ج7 - ف173

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الأول

 

173- (يسوع في حِوار مع يوسف بن حلفى)

 

22 / 08 / 1946

 

إنّ الشمس قد ابتدأت للتوّ بالسطوع على الطبيعة التي أصبحت رطبة بعد المطر. لا بدّ أنّ المطر قد هَطَلَ مؤخّراً، لأنّ تراب الطريق ما يزال رطباً، مع أنّه لم يصبح وَحلاً. لهذا أقول إنّها قد أمطرت مؤخّراً، وكان هطولاً مُقتَضَباً. إنّه واحد مِن أوائل الهطولات الخريفيّة التي تُنذِر بأمطار تشرين الثاني (نوفمبر) الّتي سوف تُحيل طرق فلسطين إلى شرائط لزجة مِن الوحل. لكنّ هذا الهطول الخفيف، الملائم للمسافرين، لم يؤدِّ إلاّ إلى ترطيب التراب -آفة فلسطين الأخرى المدّخرة لأشهر الصيف، كما الوحل بالنسبة لأشهر الشتاء- وتنظيف الجوّ، الأوراق والأعشاب، التي تلمع الآن، نظيفة، في شمس الصباح الباكر. نسيم عليل ونقيّ يهبّ وسط بساتين الزيتون، التي تكسو تلال الناصرة، يبدو أنّ ملائكة تطوف بين الأشجار الساكنة، حيث إنّ صوت حفيف الأغصان الـمُورِقة تُذكِّر بصوت تحليق أجنحة كبيرة، وأوراقها الفضيّة اللّامعة تبرق، عند يحنيها النسيم كلّها إلى ذات الجهة، كما لو أنّ أثراً مِن نور فردوسيّ قد خَلَّفَه التحليق الملائكيّ.

 

لقد أصبحت البلدة إلى الخلف ببضع غلوات عندما يسوع، الذي كان قد سلك معابر مختصرة عبر التلال، يصل إلى الطريق الرئيسيّة الّتي تمضي مِن الناصرة إلى مرج ابن عامر، طريق القوافل الّتي تزدحم باطّراد بالمسافرين. إنّه يسير بضع غلوات أخرى على الطريق، عندما عند مفترق طرق، قرب شاخصة كان قد نُقِشَ على جانبيها: "يافيا سيمونيا – بيت لحم الكرمل" إلى الغرب، و"كزالوت-نائيم سيتوبوليس-عين غنيم" إلى الشرق، يَرى ابنيّ عمّه يوسف وسمعان، المتوقّفين عند جانب الطريق، واللذين يحيّيانه في الحال ومعهما يوحنّا بن زَبْدي.

 

«السلام لكم! أنتم هنا؟ كنتُ أُفكّر بالتوقّف هنا لانتظاركم، وبأنّني سأكون الأوّل... وها إنّني أجدكم» ويُقبّلهم والسرور بادٍ عليه لرؤيتهم.

 

«ما كان يمكنكَ أن تكون أوّل الواصِلين. فلخوفنا مِن أن تمرّ قبل أن نصل، فقد انطلقنا في ضوء النجوم، الّتي سرعان ما حجبتها الغيوم.»

 

«لقد قلتُ لكم بأنّكم سوف ترونني. إذن فأنتَ لم تنم يا يوحنّا.»

 

«قليلاً يا معلّم، إنّما بالتأكيد أكثر منكَ. ولكن ذلك لا يهمّ» ويبتسم وجه يوحنّا المنطلق، إنّه مرآة حقيقيّة لشخصيّته الرائعة الّتي تُسَرّ دوماً بكلّ شيء.

 

«فإذن يا أخي. أكنتَ تريد التحدّث معي؟» يقول يسوع ليوسف.

 

«نعم... لنذهب إلى داخل ذاك الكرم. سنكون أكثر اطمئناناً» ويوسف بن حلفى هو أوّل مَن يتقدّم بين صفيّن مِن الكروم المجرّدة مِن الثمار. فقط بضع عناقيد صغيرة ما تزال باقية على أغصان الكروم، بين الأوراق المصفرّة التي توشك أن تتساقط، الـمُحتَفَظ بها لِتُسكِت جوع الفقراء والمسافرين، وفقاً للأحكام الموسويّة.

