ج6 - ف150
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الثاني
150- (في جرجسا والعودة إلى كفرناحوم)
16 / 07 / 1946
إنّهم يَصِلون إلى ضفّة البحيرة، إلى الجوار المباشر لجرجسا، حيث الغروب الضارب إلى الحُمرة يستحيل غسقاً بنفسجيّاً ومسالماً. الضفّة مزدحمة بأناس يُعِدّون قواربهم للصيد الليليّ، أو يستحمّون بسرور في البحيرة، التي تتماوج بخفّة بفعل الريح الذي يَهبّ فوقها.
تتمّ رؤية يسوع والتعرّف عليه في الحال، بحيث أنّه وقبل أن يَدخُل البلدة، يَعلَم الناس بأنّه قد أتى، وتَهرَع الجموع كما هي العادة كي يسمعوه.
يشقّ رجل طريقه وسط الجمع قائلاً بأنّ بعض الأشخاص قد أتوا في الصباح مِن كفرناحوم بحثاً عنه، وبأنّ عليه أن يذهب إلى هناك بأسرع وقت ممكن.
«في هذه الليلة ذاتها. لن أبقى هنا، وحيث إنّ قواربنا ليست هنا، فأطلب منكم أن تعيروني قواربكم»
«كما تشاء يا ربّ. إنّما هل ستتحدّث إلينا قبل مغادرتكَ؟»
«نعم، سوف أفعل، وأيضاً كي أودّعكم. فسوف أرحل عن الجليل قريباً...»
إمرأة تبكي، تناديه مِن وسط الجمع، وتتوسّل الناس لِيَدعوها تمرّ، كي تستطيع أن تذهب إلى المعلّم.
«إنّها أريّا، الوثنيّة التي أصبحت يهوديّة بدافع المحبّة. لقد شَفَيتَ زوجها مرّة. إنّما...»
«أَذكُر ذلك. دعوها تمرّ!»
تتقدّم المرأة. وترتمي عند قدميّ يسوع باكيةً.
«ما بكِ يا امرأة؟»
«يا معلّم! يا معلّم! ارحمني. إنّ شمعون...»
رجل مِن جرجسا يساعدها في الكلام: «يا معلّم، إنّه يسيء استخدام الصحة التي مَنَحتَها له. لقد غدا قاسيَ القلب وجَشِعاً، وحتّى إنّه ما عاد يبدو يهوديّاً بعد. المرأة هي حقّاً أفضل منه بكثير، رغم أنّها وُلِدت في بلد وثنيّ. وإنّ قسوته وجشعه يتسبّبان له بمشاجرات وكراهية. لقد جُرِح رأسه جُرحاً بليغاً أثناء مشاجرة، ويكاد يَجزم الطبيب أنّه سوف يغدو أعمى.»
«في مثل هذه الحال، ماذا عساي أن أفعل؟»
«أنتَ... اشفه... هي، كما ترى، في يأس... لديها العديد مِن الأولاد، وهم لا يزالون صغاراً. إنّ عمى زوجها يعني البؤس للعائلة... صحيح أنّه مال مُكتَسَب بطرق سيّئة... لكنّ موته سوف يكون نكبة، لأنّ الزوج هو دوماً زوج، والأب هو دوماً أب، حتّى ولو كان يقدّم الخيانة والعنف عوضاً عن المحبّة والخبز...»
«لقد شفيتُه مرّة وقُلتُ له: "لا تَعُد تخطئ". وقد أخطأ أكثر فيما بعد. ألم يَعِد بأنّه لن يُخطئ بعد؟ ألم يَنذُر بأنّه لن يعود مرابياً ولصّاً إذا ما شفيتُه، وبأنّه سوف يُعيد ما اكتسبه بطرق سيّئة لِمَن يمكنه ذلك، وإن لم يستطع، فأن يستخدمه لأجل الفقراء؟»
«هذا صحيح يا معلّم. أنا قد كنتُ حاضراً. إنّما... الرجل ينقصه أن يكون حازماً في مقاصده.»
