لأنّها قد نالت مِن يد الربّ الضِّعف عن كلّ خطاياها." وبعد الوعد فهو يشرح الطريقة لجعله يصبح واقعاً: "أعِدّوا طرق الرّب، قوّموا في القفر طرق الله. كلّ وادٍ سيُردم، كلّ جبل سيخفّض، الطرق الملتوية ستغدو مستقيمة، الطرق الصعبة ستغدو مريحة، عندها سيُكشَف مجد الرّب، وكلّ البشر سوف يرونه دونما أيّ استثناء، لأنّ فم الربّ تكلّم." تلك الكلمات قد كرّرها رجل الله، يوحنّا المعمدان، ووحده الموت مَن أَسكَتَ شفتيه عن تلك الكلمات.
هذا هو، أيّها البشر، الدفاع الحقيقيّ ضدّ المصائب البشريّة. لا الأسلحة ضدّ الأسلحة، لا الدفاع ضدّ الهجوم، لا الكبرياء، لا الشراسة. بل الأسلحة فائقة الطبيعة، بل الفضائل المكتسبة في التفرّد، أي، في داخل الفرد، وحده تماماً مع نفسه، الذي يعمل على تقديس نفسه، رافعاً جبالاً مِن المحبّة، مُخفّضاً قمماً مِن الكبرياء، مقوِّماً دروب الشهوة الملتوية، مزيلاً العوائق الحسّيّة مِن طريقه. عندها سوف يَظهَر مجد الربّ، والإنسان سوف يحظى بحماية الله ضدّ مكائد الأعداء الروحيّين والمادّيّين. ماذا تتوقّعون مِن بضع خنادق، بضع منحدرات، بضع تحصينات، أن تفعل مقابل عقاب الله، الذي جلبه الإنسان لنفسه بجور أو فقط فتور؟ مقابل العقوبات التي ستُدعَى: رومان، والتي في الماضي كانت تدعى: بابلييّن، فلسطينيّين، أو مصريّين، والتي هي في الحقيقة عقوبات إلهيّة، وليست أيّ شيء آخر، وقد كانت مُستحَقّة بسبب الكبرياء المفرط، الفجور، الجشع، الزّيف، الأنانيّة، عصيان شريعة الوصايا (العشر) المقدّسة. إنّ الإنسان، حتّى الأقوى، يمكن أن تقتله ذبابة. وحتّى البلدة الأكثر تحصيناً يمكن أن تؤخذ بعاصفة عندما لا يتمتّع لا الإنسان ولا المدينة بحماية الله، التي تهرب، تُطرد، بسبب خطايا الإنسان أو البلدة.
ويتابع النبيّ قائلاً: "كلّ إنسان كعشب هو، وكلّ مجده كزهرة برّيّة. فالعشب ييبس، والزهرة تسقط ما أن تتلقّى نفخة مِن نَفَس الربّ."
اليوم، وبحسب إرادتي، انظروا إلى هؤلاء الرجال برحمة، فيما حتّى البارحة كنتم تنظرون إليهم كما إلى آلات مُرغَمة على العمل لأجلكم. اليوم، ولأنّني وضعتُهم وسطكم، كإخوة وسط إخوة، أيا أيّها الأغنياء والسعداء، إنّكم اليوم ترونهم على ما هم عليه: بشراً. الازدراء أو اللامبالاة قد اختفيا مِن الكثير مِن القلوب، والرحمة قد حلّت محلّهما. إنّما فكّروا بهم بشكل أكثر عمقاً، إلى ما وراء أجسادهم الـمُهانة. ففيهم، في داخلهم، هناك نفوس، فِكر، مشاعر، كالتي عندكم. فقد كانوا ذات مرّة مثلكم: أصحّاء، أحراراً، سعداء. ولاحقاً ما عادوا كذلك. لأنّه إن كانت حياة الإنسان كما العشب الذي ييبس، فإنّ هناءه هو أكثر هشاشة. وأولئك الذين هُم أصحّاء اليوم، قد يمرضون غداً، وأولئك الذين هُم أحرار اليوم، قد يُصبِحون عبيداً غداً، وأولئك الذين هُم سعداء اليوم، قد يصبحون تعساء غداً. إنّ بعض أولئك الرجال هُم حتماً مذنبون. لا تدينوا أخطاءهم، ولا تُسَرّوا بتكفيرهم. فلأسباب كثيرة، قد تكونون أنتم المذنبين غداً، وتُرغَمون على اجتياز تكفير قاسٍ. إذن كونوا رحماء، لأنّكم لا تعرفون مستقبلكم، الذي قد يكون مختلفاً جدّاً عن حاضركم، بحيث قد تكونون بحاجة إلى كلّ الرحمة الإلهيّة والبشريّة. كونوا ميّالين إلى المحبّة والمغفرة. فما مِن إنسان على الأرض ليس بحاجة إلى مغفرة مِن الله ومغفرة مِن بعض إخوته في البشريّة. فاغفروا إذن، كي يُغفَر لكم.
