ج2 - ف76
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
76- (يسوع في بيت دوراس. موت يونا)
15 / 02 / 1945
مرّة أخرى أرى مرج ابن عامر، أثناء النهار، إنّه يوم شبه غائم، في نهاية الخريف. يُفتَرَض أنّ هُطولاً مَطَريّاً حَصَلَ أثناء الليل، إنّها إحدى أوائل الهطولات في أشهر الشتاء الحزينة، فالأرض رطبة، دون أن تكون موحِلة. وكذلك هنالك رياح، ريح رطبة تقتلع الأوراق المصفرّة، وتختَرِق حتّى العظم بِهَبَّاتها الـمُشبَعَة رطوبة.
ما تزال أزواج قليلة من الثيران تَقلب الأرض في الحقول، تَقلبها بصعوبة، في ذلك المرج الخصيب، لتهيئتها للبذار. وفي بعض الأمكنة مَشهَد تؤلمني رؤيته، وهو أنّ الرجال أنفسهم يؤدّون عمل الثيران، فَيَجرّون المحراث بكامل قوّة أذرعهم وحتّى صدورهم، مثبِّتين أقدامهم في الأرض المقلوبة، وهم يتعذّبون كالعبيد في هذا العمل الشاقّ المضني.
يَنظُر يسوع أيضاً، ويتأمّل هذا المشهد، ويصبح وجهه حزيناً حتّى الدموع.
أمّا التلاميذ الأحد عشر، ذلك أن يهوذا ما يزال غائباً والرُّعاة قد مَضوا، فيتحدّثون فيما بينهم، ويقول بطرس: «المركب صغير وفقير ومُتعِب... ولكنّه أفضل مائة مرّة مِن عَمَل الدّواب هذا!» ثمّ يَسأَل: «يا معلّم، هل هؤلاء خُدَّام دوراس؟»
ويُجيب سمعان الغيور: «لا أظنّ. فحقوله تقع بعد ذلك البستان، كما يبدو لي، وما زلنا لا نراها.»
ولكنّ بطرس دائم الفضول، يترك الطريق ليذهب بمحاذاة مُنحَدَر بين حَقلين، وقد جَلسَ على حافّته، للحظة، أربعة حارِثِين هزيلين يتصبّب منهم العَرَق، ويَلهثون مِن التعب. يسألهم بطرس: «هل أنتم لدوراس؟»
«لا ولكننا لأحد أقاربه. نحن لجيوقانا Giocana. وأنتَ مَن تكون؟»
«أنا سمعان بن يونا، صياد مِن الجليل حتّى وقت قريب. أمّا الآن فبطرس يسوع الناصريّ، مَسيّا البُشرى الحَسَنة.» يقولها بطرس باحترام وَزَهو مَن يقول: "أنا أنتمي إلى السامي والإلهيّ قيصر روما." بل أكثر. وجهه النـزيه يُشرِق حقيقة بفرح إعلانه انتماءه ليسوع.
«آه! مَسيّا! أين هو؟» يقول البائِسون الأربعة.
«إنّه ذاك، الأشقر الكبير الذي يرتدي الأحمر الداكن. الذي ينظر إلى هنا الآن، ويبتسم في انتظاري.»
«آه!... لو ذهبنا إليه... فهل سيطردنا؟»
«يطردكم؟... لماذا؟ إنّه صديق البؤساء والفقراء والمظلومين، ويبدو لي أنّكم... أنتم حقيقة مِن أولئك...»
«آه! نعم، إنّنا كذلك! إنّما لسنا أبداً كأولئك الذين لدوراس. فنحن، على الأقلّ، نحصل على الخبز باعتدال، ولا نُجلَد إلّا إذا أهمَلنا العمل، ولكن...»
«لدرجة أنّ السيد جيوقانا الوسيم لو يراكم هنا تتحدّثون، أنتم...»
«لكان يَجلدنا كما لا يَجلد كلابه...»
يُصَفِّر بطرس بشكل مُعَبِّر. ثمّ يقول: «إذن يجدر بي فِعل هذا...» ويضع يديه على فمه بشكل قمعي ويصرخ بقوة: «يا معلّم، تعال هنا. إنّهم ذَوو قلوب تتألّم وترغب بكَ.»
«ولكن ماذا تقول؟! هو؟! إلينا؟! ولكنّنا خُدّام حقيرون!» ويرتَعِد الأربعة مِن هكذا جَسارة.
«ولكن لسعات السوط ليست ممتعة، وإذا جاءنا هذا الفرّيسيّ الوسيم فجأة، فلا أريد أن يلحقني نصيب أنا أيضاً...» يقول بطرس وهو يضحك ويهزّ الأكثر رُعباً مِن الأربعة بيده الضخمة.
ويسوع الذي في الخلف يَصِل، بخطوات واسعة، غير عارف بما يفعله الأربعة. كانوا يَودّون الجري لملاقاته، ولكنّ الإجلال يشلّهم. كائنات مسكينة جَعَلَها الشرّ الآدمي مذعورة تماماً. ينبطحون على الأرض، مُقَدِّمين، بوضعيّتهم تلك، فروض العبادة لمَسيّا الـمُقبِل إليهم.
«السلام لكلّ الراغبين بي. فَمَن يرغب بي يرغب بالخير معي، وأنا أحبّه كصديق. انهضوا. مَن تكونون؟»
أمّا الأربعة، فبالكاد يرفعون وجوههم، ويظلّون جاثين صامتين.
يتكلّم بطرس: «إنّهم أربعة خدّام لجيوقانا، وهو مِن أقرباء دوراس. كانوا يودّون التحدث إليكَ، إنّما، لو هو وَصَلَ فجأة، فسيُضرَبون بالعصيّ، لذلك قلتُ لكَ: "تعال". قفوا أيّها الأولاد، لن يأكلكم! ثِقوا! وفكّروا بأنّه صديق لكم.»