 

يسوع يتبعه مع سمعان. يوحنّا يبقى على الطريق، لكنّ يسوع يناديه قائلاً: «يمكنكَ أن تأتي يا يوحنّا. إنّكَ شاهِدي.»

 

«لكن...» يقول الرّسول ناظراً بارتباك إلى ابنيّ حلفى.

 

«نعم، نعم، تعال. وحتّى نريدكَ أن تسمع كلامنا» يقول يوسف. وعندئذ ينزل يوحنّا إلى الكرم حيث جميعهم يمضون قُدُماً، مُتّبعين انحنائات صفوف الكروم، بحيث تصبح رؤيتهم مِن الطريق متعذّرة.

 

«يا يسوع، لقد سررتُ لرؤيتي بأنّكَ تحبّني» يقول يوسف.

 

«أتشكّ بذلك؟ ألم أحبّكَ على الدوام؟»

 

«وأنا قد أحببتُكَ دوماً. إنّما... ما عدنا نتفاهم في محبّتنا منذ بعض الوقت. أنا... لم أكن أوافق على ما كنتَ تفعله، لأنّ ذلك كان يبدو لي لِـهلاككَ، وهلاك أُمّكَ وهلاكنا. أنتَ تعلم... نحن، الجليليّين المسنّين، نتذكّر كيف ضُرِب يهوذا الجليليّ وكيف تشتّت أقاربه وأتباعه وصُودِرَت أملاكهم. وأولئك الذين لم يُقتَلوا قد أُرسِلوا للأشغال الشاقة في السفن وصُودِرَت أموالهم. أنا لم أكن أريد أن يحدث ذلك لنا. لأنّني... نعم، اعتقدتُ بأنّه لم يكن مِن المعقول أن يكون ذلك لنا بالذات، نحن مِن سلالة داود، بالتأكيد، إنّما هكذا... إنّ الخبز لا ينقصنا، قطعاً، وليكن العليّ ممجّداً. إنّما أين هي العَظَمَة الـمَلَكيّة التي تنسبها النبوءات إلى مَن سيكون المَسيّا؟ أأنتَ العصا التي تضرب لتسود؟ لم تكن النور عندما وُلِدتَ. حتّى لم تولد في منزلكَ!... آه! أَعلَم النبوءات جيّداً! إنّنا الآن أشجار ذابلة، إنّما لم يُذكَر قطّ بأنّ الربّ سوف يكسوها مجدّداً بالأوراق. ومَن تكون سوى إنسان بارّ؟

 

تلك كانت الأفكار التي جعلتني أعارضكَ، نائحاً على هلاكنا. وفيما كنتُ أنوح هكذا، أتى الـمُجرِّبون ليؤجّجوا أفكاري عن العَظَمة، عن الـمَلَكيّة أكثر بعد... يا يسوع، إنّ أخاكَ كان مغفّلاً. لقد صدّقتُهم وكَدَّرتُكَ. مِن الصعب الاعتراف بذلك، إنّما عليَّ أن أُقِرّ به. وَضَع في اعتباركَ أنّ كلّ إسرائيل كان فيَّ، مغفّلاً كما كنتُ أنا، متيقّناً مثل ما كنتُ أنا بأنّ شخصيّة المسيح ليست كتلك التي تُظهِرها لنا... إنّه لَمِن المؤلم قول: "لقد كنتُ مخطئاً! لقد كنّا مخطئين وأنّنا على خطأ! لقد كنّا نخطئ لعصور."لكنّ أُمّكَ قد فَسَّرَت لي كلام الأنبياء.