«أحسنتَ قولاً. إنّ شمعون ليس الوحيد. وكما يقول سليمان، كُثُر لديهم مِثقالَان وميزان زائف، ليس فقط بالمعنى المادّيّ، بل أيضاً بالكيفيّة التي يحكمون بها، وبأفعالهم وتصرّفاتهم تجاه الله. ويقول سليمان أيضاً: "مِن الـمُهلك للإنسان أن يَلتَهِم القداسة، وأن يَندَم بعد تقديم نَذْر (أمثال 20: 25)." إنّما كثيرون يفعلون ذلك... يا امرأة، لا تبكي. أنصتي إليَّ وكوني بارّة، لأنّكِ اخترت دِين البرّ. إذا ما اقترحتُ عليكِ خيارين، فأيّهما ستختارين؟ ها هما: أن أَشفي زوجكِ وأتركه يعيش ليواصل الاستهانة بالله ويُراكم الخطايا على نفسه، أو أن أهديه وأغفر له ومِن ثمّ أن أدعه يموت؟ اختاري. وسوف أفعل ما تقرّرينه.»
المرأة المسكينة في صراع مرير. فالمحبّة الطبيعيّة، والحاجة إلى رجل يكسب بطريقة أو بأخرى معيشة أولاده، يدفعانها لأن تطلب له "الحياة". أمّا محبّتها فائقة الطبيعة لزوجها فتحثّها على طلب "المغفرة والموت". الجمع صامت، متحفّز، متأثّر، في انتظار قرارها.
أخيراً ترتمي المرأة المسكينة مجدّداً على الأرض، تقبض بشدّة على ثوب يسوع كما لتستمدّ منه القوّة، وتنوح: «الحياة الأبدية... إنّما ساعدني يا ربّ...» وتبدو وكأنّها تموت لشدّة ما كانت تضرب وجهها بالأرض.
«لقد اخترتِ الرهان الأفضل. فلتكوني مباركة. قلّة في إسرائيل يضاهونكِ في مخافة الله وفي البرّ. انهضي. لنذهب إلى زوجكِ.»
«إنّما هل حقّاً سوف تجعله يموت، يا ربّ؟ وكيف سأتصرّف؟» المخلوقة البشريّة تَنهَض مجدّداً مِن نار الروح، مثل طائر الفينيق الأسطوريّ، إنّها متألّمة وفَزِعة بشريّاً.
«لا تخافي يا امرأة. أنتِ، أنا، نحن جميعاً، سوف نعهد بكلّ شيء لآب السماوات، وهو سوف يتصرّف انطلاقاً مِن محبّته. أتستطيعين الإيمان بذلك؟»
«نعم يا ربّي...»
«إذن، هيا بنا، ولنردّد صلاة كلّ الطلبات وكلّ التعزيات.»
وفيما يسير، محاطاً ومتبوعاً مِن قافلة مِن الناس، يتلو الأبانا على مهل. وتقتدي به المجموعة الرّسوليّة، وفي جوقة منتظمة، تَطغَى جُمَل الصلاة على ضجيج الجمع الذي، إذ هو مأخوذ برغبة سماع المعلّم وهو يصلّي، يصمت شيئاً فشيئاً، بحيث تُسمَع الطلبات الأخيرة بوضوح تامّ في الصمت المهيب.
«سوف يمنحكِ الآب خبزكِ اليوميّ. بإمكاني أن أؤكّد لكِ ذلك باسمه.» يقول يسوع للمرأة، ومِن ثمّ متوجّها بالكلام ليس لها فقط، بل إنّما لكلّ الناس، يُتابِع قائلاً: «وخطاياكم سوف تُغفر لكم، إذا ما غفرتم للذي أساء إليكم وآذاكم. إنّه بحاجة لمغفرتكم كي يحظى أيضاً بمغفرة الله. والكل بحاجة إلى حماية الله كي لا يقعوا في الخطيئة مثل شمعون. تذكّروا ذلك.»
لقد وصلوا الآن إلى المنزل الذي يدخله يسوع مع المرأة، وبطرس، وبرتلماوس والغيور.
الرّجل، الممدّد على فراش صغير، ووجهه مغطّى بالضمادات وبقطع قماشية مبلّلة، مُضطَرِب ويهذي. لكنّ صوت يسوع، أو مشيئته، تجعله يتمالك نفسه ويَصرُخ: «اغفر لي! اغفر لي! لن أقع بعد في الخطيئة. اغفر لي كما فعلتَ المرّة الماضية! واشفني، كما المرّة الماضية! أريّا! أريّا! أُقسِم على ذلك. سوف أكون صالحاً. لن ألجأ مجدّداً إلى العنف والاحتيال، لن...» إنّ الرّجل على استعداد لتقديم جميع أنواع الوعود، خوفاً مِن الموت…
«لماذا تريد ذلك؟» يَسأَل يسوع. «كي تُكفّر أم لأنّكَ خائف مِن دينونة الله؟»
«ذلك، ذلك! الموت الآن، لا! جهنّم!... لقد سرقتُ، لقد سرقتُ مال الفقير! لقد كذبتُ. لقد ضربت قريبي وعذّبتُ أهلي. آه!...»