«نحن... قد سَمِعنا عنكَ... كان يونا يُحدّثنا...»
«ولقد أتيتُ مِن أجله. أعلَم أنّه بَشَّر بي. ماذا تعرفون عنّي؟»
«أنّكَ مَسيّا، وأنَّه رآكَ طفلاً صغيراً، وأنّ الملائكة قد رَتَّلوا: "السلام للصالحين"، لدى مجيئكَ، وأنّكَ قد اضطُهِدتَ... ولكنّكَ أُنقِذتَ، وأنّكَ تبحث الآن عن رُعاتكَ، و... أنّكَ تحبّهم. وقد كان يروي لنا هذه الأمور الأخيرة هنا. وكنّا نفكّر: "إذا كان صالحاً لدرجة أن يحبّ ويبحث عن رُعاة، فإنّه يرغب بالتأكيد بفعل القليل مِن الخير لنا أيضاً... فإنّنا في أمسّ الحاجة إلى شخص يحبّنا...»
«أنا أحبّكم. هل تُعانون الكثير؟»
«آه! ولكن أولئك الذين لدوراس يُعانون أكثر. لو أن جيوقانا وَجَدَنا نتحدّث!... ولكنّه اليوم في جرجسا. لم يَعُد بعد مِن عيد المظالّ. وفي هذه الأثناء، سوف يعطينا مدير أعماله الطعام، هذا المساء، بعد أن يُقَدِّر العَمَل. إنّما لا يهمّ، سوف نُعوّض الوقت الضائع، بالاستغناء عن استراحة الساعة السادسة المخصّصة للطعام.»
«قُل أيّها الوَلَد، أليس في استطاعتي استعجال هذا العمل؟ هل هو عمل صعب؟» يَسأَل بطرس.
«صعب، لا. ولكنّه مُتعِب. إنّه عمل يتطلّب القوّة.»
«وأنا أتمتّع بها. أَرِني، بلى أقدر، أنتَ تتحدّث وأنا أقوم مقام الثور. أنتَ: يوحنّا، وكذلك أندراوس ويعقوب، انظروا إلى هذا الدَّرس. إنّنا ننتَقِل مِن السَّمَك في الماء إلى الديدان في الأرض. هيّا بنا!» ويمسك بطرس بيديه عارِضة الـمَقبَض. فلكلّ محراث رَجُلان، واحد في كلّ جهة مِن الـمَقبَض. يَنظُر ويُقَلِّد جميع حركات الفلّاح. وللقوّة التي يتمتّع بها، وبما أنّه مرتاح، يقوم بعمل جيّد، فيهنّئه الرجل.
«أنا معلّم في الحَرث» يهتف بطرس الطيّب مبتهجاً. «هيّا يا يوحنّا، ثَوراً ثانياً للمِحراث، وللآخر يعقوب وهذا العِجل الأبكم الذي هو أخي. هيّا بنا! آه!... ارفَعوا!» ويتحرّك الـمِحرَاثان، وقد جُهِّزا بهذا الشكل، يَقلِبان الأرض ويَحفران الأثلام على طول الحقل. عند الطَّرَف، يُديرون الـمِحراث ويَشرعون بِثلم جديد. يبدون وكأنّهم عَمِلوا عمل الفلاحة هذا على الدوام.
«يا لأصدقائكَ مِن طيّبين!» يقول خادِم جيوقانا الأكثر جَسارة. «أأنتَ مَن جَعَلَهم هكذا؟»
«لقد وَجَّهتُ صلاحهم كما تفعل بِنَصل الـمِشذَب. ولكن الصَّلاح كان موجوداً أصلاً في داخلهم. أمّا الآن فهو يتفتّح لأنّ هناك مَن يرعاه ويعتني به.»
«يا لتَواضُع أصدقائكَ حتّى يؤدوا خدمة كهذه لخدّام بائسين!»
«لا يمكن أن يكون بصحبتي غير الذين يحبّون التواضع واللطف والعفّة والنـزاهة والحبّ، والحبّ فوق كلّ شيء، لأنّ مَن يحبّ الله والقريب يمتلك كلّ الفضائل ويَكسَب السماء.»
«هل سنتمكّن، نحن أيضاً، مِن الحصول عليها، نحن الذين لا وقت لدينا للصلاة ولا للذهاب إلى الهيكل ولا حتّى لنرفع رؤوسنا عن الثَّلم؟»
«أجيبوا: هل تُضمِرون البُغض للذين يُعاملونكم بقسوة؟ هل فيكم مَن يتمرّد ويلوم الله لأنّه جَعَلَكم بين الذين هُم آخِر مَن على الأرض؟»
«آه! لا يا معلّم. إنّه قَدَرنا. ولكنّنا، عندما نكون مُنهَكين مِن التَّعَب، فإنّنا نرتمي على أَسِرّتنا الحقيرة ونقول: حسناً، إله إبراهيم يَعلَم أنّه لم يعد بمقدورنا، وأنّنا لم يعد بإمكاننا سوى القول له: "لتكن مباركاً يا ربّ!" ونقول أيضاً: "اليوم أيضاً عشنا بلا خطيئة". تَعلَم... كان مِن الممكن كذلك أن نغشّ قليلاً، فنأكل مع الخبز قطعة فاكهة، وأن نَسكُب زيتاً على الخُضار المطهوّة بالماء. ولكنّ ربّ العمل قال: "الخدّام يحصلون على كفايتهم مِن الخبز والخُضار، وفي أوان الحصاد، على قليل مِن الخل مع الماء لإرواء العطش وليمنحهم بعض القوّة". ونحن نطيع. في النهاية كان يمكن أن يكون وضعنا أسوأ.»