 

آه! نعم! إنّ يعقوب على حقّ. ويوضاس كذلك. عند سماع النبوءات مُفَسَّرة مِن قِبَلِها، كما هما سَمِعَاها عندما كانا طفلين، يمكن إدراك بأنّكَ المسيح. هو ذا. ها إنّ شعري يجتاحه الشيب، لأنّني لم أعد طفلاً، وأيضاً لم أكن كذلك عندما عادت مريم مِن الهيكل كامرأة ليوسف. وأنا أتذكّر تلك الأيّام. والانتقاد المندهش لأبي عندما رأى بأنّ أخاه لم يكن مُزمِعاً إتمام الزواج بأسرع وقت. ذهوله، وذهول الناصرة. وتَهامُس الناس. لأنّه ليس مِن المعتاد ترك الكثير مِن الأشهر تمرّ قبل العرس، تاركاً المرء نفسه عرضة للخطيئة و... يسوع، إنّني أُجِلُّ مريم وأُكَرِّم ذكرى قريبي. لكنّ العالم... لم يكن الوقت الملائم وفقاً للعالم... أنتَ... آه! الآن أنا أَعلَم. أُمّكَ فَسَّرَت لي النبوءات. لهذا السبب أراد الله أن يتأخّر العرس، بحيث يتزامن ميلادكَ مع المرسوم العظيم، وتُولَد في بيت لحم يهوذا. و... نعم... مريم قد فَسَّرَت لي كلّ شيء، وكان ذلك كالنّور الذي جعلني أدرك أيضاً ما لم تذكره تَواضُعاً. وأنا أقول: أنتَ مَسيّا. هذا ما قُلتُه، وهذا ما سأقوله. إنّما قولي ذلك لم يكن بعد تغييراً لرأيي... لأنّ عقلي يعتبر المسيح مَلِكاً. النبوءات تتحدّث... ومِن العسير استيعاب شخصية مختلفة للمسيح عن تلك الّتي لِمَلِك... أتتابعني؟ أأنتَ متعب؟»

 

«لا، إنّني أُنصِت.»

 

«حسناً... أولئك الذين كانوا يحاولون إغواء قلبي عادوا وأرادوا أن أُرغِمكَ... وحيث أنّني لم أوافق، فإنّ القناع سقط عن وجوههم وظَهَروا على حقيقتهم: أصدقاء زائفين وأعداء حقيقيّين... وجاء آخرون، يبكون مثل خَطَأَة، وقد استمعتُ إليهم. لقد ردّدوا الكلام الذي قُلتَه في منزل خُوزي... إنّني الآن أَعلَم بأنّكَ سوف تسود على الأرواح، أي، ستكون الّذي مَن ستجتمع فيكَ كلّ حكمة إسرائيل، بحيث تعطي الشرائع الجديدة والعالميّة. فيكَ حكمة الآباء، حكمة القضاة، وحكمة الأنبياء، وحكمة جدّينا داود وسليمان، والحكمة التي أرشدت الـمَلِكَين، نحميا وعزرا، وقادت المكابيّين. كلّ حكمة شعب، شعبنا، شعب الله. لقد أَدرَكتُ بأنّكَ ستعطي العالم، الخاضع بأكمله لسلطانكَ، شرائعكَ الحكيمة جدّاً. وشعبكَ سوف يكون حقّاً شعب قدّيسين. إنّما يا أخي، لن تستطيع فِعل ذلك وحدكَ. إنّ موسى، ولأقلّ مِن ذلك بكثير، قد اختار مساعِدِين. ولم يكن سوى شعب واحد! أما أنتَ... العالم بأسره! العالم بأسره عند قدميكَ!... آه! إنّما لِفِعل ذلك يجب أن تجعل نفسكَ معروفاً... لماذا هذه الابتسامة على شفتيكَ بينما عيناكَ مغمضتان؟»

 

«لأنّني أُنصِت وأتساءل: "أَيَنسى أخي بأنّه لامَني لأنّني كنتُ أجعل نفسي معروفاً، قائلاً بأنّني كنتُ سأضرّ بالعائلة كلّها!" لهذا السبب أبتسم. وأنا كذلك أُفكّر بأنّني لسنتين ونصف لم أفعل سوى جعل نفسي معروفاً.»