«الخوف ليس كافياً، تلزم التوبة. توبة صادقة وحازمة.»
«الموت أو العمى! آه! عقاب! عدم الرؤية مجدّداً! الظلمة! الظلمة! لا!...»
«إذا كانت ظلمات العينين مرعبة، ألا تكون ظلمات القلب أكثر إرعاباً لكَ؟ ألا تخاف مِن الظلمة الأبديّة المهولة لجهنّم؟ الحرمان الدائم مِن الله؟ تأنيب الضمير المتواصل؟ مِن ألم إهلاك نفسكَ للأبد، روحيّاً؟ ألا تحبّ امرأتكَ؟ ألا تحبّ أولادكَ؟ وأبوكَ، وأُمّكَ، وأخوتكَ، ألا تحبّهم؟ فإذن، ألا تضع في اعتبارك أنّكَ لن تحظى بهم معكَ مجدّداً إذا مُتَّ مداناً؟»
«لا! لا! المغفرة! المغفرة! سأُكفّر هنا، نعم، هنا... أيضاً العمى يا ربّ... إنّما جهنّم لا... فلا يلعنّني الله! يا ربّ! إنّكَ تطرد الشياطين وتَغفر الخطايا، لا ترفع يدكَ كي تشفيني، بل كي تغفر لي وتحرّرني مِن الشيطان الذي يتملّكني... ضع يدك على قلبي، على رأسي... حرّرني يا ربّ...»
«لا يمكنني أن أجترح معجزتين. فَكِّر بذلك. فإذا حرّرتكَ مِن الشيطان، فسوف أترككَ بمرضكَ...»
«لا يهمّ! كُن المخلّص.»
«ليكن كما ترغب. احرص على أن تستفيد مِن النعمة، والتي هي الأخيرة التي أمنحكَ إيّاها. وداعاً.»
«إنّكَ لم تلمسني. يدكَ! يدكَ!»
يسوع يُرضيه بوضع يده على رأس وصدر الرجل، الذي وقد أعمَته الضمادات والجرح، فإنّه يبحث بتشنّج عن يد يسوع، وإذ يجدها، فإنّه يبكي عليها، رافضاً تركها، حتّى يغفو مثل طفل مُتعب، وهو لا يزال ممسكاً بيد يسوع التي يضغطها على خدّه المحموم.
يسوع يسحب يده بِرَويّة ويخرج مِن الغرفة بهدوء، متبوعاً مِن المرأة والرُّسُل الثلاثة.
«ليكافئكَ الله يا ربّ. صلِّ لأجل خادمتكَ.»
«تابعي النموّ في البرّ يا امرأة، وسيكون الله معكِ على الدوام.» يرفع يده ليبارك المنزل والمرأة ويخرج إلى الشارع.
يعلو ضجيج الجمع حين يُطلِق أسئلة فضوليّة لا تحصى. لكنّ يسوع يشير إليهم بأن يصمتوا وأن يلحقوا به. إنّه يعود إلى الطريق الرئيسيّة. الليل يهبط على مهل. يسوع يصعد إلى قارب يتمايل صعوداً وهبوطاً قرب الضفّة، ويتكلّم مِن هناك.
«لا. هو لم يمت ولم يُشفَ جسديّاً. إنّ روحه قد تأمّل خطاياه، ودَلّ فِكره على الاتّجاه الصحيح، لقد غُفِر له لأنّه طلب التكفير كي ينال المغفرة.