«وأنا أقول لكم: حقّاً إنّ إله إبراهيم يبتسم لقلوبكم، في الوقت الذي يَنظُر بصرامة إلى الذين يُهينونه في الهيكل بصلواتهم الكاذبة، بينما هم لا يحبّون الذين يشبهونهم.»
«آه! ولكنّهم يتحابّون فيما بينهم! على الأقلّ... يَبدون هكذا، إذ يُعَبِّرون عن هذا الاحترام المتبادَل بالانحناءات والهدايا. فقط معنا لا يعرفون الحبّ. ولكنّنا مختلفون عنهم. وهذا عدل.»
«لا، في مملكة أبي، هذا ليس عدلاً. وأسلوب الحُكم سوف يكون مختلفاً. لن يكون الأغنياء وأصحاب النفوذ، لكونهم كذلك، هُم مَن يَحصَلون على الأمجاد، بل إنّما فقط الذين أَحَبّوا الله على الدوام، وأَحَبّوه أكثر مِن أنفسهم وأكثر مِن أيّ شيء آخر كالفضّة والسُّلطة والمرأة والطاولة، وأَحَبّوا كذلك الذين يشبهونهم والذين هم كلّ الناس، الأغنياء كالفقراء، المشهورين كالمغمورين، العُلَماء كالأُمّيين، صالحين كانوا أم طالحين. نعم، يجب أن نحبّ حتّى الطَّالحين، ليس اتّقاء لشرّهم، بل إنّما رأفة بنفوسهم التي يجرحونها حتّى الموت. ينبغي لنا أن نحبّهم حبّاً يَشفع بهم لدى الآب السماويّ ليُبرِئهم ويفتديهم. وفي مملكة السماوات سوف يكونون مغبوطين، أولئك الذين يُكَرِّمون الربّ بحقّ واستقامة، ويَشهَدون لهذا الحبّ باحترام الذين أوجدوهم في هذا العالم، وكذلك الأهل والأقارب؛ الذين لا يَسرقون شيئاً، ولا بأيّة طريقة، يعني الذين يُعطون ويُطالِبون بما هو حقّ وعادل، حتّى بالنسبة إلى عمل الخدّام؛ الذين لا يَقتلون السُّمعة أو الشخص، والذين لا رغبة لديهم للقتل، حتّى ولو كان آخرون مجرمين لدرجة تدفع القلب إلى التمرّد والاحتقار؛ الذين لا يؤدّون شهادات زور تُسَبّب الضرر للقريب أو تُسيء إلى الحقيقة؛ الذين لا يَرتَكِبون البغاء ولا خطايا الجسد، مهما كانت، الذين، بلطف واستسلام لإرادة الله، يَقبَلون دوماً بقدرهم دون أن يَحسدوا الآخرين. لهؤلاء ملكوت السماوات، وبهذا يمكن للمُتسوّل أن يكون، في العلاء، مَلِكاً ومغبوطاً، بينما حاكم الربع، سوف يكون، بفعل السُّلطة، قد تَـحَوَّل إلى أقلّ مِن لا شيء، إلى مصير أسوأ مِن العَدَم: سوف يكون فريسة الشيطان، لو تَصَرَّف بشكل يُنافي الشريعة الأزليّة للوصايا العشر.»
يَستَمِع الرجال فاغِرِين أفواههم، وإلى جانب يسوع هناك برتلماوس ومتّى وسمعان وفليبّس وتوما ويعقوب ويوضاس ابنا حلفى. أمّا الأربعة الباقون فيُكمِلون عملهم، ويَعتريهم احمرار ويتصبّب منهم العَرَق، إنّما فَرِحين. فمجرّد وجود بطرس يكفي للمحافظة على جوّ مِن البهجة والسرور.
«آه! كم كان يونا مُحِقّاً بتسميتكَ: "قدّيساً". فكلّ ما فيكَ يَنضَح قَداسة. الكلام والنَّظر والابتسام. فإنّنا لم ننتبه إلى نفوسنا قطّ كما الآن!...»
«هل مضى وقت طويل لم تَروا فيه يونا؟»
«منذ مرضه.»
«أمريض هو؟»
«نعم يا معلّم. لم يعد يستطيع العمل، وقد أضحى يجرّ نفسه. ولكنّه منذ أعمال الصيف وجَني العنب، لم يعد يستطيع الوقوف. ومع ذلك... كان يُرغِمه على العمل ذلك الـ... آه! وتقول بوجوب أن نحبّ الناس. ولكنّ حُبّ ضَبع هو حُبّ صعب جدّاً! ودوراس أسوأ مِن الضبع.»
«يونا يحبّه...»
«نعم يا معلّم. وأقول إنّه قدّيس، مثل الذين، لوفائهم للربّ إلهنا قد ماتوا مُستَشهِدين.»
«أَحسَنتَ قولاً. ما اسمكَ؟»
«ميخا، وهذا شاول، وذاك يوئيل، وهذا الأخير إشَعياء.»
«سوف أذكر أسماءكم لدى الآب. أوتقولون إنّ يونا قد اشتدَّ عليه المرض؟»
«نعم. هذا ما قاله لنا خدّام دوراس الآخرون، إنّه حالما ينتهي مِن العمل يرتمي على فِراش الدَّواب، ولا نعود نراه.»
«هل هو يعمل في هذا الوقت؟»
«لو كان يتمكّن مِن الوقوف، نعم. المفروض أن يتواجد في ما بعد بستان التفّاح هذا.»
«هل كان مَحصول دوراس جيّداً؟»
«آه! لقد كان أروع ما في البَلَد. وقد اضطُررنا لتدعيم الأشجار بسبب الثمار ذات الحجم الـمُعجِز، ولقد اضطرّ دوراس لصنع براميل جديدة، حيث لم تعد البراميل التي لديه تكفي بسبب وفرة العنب.»
«إذن قد يُكافِئ دوراس خادمه!»
«يُكافِئ! كم أَسَأتَ معرفته يا سيّدي!»