 

«هذا صحيح. لكن... مَن يعرفكَ؟ فقراء. فلّاحون، صيّادو سمك. خَطَأَة. ونسوة! مِن بين أولئك الذين يعرفونكَ يمكنكَ عَدّ مَن هم ليسوا عديمي القيمة على أصابع يد واحدة. برأيي إنّ عليكَ أن تُعَرِّف بنفسكَ لدى عظماء إسرائيل! لدى الكَهَنَة، لدى كِبار الكَهَنَة، لدى الشيوخ، الكَتَبَة، كِبار رابّيو إسرائيل، لدى كلّ هؤلاء، الّذين، وإن كانوا قلّة، إنّما يساوون كَثرة. هم الذين يجب أن يعرفوكَ! هم، أولئك الذين لا يحبّونكَ، مِن بين اتّهاماتهم التي أُدرِك الآن بأنّها زائفة، هناك اتّهام واحد صحيح وعادل: أنّكَ تتجاهلهم. لماذا لا تقدّم نفسكَ على حقيقتكَ وتغلبهم بحكمتكَ؟ اصعد إلى الهيكل واجلس في رواق سليمان -إنّكَ مِن أصل داود ونبيّ، وذلك المكان حقّ لكَ، ولا أحد مُستَحِقّ له شرعاً كاستحقاقكَ له- وتكلّم.»

 

«لقد تكلّمتُ. ولذلك هم يكرهونني.»

 

«أَصِرّ. وتكلّم كَمَلِك. ألا تذكر قُدرة وعَظَمَة أعمال سليمان؟ إذا (يا لروعة هذه الـ "إذا"!) كنتَ حقّاً مَن تنبّاً عنه الأنبياء، كما تُظهِر النبوءات الّتي يُنظَر إليها بعينيّ الروح، فأنتَ أكثر مِن إنسان. هو، سليمان، لم يكن سوى إنسان. إذن أَظهِر نفسكَ على حقيقتكَ، وهم سوف يعبدونكَ.»

 

«هل سيعبدني اليهود، الأمراء، رؤساء عائلات إسرائيل وأسباطه؟ ليس جميعهم، إنّما البعض مِن الذين لا يعبدونني، سوف يعبدونني بالروح والحقّ. لكن ذلك لن يحدث الآن. فأوّلاً عليَّ أن أضع التاج، وأحمل الصولجان، وألبس الأرجوان.»

 

«آه! إذن أنتَ مَلِك، سوف تكون كذلك قريباً! أنتَ تقول ذلك! إنّ الأمر تماماً كما كنتُ أعتقد! وكما يعتقد كثيرون!»

 

«في الحقيقة، لا تعرف كيف سأملك. فقط العليّ وأنا، وبعض النُّفوس التي رضي روح الربّ أن يكشف لها عن ذلك، الآن وفي الماضي، نعلم كيف سيملك مَلِك إسرائيل، مسيح الله.»

 

«مع ذلك أَنصِت كذلك إليَّ يا أخي. إنّ يوسف على حقّ. كيف تتوقّع منهم أن يحبّوكَ أو يهابوكَ إن كنتَ دوماً تتجنّب إدهاشهم؟ ألستَ تريد أن تدعو إسرائيل إلى حمل السلاح؟ ألستَ تريد إطلاق صيحة الحرب والنصر القديمة؟ إنّما على الأقلّ -هي ليست المرّة الأولى الّتي تُطلَق فيها النداءات إلى عرش إسرائيل- على الأقلّ صِر ملكاً بالتهليل الشعبيّ، على الأقلّ بمعرفة انتزاع هكذا تهليل عبر سلطتكَ كرابّي ونبيّ.» يقول سمعان بن حلفى.

 

«إنّني بالفعل مَلِك. لطالما كنتُ مَلِكاً على الدوام.»

 

«نعم. واحد مِن رؤساء الهيكل قال لنا ذلك. لقد وُلِدتَ مَلِكاً لليهود. لكنكَ لا تحبّ اليهودية. إنّكَ مَلِك هارب، لأنّكَ لا تذهب إلى هناك. فأنتَ لستَ بِـمَلك قدّيس إذا كنتَ لا تحبّ الهيكل، حيث إرادة شعب هي التي تكرّسكَ مَلِكاً. فَمِن دون إرادة شعب لن تقدر أن تملك، إلّا إذا كنتَ ترغب بفرض نفسكَ عليهم بالعنف» يجيب سمعان.