ويُتابع النبيّ قائلاً: "العشب ييبس، والزهور تسقط، أمّا كلمة الربّ فتبقى للأبد." هذا هو السلاح والدفاع: الكلمة الأزليّة التي غدت شريعة كلّ أفعالكم.
ارفعوا ذلك السُّور الحقيقي ضدّ الذي يهدّدكم، وسوف تَخلصون. فإذن اقبَلوا الكلمة، هو الذي يكلّمكم، إنّما لا تستقبلوه بطريقة مادّيّة، فقط لساعة واحدة ضمن أسوار البلدة، إنّما في قلوبكم، وللأبد، لأنّني أنا العارف والفاعل والموجِّه بسلطان. وأنا الراعي الصالح، الذي يرعى القطيع الذي يتّكل عليه، وأنا لا أُهمل أحداً، لا الصغار، ولا أولئك المتعبين، ولا المصابين، ولا الذين أصابهم مصير سيّئ، أو أولئك الذين يبكون خطاياهم، أو أولئك الذين، رغم كونهم أغنياء وسعداء، يتركون كلّ شيء كيّ يُحرِزوا الغنى والسعادة الحقيقيّين: أي، أن يَخدموا الله حتّى الموت.
روح الربّ عليَّ لأنّ الربّ أرسلني كي أُعلِن البشرى الصالحة للودعاء، كي أشفي منكسري القلوب، كي أُبشّر العبيد بالانعتاق والسجناء بالحرّيّة. ولا أحد يستطيع القول بأنّني محرّض على الفِتَن، لأنّني لا أُحرّض على التمرّد، ولا أنصح العبيد والسجناء بالهرب، بل أُعلّم الإنسان المقيّد والعبد، الحرّيّة الحقّة والانعتاق الحقّ، اللذين لا يمكن أن يُنتَزَعا منه ولا أن توضَع لهما حدود، واللذين كُلّما سلّم لهما الإنسان نفسه أكثر، كلّما تعاظما أكثر: أُعلّمه التحرّر الروحيّ، الانعتاق مِن الخطيئة، الوداعة في الألم. أعلّمه أن يرى الله فيما ما وراء البشر الذين يُكبّلون السجناء، كي يؤمن بأنّ الله يحبّ أولئك الذين يحبّونه، ويغفر حيث لا يغفر الإنسان، كي يرجو بمكان أزليّ مكافأة للذي يعرف أن يكون صالحاً في مصائبه، والذي بوسعه أن يتوب عن خطاياه ويكون وفيّاً للربّ.
لا تبكوا أيّها الرجال، الذين أتوجّه إليكم أنتم بالتحديد. لقد أتيتُ كي أعزّي، وأجمع المنبوذين، كي أجلب النور إلى ظلماتهم، السلام لنفوسهم، كي أَعِد بمسكن فرح للتائب كما لغير المذنب. ما مِن ماضٍ يحول دون هذا الحاضر الذي ينتظر في السماء أولئك الذين يخدمون الربّ في الوضع الذي هم عليه.
إنّ خدمة الربّ ليست أمراً صعباً يا أبنائي المساكين. لقد مَنَحَكم وسيلة سهلة كي تخدموه، لأنّه يريدكم أن تكونوا سعداء في السماء. أن تخدموا الربّ يعني أن تحبّوا. أن تحبّوا مشيئة الله، لأنّكم تحبّون الله. إنّ مشيئة الله تَحتَجِب حتّى تحت الأمور الأكثر بشريّة ظاهريّاً. لأنّه -وأنا أتحدّث إليكم أنتم الذين ربّما أرقتم دم إخوتكم- إن لم تكن بالتأكيد مشيئة الله أن تكونوا عنيفين، فإنّ مشيئته الآن هي بأن تُشطَب ديونكم تجاه المحبّة عبر تكفيركم. ولأنّه، إن لم تكن مشيئة الله أن تتمرّدوا على أعدائكم، فإنّ مشيئته الآن هي أن تصبحوا متواضعين بقدر ما كنتم متكبّرين، الأمر الذي كان يضرّ بأنفسكم. ولأنّه، إن لم تكن مشيئة الله أن تَستَحوِذوا بالغشّ على أشياء سواء أكانت قَيّمة أم رخيصة، على ما لم يكن مِلكاً لكم، فإنّ مشيئة الله الآن هي أن تُعاقَبوا، كي لا تمثلوا أمام الله وخطيئتكم ما تزال تُثقِل قلوبكم.
ويجب ألّا يتمّ نسيان ذلك مِن قِبَل أولئك الذين هم في الوقت الحاضر سعداء، ومِن قِبَل أولئك الذين يعتقدون أنّهم بأمان، الذين وبسبب هكذا ثقة عقيمة، فهم لم يُعِدّوا في ذواتهم ملكوت الله، وفي ساعة التجربة سوف يكونون مثل الأطفال الـمُبعَدين عن المنزل الأبويّ، تحت رحمة العاصفة، وتحت سُوط الألم.