«لكنّ يونا أخبَرَنَي أنّه، منذ سنوات، ضُرِب ضَرباً كاد يُودي بحياته، لضياع بعض العناقيد، وأنّه أصبَحَ عبداً بسبب الديون، ذلك أنّ المعلّم قد اتّهمه بخسارة القليل مِن المحصول. فهذه السنة، إذ قد حَصَلَ على مثل هذه الوَفرة الـمُعجِزة، فينبغي له أن يكافئه.»
«لا، بل جَلَدَه بضراوة، متّهماً إيّاه بالتقصير في العناية بالأرض كما يجب للحصول على الوفرة هذه ذاتها في السنوات السابقة.»
«ولكنّ هذا الرجل هو وحش كَاسِر!» يهتف متّى.
«لا. بل ليس لديه نَفْس.» يقول يسوع. «أَدَعُكم يا أبنائي مع بركتي. هل لديكم خبز وطعام يكفي هذا اليوم؟»
«لدينا هذا الرغيف.» ويُخرِج رغيف خبز أسود مِن كيس مُلقى على الأرض.
«خذوا طعامي. ليس لديَّ سوى هذا، ولكنّني اليوم في بيت دوراس و...»
«أنتَ، في بيت دوراس؟»
«نعم، لافتداء يونا. ألم تكونوا تعلمون ذلك؟»
«ما مِن أحد يَعلَم شيئاً هنا. ولكن... كُن على حَذر يا معلّم، إنّكَ مِثل نعجة في وَكر ذئب.»
«لا يمكنه أن يفعل بي شيئاً البتّة. خذوا طعامي. يعقوب، أعطهم كلّ ما معنا، حتّى الخمر الذي لكَ. ابتَهِجوا قليلاً أنتم أيضاً أيّها الأصدقاء المساكين. فهذا للنَّفْس والجَّسَد معاً. بطرس! هيّا بنا.»
«ها أنا ذا آت يا معلّم. لم يعد سوى هذا الثَّلم وننتهي.» ويَهرَع صوب يسوع، وقد أنهَكَه التَّعَب. ويمسح عَرَقه بمعطفه الذي كان قد خَلَعَه، ويستعيده وهو يضحك سعيداً.
أمّا الأربعة فلا يَعودون ينتهون مِن الشُّكر.
«هل ستمرّ مِن هنا يا معلّم؟»
«نعم. انتظروني. سوف تُلقون التحيّة على يونا. هل يمكنكم القيام بذلك؟»
«آه! نعم، كان مِن المفروض أن يكون الحقل محروثاً حتّى هذا المساء، فهناك إذاً ثلثا الأعمال قد أُنجزت بشكل جيّد وسريع جدّاً! إنّ أصدقاءكَ أشدّاء! فليبارككم الله. لذا فاليوم، هو بالنسبة لنا، أكثر مِن عيد الفطير. آه! فليبارككم الله جميعاً! جميعاً! جميعاً!»
يَنطَلِق يسوع ومَن معه مباشرة إلى بستان التفّاح. يجتازونه، ويَصِلون إلى حقول دوراس. فلّاحون آخرون على المحراث أو مُنحَنون يَرفَعون الأعشاب المقلوعة، إنّما يونا غير موجود. يتعرّفون على يسوع. ويحيّيه الرجال دون تركهم العمل.
«أين يونا؟»
«بعد ساعتين مِن العمل سَقَطَ فوق الثَّلم، فنقلناه إلى البيت. مسكين يونا. لن يطول به زمن الألم. في الحقيقة إنّه مُشرِف على الموت. ولن يكون لنا صديق أفضل منه مطلقاً.»
«سوف أكون لكم على الأرض، وهو في أحضان إبراهيم. فالأموات يحبّون الأحياء حبّاً مضاعفاً: حبّهم الخاصّ، والحبّ الذي ينالونه لوجودهم مع الله، بالنتيجة فهو حبّ خالص.»
«آه! فلتذهب إليه حالاً. وليَرَكَ في معاناته!»
يُبارِك يسوع ويمضي.
«والآن ماذا ستفعل؟ وماذا ستقول لدوراس؟» يَسأَل التلاميذ.
«سأذهب كما لو أنّني لا أعلم شيئاً. فإنّه إذا ما وَجَدَ نفسه متفاجئاً، فهو قادر على أن يتصرّف بضراوة مع يونا ومع خدّامه.»
«صديقكَ على حق: إنه ابن آوى.» يقول بطرس لسمعان.
«إن لعازر لا يقول مطلقاً غير الحقيقة، وهو ليس نَمّاماً. سوف تتعرّف عليه وتحبّه.» يجيب ذاك.
ويَظهَر بيت الفرّيسيّ. إنّه واسع ومنخفض، ولكنّ بناءه جيّد، وسط بستان قد تعرّى حاليّاً. بيت ريفيّ، ولكنّه ثريّ وعمليّ. يَسبق بطرس وسمعان الآخرين للإعلام.
يَخرُج دوراس. إنّه عجوز، ومظهره الجانبي ينمّ عن قَسوة جَشَع عتيق، نَظرَة ساخرة وفم ثعبان، يهشّ بابتسامة مُخادِعة في لحية بيضاء أكثر منها سوداء. «سلاماً يا يسوع». تحيّة وديّة باستخفاف جَليّ.
لا يُلقي يسوع "السلام"، بل يُجيب: «فليَعُد سلامكَ إليكَ».
«ادخل. البيت يستقبلكَ. إنّكَ دقيق في مواعيدكَ كَمَلِك.»
«بل كرجل شريف.» يُجيب يسوع.
يضحك دوراس كما لو كانت نُكتَة.
يلتَفِت يسوع ويقول للتلاميذ غير المدعوّين: «ادخُلوا. إنّهم أصدقائي.»