 

«تقصد دون إرادة الله يا سمعان. ما هي إرادة الشعب؟ ما هو الشعب؟ لِمَن هو شعب؟ مَن يعضده ليكون كذلك؟ الله. لا تنسَ ذلك يا سمعان. وأنا سأكون حسبما يريد الله. بمشيئته سوف أكون ما يتوجّب عليَّ أن أكون. ولا شيء يمكنه أن يمنعني مِن أن أكون كذلك. ليس عليَّ أن أُطلِق الصّيحة لجمع الشعب. فشعب إسرائيل بأسره سوف يكون حاضراً عند إعلاني كذلك. ولن أكون في حاجة لأن أَصعَد إلى الهيكل كي يُهَلَّل لي. فسوف يحملونني إلى هناك. شعب بأكمله سوف يحملني إلى هناك كي أعتلي عرشي. تلومونني لعدم محبّتي لليهوديّة... ففي قلبها، في أورشليم، سوف أغدو "مَلِك اليهود". شاول لم يُعلَن مَلِكاً في أورشليم، ولا داود ولا سليمان. إنّما أنا فسوف أًكَرَّس مَلِكاً في أورشليم. لكنّني لن أذهب الآن إلى الهيكل في العَلَن، ولن أجلس هناك، لأنّ ساعتي لم تحن بعد.»

 

يوسف يستأنف الكلام. «إنّكَ تَدَع ساعتكَ تمرّ. أنا أقول لكَ ذلك. إنّ الشعب متعب مِن الباغين الأجانب ومِن رؤسائنا. هذه هي الساعة. أقول لكَ. إنّ فلسطين بأسرها، باستثناء اليهوديّة، إنّما ليس كلّها، تتبعكَ كرابّي، بل وأكثر مِن ذلك. إنّكَ كَرَاية مرفوعة على قمّة والكلّ يشخصون إليكَ. إنّكَ مثل نسر والجميع يتبعون تحليقكَ. إنّكَ كما مُنتَقِم. والكلّ بانتظاركَ كي ترمي السهم. هيّا. دعكَ مِن الجليل، مِن المدن العشر، مِن بيريه، والمناطق الأخرى، واذهب إلى قلب إسرائيل، إلى القلعة حيث كلّ الشرّ كامن، ومِن حيث يتوجّب أن يأتي كلّ الخير، وأَخضِعها. لديكَ تلاميذ هناك كذلك. لكنّهم فاترون لأنّ معرفتهم بكَ قليلة؛ إنّهم قلائل، لأنّكَ لا تمكث هناك؛ وهم متردّدون بعض الشيء لأنّكَ لم تقم هناك بالأعمال التي قمتَ بها في أماكن أخرى. اذهب إلى اليهودية ليروا هم أيضاً مَن تكون مِن خلال أعمالكَ. إنّكَ تلوم اليهود على عدم محبّتهم لكَ. ولكن كيف تتوقّع أن تكون محبوباً مِن قِبَلِهم إن أَخفَيتَ نفسكَ عنهم؟ ما مِن إنسان يسعى أو يرغب بأن يُنادَى به في العلن، يُنجِز أعماله في الخفاء، وإنّما يعملها بحيث يراها عموم الناس. وإذا ما كنتَ قادراً على اجتراح المعجزات على القلوب، الأجساد والعناصر، فاذهب إلى هناك واجعل نفسكَ معروفاً للعالم.»

 

«لقد قلتُ لكم: لم تحن ساعتي بعد. إنّ زماني لم يأتِ بعد. يبدو لكم دائماً بأنّ الوقت مناسب، لكنّه ليس كذلك. عليَّ اتّخاذ الزمن الّذي هو لي. لا قبل. ولا بعد. فالأمر سيكون بلا جدوى قبل ذلك. وسوف أُمحى مِن العالم ومِن القلوب قبل أن أُتِمّ عملي، والعمل الّذي تَمَّ حتّى الآن سيكون بلا ثمر لأنّه غير مكتمل وبلا عَون مِن الله، الذي يريدني أن أتمّه دون إهمالي لكلمة واحدة أو فِعل واحد. عليَّ أن أطيع أبي. ولن أفعل أبداً ما تأملون به لأنّه سيضرّ بمخطّط أبي.