تصرّفوا جميعكم باستقامة، وارفعوا عيونكم نحو منزل الآب، نحو ملكوت السموات، والتي، ما أن تُفتَح أبوابه مِن قِبَل الذي أتى كي يفتحها، فهو لن يرفض أن يستقبل أيّ أحد قد بَلَغَ البرّ.
أنتم، أيّها المشوَّهون في أجسادكم، المقعدون، المخصيّون، أو أنتم، أيّها المشوّهون في نفوسكم، المقعدون المخصيّون في قدراتكم الروحيّة، والمنبوذون في إسرائيل، لا تخافوا مِن ألّا تحظوا بمكان في ملكوت السموات. إنّ التشوّهات، العاهات، الاختلالات التي تصيب الأجساد تنتهي مع فناء الأجساد. أمّا تلك الأخلاقيّة، مثل الأسر والعبوديّة، فستنتهي هي أيضاً يوماً ما. أمّا تلك التي تصيب النّفْس، أي ثَمَر الخطايا الماضية، فيتمّ تصحيحها بالإرادة الصالحة. والتشوّهات المادّيّة لا تحتسب في عينيّ الله، وتلك الروحيّة فتُلغى في عينيه عندما تغطّيها توبة ملؤها المحبّة.
كَون أحدهم لا ينتمي إلى الشعب المقدّس لا تمنعه مِن خدمة الربّ. لأنّ الزمن قد حلّ حيث تزول كلّ حدود الأرض أمام الـمَلِك الأوحد، مَلِك الملوك والشعوب، الـمَلِك الذي سوف يجمع كلّ الشعوب في شعب واحد كي يجعل منه شعبه الجديد. شعبٌ لن يُستثنى منه سوى أولئك الذين يحاولون خداع الربّ بطاعة كاذبة لوصاياه العشر، الوصايا التي يمكن لكلّ البشر ذوي الإرادة الصالحة أن يتبعوها، سواء كانوا يهوداً، وثنيّين أم جاهليّين. لأنّه حيثما تكون إرادة صالحة، تكون هناك نزعة للاستقامة، ومَن يكون ميّالاً للاستقامة، فلن يجد صعوبة في عبادة الله الحقّ، ما أن يتوصّل إلى معرفته، إلى احترام اسمه، إلى مراعاة الأيّام المقدّسة، في تكريم الأبوين، في عدم القتل، عدم السرقة، عدم الشهادة بالزّور، بألّا يكون زانياً أو منحرفاً، بعدم اشتهاء ما ليس له. ومَن لم يفعل ذلك حتّى الآن، فليفعله مِن الآن فصاعداً، بحيث تَخلص نَفْسه ويحظى بمكانه في السماء. إنّه مكتوب: "سوف أمنحهم مكاناً في بيتي إذا احترموا عهدي، وسوف أجعلهم سعداء." وذلك قد قيل لكلّ البشر ذوي الإرادة المقدّسة، لأنّ قدّوس القدّيسين هو الأب المشترك لكلّ البشر.
لقد تكلّمتُ. ليس لديَّ مال لهؤلاء الناس. وهو لن يشكّل أيّة فائدة لهم. ولكنّني أقول لكم يا أهل جَمَلا، الذين قد تقدّمتم كثيراً على درب الربّ منذ المرّة الأولى التي التقينا فيها، بحيث تُشيّدون الدفاع الأنجع لمدينتكم: دفاع محبّتكم الواحد للآخر ومحبّتكم لأولئك الرجال، بتقديم العون لهم باسمي فيما يعملون مِن أجلكم. هل ستفعلون ذلك؟»
«نعم يا ربّ» يصيح الجمع.
«فلنذهب إذن. ما كنتُ لأدخل مدينتكم لو أنّ قسوة قلوبكم كانت قد أجابت بـ "لا" على ما طلبتُه. ولتكونوا مباركين أنتم الذين ستظلّون هنا... هيّا بنا...»
ويعود إلى الطريق، التي هي الآن غارقة بأشعة الشمس، والتي تمضي صعوداً إلى البلدة التي بنيت تقريباً في الصخور مثل بلدة لسكّان الكهوف، إنّما التي تحوي منازل معتنى بها جيّداً، وإطلالة شديدة الروعة، ومتنوّعة تبعاً للاتّجاه الذي يتمّ النّظر إليه، نحو جبال حورانيطس [حوران] أم نحو بحر الجليل، نحو حرمون الكبير البعيد أو نحو وادي الأردن الأخضر. البلدة منعشة بسبب الطريقة التي بنيت بها، على ارتفاع، بشوارع تحمي مِن الشمس الحادّة. إنّها تبدو كحصن ضخم أو سلسلة مِن الحصون أكثر منها بلدة، لأنّ المنازل، نصف المبنية بالطوب ونصف المحفورة في الجبل، تبدو حصناً.
وهناك في الساحة الرئيسيّة، الأعلى بين الساحات، في أعلى نقطة في المدينة –حيث العين تتمتّع بأُفق شاسع مِن الجبال، الأحراج، البحيرات، الأنهار، التي كلّها في الأسفل- هناك مرضى جَمَلا. ويسوع يمرّ شافياً إيّاهم.