«فليأتوا... ولكن... أليس هذا جابي الضرائب، ابن حلفى؟»
«إنّه متّى، تلميذ المسيح.» يقول يسوع بلهجة أَدرَكَها الآخر وأَخَذَ يضحك بصفراويّة أكثر مِن السابق.
كان دوراس يودّ لو يَسحَق المعلّم الجليليّ «الفقير» تحت وطأة بحبوحة بيته، حيث الداخل فاخر بحقّ. إنه تَرِف وبارد. يبدو الخدّام وكأنّهم عبيد. يذهبون مُنحَنين، مُتوارِين بسرعة، دائمي الخَشية مِن العقوبة. الإحساس يوحي بأنّ البرودة والكُره يُهَيمِنان على البيت.
ولكنّ يسوع لا يَدَع مشاعره تتأثّر بمنظر الثراء، ولا بإيحاءات الثروة والنَّسَب... ودوراس الذي ينتبه إلى لامبالاة المعلّم، يُرافقه إلى بستان الفواكه. يُريه الأشجار النادرة، ويُقدّم له مِن فاكهتها التي يحملها الخدّام في صحائف وآنية ذهبية. يتذوّقها يسوع ويمتدح طعمها اللذيذ. منها ما هو محفوظ ضمن شراب، ومنها كذلك دراق رائع، كما أنّ هناك أجاص بضخامة غير معهودة.
«أنا الوحيد الذي أملكها في فلسطين كلّها، وأعتقد أنّها غير موجودة في شبه الجزيرة كلّها. لقد جَلَبتُها مِن بلاد الفُرس، ومِن أمكنة أبعد كذلك. ولقد كلَّفَتني القافلة مِثقالاً كاملاً. إنّ حُكّام الربع أنفسهم لا يملكون مثل هذه الفواكه. وقد لا يكون قيصر نفسه يملك مثلها. إنّني أُحصي ثمراتها وأُطالِب بكلّ النّوى. أمّا الأجاص فلا يُستَهلَك إلا على مائدتي، لئلّا تُؤخَذ منها بِذرة واحدة. إنّني أُرسِل بعضاً منها إلى حنّان، إنّما بعد طهيها، لكي تصبح البذور عقيمة.»
«ومع ذلك هي شجرات مِن الله. والناس جميعهم متساوون.»
«ولكن أنا... دوراس، الفرّيسيّ المؤمن!...» تَحسَبه طاووساً يَختال أثناء تفوّهه بهذا القول.
يَنظُر إليه يسوع، بعينيه الزفيريّتين، نظرة خارقة، وقد أضحَت عيناه تقدحان شَرراً. وتلك إشارة إلى أنّ كَيل الرحمة والصرامة قد طَفَح في داخله. يسوع أضخم مِن دوراس، إنّه مَهيب في ثوبه الأرجوانيّ أمام الفرّيسيّ القصير والمحدودب والمنكمش الرقيق، في ثوبه الفضفاض ذي الأهداب الفائضة والمثيرة للمشاعر.
أمّا دوراس، فبعد فترة مِن الامتداح الذاتيّ، يهتف: «ولماذا إذاً يا يسوع، إرسال لعازر، أخو الزانية، إلى بيت دوراس الفرّيسيّ الذي لا غشّ فيه؟ هل لعازر صديقكَ؟ ولكن يجب ألّا يكون ذلك! ألا تَعلَم أنّه محروم لأنّ أخته مريم زانية؟»
«أنا لا أعرف سوى لعازر وسلوكه النـزيه الشريف.»
«ولكنّ العالم يعرف خطيئة هذا البيت، ويَعتَبِر أنّها تتفشّى إلى الأصدقاء... لا تذهب إليه. لماذا لا تكون فرّيسيّاً؟ إذا شئتَ... أنا أقدر... أَجعَلهم يَقبَلون بكَ هكذا، رغم كونكَ جليليّاً. فلي سُلطان كبير في السنهدرين. حنّان في يدي، مثل قطعة معطفي هذه. وهكذا يَخشونكَ أكثر.»
«أنا أريد أن أكون محبوباً فقط.»
«سوف أحبّكَ. وأنتَ ترى أنّني الآن أحبّكَ بتنازلي لرغبتكَ وإعطائكَ يونا.»
«لقد دَفَعتُ الثمن.»
«هذا صحيح. ولقد فوجئتُ بأنّكَ تستطيع دفع مثل هذا المبلغ.»
«لا، ليس أنا، بل صديق لي.»
«حسناً، حسناً، لستُ أُجري تحقيقاً. أقول: تَرى أنّني أحبّكَ، وأنّني أريد إسعادكَ. بعد الطعام، سوف يكون يونا لكَ. كان يجب أن تكون أنتَ بالذات، لأقوم أنا بهذه التضحية...» ويضحك ضحكة تنمّ عن قَسوة.
يسوع، ذراعاه متصالبتان، يَنظر إليه نظرة خارقة، ذات صرامة أكثر فأكثر. إنّهما ما يزالان في بستان الفواكه في انتظار الطعام.
«في هذه الأثناء، عليكَ إرضائي. فرح مقابل فرح. مِن جهتي أعطيتكَ أحسن خادم لديَّ، فَحَرَمتُ نفسي بذلك مِن عائِد مهمّ. وفي هذه السنة، أَمَّنَتْ لي بركتكَ محاصيل جَعَلَت أملاكي ذات شُهرة، ذلك أنّني أَعلَم أنّكَ أتيتَ في مَطلع موسم الحرارة المرتفعة. والآن، بارك قطعاني وحقولي. ولن أندم، في العام القادم، على فقدان يونا... وفي انتظار ذلك، سوف أجد بديلاً عنه جيّداً. تعال، بارك. أعطني فرح أن أكون مشهوراً في كلّ فلسطين، وأن تكون لديّ حظائر وأهراءات (مستودعات) تغصّ بالخيرات. هيّا.» ويُمسِك به مُحاوِلاً جرّه، وقد أَخَذَته حُمّى الذهب.