 

إنّني أتفهّمكم وأعذركم. إنّني لا أضمر لكم أيّة ضغينة. إنّني حتّى لستُ متعباً أو منزعجاً مِن عَماكم. أنتم لا تعلمون. أمّا أنا فأعلم. إنّكم لا تعرفون. إنّكم تَرَون ظاهر وجه العالم. أنا أرى عُمقه. ما زال العالم يُريكم وجهاً لطيفاً. إنّه لا يكرهكم، ليس لأنّه يحبّكم، إنّما لأنّكم لا تستحقّون كراهيته. إنّكم قليلو الأهمّيّة. ولكنّه يكرهني أنا، لأنّني أشكّل خطراً على العالم: خطراً على الكذب، على الجشع، على العنف الذي هو العالم.

 

أنا النور، والنور يضيء. والعالم لا يحبّ النور لأنّه يكشف أفعال العالم. العالم لا يحبّني، لن يستطيع أن يحبّني لأنّه يَعلَم أنّني قد أتيتُ كي أغلبه في قلوب البشر والـمَلِك الغارق في الظلام الذي يهيمن عليه ويضلّه. العالم لا يريد الاقتناع بأنّني أنا طبيبه ودواؤه، وكمجنون يودّ أن يُهلِكني كي لا يُشفى. العالم لا يريد بعد أن يقتنع بأنّني المعلّم لأنّ ما أقوله مناقض لما يقوله. ولذلك فهو يحاول أن يخنق الصوت الذي يخاطب العالم كي يقوده إلى الله ويُظهِر له الطبيعة الحقيقيّة لأفعاله الشريرة.

 

هناك هوّة بيني وبين العالم. وهذا ليس بخطأ منّي. لقد أتيتُ كي أمنح العالم النور، الطريق، الحقّ، الحياة. لكنّ العالم لا يريد أن يستقبلني، ونوري يغدو ظُلمةً بالنسبة إليه لأنّه سيكون سبباً لإدانة أولئك الذين يرفضونني. في المسيح يكمن كلّ النور لأولئك البشر الراغبين باستقباله، إنّما في المسيح هناك أيضاً كلّ الظُّلمات لأولئك الذين يكرهونني ويرفضونني. لذلك، وفي بداية حياتي البشريّة قد أُشير لي نبويّاً كـ: "علامة تَضَادّ". لأنّه تِبعاً لكيفيّة استقبالي، سيكون هناك خلاص أو إدانة، موت أو حياة، نور أو ظلمات.

 

إنّما الحقّ الحقّ أقول لكم إنّ الّذين يستقبلونني سوف يغدون أبناء النور، أي، أبناء لله، مولودين لله، لأنّهم استَقبَلوا الله. وبالتالي إن كنتُ أتيتُ كي أجعل البشر أبناء لله، فكيف يمكنني أن أجعل مِن نفسي مَلِكاً، كما يرغب كُثُر في إسرائيل، بدافع مِن محبّة أو كراهية، بدافع مِن بساطة أو خُبث؟ ألا تدركون بأنّني قد أُهلِك نفسي، نفسي الحقيقيّة، أي، المَسيّا، لا يسوع بن مريم ويوسف مِن الناصرة، بأنّني قد أُهلِك مَلِك الملوك، المخلّص، الّذي وُلِد مِن عذراء ودُعِيَ عمّانوئيل، العجيب، المشير، القادر، أب الدهر الآتي، أمير السلام، الله، الذي لن يكون لِـمُلكه وسلامه حدود، الجالس على عرش داود تبعاً لنَسَبه البشريّ، إنّما الذي له العالم وكلّ أعدائه كمرقاة لقدميه، والّذي إلى جانبه الآب، كما هو مكتوب في سِفر المزامير، بالحقّ فائق البشر لأصله الإلهيّ؟ ألا تدركون بأنّ الله لا يمكنه أن يتأنّس إن لم يكن مِن خلال كمال الصّلاح، ليخلّص الإنسان، إنّما لا يمكنه، وعليه ألّا ينحطّ بنفسه إلى أمور بشريّة تافهة؟ ألا تدركون بأنّني لو كنتُ قَبِلتُ التاج والمملكة كما تتصوّرونها، لكنتُ أقرّ بأنّني مسيح زائف، فأكذب على الله، أتنكّر لذاتي وأتنكّر للآب وأكون أسوأ مِن لوسيفوروس، لأنّني أحرم الله مِن فرح امتلاككما، وأكون أسوأ مِن قايين بالنسبة لكم، لأنّني سأحكم عليكم بالعزلة الأبديّة (الانفصال الأبديّ) عن الله في اليمبوس دونما رجاء بالفردوس؟