وأنتم، كلّكم، ساعدوه في مسيره نحو الله. فَكّروا بأنّنا كلّنا مسؤولون تجاه نَفْس قريبنا. والويل لِمَن تقع عن يده الشكوك! والويل أيضاً لِمَن يُخيف بسلوكه المتعصّب إنساناً قد وُلِد للتوّ للخير، مُبعِدين إيّاه وبتعنّت عن الدرب الذي انطلق عليه. بوسع الجميع أن يكونوا بطريقة ما معلِّمين، معلِّمين صالحين للقريب، بل وأكثر مِن ذلك، عندما يكون القريب ضعيفاً وغير مُدرِك لحكمة الخير. أحثّكم على التحلّي بالصبر، وأن تكونوا وُدعاء وحليمين مع شمعون. لا تُظهِروا له كراهية، ضغينة، احتقاراً، سخرية. انسوا ماضيه ولا تُذكّروه به. إنّ الإنسان الذي ينهض بعدما غُفر له، بعد التوبة، بعد عزيمة صادقة، لديه إرادة، لكنّه أيضاُ مُثقَل بالوزن، بإرث شهوات وعادات ماضيه. يجب معرفة مساعدته على التحرّر منها. وبكثير مِن التروّي. دونما إبداء تلميحات لماضيه: فذلك مِن غير الحكمة سواء تجاه المحبّة وتجاه المخلوق البشريّ.
إنّ تذكير الخاطئ التائب بأخطائه يُثبِطّ عزيمته. إنّ ضميره الواعي يكفي للقيام بذلك. إنّ تذكير إنسان بماضيه، هو إعادة إحياء للشهوات، وفي بعض الأحيان، العودة للشهوات التي تمّ التغلّب عليها، والقبول بها مجدّداً. وهو بأفضل حالاته يتسبّب بالتجربة.
لا تجرّبوا قريبكم. كونوا مُتعقِّلين ومُحبّين. وإذا ما حفظكم الله مِن خطايا معيّنة، فاحمدوه. إنّما لا تُظهروا برّكم كي تُذِلّوا مَن لم يكن بارّاً. أَحسِنوا فهم النظرة المتوسِّلة للإنسان التائب الذي يَودّكم أن تنسوا، والذي، وإن كان مدركاً بأنّكم لم تسامحوه، فهو يناشدكم على الأقلّ بألّا تذلّوه بتذكيره بماضيه.
لا تقولوا: "لقد كان روحه أبرصاً" كي تُبرّروا مرّات إهمالكم. مَن أصيب بالبرص، وبعد التطهيرات الذي تَلي شفاءه، فإنّه يُقبَل ثانية بين الشعب. فليُطبّق ذات الشيء على ذلك الذي شُفي مِن الخطيئة. لا تكونوا مثل أولئك الذين يعتبرون أنفسهم كاملين، في حين أنّهم ليسوا كذلك لأنّهم يفتقرون إلى المحبّة تجاه إخوتهم. أحيطوا بمحبّتكم إخوتكم الذين نهضوا ثانية في النعمة، لِتَحول رفقة صالحة دون سقطات جديدة.
لا تحاولوا أن تكونوا أكثر تطلّباً مِن الله، الذي لا يرفض الخاطئ الذي يتوب، وإنّما يَغفِر له ويَقبَله ثانية في صحبته. وحتّى لو أن هذا الخاطئ كان قد تسبّب لكم بضرر غير قابل للإصلاح، فلا تثأروا لأنفسكم الآن وهو لم يعد قويّاً يُخشى، وإنّما اغفروا له وأشفقوا عليه أكثر، لأنّه كان مفتقراً إلى الكنز الذي يمكن أن يحصل عليه كلّ إنسان، فقط إذا ما شاء ذلك: الصلاح. أحبّوه لأنّه بإيلامه إيّاكم فقد قدّم لكم الوسيلة لاستحقاق مكافأة أعظم في السماء. ضمّوا وسائلكم إلى وسيلته: المغفرة، وسوف تغدو مكافأتكم أكثر عظمة في السماء.
ولا تحتقروا أحداً، ولا حتّى إن كان ينتمي إلى عِرق آخر. بإمكانكم رؤية أنّه عندما يَجذب الله روحاً، حتّى ولو كان روح وثنيّ، فهو يحوّله بحيث يتفوّق بالبرّ على الكثيرين مِن الشعب المختار.
إنّني راحل. تذكّروا الآن ودوماً هذه الكلمات والكلام الآخر الذي قُلتُه لكم.»
بطرس، الذي كان جاهزاً، يجذّف دافعاً القارب بعيداً عن الضفّة، ويبدأ رحلته متبوعاً مِن القارِبَين الآخَرَين.
والبحيرة، المضطربة قليلاً، تتسبّب بترنّح القارب، إنّما ما مِن أحد خائف لأنّ الرحلة قصيرة. الفوانيس الحمراء تعكس على المياه الداكنة ظلّ بقع مِن الياقوت، وتصبغ الزّبد الأبيض بلون الدم.