ولكن يسوع يُمانِع ويسأله بصرامة: «أين يونا؟»
«في الفِلاحة. لقد أراد أن يقوم بهذا العمل أيضاً كُرمى لمعلّمه الطيّب. ولكنّه سوف يأتي قبل الانتهاء مِن الطعام. في انتظار ذلك بارك القطعان والحقول والبساتين والكروم والـمَعاصِر. كلّ شيء، كلّ شيء... آه! يا لِـخَصب العام الـمُقبِل! تعال إذن.»
«أين يونا؟» يَسأَل يسوع بصوت كالرعد.
«ولكنّي قُلتُ لكَ: إنّه يُدير الفِلاحة. إنّه رئيس الخدّام وهو لا يعمل بل يُدير.»
«كاذب!»
«أنا كاذب؟ أُقسِم بيهوه!»
«تُقسِم زوراً!»
«أنا، أنا أُقسِم زوراً؟ أنا الأكثر إيماناً بين المؤمنين؟ انتبه لكلامكَ!»
«مجرم!» وفي كلّ مرة يَرفَع يسوع صوته أكثر،حتّى أَصبَحَ في المرّة الأخيرة رعداً حقيقيّاً.
يَزدَحِم التلاميذ حول يسوع، ويَظهَر الخُدّام بمظهر الخائفين على الأبواب. أمّا وجه يسوع، فلا يمكن تحمّله مِن شدّة صرامته. عيناه تبدوان وكأنّهما إشعاعات ذات وميض فوسفوريّ.
بينما دوراس، وللوهلة الأولى، يأخذه الخوف، فيتصاغر حتّى يصبح قطعة قماش ناعمة جدّاً، أمام شخصيّة يسوع الشامخة، وهو يرتدي ثوباً ثقيلاً مِن الصوف الأحمر القاتم. إنّما بعد ذلك، يجعله الكبرياء يتمالك نفسه ويَصرخ بصوته الزَّاعِق كالثعلب: «في بيتي، أنا الوحيد الذي يَأمُر. أخرج أيّها الجليليّ الدُّون.»
«سأخرج بعد أن ألعنكَ أنتَ وحقولكَ وقطعانكَ وكرومكَ، لهذه السنة وللسنوات القادمة.»
«لا، هذا لا، نعم بالحقيقة إنّ يونا مريض، ولكنّه يُعالَج، يُعالَج بشكل جيّد، اسحب لعنتكَ!»
«أين يونا؟ فليأخذني أحد الخدّام إليه، في الحال. لقد دَفَعتُ الثمن، وبما أنّه، بالنسبة إليكَ، تجارة، آلة، فأنا أُعاينه كما هو. وبما أنّني دَفَعتُ الثمن، فأنا أطالب به.»
يُخرِج دوراس مِن صدره صافرة ذهبية، يُطلِق ثلاث صافرات. فيُقبِل جمهور غفير مِن خدّام البيت والحقول مِن كلّ صَوب، يَجرون مُنحَنين لدرجة يبدون معها وكأنّهم يزحفون، إلى أن وصلوا إلى جانب المعلّم الرهيب. «اجلبوا يونا وأعطوه لذاكَ. أين تذهب أنتَ؟»
يسوع لا يُجيب، بل يتبع الخُّدام الذين أَسرَعوا إلى خارج الحديقة، نحو بيوت الفلّاحين، بل قُل جُحور الفلّاحين المساكين المخيفة، يَدخُلون إلى كوخ يونا الحقير.
كان ذاك قد أضحى هيكلاً عظميّاً. إنّه يَلهَث، نصف عارٍ، وقد أَنهَكَته الحرارة، على سرير حقير مِن القَصَب، وُضِعَ عليه بدل الفراش ثوب مُرَقَّع، وبدل الغطاء معطف ممزّق، والمرأة التي كانت في المرة السابقة، هي نفسها تعتني به الآن على قدر استطاعتها.
«يونا! صديقي! لقد أتيتُ أبحث عنكَ!»
«أنتَ؟ ربّي! إنّني أموت... ولكنّني سعيد لأنّكَ عندي هنا!»
«أيّها الصديق الوفيّ، أنتَ الآن حُرّ ولن تموت هنا. سوف آخذكَ إلى بيتي.»
«حُرّ؟ لماذا؟ إلى بيتكَ؟ آه! نعم! كنتَ قد وَعَدتَني بأن أرى أُمّكَ.»
يسوع، مُفعَم بالحبّ. مُنحَنٍ فوق سرير البائس المسكين، ويبدو أنّ الفرح قد رَدَّ الحياة ليونا.
«بطرس، أنتَ قويّ. احمل يونا، وأنتم هاتوا معاطفكم. هذا السرير قاس جدّاً لِمَن هو في مثل وضعه.»
يَنـزَع التلاميذ معاطفهم في الحال، ويطوونها ويمدّونها ويجعلون مِن بعضها وِسادة. يضع بطرس حِمله الذي لم يعد عليه لحم، ويغطّيه يسوع بمعطفه الخاصّ.
«بطرس، هل معكَ دراهم؟»
«نعم يا معلّم، لدي أربعون دانقاً.»
«حسناً، هيا. تشجّع يا يونا. قليل مِن العناء بعد، ثمّ سلام عظيم، في بيتي، إلى جانب مريم...»
«مريم... نعم... آه! بيتكَ!» ويبكي رغم إعيائه، يونا المسكين. إنّه لا يعرف سوى البكاء.
«الوداع يا امرأة. سوف يبارككِ الله لرحمتكِ.»