 

ألا تدركون كلّ ذلك؟ ألا تدركون فخّ البشر الّذي يريدون إيقاعي فيه؟ فخّ الشيطان لضرب الآب الأزليّ بابنه المحبوب وبمخلوقاته: البشر؟ ألا تدركون بأنّ هذه هي العلامة على أنّني أكثر مِن مجرّد إنسان، على أنّني الإنسان-الله؟ وأنّني لا أتوق إلاّ للأمور الروحيّة فقط كي أمنحكم مملكة الله الروحيّة؟... ألا تفهمون بأنّ العلامة على أنّني...»

 

«كلام غَمَالائيل!» يهتف سمعان.

 

«...على أنّني لستُ مَلِكاً، إنّما الـمَلِك هي كراهية الجحيم كلّها وكراهية العالم بأسره نحوي؟ عليَّ أن أُعَلّم، أن أتألّم وأن أخلّصكم. هذا ما عليَّ فِعله. وهذا ما لا يريده الشيطان ولا الشياطين يريدونه.

 

أحدكم قال: "كلام غَمَالائيل". هو ليس تلميذاً لي ولن يكون كذلك أبداً طالما أنا في هذا العالم. إنّما هو إنسان بارّ. وبالتالي: أفيكون غَمَالائيل مِن بين أولئك الذين يعرضون عليكم ويعرضون عليَّ المملكة البشريّة التافهة؟»

 

«آه! لا! استفانوس قال بأنّ الرابّي، لـمّا عَلِم بما جرى في منزل خُوزي قد صاح: "إنّ روحي يرتعد بينما أسأل نفسي فيما إذا كان يمكنه حقّاً أن يكون ما يقوله. إنّما كلّ سؤال مِن هذا القبيل قد يموت قبل أن يتشكّل في ذهني، وإلى الأبد، إذا ما كان قد وافق على هذا الأمر. إنّ الطفل الذي سمعتُه قال بأنّ العبودية والـمَلَكيّة لن تكونا كما نظنّهما، مُسيئين فهم الأنبياء، أي، مادّيتين، إنّما روحيّتين، بفضل المسيح، المخلّص مِن الخطيئة، ومؤسّس ملكوت الله في الأرواح. إنّني أتذكّر تلك الكلمات. وأنا أحكم على الرابّي بموجبها. وإذا ما اكتشفتُ، وأنا أحكم عليه، بأنّه أدنى مِن ذاك السموّ، أرفضه كما خاطىء وكاذب. وقد ارتجفتُ وأنا أرى الرجاء الذي زرعه ذاك الطفل فيَّ يذوب في العدم"» يقول سمعان.

 

«نعم، ولكنّه في الوقت ذاته لم يَدعُه المَسيّا» يعلّق يوسف.

 

«إنّه ينتظر علامة، هذا ما يقوله» يجيب سمعان.

 

«وأنتَ، أَعطِه إيّاها، إذن! ولتكن قويّة.»

 

«سوف أعطيه ما وعدتُه به. إنّما ليس الآن. أمّا الآن، امضيا أنتما إلى هذا العيد. أنا لن آتي في العَلَن، كرابّي، كنبيّ، كي أفرض نفسي، ذلك أنّ ساعتي لم تحن بعد.»

 

«لكن هل ستأتي إلى اليهوديّة على الأقلّ؟ هل ستقدّم لليهود براهين تقنعهم؟ كي لا يقولوا...»