«يا معلّم، لكن هل سيتعافى ذلك الرجل أم لا؟ أنا لم أفهم شيئاً» يَسأَل بطرس بعد برهة، مِن دون أن يرفع يديه عن مقبض الدفّة.
يسوع لا يجيب، بطرس يومئ إلى يوحنّا الجالس في قعر القارب عند قدميّ يسوع، ورأسه مستند إلى ركبتيّ يسوع. ويوحنّا يُكرّر السؤال بصوت منخفض.
«لن يتعافى.»
«لماذا يا ربّ؟ فاستناداً لما سمعتُ، فقد اعتقدتُ بأنّه سوف يُشفى كي يكفّر.»
«لا يا يوحنّا. هو سوف يخطئ مجدّداً، لأنّ روحه ضعيف.»
يوحنّا يسند رأسه مجدّداً على ركبتيّ المعلّم قائلاً: «إنّما كان بمقدوركَ أنتَ أن تجعله قوياً...» ويبدو كأنّه يوجّه عتاباً لطيفاً.
يبتسم يسوع ممرّراً أصابعه عبر شعر يوحنّا، ثمّ رافعاً صوته كي يسمعه الجميع، فإنّه يعطي الدرس الأخير لليوم: «الحقّ أقول لكم، لمنح النعمة، يجب أخذ ملاءمتها بعين الاعتبار. فالحياة ليست دائماً نعمة، النجاح ليس دائماً نعمة، الابن ليس دائماً نعمة، ليس دائماً، نعم، حتّى الاختيار ليس دائماً نعمة. كلّ ذلك يصبح نِعَماً ويبقى كذلك عندما يُحسِن مَن يتلقّاها استخدامها، ولغايات تقديس فائقة الطبيعة. إنّما عندما تُستَخدم العافية، النجاح، المشاعر، الرسالة، لإفساد الروح، فَمِن الأفضل عدم امتلاكها. وأحياناً يَمنَح الله أعظم نعمة يمكن منحها، بعدم منح ما يرغب به البشر، أو ما يظنّون بأنّه كان مِن الصواب أن يحظوا به باعتباره أمراً صالحاً. إنّ ربّ العائلة أو الطبيب الحكيم يَعلَمان ما يمكن أن يُعطَى للأطفال كي لا يمرضوا أو للمرضى كي لا تسوء حالتهم. كذلك الله يعلم ما يمكن أن يُعطى مِن أجل خير الروح.»
«إذن فهذا الرجل سوف يموت؟ يا للبيت التعيس!»
«وهل سيكون أكثر سعادة إذا ما كان يقطنه أحد المحرومين مِن رحمة الله؟ وهل سيكون هو أكثر سعادة فيما إذا ما كان وهو حيّ يُواصِل ارتكاب الخطيئة؟ الحقّ أقول لكم بأنّ الموت نعمة عندما يفيد في منع ارتكاب المزيد مِن الخطايا، وعندما يأخذ الإنسان وهو متصالح مع ربّه.»
أرينة القارب (الجسر الممتد على طول قعر السفينة) أضحت تصرّ على القاع الرملي لبحيرة كفرناحوم.
«في الوقت المناسب. سوف تكون هناك عاصفة الليلة. إنّ البحيرة تثور، السماء بلا نجوم، إنّها سوداء كما الزفت. أتسمعون الهدير خلف الجبال؟ أترون تلك الإنارة؟ رعود وبروق. سوف يَنهَمِر المطر الآن. بسرعة! لنضع القوارب التي ليست لنا في مكان آمن! ولتنطلق النسوة والصبيّ قبل أن تُمطر. آه! ساعدونا!» يهتف بطرس لصيّادين آخرين يسحبون شِباكهم وسِلالهم.
يسحبون القارب بقوّة أذرعهم إلى الشاطئ بينما تَلطُم أولى الأمواج أجسادهم النصف عارية وتدفع الحصى الذي على الضفّة.
ثمّ يهرعون إلى المنزل فيما أولى قطرات المطر الكبيرة تُثير غبار الأرض الجافّة مُطلقة روائح حادّة. لقد أصبحت البروق الآن فوق البحيرة، وهدير الرعود يملاً الحوض الذي شكّلته تلال الشواطئ.