«الوداع يا سيّدي. الوداع يا يونا. صلِّ، صلّوا لأجلي.» وتبكي المرأة الشابة…
حينما يَصِلون إلى العَتَبة، يَصِل دوراس، ويُبدي يونا حركة تنمّ عن الخوف ويُخفي وجهه، ولكنّ يسوع يضع يده على رأسه ويَخرُج إلى جانبه، أكثر صرامة مِن قاضٍ. ويَخرُج الموكب البائس إلى الدار الريفيّة، ويتوجّه إلى بستان البقول.
«هذا السرير لي! لقد بعتُكَ الخادم وليس السرير.»
ودون أن ينطق ببنت شفة، يرمي يسوع كيس النقود عند قدميه. يأخذه دوراس ويفرغه. «أربعون دانقاً وخمس دراخمات. هذا قليل!»
يُحَدِّق يسوع بهذا الجَّشِع المثير للاشمئزاز. إنّه مَشهَد لا يمكن وصفه. ولا يُجيب البتة.
«على الأقلّ قل لي إنّكَ تسحب لعناتكَ!»
يرميه يسوع بنظرة جديدة، وبردّ مُختَصَر: «أسلمكَ إلى إله سيناء.» وينسَحِب مباشرة إلى جانب المحفّة القرويّة المحمولة بكلّ عناية مِن قبل بطرس وأندراوس.
وعندما يرى دوراس أنّ لا شيء ينفع، وأنّ الإدانة واقعة لا محالة، يَصرُخ: «سوف نلتقي ثانية، يا يسوع! آه! سأقبض عليكَ بأظافري! وسأحاربكَ حتّى الموت. احمل إذن خيال الإنسان هذا. لم يعد ينفعني. وهذا يوفّر عليَّ مصاريف الدَّفن. اذهب، اذهب أيّها الشيطان الملعون! ولكنّني سوف أُحرّض كلّ السنهدرين ضدّكَ. شيطان، شيطان!»
يَتظاهَر يسوع بعدم السماع. التلاميذ مذهولون، ويسوع لا يهتمّ سوى بيونا. إنّه يبحث عن الممرّات الأقلّ وُعورة، تلك التي في أحسن حال، إلى أن وَصَلوا إلى مفرق طرق قرب حقول جيوقانا. يجري الفلّاحون الأربعة لإلقاء التحيّة على الصديق المغادِر ويسوع الذي يباركهم.
ولكنّ الطريق مِن مرج ابن عامر إلى الناصرة طويل، ولا يمكنهم الإسراع مع حِملهم هذا الذي يثير الشفقة. طوال الطريق، لا عربة ولا طُنبُر. لا شيء. يتقدّمون بصمت. يبدو يونا نائماً، ولكنّ يده لا تترك يد يسوع.
دَانَ المساء، وها هي ذي عربة عسكريّة رومانيّة تلتقيهم.
«قِفوا باسم الله.» يقول يسوع وهو يرفع يده.
يتوقّف الجنديّان. ومِن تحت غطاء العربة الذي سُحِبَ، لأنّ المطر كان قد بدأ ينهمر، يَخرُج ضابط، وقد تبرّج رأسه، ويَسأَل يسوع: «ماذا تريد؟»
«لديَّ صديق يُشرِف على الموت. أَطلُب مكاناً له على العربة.»
«ينبغي لنا ألّا نفعل... ولكن... اصعد، فنحن كذلك لسنا كلاباً.»
يَرفَعون الـمِحَفّة.
«صديقكَ؟ مَن أنتَ؟»
«الرابّي يسوع الناصريّ.»
«أنتَ؟ آه!...» يَنظُر إليه الضابط بفضول. «إذا كنتَ أنتَ، إذن... فليَصعَد أكبر عدد منكم. يكفي ألّا يرانا أحد... إنّها التعليمات... إنّما الإنسانيّة هي فوق التعليمات. أليس كذلك؟ وأنتَ صالح. أَعلَم ذلك. إيه! نحن الجنود نعرف كلّ شيء... كيف أعرف ذلك؟ حتّى الحجارة تتكلّم بالخير أو بالشرّ، ولدينا آذان تَسمَعها لخدمة قيصر. أنتَ لستَ مسيحاً كاذباً كالذين سبقوكَ، متمرّدين، عُصاة. أنتَ صالح. روما تعرف ذلك. هذا الرجل... مريض للغاية.»
«لأجل ذلك آخُذه إلى أُمّي.»
«لن تطول بها العناية به! أعطه القليل مِن الخمر، يوجد منه في هذه القُربة. أنتَ أكيلا، احفِز الجياد. وأنتَ كينتوس، أعطني حصة العسل والسمن، إنّها لي، ولكنّها تفيده. إنّه يسعل كثيراً، والعسل مفيد للسعال.»
«إنّكَ طيّب.»
«لا، ولكنّني أقلّ سوءاً مِن آخرين كثيرين. وإنّني لسعيد لكونكَ معي. تَذَكَّر بوبليوس كينتيليانوس، مِن الجيش الإيطاليّ، إنّني في القيصريّة. إنّما الآن، أنا ذاهب إلى بتولمايس [عَكّا] على رأس حملة تفتيشيّة.»
«أنتَ لستَ عدوّاً لي.»
«أنا؟ عدوّ الأشرار، وأبداً لن أكون عدوّ الصالحين. وأودُّ لو أكون صالحاً أنا أيضاً. قُل لي: بالنسبة لنا، نحن رجال السلاح، ما هو المذهب الذي تُبَشِّر به؟»
«لا يوجد سوى مَذهَب واحد للجميع. العدالة والنـزاهة، العفّة والرحمة. ممارسة المهنة دون تجاوز الحدود، حتّى ضمن المهنة القاسية لرجال السلاح، فاحترام الإنسانيّة. ومحاولة البحث لمعرفة الحقيقة، أعني الله الواحد الأزليّ، إذ بدون هذه المعرفة كلّ عمل محروم مِن النعمة، وبالتالي مِن المكافأة الأزليّة.»