 

«نعم. إنّما هل تظنّ بأنّها ستكون مُجدية في توفير السلام لي؟ يا أخي، كلّما فعلتُ ذلك أكثر، كلّما كنتُ مكروهاً أكثر. لكنّني سوف أرضيكَ. سوف أعطيهم أعظم البراهين في الوجود... وسأتحدّث إليهم بكلام قادر على إحالة الذئاب حملاناً، والحجارة القاسية شمعاً ليّناً. ولكنّه سيكون غير ذي جدوى...» يسوع حزين.

 

«هل جعلتُكَ تتألّم؟ لقد كنتُ أتحدّث لخيركَ.»

 

«إنّكَ لا تحزنني... لكنّني أودُّ أن تفهمني، يا أخي العزيز، وأن تراني على ما أنا عليه... أودُّ أن أمضي مع فرح معرفتي بأنّكَ صديقي. إنّ الصديق يفهم ويحمي مصالح صديقه...»

 

«وأنا أقول لكَ بأنّني سوف أفعل ذلك. أنا أعرف أنّهم يكرهونكَ. إنّني على يقين الآن. لهذا أتيتُ. لكنّكَ تعرف. سوف أحميكَ. إنّني البِكر. سوف أدحض الافتراءات وسوف أعتني بأُمّكَ» يَعِد يوسف.

 

«شكراً لكَ يا يوسف. إنّ حِمْلي ثقيل وأنتَ تخفّفه. إنّ الألم، بحر، يتقدّم بأمواجه ليغمرني ومعه الكراهية... إنّما ذلك لا شيء إذا ما حظيتُ بمحبّتكم. ذلك لأنّ لابن الإنسان قلب... وهذا القلب بحاجة إلى المحبّة...»

 

«وأنا سوف أمنحكَ إيّاها. نعم. تحت عينيّ الله الذي يراني أقول لكَ بأنّني سوف أمنحكَ إيّاها. اذهب بسلام يا يسوع، إلى عملكَ. سوف أساعدكَ. لقد كنّا نحبّ بعضنا بعضاً. ثمّ... إنّما لنعد كما كنّا في تلك الأيّام. الواحد للآخر. أنتَ: القدّوس؛ أنا: الإنسان، إنّما متّحدَين لمجد الله. الوداع يا أخي.»

 

«الوداع يا يوسف.»

 

يُقبّلان بعضهما، دَور سمعان في السؤال: «باركنا ليُفتَح قلبانا للنور كلّه.»

 

يسوع يباركهما، وقبل أن يغادرهما يقول ثانيةً: «أَعهَد بأُمّي إليكما...»

 

«اذهب بسلام. سنكون لها إبنين.»

 

يغادرون بعضهم.

 

يسوع يعود إلى الطريق ويغذّ السير بخطىً حثيثة ويوحنّا إلى جانبه.

 

بعد مضيّ وقت لا بأس يه، يقطع يوحنّا الصمت ليَسأَل: «إنّما هل يوسف بن حلفى مقتنع الآن أم هو ليس كذلك؟»

 

«ليس بعد.»

 

«وإذن، ما أنتَ بالنسبة إليه؟ مَسيّا؟ إنسان؟ مَلِك؟ إله؟ لم أفهم الأمر جيّداً. يبدو لي أنّه...»

 

«إنّ يوسف هو كما في أحد أحلام الصباح حيث يعود العقل إلى الواقع متحرّراً مِن سبات عميق كان قد تسبّب بأحلام وهميّة، وفي بعض الأحيان بكوابيس. أشباح الليل تبتعد، لكنّ العقل لا يزال يَعوم في الحلم الذي لا يُراد له أن ينتهي مطلقاً، لأنّه جميل... بالنسبة إليه هو ذاك. إنّه يقترب مِن لحظة الاستيقاظ. إنّما الآن فهو لا يزال يداعب حلمه. إنّه إلى حدّ ما يتمسّك به، لأنّه، بالنسبة إليه، جميل... إنّما يجب تَعَلُّم أخذ ما يستطيع الإنسان أن يعطيه. وتسبيح العليّ مِن أجل التحوّل الذي طرأ حتّى الآن. طوبى للأطفال! فسهل جدّاً عليهم أن يؤمنوا!» ويطوّق يسوع بذراعه خصر يوحنّا، الذي يُحسِن أن يكون طفلاً وأن يؤمن، كي يُشعِره بمحبّته.