«ولكن عند موتي ماذا يكون لي مقابل الخير الذي فَعَلتُ؟»
«مَن يأتِ إلى الله الحقّ، يَجِد هذا الخير في الحياة الأخرى.»
«هل أُولَد مرة ثانية؟ وأُصبِح حاكماً أو حتّى امبراطوراً؟»
«لا، بل تُصبِح شبيهاً بالله باتّحادكَ بغبطته الأزليّة في السماء.»
«كيف؟ في الأولمب، أنا، وسط الآلهة؟»
«لا يوجد آلهة كثيرون. ليس هناك سوى الإله الحقّ. وهو الذي أُبَشِّر به. وهو الذي يَسمَعكَ ويَرى صلاحكَ ورغبتكَ في معرفة الخير.»
«هذا يروق لي ويُسعِدني! لم أكن أَعلَم أنّ الله يهتمّ بجنديّ وَثَنيّ مسكين مثلي.»
«إنّه هو الذي خَلَقَكَ يا بوبليوس. إذن فهو يحبّكَ ويريدكَ معه.»
«ولِمَ لا...؟ ولكن لا أحد يُحَدِّثنا عن الله... مطلقاً...»
«سوف آتي إلى القيصريّة، وسوف تسمعني.»
«آه! سوف آتي للاستماع إليكَ. ها هي ذي الناصرة. أودُّ لو أقدم لكَ خدمة أخرى. ولكن إن يَرَوني...»
«سأنزِل وأبارككَ لطيبكَ.»
«السلام يا معلّم.»
«فليتجلَّ الرب لكم أيّها الجنود. وداعاً.»
ينـزلون ويعاودون السير.
«قليلاً بعد، وستستريح يا يونا.» يقول له يسوع ذلك ليشدّ مِن عزيمته.
يبتسم يونا، ويهدأ أكثر فأكثر كلّما تقدّم الليل وتأكَّدَ مِن ابتعاده عن دوراس.
يَهرَع يوحنّا وأخوه لِيُنبِئوا مريم. عندما يَصِل الموكب الصغير إلى الناصرة التي تكاد تكون مُقفِرة في الليل الذي يهبط، ومريم عند العَتَبَة تنتظر الابن.
«أُمّي، هو ذا يونا. إنّه يلتجئ إلى حنانكِ ليبدأ بتذوّق الجنّة. هل أنتَ سعيد يا يونا؟»
«سعيد! سعيد!» يُهَمهِم كما لو كان هذا الرجل الـمُنهَك في نشوة. يُحمَل إلى الغرفة الصغيرة حيث مات يوسف. «أنتَ على سرير أبي. هنا الأُمّ وهنا أنا. هل تَرى؟ لقد أَصبَحَت الناصرة بيت لحم. أنتَ الآن يسوع الصغير بين اثنين يحبّانكَ كثيراً، وهذان هما اللذان يُجِلّان فيكَ الخادم الأمين. الملائكة، لستَ تراهم، ولكنّهم يُحلّقون فوقكَ بأجنحتهم التي مِن نور، ويُرتّلون كلمات مزمور الوِلادة...»
يَسكب يسوع لطفه على يونا المسكين الذي يَضعُف مِن لحظة لأخرى. يبدو وكأنّه قَاوَمَ حتّى هذه اللحظة لكي يموت هنا... ولكنّه سعيد للغاية، إنّه يبتسم ويحاول لَثم يد يسوع، ويد مريم، وأن يتحدّث ويتحدّث... ولكنّ الإعياء يكسر الكلام. تُشَجّعه مريم كأُمّ. وهو يُردّد: «نعم... نعم.» بابتسامة مُغتَبِطَة بوجهه الهزيل.
التلاميذ عند باب الحديقة، يُراقِبون بصمت، وهم متأثّرون بعمق.
«لقد استجاب الله لرغبتكَ التي دامت طويلاً. نجمة ليلكَ الطويل أصبَحَت نجمة صبحكَ الأزليّ. وأنتَ تعرف اسمها.» يقول يسوع.
«يسوع، اسمكَ! آه! يسوع! الملائكة... مَن ذا الذي يُرتّل لي النشيد الملائكيّ؟ نَفْسي تسمعه... ولكنّ أذني كذلك تودُّ سماعه... لكي أنام سعيداً... النعاس يتملّكني! لقد تَحَمَّلتُ الكثير! الكثير مِن الدموع... الكثير مِن الإهانات... دوراس... أسامحه... ولكنّني لا أودُّ سماع صوته، وأَسمَعه... إنّه كصوت الشيطان، أمامي أنا الـمُشرِف على الموت. من ذا الذي، لأجلي، يجعل الأصوات القادمة مِن الجنّة تطغى عليه؟»
تُرَتِّل مريم بهدوء: «المجد لله في أعالي السماوات، وعلى الأرض السلام للناس.» وتُرَدِّدها مرّتين أو ثلاثاً، لأنّها ترى أنّ يونا يهدأ لدى سماعها.
«لم يَعُد دوراس يتكلّم.» يقول بعد وقت قليل. «فقط الملائكة... كان هناك طفل... في مِذوَد... بين حمار وثور... وقد كان مَسيّا... ولقد هِمتُ به... ومعه كان يوسف وكانت مريم...» ينطفئ الصوت، ثمّ شَخرَة مُقتَضَبة، ويَعقبها الصمت.
«السلام في السماء للرجل ذي الإرادة الصالحة! لقد مات. سوف ندفنه في قبرنا الـمُتواضِع. إنّه يَستَحقّ انتظار قيامة الموتى إلى جانب الصديق، أبي.» يقول يسوع.
وتتوقّف الرؤيا تماماً عندما تَصِل مريم التي لحلفى. ولستُ أدري مَن الذي أَنبَأَها.